د. خالد بن حمد الغيلاني
khalid.algailni@gmail.com
@khaledalgailani
لا يمكن لكائن من كان العبث مع النَّاس من خلال مقدساتها، ورموزها الدينية، هذه خطوط حمراء لا يمكن الاقتراب منها، ذلك أن مجرد الاقتراب لعب بالنار لا تحمد عواقبه، ولا يمكن توقع آثاره الناتجة عن ردود فعل الآخرين الذين تحاول فقط مجرد المحاولة أو التفكير للإساءة لمقدساتهم الدينية، ومعتقداتهم الفكرية، وتصرفاتهم الأيديولوجية.
لذلك ومنذ قديم الزمان، أي محاولة من البعض لمثل هذا تفتح الباب على مصراعيه أمام حروب ومواجهات لا تبقي ولاتذر، وفي التاريخ عبر كثيرة، وحوادث تنبئ عن نفسها، وتخاطب كل ذي عقل وبصيرة.
المسجد الأقصى مقدس عند المسلمين، وشاءت إرادة الله عزَّ وجلَّ أن يكون قبلة أولى للمسلمين، وثالث الحرمين التي تشد إليها الرحال، وتطوى لها الفيافي والقفار.
فيه صلى الحبيب المصطفى إمامًا بالأنبياء والمرسلين، ومنه انطلق في رحلة المعراج ليصل إلى مقام عظيم، لم يبلغه أحد قبله، ولن يبلغه أحد بعده، فأعظم به من سمو ورفعة، وأكرم بها من منزلة ومكانة، وأشرِف به من مكان طاهر عظيم مُقدس مبارك.
بعودة بسيطة واسترجاع سريع للذاكرة، ودعوة للتاريخ، ندرك، ويدرك كل ذي لب وبصيرة مكانة الأقصى وأكنافه في فلسطين السليبة الحبيبة، وكيف يقيّض الله تعالى له في كل مرة الصفوة الصادقة المخلصة من عباده لتحريره، وإعادته لأهله، وتطهير ترابه، من كل ذي دنس ورجس، كم من رجال صدقوا فأفوا بالوعد، كم من سيوف تكسرت، ورماح ارتوت، وسهام انطلقت، دفاعًا عن ثراه، وصونًا لحرمته، وإعلاء لشأنه، فما أن تضع أيادي الاستعلاء والعشوائية، والبغض والمكر يدها عليه، حتى تنبري لها هامات الرجال، وينحدرون من كل سهل وقعر، وجبل ووعر، قلوب مؤمنة، وأرواح راغبة، وعزائم لا يفل قدرتها الحديد، ولا يؤثر في إقدامها إقبال كل صنديد.
وهكذا هو الحال دوماً وأبدًا يتقدم حينا، ويتأخر حينا، لكنه لا محالة يأتي ولو بعد حين.
منذ سنين وبوعد ممن لا يملك لمن لا يستحق بإقامة وطن لليهود، والأقصى وكل فلسطين في معاناة من عبث وعشوائية وظلم وتجبر وطغيان وتعدٍ سافر صارخ على كل الحرمات، وتجاوز لكل الحدود، وعبثية مقيتة، وعنجهية لا رادع لها، في ظل سكوت وصمت لا مبرر له سوى ازدواجية المعايير، وتجاوز التشريعات والقوانين الدولية، وترك لأبسط الأخلاق والسلوكيات، وهو ليس بمستغرب من قوم اعتادوا هذا الأمر منذ أزل وأمد بعيد فبعدا لهم أينما حلُّوا.
بعد أكثر من 75 عامًا من الاحتلال الجائر لفلسطين، والتعدي السافر على كل المُقدسات والحرمات والأراضي والأفراد، ومع أكثر من 16 عامًا من حصار خانق لغزة الأبيّة الحبيبة، حصار تجاوز كل حد، وانحدر إلى كل اعتداء على أبسط الحقوق التي دعت إليها الأديان والأعراف والأخلاق، ونصت عليها القوانين الدولية.
