لجريدة عمان:
2025-11-14@13:39:15 GMT

مفارقـات العـلم

تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT

يسجل الذكاء الاصطناعي نقطة تحـول حاسمة في مجرى تطور العلم والمعرفة الإنسانيين، بل لعل الأخيريـن يجدان في هذا الفتح من فتوحاتهما (أعني الذكاء الاصطناعي) العتبة الأعلى في ذلك التطور. لكنها -وهنا المفارقة- العتبة التي يضع فيها صانع العلم والمعرفة (=الإنسان) حـدا لسلطانه المعرفي؛ هذا الذي بات يخلي مكانه للآلة وللذكاء الاصطناعي! كيف ينتهي المطاف بالمغامرة المبدعة للإنسان، إذن، إلى هذا النفق المـنسد؛ وكيف يستحيل العقـل والخـلق إلى معاول هـدم لمـا كان قد ابـتـناه في الماضي، من صـروح.

.. ومن أساسات لإنسانيـة الإنسان؟

تلك قصـة مفارقة صارخة في ما تداعـى من تاريخ الإنسان؛ قصة علاقته بالمعرفة، من خلالها، بعالم شرع في الخروج -تدريجيـا- من الغموض والإبهام إلى الوضوح والبيان قبل انقلاب معايير العلاقة! فلفـترة طويلة من تاريخه، ظل الإنسان ضحيـة جهـلـه: جهـلـه قوانين العالم والمحيط الذي يحويه؛ جـهـله نفسـه. ولقد رتب عليه ذلك الجهل خضوعًا لضغط العالم الطبيعي عليه، وجـهدا موازيـا لتخفيف وطأة ذلك الضغط من طريق التـكـيف مع أحكامه القهـرية الموضوعية. وما استطاع أن يتحرر من حالة إملاق الإرادة إلا حين أمكنه أن يحتاز قـدرا من العلم بأشياء العالم وظواهره ودواعيها احتيازًا يوفـر له إمكان الفعل فيها والتأثـير.

يصعب -بل لعله قد يستحيل- أن يحدد المرء، على وجـه الدقـة، اللحظة التي وقع فيها ذلك الانتقال الهائل من الجهل إلى العلم، ومعه انتقال الإنسان من الانفعال إلى الفعل ومن التأثـر إلى التـأثير. ومـأتى الصعوبة من أن الأمر فيه يتعلق بانتقال تاريخي متدرج ومتجـل في حلـقات متسلسلة تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى لا بانتقال طـفروي فاجئ. لقد كان على الوعي الإنساني أن يتدرج في علمه الأشياء من البسيط إلى المركـب، ومن المحسوس إلى المجـرد. هكذا قطع شوطه الطويل من الإدراك الحسي المباشر، ومن تنمية حـس ملاحظة الظـواهر وتنمية قدرة الربـط بينها؛ ثم من محاولات التعليل السحري فالماورائي لها إلى محاولات الاستنتاج العـقـلي من طريق التـأمـل التجريدي وصولًا إلى اكتساب الروح التجريبي من طريق مراكمة خبرة طويلة في مجال التجربة والخطأ. وحين ولد العلم، في بواكيره الأولى، قبل قريب من ثلاثة آلاف عام - بوصفه منظومة لا كتجربة فقط - كان الإنسان قد تقـدم شوطا بعيدا على طريق التحرر من سطوة الجهل. وما كان العصر الحديث قد هل وانفجرت فيه ثورة العلوم (القرنان 17 و18) حتى شرع الإنسان في الانتقال من كائن متكيـف مع الطبيعة إلى كائن مكـيف لها ومخـضع! وما من شك في أن زمن مفارقاته ومفارقات علـمه ستبدأ من لحظة شعوره الظـفراوي الديكارتي بمركـزيـته في العالم وبسيادته على الطبيعة وأشيائها. إنه عينه الشعور بثـقته العمياء في علمه؛ الثـقة التي ستتعزز أكثر بسيادة النزعة العلمويـة في القرنين 19 و20.

اليوم، مع هذا «الشطط» في العلم - الذي زادت النزعتان الصناعية والتـقانـية في تغذيته ومفاقمته-؛ ومع هذا الانتقال من الذكاء الطبيعي إلى الذكاء الاصطناعي ودخول الأخير مجالات استخدام واسعة شملت وجـوها من الحياة مختلفة، نـلـج طورا جديدا من علاقة الإنسان بالعلم تكاد أن تنطبق على وصفها مقـولة «انقلاب السحر على الساحر»؛ إذ ها هـو العلم ينقلب على الإنسان: على الطبيعي في الإنسان وعلى الإنساني فيه معا. وهكذا بدلا من أن يكون الإنسان -مثلما هـو كان- ضحية لجهله، أمسى ضحية لعلمه! الفارق أن جهـل الإنسان، في ما مضى، كان يعـفيه من المسؤولية عما قد يحل به من كوارث، أما علمه - اليـوم - فبات يوقـعه في كوارث يسعى إليها بنفسه وتترتب مسؤوليته على الوقوع فيها. وقديما قيل: «ومن العلم ما قـتـل»...

