الجزيرة:
2025-12-13@17:26:00 GMT

من يكتب تاريخ الإسلام.. وكيف يكتبه؟

تاريخ النشر: 5th, October 2023 GMT

من يكتب تاريخ الإسلام.. وكيف يكتبه؟

لعلم التاريخ خاصية غريبة. فهو يتأثر جدا بواقعنا الحالي وتجاربنا اليومية، لدرجة أنه صالح لإعادة الكتابة بصورة مستمرة، ومن ثم فإنه يخضع للتغيير بشكل حتمي. قد تتساءلون كيف يمكن للأحداث التي وقعت بالفعل، التي باتت جزءا من الماضي أن تتغير؟ يمكن للأحداث التي نعيشها اليوم أن تحدد المستقبل، ولكن كيف يمكنها التأثير في الماضي؟

الحقيقة المثيرة للاهتمام بخصوص كتابة التاريخ تكمن في الإجابة عن السؤال السابق.

بالطبع، ما يتغير ليس الأحداث التي وقعت في الماضي، بل طريقة إداركنا لها هي التي تتأثر بظروفنا الحالية. مخطئ من يظن أن معرفتنا وتصوراتنا عن الماضي تتغير فحسب، عند الكشف عن وثيقة أو معلومة سرية جديدة بشأن حدث ما. من المؤكد أن هذا النوع من المعلومات يمكن أن يغير وجهة نظر كثير من الناس تجاه أحداث الماضي، ولكنها ليست العامل الوحيد الذي يغير معرفتنا بالتاريخ.

الأمر كله يتعلق بزاوية نظرنا إلى الأحداث، مصالحنا، وقيمنا، ومشاعرنا، وحبنا وكراهيتنا، و"الأيديولوجيات" التي نتأثر بها. هذه المشاعر والتأثيرات لا تؤثر في نظرتنا إلى التاريخ فقط، بل حتى في نظرتنا وقراءتنا للأحداث الحالية. نعيش هذه التجربة عندما نلاحظ كيف تتباين تغطية الحدث الإخباري نفسه على قنوات التلفزيون المختلفة في اليوم نفسه. وعندما يتعلق الأمر بالتاريخ، تصبح الظاهرة أكثر حدة، فنحن نملك رغبة قوية لإصدار أحكام نهائية -تتفق مع رؤيتنا المسبقة- على أحداث لم يعُد بإمكاننا الحصول على معلومات، أو وثائق، أو دلائل جديدة عنها.

التاريخ إذن على أرض الواقع هو الميدان الذي نخوض فيه صراعاتنا الأيديولوجية الحالية، وهو مستودع الذخيرة الذي نستخدمه لتعزيز موقفنا الحالي. إنه مصدر يوفر الذخيرة التي يحتاجها الجميع. عندما نعرف هذه الطبيعة للتاريخ، نصل إلى مستوى أعلى من الوعي بالإنسان.

لقرون، قُدِّم لنا التاريخ على أنه مجرد سرد لحياة الملوك وحروبهم المتتالية، مثل فيلم تتتابع فيه الأحداث. هذا التاريخ هو تاريخ الدول والقصور والملوك. وقد أسهمت جهود كارل ماركس في نقد التاريخ إسهاما مهما في جذب الانتباه إلى الطبقات. ومنذ ذلك الحين، بدأ الناس ينتبهون ليس إلى تاريخ الدول أو الطبقات الحاكمة فقط، ولكن إلى تاريخ الطبقات الثانوية والشعوب كذلك.

ومع ذلك، كان تصور ماركس للتاريخ مبنيا على مفهوم "الطبقة"، وهي نافذة ضيقة لا تعطي صورة شاملة للتاريخ. فمهما قال ماركس عكس ذلك، فإنه لا يمكن أن يكون التاريخ محصورا في الطبقات وصراعاتها.

