تحديات إسرائيل ومآزقها في 2024
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
ارتكبت إسرائيل كل الجرائم التي يمكن تصورها خلال الحروب أو تلك التي لا يمكن تصورها خلال عدوانها على غزة في الأشهر الثلاثة الماضية، ومارست في هذه الحرب جرائم كانت تدعي أنها تعيش عذاباتها طوال عقود طويلة، من بينها عذابات المحرقة وعذابات الشتات، ووصلت إلى ذروة الإجرام البشري والانحطاط الأخلاقي الذي لا يمكن تصوره من أقوام بشرية في القرن الحادي والعشرين.
ورغم بشاعة الجرائم التي تعرض لها سكان غزة بما في ذلك الأطفال، وما أصاب غزة نفسها من تدمير كامل للبنى الأساسية فيها والحقول الزراعية والمعالم الأثرية إلا أن أحدا لا يستطيع تجاوز المأزق الكبير الذي تعيشه إسرائيل نفسها قبل هذه الحرب، وتكرس خلالها وسيمتد بعدها لسنوات طويلة في رحلة سقوط إسرائيل الحتمية سواء بمعتقدات اليهود أنفسهم أو بالوعد القرآني الصادق أو وفق منطق الأشياء الذي يشير إلى أن كل مقاومة لاحتلال لا بدّ أن تنتصر يوما ما دام المقاوم يؤمن بحقه ويناضل من أجله.
وإذا كانت الدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية بدأت داعمة لإسرائيل وحقها في القضاء على «حماس» التي كسرت وفضحت نظرية الأمن الإسرائيلي فإن وزير الخارجية الأمريكي في المنطقة هذه الأيام للتأكيد على أن أمريكا لم تعد داعمة للتجاوزات التي تقوم بها إسرائيل خلال حربها ضد غزة. وبغض النظر عن أسباب هذا الطرح فإن قوله بشكل مباشر من شأنه أن يضعف الجبهة الداخلية المضطربة في إسرائيل ويشعرها بأنها يمكن أن تعيش عزلة دبلوماسية عالمية إضافة إلى عزلتها الإقليمية.
ورغم أن حماس والكثير من الدول العربية والعالمية تحمّل الولايات المتحدة مسؤولية ما قامت به إسرائيل بعد استخدامها حق «الفيتو» ضد كل مشاريع وقف الحرب، وبعد دعمها إسرائيل بالسلاح إلا أن المنطق الذي تنطلق منه أمريكا هذه المرة آتٍ من «مخاوفها بشأن التكتيكات التي تستخدمها إسرائيل، وعدم حماية المدنيين». ولعل هذه صحوة أمريكية متأخرة.. لكن لا يمكن أن يكون هدفها الإشفاق على أطفال غزة بقدر ما يمكن أن يكون إدارة للسمعة الأمريكية في سنة مهمة بالنسبة للرئيس بايدن الذي سيخوض في هذه السنة انتخابات مهمة جدا لا يبدو أنه يمكن أن يعبرها بسهولة.
ويعرف بايدن وإدارته أن الناخبين الأمريكيين المسلمين يمكن أن تصنع أصواتهم فارقا في الانتخابات خاصة إذا ما استمر تأييد الناخبين الأمريكيين الشباب للقضية الفلسطينية وفق ما أكده استطلاع رأي أجرته جامعة هارفارد ونشرته جريدة جيروزاليم بوست الإسرائيلية والذي خلص إلى أن 48% من العينة المستطلع رأيها تؤيد حماس وترفض الدعم الذي يقدمه بايدن لإسرائيل.
وهذه النتائج تتوافق مع نتائج استطلاع آخر أجراه (نظام مراقبة معاداة السامية عبر الإنترنت «إيه سي إم س») والذي يشير إلى ارتفاع معدلات معاداة السامية حيث زادت الدعوات على الإنترنت للعنف ضد إسرائيل والصهاينة واليهود بنسبة 1200%، وهذا الأمر جاء نتيجة ما ارتكبته إسرائيل من جرائم فظيعة ضد الفلسطينيين في غزة وهشاشة المنطق الذي تقوم عليه الحرب بعد نجاح السردية الفلسطينية في إقناع الجماهير العالمية بصدقها ومنطقيتها والتي كانت مدعومة بالصور الحقيقية من ساحات الجرائم الإسرائيلية.
