يمانيون/ بقلم/ د. محمد البحيصي|
تداعى الضباع من كل صوب وشحذوا أسنانهم الصفراء، وسنّوا مخالبهم المسمومة، وكلٌّ يمنّي النفس بالوليمة الكُبرى، واشتّد ضجيج العواء يملأ الأرض التي أُعدّت لتكون قبراً جماعياً لغزّة ومن فيها، واستعدّ الجميع وتأهّبوا للساعة التي سيُنفخ فيها البوق اليهودي معلناً بدء إهالة التراب على جسد غزّة المذبوح، وانشغلت خطوط الهاتف في عواصم ترطن بالعربية، وقلوبها منكوسة صدئة محفور عليها بحروف عبرية “خيبر مرحب لا خيبر علي”.
حبّات الرمل في سوافي ومواصي غزّة كانت تنصت لهذا الضجيج، دون أن يشغلها عن التسبيح بحمد الخالق..
وحدقات الأطفال كانت ترى التماع الأنياب من حولها، دون أن تنشغل عن عدّ نجوم سماء غزّة..
والأجنّة أزعجها هذا الضجيج الذي يعكّر صفو دقّات قلوب الأمهات الحوامل..
إذن غزّة على موعد مع الضباع.. فلتقرأ يا نخلها سورة النحل، ولتقرأ يا زيتونها سورة التين، ولتقرأ يا بحرها سورة الرحمن، ولتقرأ يا صبحها سورة الفجر، ولتقرأ يا ترابها سورة القتال، ولتقرأ يا شعبها سورة النصر…
غزّة مسوّرة بالقرآن، ومحمولة على أكف الرّماد، ومزروعة باليقين، ومسكون، بالإرادة، وماضية بالتوكّل، وثابتة بالصبر، وغالبة بالجندية لله، وباقية بالفداء..
غزّة ركن الجغرافيا بين عرب آسيا وعرب إفريقيا، بالمبنى والمعنى، وقدرها أن تكون حجر الزاوية لأنّها الأحمل والأجمل، ولذا في التاريخ كادها الحاسدون والحاقدون والكافرون، وكلّما أوقدوا نيرانهم لحرقها جاءت عصافيرها وفراشاتها فأطفأتها….
غزّة حنّاؤها الدّم، وكحلها البارود، وطيبها غبار دمار البيوت، ولذا فهي تخرج من تحت النّار في أبهى إشراقها، وهي تعصب رأسها بإكليل الحزن المهيب، وقد أنضجتها الشظايا، ورفعتها موجات الانفجار..
غزّة آتية في البرق، ترسم في ليل العرب والمسلمين موسم القرنفل الدّامي، وتبعث في جليدهم حرارة الإيمان الممطر عزّة وكرامة وإرادة حياة، وتميط عن طريقهم أذى الذلّة والقهر والهوان…
كم دهاها الدّهر بدواهيه، وكم عركته عاتيات الزمان، وكم عصفت بها رياح الغزاة، وكم أدمتها سيوف الكفر والنفاق، وكم قهرها خذلان أبناء جلدتها، وكم فجعها كيد إخوتها، وكم رماها الغدر بسهامه، وكم حاصرها من لا يرقبون فيها إلّاً ولا ذمّة، وكم سدّ عليها من وظّفه الكفر ناطوراً على بوابتها يمنع عنها الخبز والماء والدواء، ويرفع الأسوار في وجهها كي يحجب عنها الشمس والهواء.. وكم… وكم..
وتبقى غزّة تحتضن العزّة، وتخبّئ في معطفها المثقب نقطة عزّة أمّتها لتصير العزّة غزّة..
في غزّة يتمشى الموت حافياً في طهر تربها، وينحني على أكوام بيوتها يستأذن حجارتها في العبور بين الأنقاض حاملاً معه إكسير الخلاص للمعذّبين تحتها… ويغزل من أنّات الجرحى خيوطاً وضمادات للآتين في أبواق الرعب الأعمى والقتل المجنون..