هل من مفارقة في هذا الباب أكثر من أن ينقلب معنى المعرفة، انقلابا كاملا، إلى ضده؟ كانت المعرفة جـهدا فكريـا يبـذل قصد تحقيق حسن الإدراك من أجل الوصول إلى حسـن الفعل. كانت وسيلة يتوسلها الإنسان لإعمار داخـله وإعمار محيطه، ولبناء جوهره الإنساني وإطلاق الطاقة الخلاقـة فيه. وبهذا المعنى للمعرفة، ولاتـصالها بحاجات الاجتماع الإنساني، بنت الإنسانية حضاراتها وأنجزت فتوحاتها العلمية. لكن معنى المعرفة انـحط، انحطاطا لا سابق له، مع الصعود الهائـل للنزعة العلمويـة التكنو-إيديولوجية (= حيث تصير التـكنولوجيا إيديولوجيـا!)؛ أي حين صارت وسيلة لمصادرة الإنساني في الإنسان من طريق التعـطيل الكامل لطاقاته الطبيعية -التي طورها عبر التاريخ- على نحو ما يجري اليوم من خلال الاعتياض عن الذكاء الطبيعي بالذكاء الاصطناعي أو، بلغتنا، الاعتياض عن الإنسان بالآلة وبما يسمونه «الإنسان» الآلي! وليس ثمـة من علامة دامغة في الدلالة على انحطاط معنى المعرفة ووظيفـتها أكثر من أن تتحول إلى معرفة برسم تبعيـة الإنسان للآلة، وبرسم استبدال الاصطناعي بالطبيعي! وليس مـناط التبعيـة هذه فـقدان الإنسان سيطرته والسيادة على منتوجه (الآلة)، بل الاستلاب له والخضوع خضوع العـبد للسيـد! ما من نهايـة لنزعة تأليه العلم، وتأليه الآلة، أبـأس من هـذه النهايـة!

تردنـا هذه المفارقة إلى الجوهري من مسألة العلم. لا تـثريب على العلم وعلى العلماء في السعي بعيدًا في المعرفة والاكتشاف؛ فتلك وظيفة العلم والعلماء في حلباتهم ومختبراتهم. المشكلة تبدأ حين تخرج نتائج معارفهم العلمية من أحيازهم لتدخـل في أحياز غيرهم ممن ليسوا من أهل العلم، فتكون النتيجة أن العلم هذا ينقلب على أهدافه، موضوعيًا، حين تستولي عليه نـخب المرابين وتسخـره لمصالحها. هؤلاء المسخـرة للعلم (في أغراض لا دخل للعلماء فيها) هـم من ينبغي أن يحاسبهم المجتمع والقانون على أنماط تسخيرهم ذاك، وعلى مدى المنفعة والمضرة فيه، لا العلماء المنصرفون إلى أداء رسالتهم المعرفية التي تنتظرها منهم الإنسانية. تجـار العـلم لا العلماء هم من ينبغي، إذن، أن توجـه إليهم سهام النـقد؛ لأن تجارتهم فاسدة ومفسدة... وتأخذ البشريـة إلى حتفها!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی من طریق

إقرأ أيضاً:

فوز 8 مشاريع بالنسخة الثانية من "هاكاثون الذكاء الاصطناعي"

مسقط- الرؤية

اختُتمت النسخة الثانية من هاكاثون الذكاء الاصطناعي 2025، الذي نظّمه مختبرات عُمانتل للابتكار وبرنامج الشركات الناشئة العُمانية الواعدة، والذي قدّم منصة عملية للشركات الناشئة لبناء حلول تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتطوير نماذج أعمال قابلة للتطبيق.

وشارك في الهاكاثون 20 فريقًا ناشئًا من المبتكرين ورواد الأعمال من قطاعات مختلفة قائمة على التقنية والابتكار، حيث عمل المشاركون على مدى 4 أيام على تحويل أفكارهم إلى نماذج أولية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المختلفة تحت إشراف نخبة من الموجهين والخبراء. وتضمن الهاكثون ورشًا تطبيقية حول التطوير باستخدام أدوات البرمجة بدون كود وتوظيف الذكاء الاصطناعي ونمذجة الأعمال، وهو ما وفر بيئة محفزة للتعاون والتحقق من جدوى المشاريع.

وجرى خلال الحفل الختامي الإعلان عن 8 مشاريع فائزة لشركات تقنية ناشئة، إذ حصلت الفرق الثلاثة الأولى على جائزة مالية قدرها 3000 ريال عُماني لكل فريق مقدَّمة من برنامج الشركات الناشئة العُمانية الواعدة، إلى جانب انتقالها إلى مرحلة تطويرية، ضمن حاضنة مختبرات عُمانتل للابتكار، كما تم اختيار خمسة فرق أخرى للانضمام إلى برنامج احتضان لمدة شهرين في المختبرات، لدعم استمرار تطوير حلولها المبتكرة.

