لماذا لا يدعم النظام العربي الفلسطينيين كما تدعم أمريكا إسرائيل؟!
تاريخ النشر: 13th, February 2024 GMT
لم يكن لـ"إسرائيل" أن تقوم بمحض الإرادة والقدرة الصهيونية؛ كيف ذلك والفكرة الصهيونية أصلا كانت وليدة طوائف من الكنائس البروتستانتية؛ وقد عدّها أكثر اليهود في حينه فكرة معادية للسامية، لكونها تقاطعت في ملابساتها التاريخية مع "المسألة اليهودية" في أوروبا، وقصدت إلى إقامة "إسرائيل" لأهداف مسيحانية خلاصية لتلك الطوائف تفضي إلى التخلّص من اليهود نهاية الأمر بحسب تلك التصوّرات المسيحانية.
وبقطع النظر عن الأسباب الثقافية التي تحصّل للحركة الصهيونية هذا القدر الهائل من الدعم طوال تاريخ الكيان الإسرائيلي، ومهما كانت الأغراض الاستراتيجية والسياسية للغرب من تأسيس "إسرائيل" في قلب المشرق العربي؛ فإنّ هذا الكيان لم يقم إلا بالتمهيد والتشييد الاستعماري الفرنسي/ والبريطاني، وتحديدا البريطاني.
وإذا كان استعمار تركة الدولة العثمانية قد أخذ صيغة الانتداب فيما صار العراق وسوريا ولبنان وشرقي الأردن، فإنّه خصّ فلسطين بنمط خاص من الإدارة البريطانية بما ينسجم مع إرادة إقامة كيان استعماريّ دائم فيها، عبّر عنه أوّل الأمر ما عُرِف بوعد بلفور، الأمر الذي يحتّم أخذ السياسة الاستعمارية تلك في سياق واحد، أي هندسة محيط فلسطين، بما يخدم تأسيس الكيان الإسرائيلي.
كيف يمكن تفسير مواقف الامتناع العربي عن نصرة الملاحقين بالإبادة والنار والجوع والعطش في غزّة، ولو بالكلمة؟ بل إنّ دولا كبيرة في الإقليم العربي، ولأسباب غامضة تجعل في صدارة اشتغالاتها الدعائية تنظيم الحملات للحطّ من الشعب الفسطيني وقضيته، وإذا كانت حماس الآن الهدف الأساس من ذلك، فإنّها وفي السنوات السبع الأخيرة، أي منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وهي تقصد الفلسطينيين كلهم
المهم بعد ذلك أنّ هذا الكيان ظلّ قائما لا بمجرّد عوامل القوّة الذاتية التي طوّرها بنفسه لأجل استمراره وتعزيز تماسكه المجتمعي والمؤسسي؛ ولكن أيضا، وهو الأهم، بشروط التأسيس ذاتها، أي الدعم الغربي المطلق، المستند اليوم وقبل أيّ شيء إلى الولايات المتحدة، تمويلا وتسليحا وهيمنة على العالم، ثمّ إلى المنطقة العازلة المهندسة استعماريّا في السياق ذاته الذي جرى فيه تأسيس الكيان الإسرائيلي.
عوامل قوّة الكيان الإسرائيلي واستمراره واضحة؛ ولا تحتاج مزيد بيان ولا كثير استدلال، وإن كانت حربه العدوانية الأخيرة على قطاع غزّة قد جعلت الأمر مقطوعا به من حيث؛ أولا أنّه ما كان له الاستمرار حتى اللحظة إلا بالدعم المطلق الذي يطلق يده بلا قيود في دم الفلسطينيين، وآلياته بلا كوابح في أرضهم، إلا قيود التدبير وكوابح المصلحة لأجل ضمان أهدافه ومنع ممارسته الإجرامية من الركون المطلق للقوة والانفلات الكامل من حسابات الاستراتيجيا، وهذا الذي يفعله الأمريكي؛ توفير كلّ ما يلزم من دعم وحماية، ثمّ تدبير سبل حماية الإسرائيلي من نفسه وحماقاته، وثانيا أنّه قويّ ومستمرّ بالتردي العربي المحيط، المتسم بالعجز والتواطؤ بما ينفي أيّ شكّ في أنّ الموقف العربي الحقيقي يطوي على عداء للقضية الفلسطينية من حيث أصلها بقطع النظر عمّن يمثّلها أو يرفع رايتها، فالممثل الجاد لها، والمقاتل الصادق باسمها، ينبغي ترويضه واحتواؤه وإعادة تشكيله، أو سحقه!