في غزّة جلس الموت لأول مرّة عند مفارقها وقد أرهقه ليل القصف اللّا متناهي…
تمدّد يا موت قليلاً.. علَّ الأطفال يرون شعاع الفجر على سطح رغيف من رمل وغبار..
أغمض يا موت، وإن لم تغمض غضّ الطرف ليلتقط الأطفال حقائبهم وشظايا أحلام سرقتها من أعينهم طائرة أمريكية ظنّوا أنجمها ألعاباً وهدايا..
أخفض صوتك يا موت، فإنّ أنين اللّبلاب الصاعد من أشلاء الأطفال يدق على جدران الشمس لتمنح أجساداً صرعى بعض حرائقها في ريح الصرِّ الآتي من صمت الأعراب المغموسين ببول كلاب الغرب..
اركض يا موت بلا قدم، وامنح ساقيك لأمٍّ ثكلى هدّ الحزن حناياها، والليل طوى عينيها في الشال المصلوب على مرآة تختزن وجوه مجيّتها..
لا شيء أمام الغزّيين سوى الموت، لا شيء وراء الغزّيين سوى الموت..
الموت على الطرقات يزاحم أعشاب شباط..
كل الطرق تقود إلى الموت..
الموت رفيق خيوط الشمس، وصاحب عتم الليل..
كل الأشياء انعدمت في غزّة إلّا الموت
كل الجدران تهاوت إلّا أسوار (الإخوة) تحرس موتك يا غزّة..
وسيوف (الإخوة) يا غزّة صدئة، ومدافعهم خرساء
وقلوب (الإخوة) يا غزّة مصنوعة في واشنطن أو لندن أو في تل أبيب
وأياديهم مغلولة في وجهك، وتلوّح للأعداء…
قومي يا بنت الفتح الموعود وطلّي من أبواب سماكِ وقد سُدّت أبواب الأرض..
قد جاءك من سمع نداكِ، يسبقه دمه لبيك
من لبنان أجابك فتيان رضعوا حبَّ عليٍّ وفلسطين
من سورية تحتضن بنادق ثورتك
من حشد عراقك جاءوك… ومن إيران عمود الخيمة
ومن (صنعاء)… حاملة المصحف والسيف..
أنتِ وصنعاء.. اسمان لشرف الأمة
اسمان لوجه الحكمة والإيمان
اسمان لعبد الملك أبي جبريل
اسمان.. لوجه الحق، ووجه القوة متّحدان..
*رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
مؤسسة غزة الإنسانية قصة الموت وحكاية الذل (1)
#مؤسسة_غزة_الإنسانية #قصة_الموت وحكاية الذل (1)
بقلم د. مصطفى يوسف #اللداوي
سأروي باختصارٍ وبساطةٍ سهلةٍ، في حلقاتٍ متسلسلةٍ قصيرة، أحرص فيها على بعض التفاصيل الدقيقة، والشواهد والاعترافات، والملاحظات والانتقادات، وبطريقة قانونية وحقوقية، وتأصيلية ومنهجية، قصة الموت التي حملتها مؤسسة غزة الإنسانية، وحكاية القتل اليومي الذي تنفذه ضد جياع قطاع غزة وفقرائها، وضد عامة سكانها وجميع أهلها، وكأن القتل الذي تمارسه بانتظامٍ برنامجٌ يومي تلتزم به وتحرص عليه، التزامها بعدد أكياس الطحين التي توزعها، وكأنها المهمة الحقيقية التي أنشأت من أجلها، وهناك من يحاسبها كل يومٍ على عملها وحصيلة القتلى وعدد الجرحى والمصابين.
