خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف
تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT
مكة المكرمة
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور بندر بن عبدالعزيز بليله المسلمين بتقوى الله، فقد فاز التقي الأواب وخاب الشقي المرتاب.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في المسجد الحرام: “الفلاحُ مَطلَبٌ عَلي، ومَأرَبٌ سَني، إليه شَخَص العاملون، وتفانى مِن أجله المُتفانون، والفلاحُ هو الظَّفَرُ ونَيلُ البغيةِ دنيويًا أو أُخرويًا، فالدنيويُّ الظَّفَرُ بمَلَذات الدنيا ومُشتهياتها، والأخرويُّ الظَّفَرُ برضا الله تعالى وجنتِه والذكيُّ الألمعيُّ اللوذعيُّ هو مَن جَمع فِكرَه، وصَوَّب نحو الفلاحِ الأُخرويِّ نظرَه؛ إذْ هو غايةُ الأماني، ومُنتهى الأَراجي! وليس بينه وبينه إلا قوةُ عزيمة، وصبرُ ساعة، وثباتُ قلب، وأنه لا يُنال الفلاحُ الأخرويُّ إلا بالإيمان وصالحِ العمل؛ وقد أثنى اللهُ على المؤمنين بإيمانهم وعملهم ثم وصفهم بالفلاح، ذلك أن أُسُّ الفلاحِ الأُخرويِّ الشهادتان، بابةُ الإسلامِ وأصلُ الملة، قال النبيُّ ﷺ: (يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا اللهُ تُفلحوا) “.
وبين الشيخ بندر بليله أن من التزمَ فرائضَ الله تعالى أفلح، مستشهداً بأنه جاء أعرابيٌّ إلى النبي ﷺ يسألُه عن شرائع الإسلام فأعْلَمَه عنها، فقال الأعرابي: والذي أكرمك لا أتطوعُ شيئاً، ولا أَنقُصُ مما فرض اللهُ عليَّ شيئاً، فقال عليه الصلاةُ والسلام: (أفلح إن صَدق) .
ولفت إلى أن رأسُ الفرائضِ الموصلةِ للفلاحِ هي الصلاة، أمُّ العبادات، وعمودُ الطاعات، وهي الصارفُ عن دَواعي السوءِ ومُغرِياتِه، والعاصمُ من عَوادي الشيطانِ ومُغوِياته، مبيناً أنه لا عَجَبَ أن يُنادى بالفلاح في أذانها وإقامتها! وقال النبيُّ ﷺ: (إن أولَ ما يُحاسَب عنه العبدُ يومَ القيامة من عمله صلاتُه، فإن صَلَحَت فقد أفلح وأنجح، وإن فَسَدت فقد خاب وخسِر) .
وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام أن التطهرُ من الذنب والحَوبة، والتوبةُ إلى الله والأوبة هي ، سبيلُ الفلاح، ودليلُ الصلاح، وأن الذاكرُ لربه ولأنعُمِه عليه آخِذٌ بسبب الفلاح، ومَن أدى الحقوقَ إلى أربابها حاز الفلاح، وتطهيرُ النفس من الشرك والظلم وسيء الأخلاق موجِب للفلاح .
وأشار الشيخ بندر بليلة إلى أن نَفْسُ الإنسانِ بين إقبال على الخير وإدبار عنه، مبيناً أن الإقبالُ يُثمِرُ الانكبابَ على الطاعات، والإدبارُ يُداوَى بالاقتصار على الفرائض وشيءٍ من النوافل، مستشهداً بقول النبي المصطفى ﷺ: (إن لكل عملٍ شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فَترتُه إلى سُنتي فقد أفلح، ومن كانت فَترتُه إلى غير ذلك فقد هلك)، فما أسعدَ العبدَ وأهناهُ يومَ يرى مَوازينه قد ثقُلت بالأعمال الصالحات، وخَفَّت من الأوزار والذنوب والموبقات، فثَمَّ الفلاح، وثَمَّ النجاح.
