وصفت إحدى المواطنات الفلسطينيات معاناتها واضطرارها أن تعطي أطفالها مياها مالحة بينما يبحث زوجها عن الطعام بقولها: "لو أسقطوا علينا قنبلة نووية لكان أكثر راحة لنا من هذه الحياة".

نقلت ذلك صحيفة "نيويورك تايمز" في مقال لها حمل عنوان "مرسوم إخلاء غزة يترك سكانها في حيرة من أمرهم"، قام بكتابته كل من يارا بيومي ولورين ليثيربي وإياد أو حويلة من القدس ولندن والقاهرة، ونشرته الجريدة اليوم الثلاثاء 12 ديسمبر.

وجاء في المقال:

تميز أعضاء مجموعة "الواتساب" من مواطني غزة بهواتف محمولة صالحة للعمل وطريقة للتواصل مع بعضهم البعض لتجنب الضربات الإسرائيلية القاتلة. إلا أن مقتطفات من محادثاتهم حول مدينة خان يونس الجنوبية المحاصرة تظهر إصابتهم بالذهول من تحذيرات الإخلاء الإسرائيلية المتناقضة أحيانا، والتي وصفوها بأنها "مربكة".

"كيف يمكن معرفة المربعات المعرضة للتهديد؟ من أين تحصل على الأخبار"، اقرأ أحد تلك المقتطفات التي تابعتها "نيويورك تايمز": "هل المربع 49 تحت التهديد؟".

إقرأ المزيد الحكومة الإسرائيلية: نريد تحويل غزة إلى جنة (فيديو)

"يا رفاق، من فهم الخريطة فليوضحها لنا".

بالنسبة لعدد من سكان غزة ممن ليس لديهم هواتف محمولة، يمكن الاعتماد عليها أو إمكانية الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فإن خيارات الحصول على معلومات دقيقة للتنقل بين أوامر الإخلاء الإسرائيلية أكثر صعوبة، لا سيما وأن الجيش الإسرائيلي كثف هجومه الذي يستهدف مقاتلي "حماس" هذا الشهر في جنوب غزة.

وقد مارست الولايات المتحدة ضغوطا على إسرائيل لتغيير طبيعة حملتها في الجنوب لضمان تقليل الخسائر في صفوف المدنيين، وعدم تدمير البنية التحتية، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية. وتقول إسرائيل إنها تعالج المخاوف الإنسانية، مشيرة إلى التوجيهات التي كانت تصدرها لسكان غزة، ولكن على أرض الواقع، حيث يمكن أن يعني التحول الخاطئ الفرق بين الحياة والموت، فلا يزال هناك ارتباك واسع النطاق.

ومنذ انتهاء وقف القتال وبدء التركيز على جنوب غزة، نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، العقيد أفيخاي أدرعي سلسلة من الخرائط باللغة العربية على وسائل التواصل الاجتماعي توضح المناطق التي يجب على الناس مغادرتها بسبب الخطر، مصحوبة بنص حول المربعات السكنية التي يجب إخلاؤها.

وقد قام الجيش الإسرائيلي بدوره بإسقاط منشورات باللغة العربية، من بين وسائل أخرى، في مناطق مختلفة تنصح المدنيين بالإخلاء، فيما قالت الولايات المتحدة، أقرب حلفاء إسرائيل، إن الخرائط تمثل تحسنا من جانب إسرائيل فيما يتعلق بحماية المدنيين.

ولكن، سرعان ما أصبح من الواضح أن سكان غزة يجدون صعوبة في فهم أوامر الإخلاء، فشبكات الاتصال غير الموثوقة والمتقطعة في غزة جعلت من الصعب وصول السكان إلى الخرائط والتعليمات المتوفرة على الإنترنت. كما أن الكهرباء في القطاع شحيحة، ما يجعل من الصعب الإبقاء على الهواتف المحمولة مشحونة، بينما يقول بعض سكان غزة إنهم لم يروا حتى هذه الخرائط.

