الناس.. وهوس الترند!
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"إذا كنت تريد أن تكون مبدعًا، فكن طفلًا إلى حدٍ ما، مع نفس القدر من الإبداع والبراعة التي يتمتع بها الطفل، قبل أن يتحول إلى مجتمع البالغين" جان بياجيه.
*********
يتساءل البعض عن تأثير وسائل التواصل في التأثير على إهتمامات الناس، وهل الناس فعلا يبحثون من خلال هذه الوسائل المتطورة على الأفضل والأفيد أم ماذا؟
هل اهتمامات العامة من الناس هي علمية أم ثقافية أو تتبع أخبار اجتماعية، أو الجري وراء أخبار الرياضة ومنافساتها، أو الفن بأشكاله المتعددة، أو غير ذلك من أهتمام الحياة، لا سيما في زمن زاد به القلق من الأمن في المنطقة والضيق من تقدمات وتأخرات أخبار السياسة بشتى مواضعها بدءًا من فلسطين وأهلنا في غزة مرورًا بالحوثيين والتأثير على مسار الحركة في البحر الأحمر، أو حتى الإهتمام بتركيب كاميرات المراقبة المرورية في شوارع بغداد.
الحديث شائك وطويل ومتعرج الدرب، وأذكر في حوار مع بعض الأحبة في إحدى ليال شهر رمضان المبارك، أي قبل أيام كان الحديث والحوار يدور حول ذلك، أحد الأحبة أكد وبشكل قاطع بأن إهتمام متابعي وسائل التواصل هو الترند ولاغير، ولاتسأل الناس عن ماهية هذا الترند أو تأثيره العلمي أو السياسي أو حتى على نتائج مباريات السلة الأميركية، أهم شئ الترند والترند كلمة أجنبية تعني الأكثر مشاهدة.
قبل فترة بسيطة ظهر على وسائل التواصل مقطع فيديو لطفل تم سؤاله عن المكان الذي يتم اللقاء فيه (اعتقد أنه مجمع تجاري) فرد الطفل بعفوية بريئة عن رأيه بالمكان: "حلو، زين، ديكوريشن ماله حلو، هوت شوكليت ماله زين" (بلهجة كويتية)، ما الذي حصل بعدها؟
انتشر المقطع بسرعة البرق، يكاد كل جهاز هاتف في الشرق الأوسط وصله هذا المقطع، ومن شدة التأثير ظهر الفنان رابح صقر في حفلة جماهيرية مكتظة ليبدأ وصلته الغنائية بإبتسامة معبرة نحو الجمهور الغفير ثم يقول: حلو! (يقصد مقطع الطفل).
بعدها بوقت قصير جدًا لاعب المنتخب الأردني لكرة القدم يزن نعيمات، وفي لقاء تلفزيوني بعد تأهل المنتخب الأردني لنهائي كأس آسيا في قطر يصرح بحماس وابتسامة عن الفوز بأنه "حلو.. زين. الديكوريشن ماله حلو".
يظهر بعدها الطفل ذاته نجم الفيديو ليراه الملايين ضيف شرف VIP من ضمن ضيوف نهائي كأس آسيا، يبدو أنه نظرًا لتأثير المقطع الذي انتشر كالنار في الهشيم!
هل اللجنة المنظمة للنهائي لها هدف في دعوة الطفل الذي أصبح نجمًا ينافس رونالدو، وينافس شعبية المرشحين في مجلس الأمة الكويتي؟
الفكرة الواضحة والله أعلم هو إضفاء جو معين معبر في النهائي، كذلك وجود الطفل شخصيًا ربما يعطي التصوير الفخم بعدا آخر، وعلى أية حال كان الفوز القطري في النهائي على طريقة "حلو. زين. ديكوريشن ماله زين".
