موقع 24:
2025-12-12@11:50:50 GMT

فورين بوليسي: أمريكا قريبة من حرب عالمية.. قد تخسرها

تاريخ النشر: 17th, November 2023 GMT

فورين بوليسي: أمريكا قريبة من حرب عالمية.. قد تخسرها

حذّر المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكية لشؤون أوروبا وأوراسيا، أي ويس ميتشل من احتمالات اندلاع حرب عالمية، والأهم من ذلك احتمال خسارتها من أمريكا.

على الأمريكيين وحلفائهم البدء في ترتيب شؤونهم الآن حتى لا يجدوا أنفسهم غير مستعدين لنزاع عالمي، إذا نشب.

وكتب ميتشل في "فورين بوليسي" أن هناك صراعات خطيرة تتطلب اهتمام الولايات المتحدة في اثنين من المناطق الثلاث الأكثر أهمية استراتيجية في العالم.


إذا قررت الصين الهجوم على تايوان فقد يتصاعد الوضع بسرعة إلى حرب عالمية على ثلاث جبهات تشارك فيها الولايات المتحدة، بشكل مباشر أو غير مباشر. لقد تأخر الوقت، ورغم أن هناك خيارات لتحسين الموقف الأمريكي، فإن تتطلب جميعها جهداً جدياً ومقايضات حتمية.

لقد حان الوقت للتحرك بإلحاح حقيقي لتعبئة الولايات المتحدة ودفاعاتها وحلفائها لمواجهة ما يمكن أن يصبح أزمة عالمية في عصرنا.

 أمريكا أضعف؟

كانت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة أقوى دولة على وجه الأرض. فازت بحربين عالميتين وهزمت الاتحاد السوفياتي، ولا تزال تملك أقوى جيش في العالم. وفرضت تكاليف باهظة على روسيا بدعم أوكرانيا إلى درجة أن الكاتب نفسه تصور احتمال أن تكون الولايات المتحدة قادرة على تجزئة صراعاتها زمنياً عبر إلحاق هزيمة حاسمة بروسيا، عبر حرب بالوكالة قبل تحويل اهتمامها الأساسي إلى تعزيز الموقف العسكري الأمريكي في المحيطين الهندي والهادئ.

Some articles are genuine must-reads: pieces that cut through the chatter to the key, grave issues. This, by Wess Mitchell in ⁦@ForeignPolicy⁩, is one of those.

This is the kind of strategic clarity and vision the nation needs desperately now. https://t.co/yl9fAJWoG7

— Elbridge Colby (@ElbridgeColby) November 16, 2023

لكن هذه الاستراتيجية أصبحت أقل قابلية للتطبيق بمرور الأيام، وفق ميتشل. مع حشد روسيا مواردها لحرب طويلة في أوكرانيا وفتح جبهة جديدة في المشرق، سيتنامى الإغراء الذي يدفع الصين إلى التحرك ضد تايوان. بالفعل، تختبر بكين واشنطن في شرق آسيا، وهي تعلم جيداً أن الولايات المتحدة ستعاني للتعامل مع أزمة جيوسياسية ثالثة. إذا اندلعت الحرب فستجد الولايات المتحدة أن بعض العوامل المهمة للغاية ستعمل فجأة ضدها.
أحد هذه العوامل هو الجغرافيا. كما أوضحت الاستراتيجيتان الأمريكيتان الأخيرتان للدفاع الوطني وحسب تأكيد أحدث لجنة للوضع الاستراتيجي في الكونغرس، فإن الجيش الأمريكي اليوم، غير مصمم لخوض حروب ضد منافسين رئيسيين في وقت واحد.

وفي صورة هجوم صيني على تايوان، ستجد الولايات المتحدة نفسها تحت ضغط شديد لصد الهجوم مع مواصلة ضمان تدفق الدعم إلى أوكرانيا، وإسرائيل. وهذا ليس لأن الولايات المتحدة في تراجع. على عكس الولايات المتحدة التي تحتاج إلى أن تكون قوية في هذه الأماكن الثلاثة، يحتاج كل من خصومها، الصين وروسيا، وإيران،  إلى أن يكونوا أقوياء فقط في منطقتهم الأصلية لتحقيق أهدافهم.