أسهم المنظور الأوسع الذي قدمته المدرسة الحولية للتاريخ في لفت انتباهنا إلى حقيقة أن تاريخ الإنسانية غني ومتنوع جدا، بحيث يستحيل اختزاله في قصة واحدة. وساعد هذا الفهم الجديد في إنتاج قصص مختلفة عن التاريخ لا تقتصر على سير الملوك، والدول والحروب والطبقات. بل تغطي مناطق أخرى، كالتاريخ الثقافي والاقتصادي والاجتماعي للفلاحين، والتاريخ الاجتماعي والثقافي للمدن، وتاريخ النشاطات الثقافية لفئات المجتمع المختلفة؛ مثل: الأعراس، والزواج، والعلاقات مع الدولة، وتطور آليات تشكيل القيادة داخل تلك المجتمعات وغيرها، حتى إن بعض المؤرخين كتبوا عن تاريخ التصورات حول النظافة والقذارة. بل كُتب تاريخ المراحيض والحمامات، وكثير غيرها.

التاريخ على أرض الواقع هو الميدان الذي نخوض فيه صراعاتنا "الأيديولوجية" الحالية، ومستودع الذخيرة الذي نستخدمه لتعزيز موقفنا. إنه مصدر يوفر الذخيرة التي يحتاجها الجميع. عندما نعرف هذه الطبيعة للتاريخ، نصل إلى مستوى أعلى من الوعي بالإنسان.

 

كل هذه الأمور أسهمت في تنويع معرفتنا بالتاريخ في عصرنا، وأثارت أملا في تطوير مستوى أعلى من الوعي حول كيفية النظر إليه. التاريخ يعطيك الأجوبة بناء على الأسئلة التي تطرحها، ويسكت عما لم تسأل عنه، ولذا فهو ليس محصورا في الأسئلة التي سألناها، والأجوبة التي حصلنا عليها.

التاريخ يعطيك الأجوبة بناء على الأسئلة التي تطرحها، ويسكت عما لم تسأل عنه (شترستوك)

ولهذا فلصياغة السؤال الذي نبحث عن إجابته أهمية كبيرة، لأنه يحدد ما يمكن أن نجده أو لا نجده، وإذا فقدنا الوعي بطبيعة السؤال الذي نسأله، فإننا نكون معرضين لخطر البقاء ضمن حدوده. وبناء على ذلك فإننا يجب أن نكون حذرين للغاية، ألا تؤدي الأسئلة التي نطرحها إلى تقييد أو تعميم وجهة نظرنا تجاه التاريخ.

هذه حقيقة يجب أن يكون على دراية بها أولئك الذين يتصدون لقضايا تاريخية ترتبط بواقعهم. لكن كما هو الحال دائما، يفقد المنهج التاريخي نزاهته ويعجز عن رسم صورة أقرب لحقيقة المرحلة أو الحدث الذي يدرسه، عندما يضفي الطابع المطلق على الإجابات التي تلقاها على أسئلة ضيقة، وعندما يعمم الحالات الفردية التي يقع عليها على أنها الصورة الشاملة.

على سبيل المثال، إذا طرحت سؤالا حول الدماء التي أُريقت في تاريخ الإسلام، وسجّلت البيانات التي جمعتها واحدة تلو الأخرى، فقد تقع في وهم تصور أن التاريخ لم يكن إلا سلسلة من سفك الدماء بين الإخوة. أنت هنا لا ترى الأحداث الأخرى التي وقعت في تلك الفترة؛ فسؤالك الضيق المحدد والإجابات التي حصلت عليها يتناولان هذا الموضوع فحسب. وإذا كنت مؤرخا جيدا ولديك الوعي الكافي، فستدرك أن سؤالك البحثي يحتجزك هناك، وسوف تفترض وجود أمثلة ممتازة للأخوة عاشها الناس في مجالات أخرى من التاريخ أيضا.