وفي المدينة المنورة أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور حسين آل الشيخ في خطبة الجمعة اليوم المسلمين بتقوى الله عز وجل.
وقال فضيلته: “إن المسلمين اليوم يمرون بفتن مختلفة المصادر، متعددة الأشكال، فتن تعاظم خطرها، وتطاير شررها، وتنوعت أسبابها ومحالها، وإن الركن الشديد الذي يأوي إليه المسلم من ويلات الفتن ومخاطرها، هو الالتجاء إلى خالقه عز وجل، والاعتصام بحبله، وتحقيق طاعته، والتمسك بشريعته سبحانه، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)، وقال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)؛ ومن هذا المنطلق جاء التوجيه النبوي من النبي صلى الله عليه وسلم، الحريص على نجاة أمته، وصيته الخالدة، بقوله: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) والهرج هي أيام الحروب والقتل، وأوقات الخوف والذعر، وحال اختلاط أمور الناس من جميع المحذورات والمحن التي يخافون في جوانب حياتهم، بحيث لا تنتظم أمورهم على أحسن حال، بل يكونون في أمر مريج واضطراب شديد، حينئذ لا نجاة لهم ألا باللجوء إلى ربهم والانقطاع إليه، وقياد أنفسهم وتصرفاتهم وتوجهاتهم بشرعه ووفق أوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم”.
وأكمل فضيلته: “هذا المنهج النبوي الذي عظّم شأن العبادة أيام الفتن، لأن الناس يعتريهم أمور بسبب الفتن تقع بينهم من العداوات والظلم والكذب والتخاصم مما هو محرم في دين الله، بل ينشغل كثير منهم عن الثبات على المنهج الحق، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى أن الهجرة تبتني على ترك الوطن والدار ورغائبها لله سبحانه، وهكذا الانقطاع للعبادة والالتزام الشامل بها يقود المسلمين إلى كل ما ينجيهم عن الزلل والخطل والزيغ عن الصراط المستقيم والمنهج القويم؛ قال أهل العلم إن الناس في أوقات الفتن يرجعون إلى أهوائهم وآرائهم وأذواقهم بعيداً عن حكم الله وشرعه، فالذي ينتقل من هذه الحال إلى العبادة والإقبال على الله تبارك وتعالى، يكون كالمهاجر”.
وبيّن فضيلته أن الناظر اليوم لعالمنا الإسلامي يجد أنه كلما حلت محنة ووقعت فتنة، مبيناً أن بعضًا منهم يسعى لتفريق صف الأمة، والاتهام لبعض بما لا يستقيم مع المنهج الذي شرعه الله سبحانه من الحرص على الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق والاختلاف، داعياً المسلمين إلى تقوى الله، محذراً أن يكون المسلم بوقًا للشيطان دون علمه، ولسانًا للأعداء، مؤكداً أن ما خاف الأعداء شيئاً مثل اعتصام المسلمين بكتاب ربهم، واتحاد صفهم، وجمع كلمتهم، وتعاونهم على كل بر، وصبرهم على طاعة ربهم، ومنهج دينهم، ومعالجة ما يقع لهم من الفتن والمحن وفق منظور صحيح، واجتهادًا يحيطه الخوف من الله، ومراعاة المسؤولية، وتحقيق مصالح الأمة.