وفي أحد المنشورات بتاريخ 2 ديسمبر، على سبيل المثال، نشرت إسرائيل خريطة سلطت الضوء على المنطقة الواقعة شرقي خان يونس المتاخمة لإسرائيل، ووجهت المقيمين في المنطقة الموضحة بالانتقال جنوبا إلى رفح. ومع ذلك، فإن نص المنشور يشير إلى تجمعات سكنية سيتم إجلاؤها، والتي لم تظهر على أي خريطة في نفس المنشور، وبعضها كان على الجانب الآخر من غزة، على الساحل.

إقرأ المزيد بوتين يُخرج بلدان الشرق الأوسط من دائرة نفوذ الولايات المتحدة

وفي منشور بتاريخ 3 ديسمبر، طلبت الخريطة التي تحتوي على أمر الإخلاء لسكان غزة في عشرات الكتل المحددة بالمغادرة، إلا أن النص، الذي يتعارض مع الأمر، أغفل العديد منها. على سبيل المثال، تم تحديد المربعات 55 و99 و103-106 للإخلاء على الخريطة ولكن ليس في النص.

وفي المنشورات من ديسمبر 2 و3، تم نشر آخر خرائط جنوب غزة المتاحة على حساب موقع X الخاص بالعقيد أفيخاي أدرعي قبل أن ينشر خريطة جديدة في 9 ديسمبر، والتي أظهرت منطقة صغيرة وسط خان يونس للإخلاء. وعلى تلك الخريطة كان المربع 103 هو التناقض الوحيد بين نص المنشور والخريطة.

وعندما طلب منه توضيح أي أجزاء من غزة كانت تخضع لأوامر الإخلاء، وجه الجيش الإسرائيلي "التايمز" إلى حساب العقيد أفيخاي أدرعي على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقال الجيش الإسرائيلي لصحيفة "التايمز"، عندما سئل عن التناقصات، إن الخرائط الموجودة في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي كانت تهدف إلى توفير "رسومات توجيهية عامة"، فيما تقول إسرائيل إنها تتخذ احتياطياتها في معركتها ضد إرهابيي حماس للحد من الخسائر في صفوف المدنيين، وتصورها كجزء مؤسف ولكن لا مفر منه من الحرب.

وحتى عندما يتمكن سكان غزة من الوصول إلى المناطق التي صنفتها إسرائيل على أنها آمنة، فإن الخطر في كثير من الأحيان لم ينته بعد.

وقال المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" جيمس إلدار، إن "العائلات تدرك أن مثل هذه المناطق لا توفر الأمان فيما يتعلق بالخدمات المنقذة للحياة، مثل المياه والصرف الصحي، فهم يعلمون أنهم في خطر عندما ينتقلون، ويعرفون أن المواقع تتغير، وهم يعلمون أنه قد تم في الماضي ضرب ما يسمى بالمناطق الآمنة، لذا فهم مرتبكون وخائفون ويتعرضون للهجوم بشكل دائم.

إقرأ المزيد حول الوضع الراهن على الجبهة الأوكرانية واحتمالات الهجوم الروسي

يوم الأربعاء الماضي، تعرضت منطقة الشابورة في رفح، جنوب مدينة غزة على الحدود مع مصر، لهجوم، على الرغم من التحذيرات العسكرية الإسرائيلية أن سكان غزة يمكنهم الاحتماء بأمان هناك. وفي بيان حول الهجوم، قال الجيش الإسرائيلي إنه ضمن جهوده لتفكيك القدرات العسكرية والإدارية لـ "حماس"، وزعم أنه "اتخذ احتياطات معقولة للتخفيف من الأضرار التي تلحق بالمدنيين".

وقالت الوكالة الإسرائيلية التي تشرف على السياسة في الأراضي الفلسطينية COGAT إنها تستخدم أساليب مختلفة للتواصل مع سكان غزة، وأين يحتاجون إلى الإخلاء.

وقال رئيس التنسيق والاتصال ومنسق أعمال الحكومة في المناطق، الكولونيل موشيه تيترو: "نحن أيضا نراقب بشكل مستمر لمعرفة ما إذا كان تحذيرنا المسبق فعالا، ونرى ما إذا كانت الرسائل قد تم استلامها أم لا، ولكن أيضا ما إذا كان الأشخاص يتصرفون فعلا وفقا للرسالة".