وهكذا، إذا كتبت تاريخ الخيانات، فقد تصل إلى انطباع أنه لم يكن هناك صداقات، أو أمثلة للولاء في التاريخ. وإذا كتبت تاريخ المؤامرات داخل الحريم كما في مسلسل "القرن العظيم" [حريم السلطان]، فقد تصاب بوهم أن الإمبراطورية العثمانية كلها كانت تُدار من الحريم. في الواقع، نظرتك والسؤال الذي طرحته يجعلان كل كلمة وحدث وحركة داخل الحريم جزءا من مؤامرة في القصة. ولن ترى أيا من الأمثلة الرائعة التي قدمتها الإمبراطورية العثمانية في الحياة الاجتماعية، والهندسة المعمارية، والاقتصاد، والتوزيع العادل، والتسامح الديني، والاهتمام بالعلوم والفلسفة، ومجال العلوم والتقنية في ذلك القرن الرائع.

التاريخ يعطيك الأجوبة بناء على الأسئلة التي تطرحها، ويسكت عما لم تسأل عنه، وهو ليس محصورا في الأسئلة التي سألناها والأجوبة التي حصلنا عليها

ومع ذلك، كان من أهم الإجراءات التي اقترحتها المدرسة الحولية في التاريخ، ولاحقا فوكو في كتابته التاريخية المستوحاة من نيتشه، هي تفكيك الكل وتنويعه. إن المنظور الشمولي للمؤرخ يقتل علم التاريخ؛ لأنه ينسب كل حدث إلى القصة التي أنتجها منظوره، ويجعلها تفقد معناها الأصلي.

هناك نمط من الناس يصفهم الكاتب في صحيفة ستار التركية، إرغون يلدريم، بأنهم "عقليات منسلخة"، تحاول التحلل من تاريخها ومجتمعها وقيمها الموروثة وتراثها، ولدى هذا الصنف من الناس رغبة محمومة لإعادة كتابة تاريخ الإسلام، بصورة تنسب له في جمل قصيرة، كل نقيصة، وتجرده من كل فضيلة.. هذا الصنف من الناس هو نموذج مثالي لفهم وإدراك هذه العيوب، التي يعاني منها كتّاب التاريخ والناظرين فيه.

هناك شخص عاش لسنوات عديدة على القرآن، ويزعم في أحاديثه ألا أحد يفهم القرآن سواه، لكنه وقف مؤخرا، عندما انتقد أناس بعض أفكاره الغريبة، ليزعم أن كل تاريخ الإسلام هو مسرح للتعصب وعدم التسامح.

حسنا.. فليقل ذلك كما يشاء، ولكن، ماذا كان يفعل هو لكل من حوله لسنوات؟ بماذا نصف تلك الأحكام التي أصدرها على كل من لم يتفقوا معه في فهمه للقرآن؟ هل يمكن أن يكون الإنسان مطلقا للأحكام على من حوله، ومتسامحا في الوقت نفسه؟ هل يمكن أن يكون الإنسان متعصبا لرأيه لتلك الدرجة، ثم يشتكي من التعصب في تاريخ الإسلام؟ بل وأكثر من ذلك، نحن نسأله: من أي زاوية نظر إلى هذا التاريخ؟ وأين بحث؟ وماذا سأل؟

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الأسئلة التی من الناس یمکن أن أن یکون على من

إقرأ أيضاً:

د.حماد عبدالله يكتب: الاستثمار هو الحل !!!



لا بد أن نستثمر سواء في الاقتصاد أو في البشر أو في الوطن وفي التعليم وفي البنية الأساسية، وفي القوي الناعمة التي تمتلكها ( الثقافة المصرية ).

لا بد من أن نستثمر وأن نرفع شعار "الإستثمار هو الحل" الوحيد، والأكيد لتقدم الأمة  ، ولا أكون مخطئا إذا قلت بأن الاستثمار في الأخلاق مهم جدا، وهذا يُدْخِلْ البيت والمدرسة والمسجد والكنيسة كمسئولية أساسية !!