وأضاف: ” ألا فأشغلوا أنفسكم أيها المسلمون بما يحفظ مصالح دينكم ودنياكم، وأعدوا العدة المستطاعة للحفاظ على ذلك، ومن أعظم ذلك الثبات على شرع الله سبحانه، والسير على ضوء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحققوا عبادة التعاون المثمر والأخوة الصافية على الدين والعقيدة والمودة الإسلامية، والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، قال تعالى: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُم فِئَة فَاثبُتُواْ وَاذكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرا لَّعَلَّكُم تُفلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفشَلُواْ وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)؛ وقال صلى الله عليه وسلم: (بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)؛ فجاهدوا أيها المسلمون كل الفتن بالطاعة الخالصة لله والالتزام بهذه التوجيهات الربانية تسلموا من غوائل الفتن، وعواصف المحن، لاسيما في مثل هذه الأزمان، التي يسعى الأعداء بكل مكر للإضرار بالإسلام والمسلمين بشتى أنواع الإفساد وأسباب الشرور، ولا مخرج من ذلك إلا هجرة المسلمين من المعاصي إلى الطاعات، والبعد عن المنهيات، فلا هداية لعزة ونصر وتمكين واستقرار وأمن وأمان، إلا بتمسك المسلمين بدينهم وتحكيم شريعة ربهم، قال تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)”.
واختتم فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي خطبته بقوله: “المخرج من كل فتنة هي في إصلاح الدنيا بالدين، وعمارة الأرض بشرع رب العالمين، ومن أحاط حياته بتقوى ربه جعل له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلية وفتنة عافية وعاقبة حسنة”.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم إمام وخطیب المسجد المسجد الحرام قال تعالى
إقرأ أيضاً:
صرخة في وجه الوحش الخفي التحرش
كانت سحر تسير في طريقها المعتاد إلى الجامعة، تحمل في يدها كتبها وفي قلبها أحلاما كبيرة. لكن ذلك اليوم كان مختلفا؛ كلمات جارحة من شاب متطفل، ونظرات متفحصة، ثم محاولة التماس معها، أجبرتها على تغيير مسارها، وزرعت في نفسها خوفا لم تعرفه من قبل. عادت سحر إلى بيتها، وكعادة كثيرين من ضحايا التحرش، التزمت الصمت.. "لو أخبرت أحدا، ماذا سيقولون؟ سيلومونني لا محالة".. هكذا حدثت نفسها، وهكذا يفكر الكثيرون.
قصة سحر ليست فريدة، بل هي واحدة من آلاف القصص التي تُروى يوميا في مجتمعاتنا. التحرش، ذلك السلوك المشين الذي حرمه الله ورسوله، بات وباء صامتا ينخر في جسد المجتمع. يقول الله تعالى: "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" (الأنعام: 151). هذه الآية تؤسس لمبدأ مهم في الإسلام، وهو الابتعاد عن كل ما يمس كرامة الإنسان والذي يعد التحرش من أبرز صوره.
في لحظة خاطفة، تتحول الأماكن العامة من فضاءات للحياة اليومية إلى ساحات قلق وترقب. عيون تلاحق، كلمات تخدش الحياء، حركات تنتهك الخصوصية، ثم تصل أحيانا لانتهاك العرض.. إنه التحرش، ذلك الشبح الذي يطارد ملايين البشر حول العالم، مخلّفا جراحا نفسية قد تستمر لسنوات.
جذور المشكلة: لماذا ينتشر التحرش في مجتمعاتنا؟
ثمة أسباب عديدة تقف وراء انتشار ظاهرة التحرش في مجتمعاتنا، ولا يمكن مواجهة المشكلة دون فهم جذورها العميقة.
في المقام الأول، يأتي ضعف الوازع الديني وغياب التربية الإيمانية الصحيحة. فحين تغيب مراقبة الله تعالى عن القلوب، تنفلت الجوارح وتسقط الحواجز الأخلاقية. يقول الله تعالى: "أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى" (العلق: 14). هذه الآية تذكير مباشر بمراقبة الله التي تشكل رادعا داخليا يمنع المسلم من ارتكاب المعاصي.