 أكثر من خصم في السابق السيناريو الأسوأ هو تصعيد الحرب في ثلاثة مسارح نائية على الأقل، يخوضها جيش أمريكي متناثر إلى جانب حلفاء سيئي التجهيز، وغير قادرين في الغالب على الدفاع عن أنفسهم ضد قوى صناعية كبرى تتمتع بالعزم والموارد والقسوة اللازمة للتعامل مع هذه الحرب للحفاظ على صراع طويل. سيتطلب شن هذه المعركة نطاقاً واسعاً من الوحدة الوطنية، وتعبئة الموارد، والاستعداد للتضحية على نحو لم يشهده الأمريكيون وحلفاؤهم منذ أجيال.
خاضت الولايات المتحدة حروباً متعددة الجبهات من قبل. لكن في الصراعات الماضية، كانت دائما قادرة على التفوق على خصومها في الإنتاج. لم يعد الأمر كذلك، فالبحرية الصينية، أصبحت أكبر من البحرية الأمريكية بالعدد الهائل للسفن، وهي تنمو بما يعادل البحرية الفرنسية بأكملها، نحو 130 سفينة، كل أربع سنوات. بالمقارنة، تخطط البحرية الأمريكية للتوسع بـ75 سفينة في العقد المقبل. الاقتصاد والمال

في الصراعات الماضية، كان بإمكان واشنطن أن تتفوق بسهولة على خصومها في الإنفاق. خلال الحرب العالمية الثانية، تضاعفت نسبة الدين الوطني إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، من 61%  من الناتج المحلي الإجمالي إلى 113%. وعلى النقيض من ذلك، ستدخل الولايات المتحدة اليوم في صراع مع ديون تتجاوز بالفعل 100% من الناتج المحلي الإجمالي.

Smart piece from ⁦@wess_mitchell⁩. In addition to increased US defense production and allies stepping up, I would add that the third pillar is increased reliance on nuclear deterrence. https://t.co/ke7ZwAkaRZ

— Matthew Kroenig (@MatthewKroenig) November 17, 2023

وبافتراض معدل توسع مماثل لمعدل الحرب العالمية الثانية، فمن المعقول توقع أن يتضخم الدين إلى 200 % من الناتج المحلي الإجمالي أو أكثر . وكما لاحظ مكتب الميزانية في الكونغرس، ومصادر أخرى، تهدد أعباء ديون بهذا الحجم بعواقب كارثية على الاقتصاد الأمريكي والنظام المالي.
ومن شأن صراع عالمي أن يجلب مخاطر أخرى. إذ ثمة منافسان للولايات المتحدة، روسيا، وإيران، وهما منتجان رئيسيان للنفط، وجد أحد التقارير الأخيرة أن الإغلاق المطول لمضيق هرمز بسبب نزاع أوسع في الشرق الأوسط، يمكن أن يدفع أسعار النفط إلى ما هو أكثر من 100 دولار للبرميل، ما يزيد بشكل كبير الضغوط التضخمية.

والصين هي حامل رئيسي للديون الأمريكية. قد تؤدي عمليات البيع المستمرة من بكين إلى ارتفاع عائدات السندات الأمريكية، وفرض المزيد من الضغوط على الاقتصاد.

الكلفة البشرية

يتضاءل كل هذا أمام الكلفة البشرية التي قد تتكبدها الولايات المتحدة في صراع عالمي. من المحتمل أن يموت عدد كبير من عناصر الخدمة الأمريكية. يملك بعض خصوم الولايات المتحدة قدرات تقليدية ونووية يمكنها الوصول إلى الأراضي الأمريكية، ويتمتع آخرون بالقدرة على إلهام أو توجيه هجمات إرهابية على غرار هجمات حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ضد الأراضي الأمريكية، وهو ما قد يكون تنفيذه أسهل بالنظر إلى ضعف الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
وحسب الكاتب، لم تعد الحرب العالمية مجرد حالة طوارئ نظرية، يناقشها خبراء السياسة، ولم تعد حلماً يراود الصقور والعسكريين. إنها احتمال حقيقي ومتوقع، إن لم يكن وشيكاً.