فما من يومٍ يمر على عمل هذه المؤسسة التي تشبه الثكنة العسكرية، المدججة بكل أنواع السلاح، والمزودة بكل وسائل الحماية والدفاع، والمحاطة بعدة أسوارٍ من الأسلاك الشائكة، والمرسومة مسالكها بدقةٍ عاليةٍ، وكأنها أقفاص منظمة، ومعابر محددة المسارات ومحكومة الخطوات، إلا ويسقط على مسافةٍ بعيدةٍ منها وقريبة برصاص الجنود والقناصة، وأحياناً بقذائف الدبابات وصواريخ الطائرات، عددٌ غير قليلٍ من الفلسطينيين، جلهم من الصبية واليافعين، من طالبي المساعدات، إلى جانب عددٍ آخر من الرجال والشيوخ والنساء، عدا عن مئات الجرحى والمصابين، الذين يتعرضون لإطلاق نارٍ مباشرٍ من جنود العدو الإسرائيلي، ومن حراس المؤسسة المكلفين بالقنص والقتل، وتوصف حالة أغلب المصابين بأنها حرجة جداً، وأنها أدت إلى بتر أطراف بعضهم، وجعلت العديد منهم أصحاب عاهاتٍ دائمةٍ.
مقالات ذات صلةفما هي قصة هذه المؤسسة المسماة “إنسانية” التي هي أبعد ما تكون عن الإنسانية، ولا تتصف بها ولا تنتمي إليها، ولا تقوم بأي أعمالٍ إنسانية ولا تؤدي خدماتٍ خيرية، وإن وزعت بعض الدقيق والقليل من الغذاء، فهي لا تقوم بما تقوم به من الجانب الإنساني، بقدر ما تنفذ برامج أمنية وخطط سياسية لصالح استراتيجية الاحتلال الذي يخطط لها ويأمرها، ويرسم لها ويشرف معه على تنفيذها.
كيف تأسست هذه المؤسسة ومتى، وأين نطاق عملها، ومن الذي ترأسها وأشرف على إدارة أعمالها، ومن هي الجهات التي تشرف عليها وتمولها، وتلك التي تشغلها وتنفذ برامجها، وما هو موقف الأمم المتحدة والهيئات والمؤسسات الأممية الإنسانية منها، وهل تعترف بها وتشرع عملها، وتوافق على ممارساتها وتدعو لتسهيل عملها وتمويل برامجها.
أم أنها ضدها وتعارضها، وتخالف مشروعها، وتتهم إدارتها، وتدعو إلى تفكيكها واعتماد غيرها، وترى أنها لا تراعي العدالة والمساواة، ولا تتوخى النزاهة والإنصاف، ولا تتبنى المعايير الإنسانية ولا تحافظ على كرامة الفلسطينيين، وتصر على أنها صادرت حقوق المؤسسات الإنسانية والخيرية والغوثية الأخرى، المشهود لها بالخبرة والتجربة، والنزاهة والمصداقية، والتي سبق لها العمل في هذا المجال، وسجلت نجاحاتٍ لافتة، واسترعت انتباه المواطنين الفلسطينيين، وحظيت على رضاهم، واستحقت منهم الشكر والتقدير، ومن قبل الثقة والطمأنينة والأمان.
سأحاول تباعاً الدخول إلى دهاليز هذه المؤسسة المظلمة، وسبر أغوارها المبهمة، والتعرف على أسرارها، وإظهار حقيقتها والكشف عن نواياها، وإبراز هويتها وتحديد ماهيتها، إنسانية أم أمنية، خدماتية أم عملياتية، وسأترك للقارئ الكريم الحكم عليها، وأصحاب الرأي والخبرة، وصناع القرار والمؤثرين في الشأن العام، بيان موقفهم منها، وفقاً لمعطياتٍ حقيقية وبياناتٍ دقيقة، وشهاداتٍ رسمية، وصور ووثائق قطعية، يصب نفيها أو التشكيك فيها.
يتبع …..
بيروت في 2/7/2025
moustafa.leddawi@gmail.com