وتلعب وسائل الإعلام دورا سلبيا في تفاقم ظاهرة التحرش من خلال التركيز على تسليع الجسد وتصويره كسلعة استهلاكية خاصة في الإعلانات والأفلام، وتطبيع التحرش وتصويره كسلوك "ذكوري" مقبول أو كوسيلة للتعبير عن الإعجاب في العديد من الأعمال الفنية، والمحتوى الإباحي المنتشر عبر الإنترنت والذي يقدم صورة مشوهة للعلاقات الإنسانية ويؤجج الغرائز دون ضوابط. وأخيرا، ضعف البرامج التوعوية المضادة التي تعزز قيم الاحترام والخصوصية والعفة، مما يترك الساحة الإعلامية مفتوحة للرسائل المشجعة على سلوكيات التحرش.
ومن الأسباب الجوهرية أيضا مشكلة الفراغ والبطالة المستشرية بين الشباب. فالشاب الذين لا يجدون عملا يشغلون به وقتهم وطاقتهم، والذين يعجزون عن إعالة أنفسهم، يقعون فريسة للفراغ القاتل والإحباط المدمر. وقد صدق من قال: "إن الفراغ مفسدة للنفس والبطالة مقبرة للأخلاق". هؤلاء الشباب العاطلون، المحرومون من تحقيق طموحاتهم وإثبات ذواتهم بالطرق المشروعة، قد يلجأون إلى سلوكيات منحرفة للتعويض عن شعورهم بالعجز والدونية.
وتأتي المخدرات لتعمق الجرح وتزيد الطين بلة، فالمتعاطي، وقد غاب وعيه وانحلت ضوابطه الأخلاقية، يسهل عليه ارتكاب أفعال لا يمكن أن يرتكبها في حالة صحوه. المخدرات تكسر كل الحواجز النفسية والأخلاقية والاجتماعية، وتطلق العنان للرغبات المكبوتة والنزوات الدفينة. لذا نجد أن نسبة كبيرة من حالات التحرش والاعتداء ترتكب تحت تأثير المخدرات والمسكرات.
ولا يخفى على أحد أثر الصحبة السيئة في تشكيل سلوك الشباب. فالصديق إما أن يكون معينا على الخير، أو دافعا إلى الشر، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". في مجموعات الأصدقاء السيئة، قد يصبح التحرش نوعا من "إثبات الرجولة" أو "المغامرة" التي تُكسب الشاب مكانة بين أقرانه.
ويبرز ضعف اهتمام المجتمع بالقيم كسبب رئيسي في انتشار التحرش. فنحن نعيش في زمن طغت فيه المادية على الروحانية، وشغلت فيه الشهادات العلمية والمناصب المرموقة مساحة كبيرة من اهتمامنا، على حساب تربية النشء على القيم النبيلة. أصبحنا نهتم بتعليم أبنائنا كيف ينجحون دراسيا ومهنيا، ونهمل تعليمهم كيف يكونون أخلاقيا وإنسانيا.
وهناك عامل مهم يتعلق بالمتحرش به أو بها، وهو ما يتعلق باللباس والزينة وطريقة المشي والكلام. فالإسلام وضع ضوابط للباس والزينة ليس تضييقا على الحريات، بل حماية للمجتمع من الانزلاق نحو المفاسد. فاللباس الفاضح، والتبرج المبالغ فيه، والمشية المتمايلة، والتقعر في الكلام، كلها عوامل قد تثير الغرائز لدى ضعاف النفوس.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن التحرش ليس مقتصرا على الإناث فقط، بل قد يقع على الذكور أيضا. فهناك حالات كثيرة من التحرش بالأطفال والفتيان والشباب. وهذا النوع من التحرش قد يكون أكثر ضررا نفسيا، لأن ضحاياه يترددون أكثر في الإبلاغ عنه خوفا من الوصم الاجتماعي أو السخرية.
هل المتحرش مظلوم؟
يطرح البعض هذا التساؤل الغريب، متعللين بظروف اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية قد تدفع المتحرش لسلوكه المشين. لكن الحقيقة الراسخة أن المتحرش ليس مظلوما بأي حال، بل هو ظالم معتدٍ. فمهما كانت الظروف المحيطة به -كالبطالة أو تأخر الزواج- فإنها لا تبرر انتهاكه لخصوصيات الآخرين.