إن الاستعداد الفعال هو الطريق إلى تحسين الردع، والخطوات اللازمة لزيادة الاستعداد للحرب ترسل إشارة واضحة إلى الخصوم مفادها أن العدوان أكثر خطورة عليهم، من الاستقرار والسلام.
ولن يكون ممكناً تعزيز الردع لدى حلفاء أمريكا ما لم تنظم الولايات المتحدة قاعدتها الصناعية الدفاعية. ومنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، زاد إجمالي الإنتاج الدفاعي الأمريكي 10%، فقط حتى مع إظهار الحرب الاستهلاك الهائل للذخيرة العسكرية في نزاع كبير بين القوى الصناعية بالمقارنة مع عمليات مكافحة التمرد المحدودة في الماضي القريب.

ما ستحتاج إليه إن الوضع خطير بما يكفي بحيث قد تحتاج واشنطن إلى تفعيل قانون الإنتاج الدفاعي والبدء في تحويل بعض الصناعات المدنية إلى أغراض عسكرية. وحتى في هذه الحالة، قد تضطر حكومة الولايات المتحدة إلى خطوات قاسية، بينها إعادة توجيه المواد المخصصة للاقتصاد الاستهلاكي وتوسيع مرافق الإنتاج ومراجعة الأنظمة البيئية التي تعقد إنتاج المواد الحربية لإعداد القاعدة الصناعية الأمريكية للتعبئة.
ومن الواضح أن واشنطن ستضطر إلى زيادة الإنفاق الدفاعي. للاستعداد للحرب دون تفجير الديون، سيتعين عليها تقليص الإنفاق على برامج اجتماعية تتمتع بدعم شعبي واسع. لا أحد في الكونغرس الأمريكي يريد أن يخبر الناخبين المسنين بأن المنافع التي يحصلون عليها قد تخفض. لكن البديل هو إخبارهم  عن سبب نشر أبنائهم أو أحفادهم في أماكن خطيرة دون أسلحة كافية عندما تندلع الحرب.
وسيتعين على حلفاء الولايات المتحدة أيضاً أن يتدخلوا بطرق جديدة مهمة. دفعت الحرب الأوكرانية أعضاء حلف شمال الأطلسي الأوروبيين، وأبرزهم ألمانيا، إلى التعامل بجدية أكبر مع الأمن. لكن حتى الآن، يفي أقل من ثلث هذه الدول بالتزامه إنفاق ما لا يقل عن 2 % من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
وفي مختلف أنحاء الغرب، على الحكومات والمواطنين أن يعيدوا تقييم الأولويات التي تضع بلدانهم في وضع غير مؤات في الصراع المقبل.  وعلى الأوروبيين أن يعيدوا النظر في نفورهم من الطاقة النووية؛ وسيتعين على التقدميين الأمريكيين أن يعيدوا التفكير في القيود التي تحد من قدرة الولايات المتحدة على زيادة إنتاج الطاقة. زمن القرارات الصعبة لا شيء في هذه القائمة سهل. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها في زمن القرارات الصعبة. ما يحدث في أوكرانيا وإسرائيل، كان يبدو غير قابل للتصور منذ بضع سنوات، ومن المرجح أن تبرز المزيد من الأنباء السلبية في الأيام المقبلة وفق الكاتب، وعلى الأمريكيين وحلفائهم البدء في ترتيب شؤونهم الآن حتى لا يجدوا أنفسهم غير مستعدين لنزاع عالمي، إذا نشب.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة أمريكا من الناتج المحلی الإجمالی الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

أمريكا ترامب: سلامٌ بالقُوّة (القوّة الذّكيّة)

يعتبر جوزيف ناي أن الاستراتيجيّات الأكثر فاعليّة في السياسة الخارجيّة اليوم تتطلّب مزيجا من موارد القوّة الصلبة والقوة الناعمة، وتوظيف القوة الصلبة فقط أو القوة النّاعمة فقط في موقف معيّن عادة ما يكون غير كافٍ. ويرى أنه لا بد من تطوير العلاقات مع العالم الإسلامي من خلال القوّة الذّكيّة[1]. ويقول تشستر آرثر كروكر إن القوّة الذّكيّة تشمل الاستخدام الاستراتيجي للدبلوماسيّة، والإقناع، وبناء القدرات، وفرض القوة والنفوذ بطرائق فعّالة من ناحية التّكلفة ولها مشروعيّة سياسيّة واجتماعية، لا سيّما في اشتراك القوّة العسكريّة وجميع أشكال الدّبلوماسيّة الأخرى.[2]

