ءأنا كصحفي قررت أن أختار قصة من قصص الجوعى طالبي المساعدات الإنسانية من خلال شركة إسرائيلية، أخيرا وبعد تقليب وجوه كثيرة صبغها البؤس والشقاء بكل ألوانه، اخترت سامي السّعيد، أعرفه جيدا، من معسكر جباليا، ظريف صاحب نكتة عفوية حاضرة في كل المناسبات، يُحوّل المآسي إلى نهفات ومسرّات ويعرف كيف يصنع الضحكة في الوجوه الصخرية التي كلّستها كثرة المصائب المذهلة، عندما وصلت أخبار الشركة الأمريكية لتوزيع المساعدات على الطريقة الأمريكية، جعل من ذلك نكتة ورفضها رفضا تامّا، هنا اجتمع نفر من الجيران أمام خيمته المتهالكة وحرارة الصيف تلفح وجوههم، هتف سامي السّعيد:
- قالوا قديما أيام النخوات: تموت الحرة ولا تأكل بثديها.
ردّ عليه أحد أصحاب الوجوه المتجهّمة:
- يا ابن الحلال دشّرنا من الشعارات. احنا بنموت وأطفالنا نتركهم يموتون؟.
- والله إنك أفحمتني، زمان ما قالوا تموت الحرة وأطفالها ولا تأكل بثيها. آه والله هذه فاتتني. لكن إذا هالحرة خُيرت بين الموت جوعا والا الموت جوعا ورصاصا؟
صرخ آخر:
- يا أبو السعيد هونها بتهون، احنا ما بنصدّق والصبح يطلع عشان نيجي عليك، ما اتعقدها الله يرضى عليك.
- خلص ولا يهمك، روح اتفضّل على المساعدات، أحلى عرض، تنزيلات، كيس الطحين بشيكل وصفر كرامة. أمّا حضرتي فقد اخترت الموت بخيمتي. وقهوة أمّي الله يرحمها، اشتقت كثيرا لقهوتها.
كان مصرا على عدم الذهاب الى الموت هناك، ليس خشية من الموت ولكن خشية من موت ما تبقى من كرامته، أمرّ عليه كل صباح لأجده على ذات الموقف، إلى أن جاء يوم فلم أجده، قالت لي امرأته وهي مطأطئة الرأس، مكسورة العين مخنوقة الصوت، إنه قد خرج من يومين للمساعدات، وقالت:
- ايش نعمل الأولاد بدهم يموتوا من الجوع.
لم أنبس ببنت شفة، دار بي جسمي 180 درجة وقفلت وأنا أحاول قراءة هذا التحوّل بهذه النفسية العزيزة الكريمة، كيف استطاعت قدماه حمل جبال الهمّ التي ركزت ربابتها على كاهله؟ كيف استمر نبض قلبه على وقع جرعات الألم والشعور الضخم بتمريغ الكرامة في رمل هذا الصيف القائظ؟ كيف تحمّل عقله فكرة الذهاب هناك؟ كيف اشتبك في عقله الصراع الإمبريالي المتحالف مع الصليبي المتصهين، والتي كان يحلو له صف هذه المعادلات الاستعمارية الباغية؟ كيف اختزل كل هذه الثقافة الحرة وهذا الإباء العظيم الذي كان يملأ صدره، حشرها في زاوية معتمة وراح يجر ذيول الخيبة والقهر بكل ما تحمل من ألم؟ عدة كيلومترات كيف قطعها وسط عويل الناس وصرخات جوعهم؟ هل وصل فعلا دون نوبة قلبية أو جلطة دماغية تودي به صريعا؟ مجرّد وصوله فقد كتبت له حياة، لعلّه صبّر نفسه من أجل أطفاله ومن أجل أن لا يمنّ عليه أحد فيتبرع له من جهده بعد ظفره بكيس طحين.
تتبعت أخباره لأني اخترته شخصية لقصة رحلة الحصول على فتات الأمريكان في زمن اللئام.
اتصلت بشباب من صحبته وسألتهم عن آخر نكته في هذه الرحلة اللئيمة، قالوا لي إنه كان سريع الخطوات، ينفّس غضبه في كمية العرق التي يتصبّب جبينه بها، يتجهّم صامتا ساعات طوال ثم تراه يطلق تصريح من كوميدياه السوداء:
- لن أغفر لترامب ونتنياهو هذه اللعبة الحقيرة حتى تطأ قدماي رأسيهما كما وطأت قدما ابن مسعود رأس أبي جهل في أحد.
- قالوا عن الفتات على طاولة اللئام، اليوم فتات الأمريكان على مجازر خير الانام، شعب الله المختار لتنفيذ ابداعات الشيطان.
- سينما هوليود لأفلام الرعب من أمامكم ودبابات الموت من خلفكم، والكوادكابتر من فوقكم، كل شيء ولا هالكواد!