"لكن الأمر لا يتعلق فقط بإعطاء التحذيرات"، على حد تعبيره، إذ أمرت إسرائيل بإخلاء أكثر من نصف قطاع غزة في الأسبوع الأول من الحرب، فيما قالت الأمم المتحدة إن ما يقرب من 1.9 مليون شخص أو أكثر من 80% من سكان غزة نزحوا، وقتل أكثر من 15 ألف فلسطيني، بحسب السلطات الفلسطينية في غزة.

ومع تكدس سكان غزة في مناطق أصغر، أصبحت الملاجئ مكتظة للغاية لدرجة أن مئات الأشخاص يضطرون إلى تقاسم مرحاض واحد. وحذرت الأمم المتحدة من أنه في رفح "لم يعد هناك مكان فارغ ليأوي إليه الناس، ولا حتى في الجنوب والمناطق المفتوحة الأخرى".

وتقول مايسه الجرار وهي أم لخمسة أطفال تبلغ من العمر 32 عاما إنها اضطرت وأسرتها للفرار من مدينة غزة إلى خان يونس في بداية الحرب. وتقول الآن إن القوات الإسرائيلية حذرتهم للبحث عن مكان آخر. وتابعت: "لقد تركوا منشورات. والناس مرعوبون".

وقالت: نحن لا نعرف حتى في أي منطقة نحن، وفي أي حي. لا نعرف أي منطقة وأي مربع. لقد ذهب زوجي إلى رفح ليبحث عن مكان لنا، لكن الأمر كله مثير للاشمئزاز، حيث يضطر الناس لقضاء حاجتهم في الشوارع. الرائحة كريهة والمرض ينتشر".

تحبس الجرار دموعها وتصف البؤس الذي تواجه، بينما تضطر إلى إعطاء أطفالها المياه المالحة، فيما يبحث زوجها يائسا عن الطعام الذي أصبح باهظ الثمن ونادرا بشكل متزايد، في ظل عدم القدرة على العثور على دواء لأطفالها المرضى.

وقالت: نريد أن نعيش حياة كريمة. أتمنى أن يسقطوا علينا قنبلة نووية. أقسم أنها ستكون أكثر راحة من هذه الحياة التي نعيشها".

المصدر: نيويورك تايمز

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب

المصدر: RT Arabic

كلمات دلالية: الحرب على غزة الشرق الأوسط حركة حماس حركة فتح طوفان الأقصى قطاع غزة منظمة التحرير الفلسطينية هجمات إسرائيلية وسائل التواصل الاجتماعی الجیش الإسرائیلی خان یونس سکان غزة

إقرأ أيضاً:

مؤامرة «الخروج بدون عودة» تفضح إسرائيل.. جهات رسمية تشارك في تفريغ مناطق فلسطينية استراتيچية من سكانها

علمتِ «الأسبوع» من مصادر فلسطينية متطابقة أن «هناك أكثر من جهة إسرائيلية تعمل على ملف التهجير الناعم لمجموعات فلسطينية من قطاع غزة من دون أوراق ثبوتية أو رسمية». وشددتِ المصادر أن «هذا الملف الخطير جزء من مخطط تهجير أهالي القطاع وحرمانهم من حقوقهم التاريخية المشروعة، من دون أي ضمانات بالعودة إلى غزة مجددًا»، مع تأكيدات بأن «عائلات القطاع لا تتعاون مع الاحتلال في هذا الشأن رغم القتل والتدمير والتشريد والنزوح».

وقبل أشهر قليلة، حاولت عواصم وقوى إقليمية ودولية معادية، تشويه صورة مصر، عبر ترويج أكاذيب عن تورط شركة محلية في إخراج فلسطينيين من قطاع غزة بـ«مقابل مالي»، واستثمرتِ الجهات المعادية ملايين الدولارات في ترويج الحملة الإعلامية المشبوهة، التي استهدفتِ الإساءة إلى الجهود الشاملة التي تبذلها الدولة المصرية لدعم الشعب الفلسطيني، خاصة خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

تبددتِ المزاعم الواهية حاليًّا بعدما كشفت حقائق دامغة عن تورط جهات إسرائيلية مباشرة (تتقاطع مع حكومة بنيامين نتنياهو وجيش الاحتلال وأجهزته الاستخباراتية) في عمليات تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ليس فقط إلى كينيا وجنوب إفريقيا، بل وإلى دول آسيوية وأوروبية، عبر التحايل على المؤسسات الدولية وعلى الفلسطينيين أنفسهم، بالمخالفة لكل القوانين الخاصة بحماية اللاجئين وحقوق الإنسان.