وعلى إسرائيل أن تنتظر الكثير من المقاومة في الأراضي المحتلة تفوق بعشرات المرات طوفان الأقصى، كما عليها أن تنتظر موجات من العنف ضد مصالحها في مختلف بقاع العالم، فالندوب التي أحدثتها في الفلسطينيين( العرب) الإنسانية لا يمكن أن تمضي دون ردة فعل، وهذا أحد أبرز التحديات التي ستواجهها إسرائيل في السنوات الخمس القادمة.
وفي مسار آخر ولكنه متصل بجوهر القضية (احتلال فلسطين) فإن إسرائيل تعيش حالة من التشظي الداخلي ناتجة عن شعور داخلي في إسرائيل أن كل ما فعلته «الدولة» لم يستطع أن يوفر أبسط ما يبحث عنه الإسرائيلي وهو «الأمن»، وربما «السلام» الذي لا شك أن بعض الإسرائيليين يؤمنون به ولو وفق مفهومهم له، ولكن حتى بهذا المفهوم لم يستطع الإسرائيلي أن يعيشه في ظل إصرار الفلسطينيين على حقهم التاريخي بأرضهم وحقهم الطبيعي في الحياة.. ولذلك تتحدث الصحف الإسرائيلية نفسها أن حجم الاضطرابات النفسية التي يعيشها الإسرائيليون ناهيك عن إيمانهم أن ما حدث في طوفان الأقصى يمكن أن يتكرر كثيرا في المرحلة القادمة كرد فعل على جرائم «إسرائيل». وهذه الأمراض النفسية يمكن أن تصنع في داخل إسرائيل نفسها تطرفا وعنفا بين الإسرائيليين أنفسهم، ليس بين العامة فقط ولكن حتى بين النخب السياسية والثقافية الإسرائيلية.
أما المشهد الاقتصادي داخل إسرائيل فإنه ينذر بركود اقتصادي خلال العام الجاري، بل إنه ركود بدأت ملامحه تبرز بشكل واضح جدا الأمر الذي جعل نتانياهو يقول إن أحد أهم أسباب سحب بعض ألوية الجيش من داخل غزة هو لإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي. واستدعت إسرائيل أكثر من 360 ألف جندي من جنود الاحتياط، وهؤلاء تم استدعاؤهم من وظائف مدنية واقتصادية الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي على الحياة الاقتصادية في «دولة» تخوض حربا قوية جدا تحتاج إلى اقتصاد قوي.
ولكل هذه الأسباب وغيرها الكثير فإن إسرائيل تعيش مرحلة صعبة ستنعكس سلبا عليها في كل الأصعدة السياسية والاجتماعية، وسيزيد تطرفها خلال المرحلة القادمة وعدوانيتها وتشظيها وصراعاتها السياسية.. وعلى الجوار العربي المقاوم أن يدير معركته مع إسرائيل وفق كل هذه التحديات الكبرى.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الطوفان يعمّق عزلة إسرائيل.. والتطبيع يُسعفها إقليمياً.. دراسة جديدة
أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات دراسة علمية بحثت في واقع انخراط "إسرائيل" في العولمة بجوانبها المختلفة، وتحديداً تأثير طوفان الأقصى على هذا الانخراط.
الورقة أعدّها أ. د. وليد عبد الحي، الخبير في الدراسات المستقبلية، وقدّمت قراءة كمية وتحليلية معمقة في مؤشرات العولمة السياسية والاقتصادية، وفي تفاعل "إسرائيل" الإقليمي والدولي خلال مرحلة ما بعد 7 أكتوبر 2023.