فمنذ بدء الحرب على غزّة بعد عمليّة طوفان الأقصى، مارست إسرائيل بدعم أمريكي وغربي كل أنواع القوة وأشكالها، ولم تستطع تحقيق الأهداف الكبرى التي أعلنتها مثل، تحرير الرهائن، وإنهاء حماس، واحتلال غزة وتشكيل سلطة تابعة لأوامر الكيان الصّهيوني، وجل ما حقّقته خلال قرابة العامين من الحرب، على غّزّة، ولبنان، وإيران، واليمن، هو التّدمير، والاغتيال، والمجازر، بدعم أمريكي، وباكتفاء الغرب بالتّهديد النّاعم لإسرائيل، دون خطوات حقيقيّة فعّالة وناجزة.

وعند عجز القوّة الصّلبة عن تحقيق الأهداف المنشودة من الحرب، عادة ما تقوم أمريكا بمحاولة ترجمة مفاعيل القوّة الصّلبة باستخدام القوة النّاعمة مثل اللّجوء إلى الدّبلوماسيّة المَرِنَة والمفاوضات، والخداع والغموض الاستراتيجي، أو ما أسماه دونالد ترامب "السّلام بالقُوّة"، وهو مصداق القُوّة الذّّكيّة التي تدمج بين القوة الصّلبة والقوّة النّاعمة.

والخداع الاستراتيجي يتشابك مع القوة النّاعمة أحيانا، لكنهما أيضا يستخدمان في سياقات مختلفة، ويمكن أن يكون الخداع الاستراتيجي أداة في يد القوّة النّاعمة، إذ يمكن استخدام التضليل والتّلاعب بالمعلومات للتأثير على الرّأي العام الدّولي وتعزيز صورة الدّولة.

بالمفاوضات أو الحوارات، كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة تحاول ترجمة ما أنجزته على مستوى العسكر لتحقيق مكاسب سياسيّة. ومن خلال قناع الدّبلوماسيّة، وممارسة الخداع الاستراتيجي قام ترامب الذي رفع شعار السّلام في المنطقة، بالبدء بعقد جلسات تفاوض مع كلّ من روسيا وإيران، الأولى لوقف الحرب في أوكرانيا، والثّانية للتوصل لاتفاق حول ملّفها النّووي
فبالمفاوضات أو الحوارات، كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة تحاول ترجمة ما أنجزته على مستوى العسكر لتحقيق مكاسب سياسيّة. ومن خلال قناع الدّبلوماسيّة، وممارسة الخداع الاستراتيجي قام ترامب الذي رفع شعار السّلام في المنطقة، بالبدء بعقد جلسات تفاوض مع كلّ من روسيا وإيران، الأولى لوقف الحرب في أوكرانيا، والثّانية للتوصل لاتفاق حول ملّفها النّووي.

ومن ضمن استراتيجية دونالد ترامب الرئيس الأمريكي أيضا الغموض الاستراتيجي، إذ ذكر في كتابه "فنّ الصّفقة" الذي يقول فيه: "يمكنك أن تكون غير مُتَوقّع قدر الإمكان، وعندما لا يعلم أحدٌ ما هي خطوتك التّالية، تكون لك اليد العليا".

إن البُعد الأمني والمستوى التكتيكي لمفهوم الخداع والذي يمكن تعريفه على أنَّه "المعلومات التي تُبث عبر بيان أو فعل لدفع الآخرين لقبول تصور مزيف للواقع بهدف التأثير على سلوكهم"، وهو تعريف المؤرخ العسكري والضابط السابق بوحدة استخبارات الحرب النفسية بالجيش الأمريكي بارتون وايلي. التعريف السابق للخداع يضع المفهوم في قالب إجراءات التزوير والتضليل وهو المعنى اللغوي للمرادف الإنجليزي"Deceptio"، بينما تشير تصورات أخرى -تتبنى المعنى العملي والفني- إلى تضمنه لممارسات أشمل تنطوي على توظيف الحقائق ضمن أدوات أخرى لنسج واقع أو صورة محددة، حيث يقوم الخداع -كما يعرفه بعض خبراء علوم الأمن- على أربعة مبادئ أساسية وهي: الحقيقة، والتعمية، والتمويه، والتضليل. وتعتمد المبادئ الثلاثة الأولى على عرض معلومات حقيقية بشكل معين يحول دون تكوين الخصم لتصورات دقيقة، في حين يخدم المبدأ الأخير (التضليل) هدف توجيه الخصم إلى بديل أكثر جاذبية.