كيف يمكن تفسير مواقف الامتناع العربي عن نصرة الملاحقين بالإبادة والنار والجوع والعطش في غزّة، ولو بالكلمة؟ بل إنّ دولا كبيرة في الإقليم العربي، ولأسباب غامضة تجعل في صدارة اشتغالاتها الدعائية تنظيم الحملات للحطّ من الشعب الفسطيني وقضيته، وإذا كانت حماس الآن الهدف الأساس من ذلك، فإنّها وفي السنوات السبع الأخيرة، أي منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وهي تقصد الفلسطينيين كلهم شعبا وقضية بالتشويه والتحطيم!
إذا كان هذا حال الكلمة الممنوعة في بعض البلاد المشغولة دولها بتنظيم حفلات الرقص والغناء ومهرجانات الكلاب، أو إشاعة البهجة بإنجازات كروية عابرة؛ والمذبحة في غزة قائمة، فكيف بالفعل؟! لم يعد الأمر منحصرا في الامتناع عن إغاثة الفلسطينيين بالدواء والغذاء، ولكنه صار معلنا في مدّ الإسرائيلي بمقوّمات الاستمرار في إبادة الشعب الفلسطيني.
يفسّر البعض الموقف العربيّ هذا بالموقف من التيار الإسلامي الذي يُكنّ له النظام العربي عداء أيديولوجيّا راسخا، ومن ثمّ فمحدّد الموقف من الحرب الإسرائيلية الراهنة على غزّة هو العداء لحماس؛ أحد أهمّ تجلّيات التيار الإسلامي بقاء وإلهاما
يفسّر البعض الموقف العربيّ هذا بالموقف من التيار الإسلامي الذي يُكنّ له النظام العربي عداء أيديولوجيّا راسخا، ومن ثمّ فمحدّد الموقف من الحرب الإسرائيلية الراهنة على غزّة هو العداء لحماس؛ أحد أهمّ تجلّيات التيار الإسلامي بقاء وإلهاما. لكن هل هذا تفسير كامل؟!
يمكن بيان قصور هذا التفسير بالتاريخ العربي الطويل مع القضية الفلسطينية من الهزائم العربية التي أضاعت فلسطين في حربيّ 1948 و1967، في حين يُمنّ على الفلسطينيين بأنّ بلادا عربية خاضت حروبا عديدة لأجلهم، نصف هذه الحروب أضاع فلسطين، وأكثرها لم يكن لأجل فلسطين ولا بسببها! لا حاجة للعودة إلى هذا التاريخ، والذي منه تصفية المقاومات الفلسطينية في المحيط العربي، وتمرير اجتياح لبنان عام 1982، فيكفي التذكير بالكيفية التي تُرِك فيها ياسر عرفات وحده بين الدبابات الإسرائيلية، دون أدنى جهد لإخراجه من الحصار لحضور القمّة العربية في بيروت في 2002، التي لم تفعل شيئا إزاء المجازر الإسرائيلية في الانتفاضة الثانية، سوى مكافأة الإسرائيلي بعرض "المبادرة العربية للسلام"، وهي عادة عربية أثيرة منذ العام 1982، إذ يكافأ الإسرائيلي بعد كلّ مجزرة وغزو واجتياح بعرض سخيّ للسلام معه!
لم يكن ياسر عرفات منتميّا لما يُسمّى "الإسلام السياسي"، بل كان جزءا من النظام الرسمي العربي، كما أنّ عمليات التطبيع العربي التحالفي، التي مثّلت ذروة الإعلان العملي والنهائي عن التخلّي عن القضية الفلسطينية، كانت مع بنيامين نتنياهو، زعيم الحكومة الموصوفة بأنها الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الإسرائيلي، أليس لذلك دلالة؟! ألم يكن الحديث قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر عن تطبيع لا يعد الفلسطينيين بشيء سوى تحسين ظروف حياتهم؟! وكأنّ الفلسطينيين ليسوا بشرا لهم الحقّ في الحرية والكرامة لا في مجرد تحسين ظروف الحياة! ألا تُذكّر عبارة كهذه (تحسين ظروف الحياة) بوصف وزير الحرب الإسرائيلي غالانت للفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية"؟! إنّ ذلك كلّه لا يستهدف حماس بل فلسطين وقضيتها وشعبها!