نترك قصة الطفل، ونتوقف عند أهمية الإهتمام بالمقطع، وكيف انتشر، وكيف نال الاهتمام الواسع، مع أنه عفوي جدا، ولايوجد به أي إيحاء سياسي أو أمني أو ثقافي (نتجاوز الكلمات الأجنبية في المقطع فهذه أصبحت كالخبز اليومي في لهجاتنا)؛ بل إنه مقطع عادي جدًا ممكن تصوره لأي طفل في البيت في الشارع في المدرسة. أعتقد أن الموضوع يذهب للحياة اليومية المزدحمة الأحداث عند الناس العاديين، فقدت الابتسامة، منذ زمن لم يظهر أحد يتحدث بعفوية في وسائل التواصل، ويبدو أن السر وراء انتشار المقطع هو حنين الناس لعفويتهم ولتلقائيتهم، والحاجة الشديدة للبعد عن التكلف، لذلك كان مقطع الطفل هو الترند والأكثر مشاهدة والأكثر قبولًا بين الناس، فقط لأنه ذكرهم بالطفل المختفي في دواخلهم، وذكرهم أيضًا بأن العفوية تكسب، وخلينا على الارض.
القصة إذن ليست "حلو. زين. ديكوريشن ماله زين" أو "حلو"، القصة أنها أعادت العفوية للناس وفي كل اللهجات، وكل طوائف أمة بني يعرب.
سؤال أخير هل تعتقد أن من صوّر اللقاء كان يقصد الترند الذي حصل. أو كان يتصور أن اللقاء مع الطفل المحتار ورأيه في "الديكوريشن الزين" سيكون ربما اللقاء الأعلى مشاهدة؟
أيضًا انتشار المقطع يُعطي فكرة واضحة بأن اهتمام الناس أصبح في الترند، وليس مهمًا ما هو نوع الترند، ولا يهم إن كان الموضوع جادًا أو "ديكوريشن"، المُهم هو ملاحقة ومتابعة آخر ترند، وهنا أيضًا يتبيّن لنا الذوق الفني لهذا الزمان، زمان الترند، والتغريدة قليلة الكلمات، وحتى الأكل أصبحت المأكولات السريعة هي الفائز رقم واحد. فهل ستستمر هذه الاوضاع؟ هل ستتغير اهتمامات الناس في متابعة وسائل التواصل؟ الله اعلم. واليوم كما قلت "ديكوريشن وهوت شوكليت"، وغدًا الله أعلم!
لكن.. وقبل ختم هذه الكلمات، هل تعتقد أن ذائقة الناس أصبحت متدنية حتى تتأثر بأي شيء وأي شيء؟ صدقني لا، إنما من خضم الحياة اليومية وصعوبتها، ومتاعبها، أصبح الإنسان في حاجة لأي حركة حركة عفوية أو ابتسامة، أي شيء يُعيد له الإنسان الذي بداخله، أو الطفل الذي نساه في نفسه. فقط هذه كل القصة صدقني.
مبارك عليكم شهر رمضان، أسأل الله أن يعيننا وإياكم على صيامه وقيامه، وأن يجعلنا وإياكم من عتقائه والفائزين برضوانه. وكل عام وأنتم بخير.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية
أحمد زيور باشا، هذا الاسم الذي يلمع في صفحات التاريخ المصري، ليس مجرد شخصية سياسية عابرة، بل هو رمز للإصرار والعطاء والتفاني في خدمة وطنه.
ولد زيور باشا في الإسكندرية عام 1864 في أسرة شركسية تركية الأصل، كانت قد هاجرت من اليونان، لكنه بالرغم من جذوره الأجنبية، حمل قلبه وروحه على مصر، وجعل منها مسرحا لحياته المليئة بالعطاء والمسؤولية.
منذ نعومة أظافره، أظهر أحمد زيور براعة وحسا عميقا بالواجب؛ فقد التحق بمدرسة العازاريين، ثم واصل دراسته في كلية الجزويت ببيروت، قبل أن يتخرج من كلية الحقوق في فرنسا، حاملا معه العلم والخبرة ليخدم وطنه الغالي.
طفولته لم تكن سهلة، فقد كان صبيا بدينا يواجه العقوبات بحساسية شديدة، وكان العقاب الأصعب بالنسبة له مجرد “العيش الحاف”، لكنه تعلم من هذه التجارب الأولى معنى الصبر والمثابرة، وكان لذلك أثر واضح على شخصيته فيما بعد، إذ شكلت بداياته الصعبة حجر أساس لصقل إرادته القوية وعزيمته التي لا تلين.