اعتراف إسرائيلي

جدد تمسك إسرائيل بفتح معبر رفح باتجاه واحد فقط (خروج بدون عودة)، الأدوارَ المشبوهة لمؤسسات الاحتلال (الرسمية وغير الرسمية)، في التهجير القسري، ووفق تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الأسبوع»، غادر خلال الشهور الأخيرة ما بين 40 و70 ألف فلسطيني غزة عبر هذه الآلية المشبوهة، نتيجة السيطرة الإسرائيلية على الحركة والموارد، ما يؤكد الاستراتيچية الإسرائيلية لتغيير الواقع الديموغرافي دون موافقة دولية.

السياسات الإسرائيلية أدت إلى اضطرار آلاف العائلات للعيش في ظروف مؤقتة وغير مستقرة في الداخل الفلسطيني. الأطفال والنساء وكبار السن يعانون من فقدان الخدمات الأساسية، صعوبة الحصول على التعليم والرعاية الصحية، وضغوط نفسية مستمرة، بينما تبقى أراضيهم وممتلكاتهم مُعرَّضةً للمصادرة أو التدمير، ما يزيد من حجم المعاناة الإنسانية ويعكس قسوة الإجراءات الإسرائيلية.

التهجير الجزئي بدون تصاريح رسمية يعزز أهداف الاحتلال في التحكم بالديموغرافيا وإضعاف الروابط المجتمعية الفلسطينية، فيما يتحمل المجتمع الدولي مسئوليةً عاجلةً لمتابعة أوضاع هؤلاء اللاجئين وحمايتهم، في حين تواصل إسرائيل تنفيذ سياسة التهجير تحت ستار الإجراءات الإدارية، ما يضاعف المخاطر القانونية والسياسية والإنسانية على المدى الطويل ويعكس ضعف الرقابة الدولية.

بدأتِ العمليات المشبوهة في نوفمبر الماضي عبر مغادرة أكثر من 300 فلسطيني من خلال معبر كرم أبوسالم تحت إشراف الجيش الإسرائيلي، الذي لم يوثقِ الخروج بختم رسمي في جوازات السفر، ما شكَّل ثغرةً قانونيةً وأمنيةً أثرت على وصولهم للدول الأخرى، قبل أن تفضح جنوب إفريقيا الممارسات التآمرية الإسرائيلية التى ترفض منح المغادرين لفلسطين الوثائق الرسمية التي تحمي حقوقهم.

مطار «رامون»

نُقل الفلسطينيون بعد عبور المعبر بحافلات إلى مطار رامون في عملية لوجستية مكثفة اعتمدت على تنسيق مباشر بين وحدات الجيش والإدارات المدنية. إدارة المسارات الأمنية بدت محكمةً، لكن العملية كشفت تجاوزات واضحةً للمعايير القانونية الدولية المتعلقة بخروج المدنيين، ما يثير أسئلة حول الإطار القانوني الذي تستند إليه إسرائيل.

إقلاع الطائرات إلى دول ترانزيت (من بينها كينيا) قبل الوصول إلى وجهتها النهائية، يركز على مسارات جوية بعيدة عن الرقابة الدولية. هذا الاختيار منح إسرائيل قدرةً على إدارة العملية بشكل شبه مستقل، مع تقليل فرص التدقيق في إجراءات النقل، ما يزيد الغموض المحيط بالتعامل مع الركاب والشروط التي فُرضت عليهم خلال الرحلة.