أولاً ـ العولمة السياسية.. تراجع بعد التقدّم
كشفت الدراسة أن "إسرائيل" كانت تتفوق على المتوسط العالمي في مؤشرات العولمة السياسية قبل طوفان الأقصى، واحتلت المرتبة 34 عالمياً في مؤشر العولمة الدبلوماسية، مستفيدة من التطبيع العربي المتزايد واعتراف أغلب دول منظمة التعاون الإسلامي بها.
لكن الطوفان غيّر المعادلة:
ـ تراجعت "إسرائيل" 3 مراتب وانخفض المؤشر بـ0.15 نقطة خلال العام الأول من الحرب.
ـ تم قطع أو تجميد العلاقات من قبل 11 دولة.
ـ تصاعد الضغط الدولي عبر المحاكم الدولية والمظاهرات والمطالب بالعقوبات.
ثانياً ـ العولمة الاقتصادية.. التراجع المتراكم
بحسب الدراسة، فإن العولمة الاقتصادية هي الأكثر أهمية لـ"إسرائيل"، وقد شهدت صعوداً حتى عام 2005، ثم بدأت بالتراجع.
ـ في عام 2024، تراجع مؤشر العولمة الاقتصادية من 78.09 إلى 72 نقطة.
ـ الطوفان لم يكن السبب المباشر، بل كان مسرّعاً لتراجع بدأ منذ قرابة عقدين.
ـ الدعم الأمريكي بعد الطوفان لعب دوراً في امتصاص الصدمة الاقتصادية، لكن لم يمنع الانحدار في: السياحة، التجارة الخارجية، الاستثمار الخارجي.
ثالثاً ـ الاستقرار الداخلي.. الانحدار المتواصل
الدراسة عرضت مؤشرات الاستقرار الإسرائيلي، التي تراجعت من -0.82 سنة 2019 إلى -1.46 في 2023.
ـ سنة 2024، اعتُبرت "إسرائيل" ضمن أكثر 10 دول عدم استقراراً في العالم.
ـ التقديرات تُظهر أن العنف الناتج عن المواجهات قد كلف الاقتصاد: 40% انخفاض عند قياس الأثر المباشر، 61% انخفاض عند شمول آثار التهجير والرعاية والنشاطات غير الاقتصادية.
رابعاً ـ النمو الاقتصادي.. انهيار متسارع
معدلات النمو كانت 6.3% في 2022، ثم تراجعت إلى: 1.8% في 2023، 1% في 2024.
خامساً ـ التعويض بالتطبيع العربي
ـ الدراسة حذّرت من أن "إسرائيل" ستعتمد على التطبيع العربي لتعويض خسائرها في الساحة الدولية.
ـ استراتيجية بيريز القديمة بالفصل بين العولمة السياسية والاقتصادية يُعاد تفعيلها الآن.
خلال 2024:
ـ الواردات العسكرية العربية من "إسرائيل" بلغت 1.8 مليار دولار، أي %12 من صادراتها العسكرية.
ـ ارتفع حجم التجارة المدنية بين "إسرائيل" وخمس دول عربية و15 دولة إسلامية.
وخلصت الدراسة إلى أن "إسرائيل" تواجه أزمة بنيوية في مؤشراتها العولمية، والعقبة الأكبر أمام عودتها لمسار العولمة هي أنها كانت أصلاً في مسار تراجعي سابق، وأن الطوفان لم يخلق الأزمة، لكنه كشفها وعمّقها.
ودعا الباحث إلى وقف موجات التطبيع التي يستغلها الاحتلال لتثبيت وضعه الاقتصادي والسياسي، وحذّر من أن أي دعم عربي أو إسلامي لـ"إسرائيل" يُعتبر بمثابة رافعة إنقاذ دولية لها في لحظة تراجع حاد.
الدراسة تُعد من الوثائق النادرة التي تربط بين ديناميات العولمة والتغيّرات السياسية الناتجة عن مقاومة فلسطينية شاملة، وتُبرز كيف يمكن للأحداث الكبرى مثل "طوفان الأقصى" أن تعيد رسم موقع "إسرائيل" في النظام العالمي، إذا لم يُعاد تأطير المواقف الإقليمية، خصوصاً العربية، بما يتناسب مع تلك التحولات.