وحلَّ في المركز الأول مشروع E&E (Tawjih AI)؛ حيث قدّم الفريق حلًا مؤسسيًا مُتقدِّمًا يعتمد على منصة ذكاء اصطناعي لتحليل البيانات المتفرقة داخل المؤسسات وتجميعها وتحويلها إلى رؤى دقيقة قابلة للتنفيذ. وفي المركز الثاني مشروع Synapse Cyber؛ إذ قدم الفريق فكرة تطوير جهاز أمن سيبراني مبسّط يعمل وفق مفهوم "التوصيل والتشغيل"، ويعتمد على الذكاء الاصطناعي لتوفير طبقة حماية شبكية متكاملة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة دون الحاجة إلى خبرات تقنية متقدمة. أما المركز الثالث فذهب لمشروع Wasl الذي قدم حلًا مبتكرًا للتواصل المهني يعتمد على الذكاء الاصطناعي، وموجّهًا للمؤسسات الصغيرة وأصحاب الأعمال المستقلين، حيث تدمج المنصة التذكيرات الذكية وجدولة المهام والتنبيهات وأتمتة البريد الإلكتروني داخل واجهة محادثة عربية سهلة الاستخدام تحاكي تطبيقات الدردشة اليومية عبر تطبيق الدردشة "واتساب".

وقالت صاحبة السمو السيدة غادة بنت جيفر آل سعيد مدير أول مختبرات عُمانتل للابتكار: "نفخر في عُمانتل ومن خلال مختبرات عُمانتل للابتكار بدعم ورعاية المواهب الوطنية من مبتكرين ورواد أعمال ساعين إلى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتطوير حلول تقنية وانشاء شركات ناشئة قادرة على مواكبة التحولات العالمية في هذا المجال، وقد شكّلت النسخة الثانية من هاكاثون الذكاء الاصطناعي الذي أُقيم بالتعاون مع برنامج الشركات الناشئة العُمانية الواعدة هذا العام أكثر من مجرد فرصة منافسة للمشاركين؛ إذ كانت منصة مهمة للفرق لإبراز مستوى متميز من ابتكار مختلف الحلول التي تلبي احتياجات السوق الفعلية وبناء نماذج عمل قابلة للنمو باستخدام الذكاء الاصطناعي".

وقال قيس بن راشد التوبي المشرف العام على برنامج الشركات الناشئة العُمانية الواعدة: "تؤكد مخرجات هاكاثون الذكاء الاصطناعي أن الشركات الناشئة العُمانية قادرة على تقديم حلول عملية تقوم على الذكاء الاصطناعي وتعالج تحديات واقعية في مختلف القطاعات، وقد أظهرت الفرق المشاركة مستوى عالٍ من الإبداع والجاهزية التقنية، وهو ما يعزز ثقتنا بالكوادر الوطنية وقدرتها على قيادة مشاريع مبتكرة قادرة على المنافسة". وأضاف: "نعتز بالشراكة مع مختبرات عُمانتل للابتكار التي لعبت دورًا محوريا في تمكين هذه التجارب، ونتطلع إلى رؤية المزيد من الشركات الناشئة التي توظف الذكاء الاصطناعي لتحقيق قيمة مضافة للسلطنة في مختلف المجالات".

ويأتي برنامج الشركات الناشئة العُمانية الواعدة برئاسة فخرية من صاحب السمو السيد بلعرب بن هيثم آل سعيد، الرئيس الفخري للبرنامج، ويُنفذ بشراكة بين وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار ووزارة الاقتصاد وهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة "ريادة" والمجموعة العُمانية للاتصالات "إذكاء".

ويُعد البرنامج محطة رئيسية في دعم الشركات الناشئة القائمة على التقنية والابتكار في سلطنة عُمان؛ حيث يهدف البرنامج إلى دعم الشركات الناشئة العُمانية القائمة على التقنية والابتكار بكافة الإمكانيات، والموارد لتعزيز حضورها إقليميا ودوليا من خلال بناء منظومة وطنية متكاملة ويعزز من رفع ترتيب سلطنة عُمان في المؤشرات ذات العلاقة.

مقالات مشابهة

  • التفاصيل الكاملة لولادة أول طفل بالعالم باستخدام الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يهدد وظائف لبنان الهشة
  • من الأساطير إلى الخوارزميات.. 40 محطة صنعت تاريخ الذكاء الاصطناعي
  • «بان».. يستكشف محاكاة الذكاء الاصطناعي للواقع في بيئات متغيرة
  • «غرفة الشارقة» تستشرف «مستقبل الجودة في ظل الذكاء الاصطناعي»
  • لماذا تحتضن الاقتصادات الناشئة الذكاء الاصطناعي؟
  • الذكاء الاصطناعي .. ثورة تكنولوجية هائلة !
  • هاغينغ فيس.. كيف تقود المصادر المفتوحة ثورة الذكاء الاصطناعي؟
  • فوز 8 مشاريع بالنسخة الثانية من "هاكاثون الذكاء الاصطناعي"
  • كيف يُسهم الذكاء الاصطناعي في «تعفّن الدماغ»؟