استعادة «صوت السودان»
تاريخ النشر: 14th, March 2024 GMT
عثمان ميرغني
لم يكن غريباً أن تخرج مظاهرات شعبية عفوية في أمدرمان أو بورتسودان للاحتفال باستعادة الجيش لمقر الإذاعة والتلفزيون الذي سيطرت عليه قوات الدعم السريع 11 شهراً، فأسكتت صوت السودان الذي كان ينطلق من هناك عبر إذاعة أمدرمان وشاشة التلفزيون القومي. استعادة السيطرة على هذا المعلم المهم لم تكن مجرد استعادة مساحة من بضعة آلاف من الأمتار، ومبان ومعدات وأجهزة إرسال، بل كانت نصراً ذا دلالة رمزية كبيرة للغاية لما يمثله مبنى الإذاعة والتلفزيون في وجدان السودانيين وذاكرتهم.
كل من شاهد مقطع الفيديو القصير الذي جرى تداوله على نطاق واسع بين السودانيين، أول من أمس، ويصور مبنى مكتبة أرشيف الإذاعة والتلفزيون الذي لم تصبه أضرار تذكر، أعرب عن فرحة كبيرة ممزوجة بالارتياح بسبب القلق والمخاوف على ذاكرة السودانيين المخزونة في الكم الهائل من الأشرطة المسموعة والمرئية، والتراث الهائل، في هذا الأرشيف. والحديث هنا ليس فقط عن تسجيلات الأغاني، بل أيضاً عن مختلف البرامج والمقابلات على تنوعها، والتوثيق لأحداث ومحطات مهمة في حياة البلد والناس.
معركة استعادة مقر الإذاعة والتلفزيون لم تكن سهلة بأي مقياس، بل كثيرة التعقيدات. فلو أن الجيش استخدم القصف بالطيران والمدفعية الثقيلة لكان قد اتهم بتدمير المبنى بكل ما يحتويه من أرشيف يصعب تعويضه. كذلك كان هناك كلام لم يؤكد رسمياً عن أن قوات الدعم السريع احتفظت بعدد من المعتقلين من الفنيين والعاملين وغيرهم داخل المبنى بوصفهم رهائن، ومحاولة إنقاذهم أحياء لابد أن تكون هماً وهاجساً وعاملاً يؤخذ في الحسبان في أي هجوم على المبنى لتحريره. لهذا اعتمد الجيش سياسة النفس الطويل والحصار للمنطقة تدريجياً خوفاً من خسائر لا يريدها، وهي السياسة التي حققت نجاحاً مشهوداً عندما أجبرت قوات الدعم السريع المتحصنة بالمبنى على محاولة الهرب، فسهلت اصطيادها في كمين محكم أوقع فيها خسائر كبيرة للغاية وثقتها مقاطع الفيديو المنتشرة عن العملية.
خصوم الجيش حاولوا التقليل من أهمية هذا الانتصار بكل السبل، بل وسخروا منه من خلال ترديد كلام من شاكلة إن جيشاً عمره مائة عام يحتفل بتحرير بيت وشارع عرضه 40 متراً، أو بأسئلة من نوع: هل تعادل استعادة مقر الإذاعة والتلفزيون خسارة ولاية كاملة مثل الجزيرة؟
الحقيقة أن هؤلاء يديرون معركة سياسية وحرباً نفسية ولديهم أجندتهم وحساباتهم، وسيواصلون التقليل من أي تقدم يحققه الجيش، بل إنهم يتمنون هزيمته، وإن تظاهروا بغير ذلك.
الجيش كان عليه أن يقاتل لاستعادة مقر الإذاعة والتلفزيون، بينما قوات الدعم السريع لم تستول عليه بمعركة أو حتى بأدنى مستويات القتال. فهي أصلاً كانت موجودة في حراسة المبنى، وفي صبيحة الخامس عشر من أبريل (نيسان) الماضي غيرت فقط من طبيعة وجودها فيه من قوة حراسة إلى قوة احتلال للموقع، وهو ما حدث في العديد من المواقع والمنشآت الحيوية في العاصمة صبيحة ذلك اليوم.
معركة استعادة الإذاعة كانت معركة طويلة، مرت بمراحل مختلفة تطلبت أن يستعيد الجيش خلالها أحياء أمدرمان القديمة، ويؤمن طريق الوصول إلى مقر سلاح المهندسين الذي ظل محاصراً عدة أشهر. وعندما تحققت هذه الأهداف بدأت الخطوة الأخيرة لإحكام الطوق حول مبنى الإذاعة والتلفزيون تمهيداً لاقتحامه، أو إجبار المتحصنين داخله على الخروج منه. الغريب أن بعض الناس حاول الانتقاص من العملية العسكرية بقوله إن الجيش لم يستعد المبنى بالقتال المباشر، وإنما بالاعتماد أساساً على المسيّرات، وكأنما المسيّرات ليست جزءاً أساسياً في استراتيجيات الحروب الحديثة!
ماذا بعد؟
عملية استعادة الإذاعة والتلفزيون على أهميتها لا تشكل سوى خطوة في طريق طويلة من المعارك لاستكمال القليل المتبقي من تحرير أمدرمان، ثم الانطلاق لاستعادة السيطرة على مدينتي الخرطوم وبحري اللتين تدور فيهما معارك يتوقع أن تشتد وتتوسع في قابل الأيام، بالتوازي مع معركة منتظرة أيضاً في إقليم الجزيرة الذي سيطرت عليه قوات الدعم السريع في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ومن يومها يشهد انتهاكات واسعة أقضت مضاجع السودانيين.