نعم، علينا معالجة الأسباب المجتمعية للظاهرة، لكن هذا لا يعني التهاون مع المتحرشين. فالإنسان مسؤول عن أفعاله، وقد منحه الإسلام أدوات كثيرة للتعامل مع الضغوط، من الصبر والصلاة وغض البصر.
هل الضحية ظالمة؟
يتجرأ البعض فيطرح سؤالا أكثر غرابة: هل الضحية ظالمة أو مسؤولة عما حدث لها؟ يُلمّحون إلى أن اللباس أو المشية أو التصرفات كانت "استفزازية" أو "مثيرة". هذا المنطق المقلوب يحاول تحويل المعتدى عليه إلى متهم، والمتحرش إلى ضحية!
هذه النظرة المعكوسة تمثل انحرافا خطيرا في المفاهيم والقيم، إنها تماثل تماما لوم المسروق على سرقته لأنه لم يؤمن منزله جيدا، أو لوم المضروب على ضربه لأنه مرّ في طريق مظلم. حتى لو قصّر شخص ما في التزام الآداب الشرعية -وهو ما لا يجوز بطبيعة الحال- فإن هذا لا يمنح أحدا حق التحرش به أو إيذائه.
خطورة هذا المنطق تتجلى في تكريس ثقافة الصمت؛ فالضحية التي تُلام على ما حدث لها ستفضل الصمت خوفا من لوم المجتمع. وهكذا يستمر المتحرش في ارتكاب المزيد من الجرائم بحق آخرين، وتتحول الظاهرة من حالات فردية إلى آفة أن نقطع الطريق على هذا المنطق المقلوب، وأن نضع المسؤولية على عاتق من يستحقها: المتحرش وحده.
آثار التحرش: جراح عميقة
التحرش ليس حادثا عابرا، بل يترك آثارا مدمرة على الضحايا:
- نفسيا، يسبب الاكتئاب والقلق المزمن واضطرابات النوم والأكل.
- اجتماعيا، يدفع الضحايا للعزلة وفقدان الثقة بالآخرين، ويعيق قدرتهم على بناء علاقات سليمة.
- أكاديميا ومهنيا، قد يؤدي لتراجع الأداء الدراسي أو العملي، وقد يدفع الضحية لترك الدراسة أو العمل تماما.
- جسديا، قد تظهر أعراض جسدية مثل الصداع المزمن واضطرابات الجهاز الهضمي وآلام الظهر نتيجة التوتر المستمر.
- التحرش يسرق من الضحية إحساسها بالأمان والسيطرة على حياتها، وفي الحالات الشديدة، قد يصل الأمر إلى التفكير بالانتحار.
- التحرش لا يؤذي الضحايا فحسب، بل يمزق النسيج الاجتماعي بأكمله. ومجتمعيا، يخلق بيئة من الخوف والريبة تحد من مشاركة المرأة في الحياة العامة وتقلص إسهامها في التنمية. كما يضعف الثقة بين أفراد المجتمع ويعزز ثقافة العنف والسيطرة.
- اقتصاديا، يكلف المجتمع خسائر فادحة نتيجة غياب الضحايا عن العمل أو الدراسة، وانخفاض إنتاجيتهم، والنفقات الصحية لعلاج آثاره النفسية والجسدية.
- أما أخلاقيا، فالتساهل مع التحرش يؤدي إلى انحدار القيم وتفكك المنظومة الأخلاقية التي تحمي المجتمع من الانهيار.
دور البيت في الوقاية والحماية
البيت هو المحضن الأول والأهم في تشكيل شخصية الإنسان وقيمه وسلوكياته، ومن هنا تأتي أهميته الكبرى في الوقاية من التحرش وفي حماية الأبناء من الوقوع ضحايا له.