عندما عاد إلى مصر بعد دراسته، بدأ أحمد زيور مسيرته في القضاء، ثم تقلد مناصب إدارية هامة حتى وصل إلى منصب محافظ الإسكندرية، وبدأت خطواته السياسية تتصاعد بسرعة.
لم يكن الرجل مجرد سياسي يحكم، بل كان عقلا مفكرا يقرأ الواقع ويفكر في مصلحة الوطن قبل أي اعتبار شخصي، تولى عدة حقائب وزارية هامة، منها الأوقاف والمعارف العمومية والمواصلات، وكان يتنقل بين الوزارات بخبرة وإخلاص، ما جعله شخصية محورية في إدارة شؤون الدولة، وخصوصا خلال الفترة الحرجة بعد الثورة المصرية عام 1919.
لكن ما يميز أحمد زيور باشا ليس فقط المناصب التي شغلها، بل شخصيته الإنسانية التي امتزجت بالحكمة والكرم وحب الدعابة، إلى جانب ثقافته الواسعة التي جعلته يجيد العربية والتركية والفرنسية، ويفهم الإنجليزية والإيطالية.
كان الرجل يفتح صدره للآخرين، ويمتلك القدرة على إدارة الصراعات السياسية بحنكة وهدوء، وهو ما جعله محل احترام الجميع، سواء من زملائه السياسيين أو من عامة الشعب.
عين رئيسا لمجلس الشيوخ المصري، ثم شكل وزارته الأولى في نوفمبر 1924، حيث جمع بين منصب رئاسة الوزراء ووزارتي الداخلية والخارجية، مؤكدا قدرته على إدارة الأمور بيد حازمة وعقل متفتح.
واستمر في خدمة وطنه من خلال تشكيل وزارته الثانية، حتى يونيو 1926، حريصا على استقرار الدولة وإدارة شؤونها بحنكة، بعيدا عن أي مصالح شخصية أو ضغوط خارجية.
زيور باشا لم يكن مجرد سياسي تقليدي، بل كان رمزا للفكر المصري العصري الذي يحترم القانون ويؤمن بالعلم والثقافة، ويجمع بين الوطنية العميقة والتواضع الجم.
محبا لوالديه، كريم النفس، لطيف الخلق، جسوره ضخم وقلوبه أوسع، كان يمزج بين السلطة والرقة، بين الحزم والمرونة، وبين العمل الجاد وروح الدعابة.
هذا المزيج الفريد جعله نموذجا للقيادة الرشيدة في وقت كان فيه الوطن بحاجة لمثل هذه الشخصيات التي تجمع بين القوة والإنسانية في آن واحد.
توفي أحمد زيور باشا في مسقط رأسه بالإسكندرية عام 1945، لكنه ترك إرثا خالدا من الخدمة الوطنية والقيادة الحكيمة، وأصبح اسمه محفورا في وجدان المصريين، ليس فقط كوزير أو رئيس وزراء، بل كرجل حمل قلبه على وطنه، وبذل كل ما في وسعه ليبني مصر الحديثة ويؤسس لمستقبل أفضل.
إن تاريخ زيور باشا يعلمنا درسا خالدا، أن القيادة الحقيقية ليست في المناصب ولا في السلطة، بل في حب الوطن، والعمل الدؤوب، والوفاء للعهود التي قطعناها على أنفسنا تجاه بلدنا وشعبنا.
أحمد زيور باشا كان نموذجا مصريا أصيلا، يحكي عن قدرة الإنسان على التميز رغم الصعاب، ويذكرنا جميعا بأن مصر تحتاج دائما لأمثاله، رجالا يحملون العلم والقلب معا، ويعملون بلا كلل من أجل رفعة وطنهم وشموخه.
ومن يقرأ سيرته، يدرك أن الوطنية ليست شعارات ترفع، بل أفعال تصنع التاريخ، وأن من يحب وطنه حقا، يظل اسمه حيا في ذاكرة شعبه، مهما رحل عن الدنيا، ومهما تبدلت الظروف.