وكشف مصدر أمني فلسطينيّ رفيعَ المستوى عن سر اختيار مطار رامون، فأشار إلى موقعه الجنوبي المعزول الذي يوفر خصوصية عالية للرحلات الاستثنائية، مع سهولة الربط البري من كرم أبوسالم تحت الإشراف العسكري. هذا الموقع يحد من التدخل الإعلامي والرقابي، ويمنح جيش الاحتلال مساحةً لإدارة الحركة دون المرور بالمطارات المركزية التي تخضع لمتابعة أكبر، ما يخدم خطط النقل الإسرائيلية.

ويستوعب المطار رحلات مستأجرة خاصة مثل رحلات «Global Airways» دون دمجها في الجدول التجاري، ما يسمح بتحكم كامل في حركة الركاب والإجراءات الأمنية. الرحلات السابقة إلى جوهانسبرج ووجهات آسيوية تعزز تقييم السلطات الإسرائيلية للمطار كمنصة مناسبة لعمليات النقل والتهجير، مع تقليل المخاطر اللوجستية وتوسيع هامش المناورة.

التهجير بـ«مقابل»

اضطر عشرات الفلسطينيين في غزة لدفع مبالغ مالية كبيرة لمجموعة تقدم مخرجًا من القطاع، سعيًا للحفاظ على حياتهم بعد القصف المتواصل وفقدان المنازل. الرحلة لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل محاولة لتأمين سلامة العائلات في ظل ظروف معيشية مزرية وزيادة الضغط النفسي على السكان، خصوصًا الأطفال وكبار السن.

بدأتِ الرحلة بالتنقل عبر الحافلات داخل غزة وصولًا إلى المعابر الخاضعة لسيطرة الاحتلال، قبل نقلهم جوًّا إلى دول ثالثة. استخدام محطات متعددة قبل الوصول النهائي يعكس التعقيدات الإدارية والسياسية، ويُبرز التحديات اللوجستية الناتجة عن القيود الصارمة على التنقل، ما يحوِّل أي محاولة للهروب من الصراع إلى عملية محفوفة بالمخاطر والمعوقات.

اعتمد البعض على منظمات لتسهيل الرحيل، مع التواصل عبر الإنترنت للحصول على التصاريح الأمنية وجوازات السفر. وصول الفلسطينيين إلى جنوب إفريقيا بعد رحلة طويلة عبر كينيا شكَّل فرصةً للبقاء، لكنه لا يمحو مآسيهم السابقة. الذكريات المؤلمة من القصف وفقدان الأهل والممتلكات تظل تلاحقهم، ما يعكس مأساة شعب يعيش تحت الاحتلال دون أفق واضح للعودة.

تسهيلات «تحايلية»

تعتمد إسرائيل على فتح معبر رفح أو معابر محددة لفترات قصيرة تحت ذريعة التسهيلات الإنسانية، بينما تتحكم بالكامل في اتجاه الحركة. هذا الأسلوب يسمح بتهجير مجموعات مختارة دون حق العودة، ويحوِّل المعابر إلى أدوات ضغط وترهيب، ويمنح عمليات التهجير إطارًا يبدو قانونيًّا رغم مخالفته حقوق اللاجئين وتقويضه الحماية الدولية.

تستخدم إدارة «كوجات» أساليب انتقائية لتحديد الفئات المستهدفة، خصوصًا أصحاب المنازل الواقعة في مناطق فلسطينية استراتيچية أو مَن يملكون حضورًا اقتصاديًّا أو سياسيًّا. هذا الانتقاء يجعل التهجير محدودَ العدد لكنه مؤثر ديموغرافيًّا، إذ يركز على تفريغ مساحات محددة دون إثارة الانتباه إلى المشروع الأوسع. وتعمل الآلية بدقة تخدم أهداف السيطرة وإعادة تشكيل المجال السكاني.

يعتمد الاحتلال على ضغوط إدارية وقوانين مقيدة لدفع الفلسطينيين نحو مغادرة قسرية تُعرض كخيار فردي. التهديد بالهدم وحرمان السكان من التصاريح والخدمات الأساسية يضع الفلسطيني أمام احتمال واحد.هذه الضغوط تُظهر التهجير كخطوة «طوعية»، بينما يظل الهدف تفريغ مناطق معينة من سكانها الأصليين، وفق تخطيط ممنهج يدمج الأمن والإدارة.