في مجال الوقاية، على الأسرة أن تغرس القيم الدينية والأخلاقية في نفوس الأبناء منذ الصغر. فالطفل الذي ينشأ على مراقبة الله تعالى والاستحياء منه، والذي يتعلم احترام حدود الآخرين وخصوصياتهم، سيكون محصنا ضد الانخراط في سلوكيات التحرش. يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا" (التحريم: 6).
ومن الأهمية بمكان أن تعلّم الأسرة أبناءها مفهوم الحدود الشخصية والخصوصية الجسدية. فالطفل يجب أن يتعلم أن جسده حرمة لا يجوز لأحد انتهاكها، وأن يقول "لا" بحزم لأي محاولة لانتهاك خصوصيته، وأن يبلغ والديه فورا عن أي سلوك غير مريح يتعرض له.
كما يجب على الأسرة أن تعلم أبناءها القواعد الشرعية للعلاقة بين الجنسين، من غض البصر وحفظ الفرج والتزام الحشمة في اللباس والكلام والمشي. وعلى الوالدين أن يقدموا لأبنائهم القدوة الحسنة في احترام الآخرين. فالطفل يتعلم من سلوك والديه أكثر مما يتعلم من كلامهما.
أما في مجال الحماية، فعلى الأسرة أن تخلق جوّا من الثقة والانفتاح، بحيث يشعر الأبناء بالأمان في مصارحة والديهم بأي مشكلة. فكثير من ضحايا التحرش يلتزمون الصمت خوفا من لوم الأهل، لذا يجب على الوالدين أن يؤكدوا لأبنائهم دوما أنهم سيكونون إلى جانبهم، وأنهم لن يلوموهم إذا تعرضوا لأي إيذاء.
كيف نواجه هذه الظاهرة ونقضي عليها؟
إن مكافحة ظاهرة التحرش تتطلب جهدا جماعيا على كافة المستويات، بدءا من الأفراد والأسر، مرورا بالمؤسسات التعليمية والإعلامية، وصولا إلى صناع القرار والمشرعين.
على مستوى المؤسسات التعليمية، ينبغي تضمين المناهج الدراسية القيم الأساسية للمجتمع الآمن، وتدريب المعلمين على كيفية التعامل مع حالات التحرش واكتشافها، وتوفير آليات آمنة للإبلاغ داخل المدارس والجامعات، كما ينبغي تفعيل دور المرشد النفسي والاجتماعي في المؤسسات التعليمية.
وعلى مستوى وسائل الإعلام، يجب إطلاق حملات توعوية مستمرة حول خطورة التحرش وكيفية مواجهته، وتقديم نماذج إيجابية للعلاقات السوية بين الجنسين، والابتعاد عن المحتوى الذي يسهم في تسليع الجسد. كما يجب تفعيل دور الإعلام في كسر ثقافة الصمت حول التحرش.
أما على المستوى التشريعي والقانوني، فلا بد من تشديد العقوبات على المتحرشين، وتسهيل إجراءات الإبلاغ عن حالات التحرش، وتوفير الحماية القانونية للمبلغين والشهود. كما يجب تأهيل رجال الشرطة والقضاة للتعامل مع قضايا التحرش بحساسية وفعالية.
الخطوة الأولى تبدأ بكسر جدار الصمت، برفض التواطؤ السلبي، بالإصرار على أن التحرش ليس قدرا محتوما، بل هو سلوك مرفوض يمكن استئصاله من النسيج الاجتماعي. هذا يبدأ بنا جميعا، في بيوتنا ومدارسنا وأماكن عملنا وشوارعنا، حين نقرر أن نكون جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة.
فلنتحد جميعا في صرخة مدوية ضد الصمت، ولنعد للإنسانية كرامتها المسلوبة، ولنبنِ معا مجتمعا يتنفس فيه الجميع هواء العفة والأمان، مسترشدين بقول الله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران: 104).