من المنظور العسكري فإن استعادة الإذاعة تعني إكمال سيطرة الجيش على المنطقة من قاعدة وادي سيدنا إلى سلاح المهندسين مروراً بأحياء أمدرمان القديمة ومحلية كرري وتأمين الطريق الممتدة على الشريط المتاخم لنهر النيل، ما يسهل حركة القوات ويؤمن طرق الإمداد. فمقر الإذاعة والتلفزيون كان يمثل قاعدة عسكرية مهمة لقوات الدعم السريع، ومستودعاً مهماً للأسلحة والعتاد، ومنه كانت تشن عمليات القصف المدفعي لكثير من أحياء أمدرمان، وبخسارته تكون قد فقدت شرياناً مهماً لعملياتها، وباتت الطريق مفتوحة أمام الجيش لكي ينطلق بهجمات عبر جسري النيل الأبيض والفتيحاب نحو الخرطوم التي ستكون الهدف المقبل مع مدينة بحري. فكل التصريحات والاستعدادات والتحركات تنبئ بأن هذه المعركة باتت وشيكة، وكذلك معركة ولاية الجزيرة.
استعادة مباني الإذاعة والتلفزيون التي تضم أيضاً المسرح القومي، إلى جانب رمزيتها في وجدان السودانيين فإنها تكمل أيضاً خطوات استعادة الحياة في منطقة أمدرمان التي شهدت أخيراً حملة لتنظيف سوقها القديمة وإصلاح خطوط الكهرباء تهيئة لعودة أهلها إليها. فعودة الناس إلى بيوتهم وأحيائهم هي المعنى الحقيقي لعودة الحياة إلى المدينة وإزالة الحزن الذي غلفها وكان بادياً في صمت كثير من الشوارع المهجورة، والبيوت المفتوحة على مصاريعها بعد أن استبيحت ونهبت. ومع هذه العودة سيعود أيضاً «صوت السودان» لينطلق مرة أخرى من مقره أو «الحوش» كما يحلو لمن عملوا فيه تسميته.
الوسومعثمان ميرغنيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: عثمان ميرغني مقر الإذاعة والتلفزیون قوات الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
رفض قاطع.. وتوعد بإحباط المشروع.. الجيش السوداني يصف الحكومة الموازية بـ«المؤامرة»
البلاد (الخرطوم)
رفض الجيش السوداني، أمس (الأحد)، بشكل قاطع إعلان ائتلاف سياسي بقيادة قوات الدعم السريع عن تشكيل “حكومة موازية” برئاسة محمد حسن التعايشي، واصفًا الخطوة بأنها “محاولة بائسة لشرعنة مشروع إجرامي”، متعهدًا بإفشالها، ومشدداً على أنها تمثل تهديدًا مباشرًا لوحدة السودان واستقراره.
وقال المتحدث باسم الجيش، العميد نبيل عبدالله، في بيان نُشر عبر صفحة القوات المسلحة على “فيسبوك”:” الجيش بمساعدة الشعب سيُحبط أجندة الحكومة الموازية ومن يقفون خلفها”، مضيفًا أن “المشروع الحقيقي لقوات الدعم السريع هو الاستيلاء على السلطة ولن نسمح بذلك تحت أي ظرف”.
وكان تحالف بقيادة قوات الدعم السريع قد أعلن في مؤتمر صحفي بمدينة نيالا بدارفور، عن تشكيل “حكومة موازية” تحمل اسم “حكومة السلام والوحدة”، وتعيين محمد حسن التعايشي، عضو مجلس السيادة السابق، رئيسًا لها، في خطوة أثارت ردود فعل محلية ودولية غاضبة. كما كشف التحالف عن تشكيل مجلس رئاسي مكوّن من 15 عضوًا، يترأسه قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وينوب عنه عبد العزيز الحلو، زعيم الحركة الشعبية – شمال، الذي يسيطر على أجزاء من جنوب السودان.
وضم المجلس شخصيات سياسية ومسؤولين سابقين، من بينهم الهادي إدريس الذي أُعلن تكليفه بمنصب حاكم دارفور، في تحدٍ مباشر للوالي الحالي مني أركو مناوي، المتحالف مع الجيش السوداني.
من جهتها، وصفت وزارة الخارجية السودانية، في بيان عبر منصة “إكس”، إعلان تشكيل الحكومة الجديدة بأنه “وهمي” و”دليل على انكسار الميليشيا المتمردة”، مشيرة إلى أنه يعكس “محاولة يائسة لإضفاء الشرعية على تمرد مسلّح يهدف إلى انتزاع السلطة بالقوة”.
وأعربت الخارجية عن استنكارها الشديد لموافقة كينيا على استضافة الاجتماعات التحضيرية، التي أفضت إلى هذا الإعلان، معتبرة ذلك “انتهاكاً صريحاً لسيادة السودان وخرقًا لمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول”، كما دعت المجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية إلى إدانة هذه الخطوة ورفض التعامل مع أي كيان خارج الشرعية.
وأكدت الوزارة أن أي تفاعل دولي مع هذا الإعلان سيُعتبر “تعدياً على الحكومة الشرعية وانتهاكًا لحقوق الشعب السوداني ومقدراته”.
ويعود الإعلان إلى مشاورات سابقة جرت بين قوات الدعم السريع وتحالف من الجماعات المسلحة خلال اجتماعات في كينيا، حيث تم التوافق على مشروع “سودان اتحادي جديد” قائم على ثمانية أقاليم، وتم توقيع “دستور انتقالي” في مارس الماضي، يهدف لتشكيل حكومة بديلة عن السلطة المركزية في الخرطوم.
وحذّر مسؤولون في الأمم المتحدة من أن هذه الخطوة ستزيد من تعقيد المشهد السوداني وتعرقل الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إنهاء النزاع الدائر منذ أبريل 2023، مؤكدين أن السودان بات يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.