تتم عمليات التهجير عبر تنسيق محدود مع مؤسسات دولية يمنح العملية مظهرًا من الشرعية دون رقابة فعلية. هذا الإطار يُخفي التوجه الإسرائيلي نحو تغيير البنية السكانية في غزة تدريجيًّا. التهجير الجزئي الذي يشمل عشرات الآلاف يخلق واقعًا جديدًا على الأرض، مع استمرار تقديمه كإجراء مدني أو إنساني يخدم أهدافًا سياسية بعيدة المدى.

«كوجات» المتآمرة

زعمت إدارة تنسيق النشاطات الحكومية الإسرائيلي «كوجات»، المسئولة عن الشئون المدنية في غزة، أن الفلسطينيين غادروا بعد حصولهم على موافقات من دولة ثالثة وتأشيرات صالحة، مع تفويض بالهبوط في جنوب إفريقيا، بينما تبين أنهم لم يحصلوا على أي من التصاريح المطلوبة، ما دفع السلطات للتحقيق في القضية وإبراز ثغرات قانونية كبيرة.

«كوجات» ليست إدارة مدنية تقليدية كما يروج الاحتلال، في ظل تورطها المباشر في عمليات تهجير الفلسطينيين بالتوازي مع الجيش والاستخبارات. تحت إشراف حكومة نتنياهو، تنسق الإدارة مع الأجهزة الأمنية لضمان تنفيذ خطط تهجير ممنهجة، ما يُظهر الوجه المدني لسياسات الاحتلال، حيث تُستغل الإدارات الرسمية كواجهة لإخفاء عمليات نقل السكان القسري وإفراغ مناطق استراتيچية من الفلسطينيين.

توظف «كوجات» القوانين واللوائح الإسرائيلية لصالح تنفيذ التهجير، مستغلةً غياب الرقابة الدولية، وتحايلت على الحقوق الأساسية في التنقل والسكن. تشمل أنشطتها تنظيم النقل إلى وجهات مثل كينيا وجنوب إفريقيا بعيدًا عن أي رقابة، مع إخفاء الحقائق عن اللاجئين أنفسهم، ما يثبت أنها جزء لا يتجزأ من آلة التهجير الإسرائيلي.

تكشف هذه العمليات الدورَ المشبوه للإدارة المدنية كذراع لتنفيذ السياسات الاستعمارية، ما يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية عاجلة لتوثيق الانتهاكات ومساءلة الاحتلال قانونيًّا وسياسيًّا. التغطية الإدارية المزيفة تخفي الواقع القسري للتهجير، وتؤكد أن «كوجات» تجاوزت مهامها اليومية لتصبح أداةً تنفيذيةً لسياسة تهجير ممنهجة تخالف القانون الدولي وحقوق الفلسطينيين الأساسية.

أدوار استخباراتية

تلعب أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية دورًا مباشرًا في إعداد عمليات مغادرة الفلسطينيين بدون عودة، تعتمد على شبكات محلية ودولية لجمع معلومات دقيقة تشمل الأسماء والمواقع والخلفيات العائلية والسياسية. تستخدم تلك البيانات لوضع أولويات التهجير وتوقيته، بهدف التأثير على أكبر عدد من السكان بأقل قدر من الاعتراض الدولي. هذه المنهجية تمنح الاحتلال قدرةً على التنفيذ الهادئ لعمليات واسعة دون ضجيج سياسي.

تنسق أجهزة الاستخبارات مع «كوجات» والإدارات المدنية الإسرائيلية لتسهيل النقل وإصدار التفويضات. هذا الدمج بين الأمن والإدارة يحوِّل التهجير إلى إجراءات تبدو منظمة، مع أنها تهدف إلى إفراغ مناطق استراتيچية من سكانها الأصليين. وتتابع الأجهزة أي اعتراض محتمل، وتغيّر المسارات أو الجداول وفق تقييمات لحظية لضمان استمرار العملية دون تعطيل.