فمثلا تضخيم حقيقة معينة والترويج لها بشكل مكثف يساهم في إسقاط حقائق أخرى من الاعتبار ما يعزز صورة خاطئة للواقع، وهو ما يلخصه كبير محللي سي آي إيه الأسبق (1970-1984م) ومؤلف مجموعة كتب في علوم الأمن والاستخبارات، روبر م. كلارك، حيث يجادل بأنَّ "كل أنواع الخداع تعمل في إطار ما هو حقيقي، فالحقائق تضع اللبنة الأولى للتصورات والمعتقدات؛ ثم تُوظف تلك الحقائق لخداع الخصم".[3]

لكن ممارسة الخداع خصوصا في السياق الاستراتيجي كثيرا ما يتطلب إقحام الدبلوماسية والاتصال السياسي كقنوات لبث الرسائل ونسج الوهم، ويشير التعريف الساخر للدبلوماسي الإنجليزي هنري ووتن للسفير أو الدبلوماسي باعتباره "رجل صادق يرسل للخارج ليمارس الكذب لصالح دولته" إلى تأصل المفهوم والممارسة في العلاقات الدولية والتفكير الغربي.

تتميز طبيعة العمل الدبلوماسي بحساسية عالية تجاه التصريحات والمعلومات المتناقلة، وذلك لأنَّ أسس العلاقة في المجال السياسي وحقل العلاقات الدبلوماسية لا تقوم على الخداع وإنما على "المصداقية والثقة"، ما يجعل من ممارسة الخداع مهمة خطيرة وحرجة لما لها من تداعيات مباشرة على سمعة الدولة وعلاقتها الخارجية؛ ليس بالطرف الممارس عليه الخداع فقط، وإنما مع الأطراف الدولية الأخرى، وهو ما يحد من نطاق تطبيق المفهوم في هذا المجال ويميز طريقة تنفيذه عن المجالات الأخرى التي تتسم بسرية أكبر، كما يضفي عليه طبيعة نوعية، إذ غالبا لا يُمارس الخداع إلا في سياق استراتيجي أو في بيئات ذات طبيعة عدائية. وبالرّغم من ذلك مارست الولايات المتحدّة الأمريكيّة الخداع بالدّبلوماسي مع الجهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، في مفاوضاتها الأخيرة 2025م، وهو ما دفع نخبا سياسيّة في أمريكا وغيرها من الدّول باعتبار أمريكا طرفا غير موثوق دوليّا، بسبب استخدامها الخداع في دبلوماسيّتها الدوليّة.[4]

ويمكننا ذكر كثير من النماذج التّطبيقيّة بعد طوفان الأقصى حول الخداع الاستراتيجي وأهمها:

1- من خلال تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي كانت تعطي إشارات إيجابية للطّرف المقابل، وترفع بذلك سقف توقّعات المُفاوِض الآخر حول نتيجة المفاوضات، وتدفعه لمنطقة الرّاحة السيّاسيّة في تقييم الوضع مع الطرف الآخر المُفاوِض، وتبقيه خارج احتمالات الحاجة إلـى التّأهّب العسكري، كما حدث بين أمريكا وإيران في المفاوضات، حيث تأرجح الموقف الأمريكي بين مدّ وجزر، فتارة ترتفع التّوقعات بإمكانيّة توقيع اتفاق قريب حول الملف النّووي، وتارة أخرى تتراجع الاحتمالات كثيرا حول إمكانية التّوصّل لهذا لاتفاق، وتصبح المسافة بعيدة.