علمت مما وصلني عن سامي السعيد كم كان مهموما مكتئبا بائسا وكأنه خُلق ليحمل كلّ هوم الدنيا، وعلمت أنه بعد يومين من الانتظار وشدة الزحام والنوم في العراء كجراد الصحاري التي لا تجد ما تأكله، افترش الناس أرض الهلاك والتحفوا كل صنوف المذلة والمهانة، وكان من في الدبابات تحلوا لهم التسلية بين الحين والآخر فيفتحون أفواه مدافعهم على مستوى معين ليبقى الجوعى في حالة الانبطاح والعويل والصراخ وتجرع الألم، وعلمت أنه قد قال لن أعيدها مرّة ثانية.
في ظهيرة هذا اليوم القائظ نجحت كاميرات الصحافة من التقاط صورة قالوا عنها أنّها لجائع يحمل كيس طحين أحاطت به مسيّرة الكوادكابتر (الكوّادة على حدّ وصف سامي السعيد)، بالصوت والصورة وغبار المعركة الشجاعة التي على العالم العسكري أن يُدخلها مناهجه العسكرية، تم تحديد الهدف المتحرّك بسرعة، رجل يمشي على قدميه بحمولة كيس طحين، ثم حسابات الذكاء الصناعي العسكري العظيم، التي توائم بين سرعة الصاروخ وحركة الهدف، وتحديد نوع الصاروخ القادر على اختراق سمك كيس الطحين ثم النفاذ إلى جسم الإنسان الفلسطيني واختراق قلبه المثقل بكل الهموم التي عرفتها البشريّة. لا بد من تحديد النوع القادر على اختراق جدر المشاعر المرهفة لهذا الإنسان القادر على تحدّي موتهم القذر. ولا بدّ من النوع الخلّاط القادر على مزج الطحين الأبيض بالدماء الحمراء وإخراج لون موت جديد على الحياة البشريّة، هذا اللون الفوشي الذي يحبّه الأطفال الجياع المنتظرون لعودة أبيهم المحمّل بما يسدّ خواء أمعائهم.
اتصل بي أحد الأصدقاء المشتركين والمشاركين لسامي السعيد في رحلة الموت الفظيع هذه، هتف بمرارة مخنوقة وكأنه ميّت يتصل من عالم الأموات:
- أتدري من الشاب الذي أصابته "الكوّادة"؟
- من؟ أرجوك لا تلعب بأعصابي.
- بكاء ونحيب.
- من يا رجل؟ لا تقل سامي السعيد؟
- هو بلحمه وعظمه، لقد قتلوه لعنة الله عليهم. تخيّل سامي السعيد راح بكيس طحين، يا ويلهم من الله.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات المساعدات احتلال غزة مساعدات كوادكابتر مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات قضايا وآراء سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد مقالات سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القادر على کیس طحین
إقرأ أيضاً:
حرب أم مشروع انقلاب؟ قراءة فيما وراء دخان المعركة
«في الحروب لا تنتصر الحقيقة، بل تنتصر الرواية التي تصمد أطول في ساحة الوعي».
من دفتر ملاحظات كاتب في زمن التحولات.
حين سكت صوت المدافع وأُعلن وقف إطلاق النار، لم تهدأ الأسئلة، بل بدأت، وبينما انشغلت بعض الصالونات السياسية والمنصات الإعلامية في تكرار المعزوفة القديمة: «من ربح ومن خسر.. .؟»، كان المشهد الحقيقي يتشكل في الظلال، بعيدًا عن الشاشات والتعليقات السطحية، في العمق، كانت هناك حرب أخرى، أشد خطورة من تبادل الضربات: حرب على الوعي، وصراع على طبيعة ما جرى، ومن الذي خطط، ومن الذي أفشل.
السؤال الجوهري لم يكن عن النتيجة، بل عن النوايا: هل كانت هذه حربًا تقليدية، أم مشروعًا انقلابيًا مكتمل الأركان أُجهض في لحظاته الأولى؟ الرد الإيراني، السريع والدقيق، لم يأتِ من فراغ، بدا واضحًا أن طهران كانت تستعد منذ وقت طويل لمثل هذا السيناريو، وتملك «خطة طوارئ» كاملة تشمل نقل القيادة، وتفعيل منظومات كشف وتفكيك خلايا تجسس نائمة، بعض أفرادها داخل المؤسسات العليا، وقد أشارت تقارير مسرّبة إلى كشف أكثر من 700 عنصر في شبكة تجسس منظمة، وتوقعات بأن العدد قد يصل إلى الضعف، وهو ما يؤكد أن ما جرى لم يكن مجرد رد على قصف، بل إحباط لانقلاب ناعم ــ صلب ــ مخطط له بدقة.
ما يدعو للتأمل، أن بعض التحليلات العربية ــ للأسف ــ تعاملت مع الحدث بعقلية «المسرحية»، مدفوعة بتاريخ طويل من التلاعب بعقول الجماهير، ثقافة الشك الدائم، التي ترى في كل مواجهة كبرى «صفقة بين الأطراف»، ساهمت في تعميق الفجوة بين الواقع والتحليل، وكأن العقل العربي قد فقد القدرة على التمييز بين المعركة الحقيقية والاستعراض الدعائي، ربما تعود هذه الذهنية إلى تجارب مؤلمة من التضليل، لكنها باتت تُستخدم اليوم كوسيلة للهروب من مسؤولية الفهم، وتحولت إلى استقالة جماعية من التفكير النقدي.