تدير هذه الأجهزة كذلك التغطية الإعلامية والدبلوماسية، وتعرض عملية المغادرة كتحرك طوعي أو إنساني لتخفيف الانتقاد الدولي. هذا الإطار يخدم حماية الاحتلال من المساءلة، ويؤكد وجود استراتيچية استخباراتية متكاملة تجمع بين الأمن والإدارة المدنية والدبلوماسية لتثبيت سياسة التهجير وإعادة تشكيل الواقع السكاني في غزة.

تضييع الحقوق

الفلسطينيون الذين غادروا غزة عبر عمليات تهجير مشبوهة يواجهون فقدانًا شبهَ كامل لحق العودة، إذ لم يتم توثيق خروجهم رسميًّا. هذا الوضع يحرمهم من المطالبة بحقهم في العودة إلى منازلهم أو أراضيهم، ويحوِّلهم إلى لاجئين بلا ضمانات قانونية، مُعرَّضين لانتهاكات مستمرة لحقوقهم الأساسية وحياتهم المدنية.

غياب الأختام والتصاريح الرسمية الصادرة عن السلطات الإسرائيلية خلق ثغرةً قانونيةَ كبيرةً، تجعل هؤلاء الفلسطينيين عُرضةً لمشكلات قانونية عند دخول دول أخرى. النقص في التوثيق يزيد من هشاشة أوضاعهم، ويضعهم في موقف دفاعي مستمر، ويحد من قدرتهم على المطالبة بحقوقهم أو العودة إلى منازلهم، ويضاعف معاناتهم الإنسانية.

هذا الحرمان من الوثائق الرسمية يحرمهم من الحماية القانونية التي توفرها اتفاقية اللاجئين لعام 1951، بما في ذلك الحماية من الإعادة القسرية وحق الحصول على الخدمات الأساسية والعمل والتنقل. اللاجئون الفلسطينيون يصبحون عُرضةً للترحيل أو رفض الدخول في أي دولة، ما يزيد من هشاشة حياتهم ومستقبلهم غير المستقر في المنافي.

التهجير إلى دول بعيدة مثل كينيا وجنوب إفريقيا يعمّق التحديات الاقتصادية والاجتماعية، إذ يفتقر المغادرون إلى شبكات دعم محلية ويضطرون للعمل في ظروف غير مستقرة. فقدان الهوية القانونية يزيد من صعوبة الحصول على سكن ورعاية صحية وتعليم، ويترك آثارًا نفسية عميقة، ما يعكس سياسة الاحتلال في تغيير البنية السكانية وفرض الضغوط على حقوق الفلسطينيين.

كينيا.. جنوب إفريقيا

بادرت وزارة الداخلية في جنوب إفريقيا بسحب التأشيرات من الفلسطينيين الذين دخلوا أراضيها عبر المخطط الإسرائيلي، على خلفية التحقيقات التي أجرتها هياكل الاستخبارات الوطنية والمشاورات داخل مجموعة الأمن، التى تأكد لها تعمّد الإساءة المستمرة لإعفاء التأشيرة لمدة 90 يومًا لحاملي جوازات السفر الفلسطينية العادية من قِبل جهات إسرائيلية مرتبطة بجهود «الهجرة الطوعية» لسكان قطاع غزة.

جاء ذلك بعدما حققتِ الجهات الأمنية في رحلة مستأجرة هبطت في مطار «أور تامبو»، الدولي، بمدينة جوهانسبرج، وعلى متنها أكثر من 150 فلسطينيًّا يفتقرون إلى الوثائق الأساسية. احتُجز الركاب نحو 12 ساعة أثناء مقابلات الهجرة، قبل السماح لهم بدخول البلاد لمدة 90 يومًا لأسباب إنسانية، ما كشف عن ثغرات في المعلومات والمسئوليات الرسمية.

أما كينيا فكانت محطة ترانزيت قصيرة، دون تصريحات رسمية، لكن تقارير محلية أشارت إلى شبكات وسطاء لهم علاقات بسياسيين كينيين يسهِّلون النقل. هذه الطبقة الموازية تعمل خارج السيطرة الحكومية المباشرة، ما يعكس وجود آليات تنظيمية غير رسمية تتحكم في حركة الواصلين من مناطق النزاع، بعيدًا عن التدقيق السياسي الدولي المباشر.