وقبل موعد انعقاد المفاوضات الأخير يوم الأحد الموافق 15 حزيران/ يونيو 2025م، سرّب البيت الأبيض عن وجود خلافات بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو تتعلق بطبيعة المفاوضات مع إيران، فأعطت هذه التّصريحات إيحاءات لإيران بوجود خلاف فعلي مردّه المفاوضات بينها وبين أمريكا. وهذا لا ينفي عدم قراءة إيران الحذرة للتّصريحات، إلا أن طبيعة التّصريحات، وتوقيتها، إضافة إلى السيّاق التاريخي للسّلوك الأمريكي مع إيران، قد يكون دفعها مبدئيّا لاستبعاد الخيار العسكري من قبل إسرائيل، باعتبار أن هناك خلافا حول مطلب نتنياهو للقيام بعمل عسكري ضد إيران، وأنه كان يلح على أمريكا لإعطائه الضّوء الأخضر، بل ومشاركة أمريكا في الحرب مع إسرائيل لضرب مفاعلات إيران النوويّة، لأن أمريكا هي من تملك القذائف الخارقة للتّحصينات، وكان نتنياهو يحاول بشتّى السّبل لاستدراج أمريكا إلى حرب عسكرية ضد إيران لضرب مفاعلاتها النّوويّة. لكن إيران ونتيجة التصريحات الأمريكية حول وجود خلاف بين نتنياهو ودونالد ترامب قد تكون استبعدت الخيار العسكري.

واستخدام أمريكا للقوّة النّاعمة، وسلاح المفاوضات والدّبلوماسيّة الخدّاعة، دفع لانخفاض مستوى توقّعات إيران بوقوع الحرب، ثم فاجأ الكيان الصّهيوني إيران بضربة مباغتة في فجر يوم الجمعة 13 حزيران/ يونيو 2025م، أي قبل انعقاد المفاوضات بين أمريكا وإيران بيومين، وصرّح ترامب أنه أعطى مدّة 60 يوما للتوَصّل لاتفاق، وأن هذا اليوم الذي اندلعت فيه الحرب علـى إيران هو اليوم الواحد والسّتون، وأنه يقول ولا يتراجع عن كلامه، ثم صرّح دونالد ترامب خلال الحرب، بأنهم استخدموا الخديعة من خلال تسريب تصريحات تفيد بوجود خلاف بين ترامب ونتنياهو لخداع إيران، ثم مباغتتها بالحرب.

2- تأخير ضربة إيران للكيان الصّهيوني الانتقاميّة لاغتيال رئيس المكتب السّياسي لحركة إسماعيل هنيّة على أرضها، هذا التّأخير أيضا جاء تحت تأثير الخداع الأمريكي والمماطلة الأمريكيّة، التي عطلت مفاعيل الرّد بحجة قرب التّوصل لاتفاق بين حماس والكيان الصهيوني لوقف الحرب، وتبادل الأسرى، وهو ما جعل إيران تتريّث حتى لا تفوّت الفرصة على حماس، ولأنها تهدف من هذه الضّربة الضّغط لوقف الحرب على غزة، فإن كانت ستتوقّف الحرب دون الحاجة للرّد الإيراني، فلن تقف إيران حجر عثرة في طريق ذلك، ومارست أيضا أمريكا في هذا الوقت خداعا استراتيجيّا، عطّلت فيه ردّة الفعل الإيرانيّة لخدمة الصهّاينة وحمايتهم.

3- أما لبنان فقد تعَرّض لخديعة كبرى نتجت عنها خسائر فادحة، حيث توصّلت أمريكا مع لبنان لعمل اتفاق لوقف حرب مساندة غزة التي قامت بها المقاومة في لبنان لدعم غزة في حرب طوفان الأقصى، حيث اتفق بنيامين نتنياهو مع الولايات المتحدة على وقف إطلاق نار مؤقت في لبنان إبان حرب المساندة لمدة 21 يوما، وأُبلغت الحكومة اللّبنانيّة بالاتفاق، ووافق عليه الأمين العام لحزب الله، السّيد حسن نصر الله، على أن يتم الإعلان عن الاتفاق وتفاصيله بعد عودة نتنياهو من الأمم المتحدة، إلا أن نتنياهو استبق هذا الإعلان بضوء أخضر أمريكي بإعطاء الأمر من مبنى الأمم المتحدة باغتيال السيد حسن نصر الله في يوم الجمعة، عند الساعة السادسة مساء 27 أيلول/ سبتمبر 2024م، وأشرف نتنياهو بنفسه على عملية الاغتيال من ذات المبنى وبحضور قيادات أمريكية، وأنجزت عمليّة الاغتيال بعد أن تم قصف الموقع المتواجد فيه السيد حسن نصر الله بما يقارب ثمانين طنّا من المتفجرّات، ثم شُنّت حرب على لبنان بعد ذلك.