ما ينبغي أن نصدقه هو ما نشرته "WSJ" من أنّ دولا عربيّة تعهّدت بتمويل إجلاء الفلسطينيين من رفح وبناء مدن خيام لهم في حال أكمل الاحتلال حربه في رفح، ما يريده هؤلاء هو سحق حماس وترهيب شعوبهم وكلّ من يفكّر برفع رأسه. أمّا أمريكا فما تحاول إظهاره من مسافة تفصلها عن نتنياهو الآن بعدما غطّت حربه طوال الشهور الماضية بكل ما يلزم لاستمرارها، ليس أكثر من عبث سادي بالفلسطينيين وسخرية مستخفّة بالعالم
يحقّ للفلسطينيين أن يتوقعوا دعما عربيّا يضاهي الدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي، ليس بالضرورة من حيث الحجم، لتباين القدرات، ولكن من حيث صدق الإرادة وصلابة العزيمة. إذا كانت أمريكا تتبنى الكيان الإسرائيلي لأسباب ثقافية واستراتيجية، فإنّ الأسباب العربية لدعم الفلسطينيين لا تقلّ عن ذلك، وبما أنّ العرب لا يفعلون، بل يفعلون النقيض تماما، فهذا لا يُفسّر إلا بالتأسيس الاستعماري للنظام الإقليم العربي، بحيث ظلّت الهيمنة الاستعمارية تتعمّق حتى أفقدت النظام العربي أدنى إدراك لمصالح عامّة تعلو على مصالح النخب الحاكمة، والتي ترى في فلسطين عنصر تسييس وتحشيد وتنوير للجماهير العربية، فتصير فلسطين، والحالة هذه عدوّا، ومع حماس يزداد العداء الموجود قبلها.
لا ينبغي أن نُصدّق بعد ذلك كلّه، أنّ أحدا في هذا النظام العربي مستاء من حرب الإبادة على قطاع غزّة والجارية في شهرها الخامس، لا أحد يريد أن يمنع الإسرائيلي من استباحة مدينة رفح، ولا أحد يريد منع مئات المجازر المحتملة في مدينة صار يتكدس فيها أكثر من 1.2 مليون فلسطيني نازح. ما ينبغي أن نصدقه هو ما نشرته "WSJ" من أنّ دولا عربيّة تعهّدت بتمويل إجلاء الفلسطينيين من رفح وبناء مدن خيام لهم في حال أكمل الاحتلال حربه في رفح، ما يريده هؤلاء هو سحق حماس وترهيب شعوبهم وكلّ من يفكّر برفع رأسه. أمّا أمريكا فما تحاول إظهاره من مسافة تفصلها عن نتنياهو الآن بعدما غطّت حربه طوال الشهور الماضية بكل ما يلزم لاستمرارها، ليس أكثر من عبث سادي بالفلسطينيين وسخرية مستخفّة بالعالم!
فتحت "حماس" فرصة للعرب للدخول في التاريخ من جديد من باب مشرّف، إلا أنّهم أبوا إلا تصفية القضية الفلسطينية بدعم حرب الإبادة الإسرائيلية.
twitter.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسرائيل فلسطين حماس غزة إسرائيل فلسطين حماس غزة العالم العربي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الکیان الإسرائیلی التیار الإسلامی النظام العربی الموقف من من حیث لم یکن
إقرأ أيضاً:
حين يُسجَن العربي لأنه ناصر فلسطين.. فهل الغرب حقّا أكثر وفاء؟
في ليلة الجمعة، 25 تموز/ يوليو 2025، هزّت مجموعة شبابية تُطلق على نفسها اسم "الحديد 17" المشهدَ السياسي المصري بإعلانها عن اقتحام غير مسبوق لقسم شرطة المعصرة في حيّ حلوان، حيث تمكّنت من احتجاز عدد من أفراد الأمن، مطالبة بفتح معبر رفح في وجه الجرحى والنازفين من غزة. لم تطلق الرصاص، لم تحمل سوى صرخة: "افتحوا المعبر!" فاختفوا.