اختيار كينيا كنقطة ترانزيت يعكس رغبة إسرائيل في نقل الفلسطينيين بعيدًا عن الرقابة، مستغلةً البنية التحتية اللوجستية لإدارة توقفهم القصير، ما يمنع اعتراضات ويقلل احتمالات العودة المباشرة. هذه الطريقة تجعل التهجير يبدو كتحرك لوجستي عابر، بينما يحمل تداعيات استراتيچية لإبعاد السكان عن مجتمعهم الأصلي وإعادة تشكيل الواقع الديموغرافي في غزة.

الوصول إلى جنوب إفريقيا كوجهة نهائية يوضح الاستراتيچية الإسرائيلية في نقل الفلسطينيين بعيدًا عن محيطهم الطبيعي، مستفيدةً من تفاهمات دبلوماسية واتفاقيات تعاون تمنح العملية غطاءً قانونيًّا وإداريًّا. نموذج «ترانزيت كينيا- جنوب إفريقيا» يقدم العملية إعلاميًّا كإجلاء إنساني، لكنه يترك آثارًا قانونية وإنسانية عميقة على الهوية وحقوق العودة المستقبلية.

حراك إقليمي

وأعربت دول عربية وإسلامية (بينها: مصر، السعودية، باكستان، إندونيسيا، الإمارات، تركيا، الأردن، وقطر)، عن قلقها العميق من التصريحات الإسرائيلية بشأن فتح معبر رفح باتجاه واحد لإخراج سكان غزة، وتجاوزَ التحرك مجرد التعبير الدبلوماسي، ليعكس بدء تنسيق سياسي أوسع يهدف لوقف أي خطوات أحادية ومفاجئة قد تؤثر على استقرار القطاع.

ركز البيان المشترك على ضرورة الالتزام الكامل بفتح معبر رفح في الاتجاهين، دون أي تغيير أحادي يعرقل الإغاثة ويمنح إسرائيل قدرةً على التلاعب السكاني، وتنفيذ الاستحقاقات المتفق عليها دون تأجيل، ورفض أي محاولات لتهجير الفلسطينيين، والتمسك بخطة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لضبط سلوك الأطراف على الأرض، وتسريع إعادة الإعمار، داعمةً عودة السلطة الفلسطينية لتولي مسئولياتها داخل غزة.

اقرأ أيضاًتقارير عبرية: تل أبيب ترفض مهلة عامين لنزع سلاح حماس

نتنياهو يرفض إقامة دولة فلسطينية ويصف المرحلة الثانية من اتفاق غزة بالصعبة

دبلوماسي فلسطيني سابق: ترامب مصمم على المرحلة الثانية رغم العراقيل وملف الضفة لا يزال محل جدل دولي

مقالات مشابهة

  • سكان نيويورك ينفقون على موقع إباحي أكثر من دول أوروبية بأكملها
  • المستشار الألماني: علينا أن نقلل الاعتماد على الولايات المتحدة
  • فقط 6 دول تمتلك غواصات نووية هل تحتاج أوروبا إلى المزيد؟
  • "نتنياهو": المعارضة الإسرائيلية بعيدة عن الواقع ولا تدرك موقع إسرائيل عالميا
  • أونروا: إسرائيل طرف في اتفاقية امتيازات الأمم المتحدة التي تنص على حرمة المقار الأممية
  • مؤامرة «الخروج بدون عودة» تفضح إسرائيل.. جهات رسمية تشارك في تفريغ مناطق فلسطينية استراتيچية من سكانها
  • اجتماع ثلاثي بين قطر والولايات المتحدة وإسرائيل في نيويورك بعد أشهر من الغارة على الدوحة
  • سوريا الجديدة.. نيويورك تايمز: الذي حدث يشبه المعجزة
  • نيويورك تايمز: مرة أخرى تنتهي جهود إسرائيل بتجنيد عملاء لها في غزة نهاية فظيعة
  • ايران: مستعدون لمفاوضات نووية جدية مع واشنطن