المتحف الوطني لكرة القدم…صرح فريد لحفظ الذاكرة الكروية المغربية يرى النور بعد عقود من الإنتظار
تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT
زنقة 20. سلا
يشكل متحف كرة القدم المغربية، الذي افتتح الخميس الماضي، بمركب محمد السادس لكرة القدم بالمعمورة، أول فضاء من نوعه يساهم في حفظ الذاكرة الكروية الوطنية وتثمين رصيدها التاريخي، ويسلط الضوء على أهم انجازاتها ونجومها ومحطاتها المضيئة.
ويعكس إحداث المتحف الوطني لكرة القدم، الذي أقيم بشراكة بين الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم والمؤسسة الوطنية للمتاحف، العناية الموصولة التي ما فتئ يوليها صاحب الجلالة الملك محمد السادس للحفاظ على الموروث التاريخي والحضاري والرياضي للمملكة المغربية وتثمينه.
وتتيح هذه التحفة المعمارية، التي أنجزت على مساحة 2100 متر مربع، للزوار فرصة الاطلاع على تحف، وصور، وأشرطة فيديو، بالإضافة إلى مكتبة تضم مؤلفات حول كرة القدم المغربية والعالمية.
ويهدف هذا المتحف إلى تسليط الضوء على تاريخ كرة القدم الوطنية الذي بدأ سنة 1906، من خلال عرض صور فوتوغرافية وتحف تتعلق بكرة القدم، بما يوفر لجميع الأجيال، وخاصة الشباب، فرصة للتعرف على إنجازات لاعبي كرة القدم المغاربة.
ويعتبر المتحف الوطني لكرة القدم، ثمرة شراكة بين الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، والمؤسسة الوطنية للمتاحف، اللتان وقعتا في مارس 2022، اتفاقية من أجل إحداثه وتدبيره.
ويضم المتحف الوطني لكرة القدم المغربية، الذي انطلقت أشغال بنائه شهر مارس 2021، فضاء للعرض الدائم، وفضاء للعرض المؤقت، وقاعة للعروض بـسعة 42 مقعدا وقاعة لكبار الشخصيات ، وقاعة للتوثيق، ومرافق أخرى.
ويقترح المتحف على زواره معرضا دائما بست فضاءات تلامس التاريخ الغني واللحظات المميزة لكرة القدم المغربية.
وفي هذا الإطار، اتخذ الفضاء الأول للمتحف، ثيمة “الرؤية الملكية المستنيرة”، ويكشف عن منظور فريد، رسخه ثلاثة ملوك، جعلوا من كرة القدم وسيلة تعبير متميزة للشعب المغربي .
ويحتفي الفضاء الثاني “أرض الرواد” بالانتصارات الأولى التي لا ت نسى للمغرب مع كشف النقاب عن عالم الشخصيات و الأساطير في كرة القدم الوطنية.فيما يستكشف فضاء “أرض التميز”، الإنجازات الاستثنائية للمنتخبات الوطنية والأندية، منذ الخمسينيات حتى اليوم.
ويمثل فضاء “رواق المشاهير” احتفالا بالأشخاص الذين تركوا بصمتهم في كرة القدم المغربية، سواء كانوا لاعبين أو مدربين أو حكام أو مسيرين. كما أن فضاء “أرض مضيافة”، سيقدم رحلة في ذكريات أبرز الفعاليات الرياضية التي استضافها المغرب، سواء كانت كؤوسا، أو بطولات، أو حتى مباريات ودية. كما تسلط الضوء على الزيارات البارزة لشخصيات مرموقة في عالم الساحرة المستديرة.
وللعشق اللامتناهي للكرة المستديرة، خصص المتحف فضاء “أرض الشغف”، الذي يؤرخ لشغف وحب المواطنين المغاربة وولعهم الثابت بكرة القدم عبر محطات تاريخية .
وبالإضافة للمعرض الدائم، اختار القائمون على المتحف انجاز معرض مؤقت يتيح الفرصة للزوار لاكتشاف مسارات المنتخبات الوطنية المغربية والأندية الوطنية .
وحسب القائمين على هذا المتحف، فإنه سيضم مركزا للبحث، يضطلع بمهمة التدقيق في ماضي كرة القدم الوطنية، بكل ما يحمله من وثائق وصور وكؤوس وشارات وألبسة، لغرض الحفظ والعرض، على العموم، وبخاصة للشباب، باستخدام التقنيات الجديدة، وتحديدا الرقمية منها.
ومن أجل هذا الغرض، وقع رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، فوزي لقجع، ورئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف، مهدي قطبي، ومدير المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، محمد الفران، في أبريل من السنة الماضية، على اتفاقية تعاون وشراكة تتعلق بإحداث وتدبير مركز البحث والتوثيق في المجال الرياضي بالمتحف الوطني لكرة القدم بمركب محمد السادس لكرة القدم بالمعمورة.