هذه بمثابة خديعة تكتيكية بأدوات ناعمة سياسيّة مثل عقد اتفاقيّات وهدنة، تجعل الطّرف المخدوع يخفف من حذره، ثم يقوم الطّرف الآخر باللجوء مباشرة إلى القوّة الصّلبة لتحقيق خطّته العسكريّة، والانقضاض على الطرف الآخر
وكانت هذه بمثابة خديعة تكتيكية بأدوات ناعمة سياسيّة مثل عقد اتفاقيّات وهدنة، تجعل الطّرف المخدوع يخفف من حذره، ثم يقوم الطّرف الآخر باللجوء مباشرة إلى القوّة الصّلبة لتحقيق خطّته العسكريّة، والانقضاض على الطرف الآخر. وما زالت اليوم تبعات عملية الهدنة التي أقرت لوقف الأعمال العدائية في لبنان تتوالى، إذ إن ما عجز الصهيوني عن تحقيقه بالحرب، يخوض اليوم معركة تحقيقه بالدبلوماسية، إلا أن الدبلوماسية هي مجرد محاولة تمهيدية لحرب المفاجآت التي أقرها الكيان الصهيوني، والتي يسمح من خلالها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمناورات دبلوماسية ناعمة علّها تحدث خرقا في جدار الرفض اللبناني الهش، فتحقق المطالب الصلبة الصهيونية المتمثلة في منطقة عازلة اقتصادية على حدود لبنان وفلسطين المحتلة، ومنطقة منزوعة السّلاح في جنوب الليطاني، وأما شمال نهر الليطاني فوجود الجيش اللبناني بأسلحة خفيفة ليس للدفاع عن لبنان بل لحماية الكيان الصهيوني، وقبل كل هذه الشروط نزع سلاح المقاومة في لبنان.

4- أما غزة فإن الاتفاقية بعنوان السلام ووقف الحرب ما هي إلا توسيع مساحة الاحتلال داخل غزة، وتحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة لإجبار أهلها على مغادرتها، ومن ثم البدء بمشروع دونالد ترامب الاقتصادي.

ويبقى السؤال المهم: هل ستنجح استراتيجية أمريكا في الخداع الاستراتيجي أمام صمود المقاومة، وصمود حواضنها الرافضة لأي تسويات لا ترتقي إلى مستوى التضحيات؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.

__________
[1] هو مصطلح يشير إلى مزيج من استراتيجيّات القوة الصّلبة واستراتيجيّات القوّة النّاعمة. ويعرّفه مركز الدّراسات الاستراتيجيّة والدّوليّة بأنه " منهج يؤكد ضرورة وجود جيش قوي، لكنّه يستثمر بكثافة في أيضا في التحالفات والشراكات والمؤسسات من جميع المستويات، لتوسيع نفوذ الأطراف وإثبات شرعيّة فعلها".
[2] Crocker, Chester A؛ Hampson, Fen Osler؛ Aall, Pamela R. (2007). Leashing the Dogs of War: Conflict Management in a Divided World. US Institute of Peace Press. ص. 13. ISBN:978-1-929223-97-8. مؤرشف من الأصل في 2016-06-03.
[3] Deception: counter deception and counterintelligence, William L. Mitchell, Robert Clark
[4]  December 1941: 31 Days that Changed America and Saved the World, CRAIG SHIRLEY (بتصرّف).

مقالات مشابهة

  • فورين بوليسي: 3 دروس تعلمتها الصين من الولايات المتحدة
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • الطريقة السينمائية لاستيلاء أمريكا على ناقلة نفط فنزويلية تثير ضجة عالمية.. فيديو
  • الرئيس الأمريكي: الفساد في أوكرانيا متفش
  • ترامب: الولايات المتحدة لا تريد هدر الوقت بشأن أوكرانيا
  • عبدالمنعم سعيد: تقرير الأمن القومي الأمريكي يعكس «روح ترامب» ويُعيد الولايات إلى القرن الـ19
  • أمريكا ترامب: سلامٌ بالقُوّة (القوّة الذّكيّة)
  • الولايات المتحدة وأوكرانيا يجتمعان اليوم لمناقشة خطة سلام عاجلة بعد مهلة دونالد ترامب لزيلينسكي
  • والي البيض يستقبل سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية
  • فرحات: الولايات الأمريكية تتجه لحصار الإخوان و تجريدهم من أدوات النفوذ والاختراق