وهنا، تسلل إلى ذهني سؤال لم يفارقني، عندما شاهدت القواعد الأمريكية تتعرض لضربات مباشرة من الجانب الإيراني: هل كانت الولايات المتحدة تبحث عن ذريعة.. .؟ هل كانت تخطط لتكرار سيناريو أزمة كوبا، عبر افتعال مذبحة صغيرة لجنودها أو ضرب منشآت تابعة لها، لتُقدمها للعالم كتبرير أخلاقي لتدخل شامل وإسقاط النظام.. .. ؟ لم يكن هذا السيناريو غريبًا على من يقرأ عقل المؤسسة الأمريكية، فالسوابق كثيرة، والذاكرة الاستراتيجية مليئة بحالات مشابهة، لكن يبدو أن الرد الإيراني كان أسرع من التوقع، وأقوى من أن يُحوّل إلى سبب للحرب الشاملة، بل ربما كسر ميزان المبادرة لدى الطرف الآخر، وأغلق نافذة الذريعة قبل أن تُفتح.
وفي خضم تلك الأحداث، كان واضحًا أن المشروع لم يكن إيرانيًا فحسب، العراق كان على القائمة التالية، وربما لبنان وبعض الدول الخليجية وتركيا، ضمن خطة متدرجة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بملامح جديدة، الرئيس التركي نفسه لمح إلى «سايكس ـ بيكو جديدة» تلوح في الأفق، لم يكن مجرد تحليل سياسي، بل إشارة مباشرة إلى معلومات استخباراتية تؤكد أن ما يحدث أكبر من مجرد تصعيد بين عدوين تقليديين.
أما الرواية الأمريكية الرسمية، فقد تصدعت سريعًا، صحف أمريكية مرموقة، ومراكز أبحاث مستقلة، كشفت أن المواقع المستهدفة لم تكن مأهولة، وأن «الضربة الكبرى» التي هلل لها الخطاب السياسي، كانت أشبه بفقاعة إعلامية أكثر منها عملية عسكرية نوعية، لكن البعد الإعلامي لم يكن تفصيلًا ثانويًا، الولايات المتحدة خاضت حربًا إعلامية موازية، تهدف لتشكيل وعي عالمي مؤيد، بينما كانت وسائل إعلامها الاستقصائية ــ مثل «سي إن إن» و«نيويورك تايمز» ــ تقوّض هذه السردية من الداخل، مدفوعة بحرية صحفية لا تزال، رغم كل شيء، تصر على كشف ما يُخفى.
وفي هذه الحرب النفسية المركبة، حاولت واشنطن بناء صورة المنتصر، بينما كانت طهران تمارس سياسة ضبط النفس المدروس، وتلعب أوراقها بالتدريج، وتفرض إيقاعها على الأرض وفي الإعلام على حد سواء. وهو ما أربك إسرائيل، التي وجدت نفسها في لحظة ما تطلب التدخل الأمريكي لوقف استنزاف غير متوقع.
بالتوازي، ساد القلق في عواصم عربية وإقليمية، خاصة الخليجية، من أن تكون الأحداث تمهيدًا لفوضى عابرة للحدود.فإسقاط النظام الإيراني، إن حدث، لن يكون نصرًا لأحد، بل بداية لفصل من الفوضى والفراغ، لا يعرف أحد من سيملأه، لذا بدا الترقب حذرًا، والمواقف الرسمية مشوبة ببرود متعمد، يُخفي خشية حقيقية من أن تمتد النيران.
وفي إسرائيل، لم يُخفِ نتنياهو أن الهدف كان إسقاط النظام، وليس مجرد توجيه ضربة تكتيكية. وقد دعا علنًا الإيرانيين إلى الثورة، لكنها دعوة سقطت في فراغ، بعدما أظهرت المعارضة الإيرانية، رغم خلافها مع النظام، تماسكًا وطنيًا غير مسبوق في رفض التدخل الأجنبي.
في المحصلة، فإن السؤال عن «من ربح ومن خسر؟» ليس فقط سطحيًا، بل خطيرا أيضًا، لأنه يختزل تعقيد المشهد في ثنائية لا تُنتج فهمًا، القضية ليست في عدد الصواريخ، بل في من قرأ النية مبكرًا، وفكك الشبكات، وأفشل الخطة، وفرض معادلة جديدة، لا تُقاس بالدمار بل بالبقاء في موقع الفعل. الإجابة واضحة لمن يقرأ تحت الدخان، لا فوقه، أما بقية التفاصيل، فستتكفل بها الأيام، والتسريبات القادمة من العقول التي لا تنام.. .!!
مجلس الشيوخ الأمريكي يرفض تقييد صلاحيات ترامب في الحرب مع إيران
وكالة الطاقة الذرية تؤكد ضرورة أن يواصل مفتشوها أنشطتهم للتحقق في إيران
«ترامب» يهدد وسائل إعلام أمريكية بدعاوى قضائية بسبب تقارير عن تدمير المنشآت النووية الإيرانية