وتدخل هذه الاتفاقية في إطار الجهود المبذولة لحفظ الذاكرة الرياضية المشتركة من خلال الكتب والوثائق بمختلف محمولاتها الورقية والرقمية وكذا السمعية البصرية وذلك للإسهام في إشعاع كرة القدم المغربية على الصعيد الجهوي والقاري والدولي، وفقا للتوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس.
المصدر: زنقة 20
كلمات دلالية: کرة القدم المغربیة محمد السادس
إقرأ أيضاً:
المنتخب الوطني كـ"مشروع دولة"
معاذ الصالحي
ما شأن باحث في علم النفس والمجتمع بتحليل مباراة كرة قدم؟ ولماذا أخوضُ اليوم في مساحة مخصصة عادةً للمحللين الفنيين ونقاد الرياضة؟
الإجابة نلتمسها في التحول الجذري لهوية اللعبة؛ فكرة القدم غادرت مربع التنافس الرياضي البحت منذ عقود، لتستقر في صلب "العلوم الاجتماعية". لقد أصبحت كرة القدم اليوم هي أكبر "مختبر حي" لدراسة سلوك الشعوب، وانفعالات الجماهير، وتشكُّل الهوية الوطنية.
ومن داخل هذا المختبر، حين تأملت المشهد الأخير، استوقفني ذلك السكون الثقيل الذي خيّم على منصات التواصل والمجالس، معلنًا عن وصول الجماهير إلى مرحلة من الزهد التام في إبداء أي رد فعل. هذه المرة، بدا وكأنَّ الجمهور قد فقد شهية الكلام، وانسحب إلى حالة من الهدوء اليائس. لم نرَ تلك الحشود الغاضبة، ولا ذلك النقد اللاذع، بل رأينا جمهورًا يتعامل مع الخسارة وكأنها "تحصيل حاصل". وهذا "التبلد الشعوري" هو المؤشر الأكثر فزعًا؛ فهو يعني أنَّ الرابط العاطفي بين المشجع والمنتخب قد بدأ يتآكل، وأن الأمل قد حلَّ محله التسليم بالواقع.
ولكي ندرك فداحة هذا الانسحاب النفسي، علينا أن نفهم أولًا ماذا يمثل المنتخب في الوعي الجمعي؟ فبالنسبة للمواطن العُماني، لم تكن الـ90 دقيقة يومًا مجرد نزال رياضي ينتهي بصافرة الحكم، بل هي امتدادٌ للهوية، وتجسيدٌ للثقافة، واستدعاءٌ حي لذكريات الطفولة البريئة. حين يقف اللاعبون لترديد النشيد، يرى المشجع فيهم "الوطن" بكل ثقله وتاريخه؛ يرى انتصارهم انتصارًا لقيمه، ويرى في انكسارهم خدشًا لصورة "الذات الوطنية" التي يريدها دائمًا في القمة.
هذا التلاحم الوجداني يعيدنا إلى نظرية عالم الاجتماع بنيديكت أندرسون حول "المجتمعات المتخيَّلة"؛ فالوطن في الأوقات العادية قد يكون مفهومًا مجردًا، لكن "الملعب" هو المكان الذي تتحول فيه هذه الصورة الذهنية إلى واقع ملموس.
في عُمان، نحن نسيج غني من مناطق وقبائل وثقافات متعددة؛ ولكن في اللحظة التي تهتز فيها الشباك بهدف للمنتخب، تتلاشى كل هذه الفوارق؛ حيث يذوب الظفاري، والباطني، والشرقي، والداخلي، والمسندمي تحت مظلة شعورية واحدة، ليتحول ملايين العُمانيين إلى "جسد واحد" بذاكرة جمعية مشتركة، محققين بذلك أقصى درجات الاصطفاف الوطني التي تعجز المناسبات الأخرى غالبًا عن صناعتها.
وعلميًا، يمثل ما يحدث تطبيقًا دقيقًا لما يعرف بتأثير "الالتفاف حول العلم" (Rally Round the Flag). تاريخيًا، كانت الأمم تحتاج إلى تهديد خارجي أو حرب لتوحيد صفوفها الداخلية، لكن كرة القدم قدمت للبشرية بديلًا سلميًا يُحقق نفس النتيجة.
فقد كشفت دراسة تحليلية دقيقة (نُشرت في NBER) شملت بيانات من عدة دول أفريقية، أن الـ90 دقيقة قادرة على إعادة هندسة الولاءات. فقد وجد الباحثون أن انتصار المنتخب يقلل بشكل ملموس من احتمالية حدوث النزاعات العرقية والقبلية خلال الأشهر التي تلي المباراة، عندها ينجح الفوز في توسيع أفق الانتماء لدى المواطن، لينتقل من ضيق الحيز القبلي أو المناطقي إلى رحابة الفضاء الوطني، في عملية توحيد طوعية مذهلة، تحركها نشوة الإنجاز.