لا يُعرف مصير الشبان حتى اليوم؛ لا محاكمة، لا بيان رسميا، لا ظهور، فقط اختفاءٌ قسريّ يُضاف إلى أرشيف طويل من العقاب العربي لمن ناصر فلسطين. في هذا الشرق المقموع، لا تحتاج إلى سلاح كي تُجرَّم، يكفي أن تذكر غزة.
وهنا تحديدا، يجب أن يُطرَح السؤال: من الأوفى لفلسطين؟ الذي يُهتف لها في ساحة محميّة؟ أم الذي يُقتاد إلى العدم لأنه أراد أن تُفتح لها بوابة نجاة؟
من الأوفى لفلسطين؟ الذي يُهتف لها في ساحة محميّة؟ أم الذي يُقتاد إلى العدم لأنه أراد أن تُفتح لها بوابة نجاة؟
هذا المقال ليس رثاء، بل تفنيد لأسطورة زائفة: أن الغرب أكثر فلسطينية منّا.
مصر: حين يصبح حبّ فلسطين تهمة
في حزيران/ يونيو 2024، وثّقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اعتقال 150 مواطنا مصريا بسبب تعبيرهم عن التضامن مع غزة، بينهم أطفال ومراهقون.
الاتهامات؟ "الانضمام إلى جماعة إرهابية"، "نشر أخبار كاذبة"، "التحريض على التجمهر". جميعها صيغ قانونية تُستخدم لإخراس أبسط أشكال التعبير.
هذه ليست حالة استثنائية، بل امتداد لخطّ طويل في التعامل مع فلسطين كملف حساس لا يجوز للمواطن العادي الاقتراب منه. وكل من يتجاوز تلك "الحدود" -حتى لو بكلمة أو وسم- يوضع في مرمى القمع.
ولا يمكن تجاهل السياق الأوسع: ففي عام 2012، حين انتُخب محمد مرسي رئيسا، كان أبرز وعوده العلنية: "غزة لن تكون وحدها". ذلك الوعد -قبل أي سياسة داخلية- شكّل تحديا للمعادلات الإقليمية، وربما كان من أوائل الأسباب التي عجّلت بإنهاء حكمه.
تونس: حين صرخ الشعب باسم فلسطين قبل أن يرتّب نفسه
في لحظة انهيار النظام التونسي يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وقبل أن تلتقط القوى السياسية أنفاسها، خرج الشارع العفوي يهتف: "الشعب يريد تحرير فلسطين".
كان ذلك الهتاف صادما لكثيرين، ففلسطين لم تكن على جدول أعمال النخب، ولا في قوائم المطالب، لكنه كان صادقا، نابعا من ذاكرة شعبية رسّختها الانتفاضات، والمدارس، والإذاعة، وتاريخ احتضان منظمة التحرير في تونس بعد خروجها من بيروت.
وحين عاد التضييق في السنوات الأخيرة، صار رفع العلم الفلسطيني في مظاهرة طلابية أو منشور على فيسبوك مدعاة للاستدعاء أو التحقيق. فالاستبداد يعرف أن فلسطين لا توحّد فقط، بل توقظ، وتربك، وتربّي على ما هو أعظم من الدولة البوليسية.
لبنان: البلد الذي لم يهتف فقط.. بل نزف
في عام 1982، حين اجتاحت إسرائيل بيروت، لم تكن مقاومة الاحتلال خطابا سياسيا، بل واقعا يوميا. وفي عام 2006، حين قُصف الجنوب والضاحية، لم تكن فلسطين مجرد لافتة، بل كانت البوصلة.
لبنان لم "يتضامن" مع فلسطين من بعيد، بل قاوم معها، ومن داخل نسيجه. فلسطين في لبنان لم تكن هوية طارئة، بل مكونا من المخيمات، من الذاكرة، من الرصاص، ومن أوجاع الناس.
وهناك، لم يكن القمع هو ما يمنع الموقف، بل الموت نفسه. ومع ذلك، اختار الناس أن يقاوموا، لا أن يصمتوا.
المغرب: حين يصبح التضامن محاصرا باتفاق التطبيع
وفي المغرب، لم يكن المشهد مختلفا. فخلال العدوان على غزة، خرجت تظاهرات ضخمة في الرباط والدار البيضاء، واجهتها قوات الأمن بقمع ممنهج. مُنعت التجمعات، فُضّت الوقفات، وتم استدعاء ناشطين للاستجواب بسبب منشورات.