اليوم وبعد أكثر من شهر تقف غزة صامدة ببسالة رجالها، وعزم أهلها، وشموخ نسائها، وعنفوان شبابها، وزهو بناتها، وإباء أطفالها، تقف غزة مدافعة عن الدين والعرض، والنفس والكرامة، والأرض والتاريخ، والحضارة والمجد، ضد قوم ليس لهم مما ذكر شيء فلا دين، ولا حضارة، ولا كرامة، ولا أرض، ولا تاريخ، ولا مجد.
تقف غزة من خلال مقاومة كل حركات المقاومة بها، تقف ومعها كل صاحب خلق ودين ومبدأ وعقيدة، تقف مدافعة عن ثرى الأقصى الطاهر، وعن مجد أمة ضيّع الكثير من بنيها إرثها وحاضرها.
تقف غزة وحيدة في ظل تواطؤ عالمي، وصمت إسلامي، وهوان عربي، تقف والآلاف من النساء والأطفال والشيوخ والعزّل يقتلون كل يوم بآلة الحرب والدمار والخراب الإسرائيلية، التي ما انفك مجرمو الحرب فيها يعثيون فسادا وإفسادا.
تقف غزة مع كتائب الجهاد المشروع والدفاع اللازم، والبذل بالأرواح والمهج، في عالم مزدوج المعايير، ينظر لنا كأمة إسلامية وعربية نظرة لا تليق ولا تتفق ولا تتناسب مع أعدادنا المليارية؛ فأي هوان وأي نظرة وأي سلوك.
غزة الأبية أظهرت اليوم المعادن الحقيقية للرجال، وأبانت غثها من سمينها، وحرها من مسلوبها، وعزيزها من ذليلها، من يتحلى بأخلاق الفرسان، ومن يتخلى عن النجدة والحمية والمروءة.
اليوم لا مجال للوقوف في صف المحايدين؛ فإما فسطاط العز والبذل والدفاع، وإما فسطاط الخنوع والهوان.
إن الدفاع عن غزة والأقصى والقدس وفلسطين واجب عقدي أخلاقي، عربي إسلامي، لا عذر فيه لمتقاعس أو مُتخاذل، ولا مجال لفكرة شجب أو تنديد أو استنكار أو دعوة لسلام في وقت الحرب والتجاوز لكل الأخلاق والقيم. ولنصرة إخواننا هناك وجوه عديدة كثيرة أولها النفس مع القدرة، والبذل بالمال والدعم، والكلمة، والتوعية، وعبر الإعلام الحر، ومن خلال مواقع التواصل، والمقاطعة لكل داعم للاحتلال مناصر له. والدعاء الصادق سلاح المؤمن، وسيف قاطع في رقاب المحتل الغاصب الباغي.
وصدق الله تعالى في قوله: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (آل عمران: 139- 140).
وقوله جل وعلا: "وَلَا تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" (النساء: 104)
وكل الشكر والثناء، والفخر والاعتزاز، لموقف بلادنا العزيزة الشامخة العربية الحُرة، بلد النصرة والكرامة، عُمان موئل أقحاح العرب، وموطن الرجال الأشاوس، أهل النجدة والغوث منذ أيام العرب الأولى يشهد لهم "يوم سلّوت"، ونجدة البصرة، ونجدة سقطرى، وطرد البرتغاليين، والقضاء على القراصنة، فشكرا وثناء عظيمين لمولانا السلطان المعظم، وحكومته، وسماحة شيخنا العلامة مفتي بلادنا العالم الذي لا يخشى في الله لومة لائم، ولكل علمائنا، وكتّابنا، وشبابنا، ونسائنا، وطلاب مدارسنا، وجامعاتنا، وكل حر غيور من بني وطني، ومن كل بلاد عربية إسلامية، ومن كل العالم.