فالأخلاق هي أساس تقدم المجتمع، ولعل مجتمع بلا أخلاق، وهو مجتمع بلا مستقبل، وقد تميز مجتمعنا المصري بكرم أخلاقه، وشَدَتْ بنا الأمم، وكنا ومازلنا أقل بلاد العالم ظهورا في سوق " قلة الأدب "، فنري من خلال الفضائيات ومن خلال الأعلام، أننا مازلنا نحتفظ بالحد المعقول من الأخلاق الحميدة، وإن شابنا في بعض الأحيان فساد أخلاقي، وذلك ناتج تغير في سياسات، وإنتقالنا من أسلوب سياسي إلى أسلوب أخر.. وإنفتاحنا علي كل "هواء العالم"، سواء مباشر أو مسجل أو منقول، والاستثمار له قواعد  تكلمنا وتكلم غيرنا عن القواعد والأطر والمناخ الجاذب والمناخ الطارد !! 
كل هذا معلوم، ومعروف ولكن المهم ماذا فعلنا لكي نستثمر ونجد من يستثمر معنا في بلادنا....

وضعنا قوانين، وقضينا علي معوقات، وقابلنا تحديات ومازلنا علي هذا الدرب... متخذين كل الوسائل وقوي الدفع للتقدم....
والمؤشرات التي تعطينا رؤية لما وصلنا إليه مُطَمِئْنَة وأن كانت تصف تحركنا الإيجابي بالبطء في بعض الأحيان إلا إنه إيجابي !!
ومن أهم المؤشرات ما صدر عن مؤسسة فيتش "أكد التقرير علي التصنيف الائتماني الحالي لمصر، مع تغيير التوقعات المستقبلية من " ثابتة " إلى " إيجابية " مما يشير إلى الأثر الإيجابي عالميا للإصلاح الاقتصادي والسياسي الحالي وقد تضمن التقرير تحليل للاقتصاد المصري وضحه كما يلي: 
 مظاهر القوة:
تحسن الإطار العام لصياغة السياسات الأمنيه، وزيادة معدل النمو الاقتصادي، وانخفاض معدل التضخم، ظهور بعض التحسن في الموقف الخارجي لميزان المدفوعات، وقيادة الاحتياطي من النقد الأجنبي، بطرق إيجابيه مع العمل على خفض الديون الخارجية، لتقليل خدمة الدين الخارجي !!
 مظاهر الضعف:
القلق بشأن عجز الموازنة العامة للدولة والدين العام، وضرورة العمل علي ضمان جودة قاعدة البيانات، الحاجة إلي تطوير فاعلية الجهاز المصرفي وخاصة فى تمويل قطاعات الصناعات والمشروعات الصغيرة، وتحديات سياسية وديموجرافية واجتماعية لا يمكن مواجهتها ألا من خلال زيادة معدلات النمو الاقتصادي، عدم قدره الحكومة علي استيعاب بعض الصدمات السياسية نتيجة زيادة حريات التعبير والديمقراطية !!
عدم وجود شفافيه فيما تتخذه الحكومه من سياسات الإقتصاد والتنسيق بين السياسات الماليه والنقدية. 
وعلي الرغم من جودة المؤشرات الاقتصادية الكلية ظاهريا -ألا أن معدل النمو5% مازال متواضعا بالنسبة لمصر، وبحيث يشعر به رجل الشارع !!!من إحتياجات أساسيه للأسره، تلبيها القوات المسلحه للشعب، والحكومه ما زالت فى واد أخر بعيد عن منال الشعب !

[email protected]

مقالات مشابهة

  • كيف يمكن لهذه الدولة الخليجية أن تساعد لبنان؟
  • لأول مرة في التاريخ.. الفضة تتجاوز 65 دولاراً
  • إلى أي حد يمكن الاستمرار في تناول مضادات الاكتئاب؟
  • د.حماد عبدالله يكتب: الاستثمار هو الحل !!!
  • «قتل الجماعة للواحد»
  • هل يمكن للشوكولاتة الداكنة أن تبطئ الشيخوخة ؟ وكيف!
  • د. سعيد الكعبي يكتب: في تأمل النعم
  • كيف يمكن الحفاظ علي مفاتيح السيارة ؟
  • مدرب المنتخب الأردني: العراق خصم قوي ولا يمكن الحكم عليه بخسارته مع الجزائر
  • ميسي يكتب صفحة جديدة في التاريخ.. الأرجنتيني يحصد جائزة أفضل لاعب بالدوري الأمريكي للمرة الثانية تواليًا