ورغم أن المغرب دولة وقّعت اتفاق تطبيع مع إسرائيل، إلا أن الشارع ما زال يحمل لافتة واحدة: "فلسطين ليست للبيع". ولماذا لا تُقمع المظاهرات في الغرب أيضا؟
صحيح أن المتضامنين مع غزة في أوروبا وأمريكا يملكون هامشا واسعا للتعبير، لكن هذا الهامش ليس مطلقا. فقد تم فصل عشرات الطلاب والأساتذة في جامعات أمريكية وبريطانية بسبب مشاركتهم في حملات تدعو لمقاطعة إسرائيل أو تنتقد جرائمها. حركات مثل "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" تعرضت للتهديد بالإغلاق، وبعض الصحفيين فقدوا وظائفهم بسبب كلمة واحدة في تغريدة.
لا يعني هذا تبرير القمع العربي، بل فضح النفاق العالمي. فالمنظومة السياسية الغربية التي تسمح بالمظاهرات، هي ذاتها التي تموّل آلة القتل في غزة، وتمنع أي مساءلة حقيقية في المحافل الدولية.
لذا، فإن المقارنة بين "الشارع الغربي" و"الشارع العربي" لا تصمد أخلاقيا أو سياسيا. الأول يتظاهر بإذن القانون، والثاني يتظاهر رغم القانون.. الأول يعود إلى بيته بعد الهتاف، والثاني لا يعود أبدا.
ليس تنافسا في الوفاء.. بل سؤال في منطق القمع
لا يهدف هذا المقال إلى نزع القيمة عن مظاهرات الغرب، ولا إلى التقليل من شجاعة الأصوات المتضامنة مع فلسطين، بل هو تذكير بأن المعيار الحقيقي للوفاء لا يُقاس بعدد اللافتات، بل بحرية رفعها.
المشكلة ليست في تضامن الآخرين، بل في أن تضامننا -كعرب- صار جريمة.
الشعوب المغيَّبة لا الغائبة
إنّ مقارنة العرب بالغرب في ميزان "الدعم لفلسطين" تغفل بُعدا جوهريا: السياق السياسي للقمع. الغربي يهتف وهو محمي بدستور، بينما العربي يُخضع لأيّ تهمة جاهزة.
خطاب "الغرب أكثر وفاء لفلسطين" ليس فقط مضللا، بل يُعيد إنتاج صورة العربي المتخاذل، المنكفئ، غير الجدير بقضاياه. إنه امتداد ناعم للاستشراق، لكنه بنسخة رقمية
من القاهرة إلى عمّان، ومن الرباط إلى الخرطوم، لا يحتاج القمع سوى ذريعة: منشور، وسم، وقفة صامتة، أو حتى تبرع مالي. ومع ذلك، تخرج الأصوات، رغم التضييق، وتبقى فلسطين حيّة في الشوارع العربية، كلما سنحت الفرصة.
هذه السردية ليست بريئة
خطاب "الغرب أكثر وفاء لفلسطين" ليس فقط مضللا، بل يُعيد إنتاج صورة العربي المتخاذل، المنكفئ، غير الجدير بقضاياه. إنه امتداد ناعم للاستشراق، لكنه بنسخة رقمية.
فالغربي عقلاني شجاع، والعربي خائف صامت.. الغربي يواجه الشرطة، والعربي يُكمَم من قبلها. لكن الواقع غير ذلك.
من الذي يصادر الإعلام؟ من يمنع المظاهرات؟ من يعتبر فلسطين ملفا أمنيا لا وجدانيا؟ ليست الشعوب من اختارت الصمت، بل فُرض عليها. ولم تسكت.. بل مُنعت.
خاتمة: حين يُمنع عنك الحلم، يصبح الحلم مقاومة
في هذا العالم المعكوس، يُكافأ من يرفع علم فلسطين في ساحة مرخّصة، ويُخفى قسرا من يهتف باسمها في عاصمة عربية، يُصفَّق للمتضامن حين يكون الهتاف بلا ثمن، ويُقطع الصوت حين يصبح الهتاف مشروعا للتحرر.
هذا المقال لا يسعى لانتزاع شهادة وفاء، بل فقط لتذكير العالم: أن العربي حين يحبّ يدفع كل شيء، حتى حقّ الظهور، حتى صوته، حتى اسمه.