ولنعلم أن التاريخ لا يغفل عن شيء، والأيام دول، وكل يملأ صفحته بما شاء، ويعد جوابًا لسؤال يوم الموقف العظيم، ماذا قدمتم لعباد الله تعالى في غزة؟ وكيف نصرتم المظلوم على الظالم؟ فأعدوا أجوبتكم.
اللهم هذا بعض الواجب فتقبل يالله.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«كيف نواجه الشبهات الفكرية بالقرآن؟».. نص خطبة الجمعة اليوم 9 مايو 2025
خطبة الجمعة اليوم.. أعلنت وزارة الأوقاف أن موضوع خطبة الجمعة اليوم 9 مايو 2025، الموافق 11 من ذو القعدة 1446هـ، يأتي تحت عنوان: «إنما أتخوف عليكم رجل آتاه الله القرآن فغيّر معناه».
وأوضحت الوزارة في بيان رسمي، أن الهدف من خطبة الجمعة الموحدة هو توعية الجمهور بكيفية مواجهة القرآن للشبهات الفكرية، والاستفادة من ذلك، علمًا بأن الخطبة الثانية تتناول ضوابط التعامل مع السائحين، والتحذير من السلوكيات الخاطئة في التعامل معهم.
نص خطبة الجمعة اليومإنما أتخوف عليكم من رجل آتاه الله القرآن فغير معناه.
الحمد لله رب العالمين، هدى أهل طاعته إلى صراطه المستقيم، وعلم عدد أنفاس مخلوقاته بعلمه القديم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها أحدًا فردًا صمدًا، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه وخليله، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وختامًا للأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الفكر المظلم يقود أصحابه إلى مهاوي التطرف والعنف، فيشوه جمال ديننا الحنيف، ويطوع نصوص الوحيين الشريفين لنشر خطاب القبح والدمار والتخريب، والتشويه، والكراهية، يرتدي أصحابه قناعًا خادعًا، مزخرفًا بآيات وأحاديث، قلوبهم خاوية من الفهم العميق لروح الشريعة، وقد وصفهم البيان المعظم وصفًا عجيبًا، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
عباد الله، ألم تشاهدوا بأعينكم كيف استغل المتطرفون قدسية النصوص ليبرروا جرائمهم البشعة تحت مفاهيم الحاكمية والجاهلية والولاء والبراء بناء على تأويل فاسد لمقاصد الوحيين الشريفين؟! أيها الكرام، ألم ترق دماء المسلمين أنهارًا تحت شعارات العصبة المؤمنة، والطائفة المنصورة- كما يزعمون!
ألا ترون أيها الناس أنهم حولوا الدين إلى سيف مصلت على رقاب المخالفين، بدلًا من أن يكون نورًا يهتدى به، ورحمة تهدى إلى العالمين؟! هل يعقل أن يكون جوهر الدين هو التضييق والتعسير، بدلًا من التيسير ورفع الحرج؟! وكأن الجناب المعظم صلوات ربي وسلامه عليه ينظر من وراء الحجب، ويرى الغيب من ستر شفيف، ويصف واحدًا من هؤلاء وصفًا عجيبًا، فيقول صلى الله عليه وسلم-: «إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان ردئًا للإسلام، غيره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك».
أرأيتم أيتها الأمة المرحومة كيف تورط هذا الرجل الذي سري نور القرآن إليه، فتحول إلى صانع للمعرفة، قائم بالاستنباط، ينحت المفاهيم والنظريات من آيات القرآن، ولكن قادته الحماسة والانفعال والكبر، فتولدت على يده مفاهيم ونظريات وقواعد، حافلة بتركيب الآيات بعضها ببعض على نحو مغلوط، فخرج بنتائج في غاية البعد والغرابة، غابت عنه خريطة العلوم والأدوات والمقاصد التي يستعين بها العلماء بحق، فدخل إلى القرآن بنظريات وأفهام، انتزعها من القرآن عنوة، فقول القرآن ما لم يقله، ونسب إليه نقيض قصده، مرتكبا في سبيل ذلك تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين «إنما أتخوف عليكم رجل آتاه الله القرآن فغير معناه».