وإذا اتجهنا شمالًا، سنجد أن الكرة أعادت هندسة الهوية الألمانية بشكل مذهل. فبعد عقود من "الخجل الوطني" ومحاولة تواري العلم الألماني خجلًا من إرث الحرب العالمية الثانية، جاءت استضافة كأس العالم 2006 لتكسر هذا الطوق.
ورغم أن المنتخب لم يحقق اللقب حينها واكتفى بالمركز الثالث، إلّا أن أداءه البطولي كان كافيًا لإحداث التحول الجذري. وفي هذا السياق، تصف الباحثة كيرستين واغنر ما حدث بظاهرة "الوطنية الاحتفالية"؛ حيث نجح المنتخب في ترميم الكبرياء المجروح، وتحول التشجيع في المدرجات إلى فعل من أفعال 'التصالح مع الذات'، ليعود العلم الألماني للرفرفة بفخر في الشوارع.
ولا داعي للذهاب بعيدًا بحثًا عن الإلهام، ففي محيطنا العربي كان الدرس أكثر وضوحًا. ولعلنا نتذكر جميعًا ما فعله "أسود الأطلس" في مونديال 2022؛ إذ تشير دراسات المركز العربي في واشنطن (ACW) إلى أن ذلك الإنجاز تجاوز حدود الرياضة ليصبح أعظم حملة "قوة ناعمة" للثقافة العربية. لقد نجح المغرب في تصدير "القيم العائلية" ومشاهد بِر الوالدين للعالم، معززًا شعور "الندية" الحضارية مع الغرب، ومرممًا العلاقة بين المهاجرين ووطنهم الأم.
وفي المقابل، قدم لنا العراق في 2007 درسًا في الترميم الداخلي. ففي ذروة الاقتتال الطائفي، وحين عجزت السياسة عن رتق الفتوق الاجتماعية، كان المنتخب هو المؤسسة الوحيدة الفعالة في دولة منهكة. لقد كان الفوز بكأس آسيا حينها لحظة "تعافٍ جماعي"؛ توحدت الطوائف المتناحرة تحت راية واحدة، وتوقفت أصوات الرصاص في الشوارع لتعلو أصوات الاحتفال، مثبتة أن الكرة قادرة على فرض السلم الأهلي حين تفشل البنادق.
أمام هذه النماذج الملهمة، نجد أنفسنا في عُمان أمام مفارقة مؤلمة تستدعي المكاشفة؛ فنحن نملك "المادة الخام" للنجاح؛ لدينا تاريخ عريق، وشغف جماهيري متأصل، ومواهب فطرية تنبت في الحواري. ولكننا، وللأسف، ندير هذه الثروة الوطنية بعقلية 'الهواية' في زمن تحولت فيه الرياضة إلى "صناعة" ثقيلة ومعقدة.
تصريح المدرب الأخير حول الفوارق في البنية الأساسية بيننا وبين دول أخرى، كان تشخيصًا طبيًا دقيقًا لجسدٍ رياضي متهالك. نحن نحاول مناطحة "مشاريع دول" و"صناعات مليارية" بجهود فردية واجتهادات تعتمد على "البركة". إننا باختصار، كمن يدخل سباق "الفورمولا 1" بسيارة دفع رباعي قديمة؛ قد نملك شجاعة السائق، لكننا حتمًا سنخسر السباق أمام التكنولوجيا والتخطيط.
وهنا، نضع الورقة الأخيرة على الطاولة أمام المعنيين بالتخطيط الاستراتيجي. ففي صلب رؤية "عُمان 2040"، وتحديدًا في أولوية "المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية"، نجد تركيزًا شديدًا على خلق جيل معتز بهويته ومسؤول عن وطنه.
والمفارقة الكبرى تكمن هنا: قد تُنفق المؤسسات الملايين على إقامة ندوات ومحاضرات نظرية لتعزيز هذه الهوية، بينما يثبت الواقع والعلم أن مباراة واحدة لمنتخب وطني قوي ومنافس، قادرة على غرس قيم الولاء والفخر في نفوس المواطنين، بفاعلية وعمق يتجاوزان تأثير 1000 محاضرة.
إنَّ الاستثمار في تحويل كرة القدم العُمانية من "هواية" إلى "صناعة محترفة" عبر الخصخصة الحقيقية وتطوير البنية التحتية، ليس ترفًا، ولا هدرًا للمال العام. إنه استثمار مباشر في الإنسان العُماني، واختصار ذكي للطريق نحو تحقيق أهداف الرؤية في بناء مجتمع متماسك ومعتز بذاته.