عباد الله، تلك هي نماذج التدين الشكلي الذي يقتصر على ترديد الشعارات دون تدبر، وعلى اتباع الظواهر دون فهم المقاصد، لقد استبدلوا جوهر الإيمان بالتزمت الأعمى، ورحمة الإسلام بالغلظة والقسوة، يرون في الاختلاف تهديدًا، وفي التنوع انقساما، وينصبون أنفسهم حراسا للعقيدة، يفرغون الدين من محتواه الروحي والأخلاقي، ويحولونه إلى قوالب جامدة لا حياة فيها، ويشيعون الفساد والإفساد في الأرض، فكان الفهم المغلوط منهج حياتهم، وحمل السلاح وسيلتهم، وتدمير الدول والأوطان أسمى غايتهم، وصدق فيهم قول الله جل جلاله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}.
ولكن أبشروا أيها المصريون، فكم من موجات غلو وتطرف حاولت أن تجتاح ساحتنا، فكان الأزهر الشريف هو السد المنيع والحصن الحصين، فهو نهر العلم والمعرفة الذي روى ظمأ أجيال متعاقبة، وحماهم من سراب الأفكار الهدامة، فاقدروا له قدره، وانشروا وسطيته، وتذوقوا جمال وجلال خطابه، وحصنوا أنفسكم وأولادكم بالعلم النافع، والفهم المستنير، والتدين الحقيقي الذي يلامس القلوب بالنور والرحمة والسلام والإكرام.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فاعلم أيها النبيل أن للوافد على بلادنا الكريمة من السائحين والزائرين واجب حسن الاستقبال والمعاملة الطيبة الحسنة، فكن معهم كريم الأخلاق، جميل المعشر، أظهر تدينك الحقيقي الذي يقبل الآخر، ويسمح للسائح بالاستمتاع بآثار بلادنا العظيمة محاطا بأسمى آيات الإكرام والنبل والترحاب، فقد دخل السائح بلادنا التي يكرم من دخلها بوثيقة سفر هي عقد واجب الوفاء، وإن شئت فاقرأ هذا الأمر الإلهي {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، وقوله جل جلاله: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}.
أيها المكرم، إن السائحين مكرمون في بلادنا بعقد وعهد، فلا غش لهم ولا خداع ولا استغلال ولا تحرش يظهرك بأخلاق متدنية! واعلم أن قدوم الزوار والسياح إلى بلادنا فرصة عظيمة لتعريفهم بحقيقة الإسلام ومحاسنه العظام، فقدم لهم طيب الكلام وجميل الأفعال، فوالله إن القلوب والنفوس تتأثر بالأفعال أكثر من تأثرها بالأقوال، فكيف يكون الحال وهم يستمعون إلى الأذان وإلى القرآن، ويرون المصلين في المساجد ركعًا سجدًا، ويندهشون من أحوال أهل الله وعبادتهم وأنت تفعل معهم النقائص؟! فلا تكن متخلفًا عن الركب، وأظهر للدنيا جمال تدينك وفطرتك، وروعة أخلاقك وخصالك.
أيها المبجل، أعلن عن جمال بلادك بجمال أخلاقك، وأظهر الصورة الصحيحة للدين والأخلاق، وكن فاعلًا للخير داعية إليه، قال الله جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}.
اللهم ابسط على بلادنا مصر بساط الأمل والنور والفيض والإكرام، وافتح لنا البركات من السماء والأرض.
اقرأ أيضاًأذكار الصباح اليوم الجمعة 9 مايو 2025
دعاء الصباح اليوم الجمعة 9 مايو 2025.. «رب اشرح صدورنا»