«عباقرة الظل»، حلقات نشرتها «البوابة نيوز»، منذ سنوات، للكاتب المبدع مصطفى بيومي، وصدرت فى كتاب بالعنوان نفسه، ويتناول الحديث عن عدد من الممثلين الأقل شهرة عن نجوم الصف الأول، وقدموا أدوارًا معقدة ظلت باقية في أذهان الناس، ويطلق عليهم أعمدة الطبقة الوسطى في السينما المصرية، ويرى «بيومي» أن كثيرًا من هؤلاء العباقرة لعبوا أدوارًا لا تقل أهمية عن أدوار البطولة، حملت مقولات معبأة بالفلسفة الشعبية الخالصة.

. تحيةً لروح كل نجم من هؤلاء النجوم، تعيد البوابة نيوز نشر بعض هذه الحلقات.

مليء بالخيرات وحافل بالإيحاءات والدلالات الكاشفة عن طبيعة الشخصية

بفعل الزمن الذى لا يرحم أحدًا، تتغير الملامح الشكلية لزوزو نبيل.. يتبخر الشباب الذى تحافظ عليه طويلًا، وتذبل الأنوثة، لكن صوتها الخلاب يبقى علامة لا تخطئها الأذن. تتنوع أدوارها عبر أكثر من نصف قرن، وتبرع في التعبير عن الشخصيات التى تجسدها دون ذرة من الخلل والاضطراب. يغمض محبوها أعينهم لاستعادة أيام لا تُنسى، ولا يرونها صديقة البطلة والأم الخائنة والصهيونية الإرهابية وزوجة الأب المتغطرسة.

يمسحون عن وجهها التجاعيد التى تستوطنها عندما يتقدم بها العمر، كأنهم يقاومون غزو الزمن الذى لا مهرب منه. في ليالى رمضان، يبحثون عن صوتها الساحر وهى تقول في ثقة من لا يخاف: «بلغنى أيها الملك السعيد».

بلغنى أيها الملك السعيد

في البرنامج الإذاعى الشهير: «ألف ليلة وليلة»، العلامة البارزة في شهور رمضان القديمة، قبل هيمنة الفضائيات وضجيجها، تتألق زوزو نبيل، شهرزاد، وهى تروى حكاياتها المثيرة للسلطان شهريار. إن لم يكن صوتها هو السحر الذى لا يُقاوم، فأى شيء إذا يكون؟!.

الجميلة المتمكنة صانعة الخيال المحلق والأحلام الوردية، المسلحة بالعذوبة الهامسة الهادئة المدهشة، تقتحم عالم السينما مبكرًا، وتقدم عشرات الأفلام خلال نصف قرن من العمل الدءوب. قد يكون صحيحًا أن أدوارها هامشية محدودة المساحة في الأغلب الأعم من هذه الأفلام، ولا تنفرد بالبطولة أو تقترب منها، لكن الممثلة الموهوبة لا تقصّر في التعبير العميق المدروس عن ملامح وسمات الشخصيات التى تجسدها، وتفرض على المشاهد أن يلتفت إليها وينتبه.

الويل كل الويل لأفعل التفضيل وما تجره وراءها من كوارث الأحكام اليقينية القاطعة، لكننى أتورط فيما أكره وأقول إن صوت زوزو هو الأجمل والأعظم في تاريخ السينما المصرية. صوت دسم مليء بالخيرات، مشبع مريح ممتع حافل بالإيحاءات والدلالات المسخرة للكشف عن طبيعة الشخصية.

صديقة شادية في «لحن الوفاء» نموذج متكرر للأدوار العادية في مسيرة زوزو نبيل، حيث الشخصيات الخالية من الخصوصية والعمق، لكن محطات متوهجة غير قليلة تطل في مسيرتها هذه، وتكشف عن موهبة أصيلة لم تُستثمر بفعل القوانين الجائرة المختلة التى تحكم صناعة السينما في مصر.

عمة أمينة في «أنا حرة»، ١٩٥٩، شخصية تقليدية محافظة تدين بالولاء الكامل للزوج ومنظومة القيم الاجتماعية السائدة. لا تقسو على ابنة أخيها وتتعنت معها من منطلق الشر الأصيل والكراهية، فهى تمارس السلوك نفسه مع ابنها، وتصل به إلى محطة الضياع. تعى زوزو في تجسيدها للشخصية أنها امرأة تابعة محكوم عليها بالخضوع للقطيع ورؤاه الموروثة، ويتراوح أداؤها بين الظاهر العنيف الذى لا تحبه والحنان الكامن الذى تخفيه. تحولاتها اللافتة عبر مراحل تطور الشخصية لا ادعاء فيه أو تصنع، وصوتها الملون المعبر أداة مهمة للكشف عما يعتمل في الشخصية من صراعات، وفى عينيها ما يغنى عن الكلام عند مواجهة المواقف المعقدة ذات الوجوه المتعددة، أما المشاهد التى تجمعها بالعملاق حسين رياض فهى مبارزة تمثيلية رفيعة المستوى.

الخضوع قدرها الذى لا مهرب منه، لكن الأمر يختلف عند «أم ياسين» في «بين القصرين»، ١٩٦٤. الأمومة عند الشخصية التى يبدعها نجيب محفوظ لا تناقض الأنوثة، والمرأة القوية ترفض قهر زوجها الأول أحمد عبدالجواد وتتمرد على تسلطه وقسوته، وصولا إلى الطلاق والحرمان من ابنها الوحيد الذى يرفض زيجاتها المتعددة ويرى فيها إهانة لرجولته وكرامته. في المواجهة الأولى بينهما بعد قطيعة طويلة، وهى على عتبات زيجة جديدة، تبدو امرأة محبة للحياة دون إهمال لمشاعر الأمومة. في صوتها فرحة ولهفة، وعتابها للابن لا ينم عن الضعف قدر تعبيره عن مزيج مركب معقد من الاحتجاج ورغبة الغفران. ما أسرع وأروع تحولات وجه الممثلة القديرة عند معرفة الهدف من الزيارة، فعندئذ يطل صوت جديد مختلف، قوامه قسوة من يحارب للتشبث بحق الحياة والمتعة: «وإيه العيب في إنى اتجوزت.. اشمعنى هو اتجوز.. ولا عشان حكم عليا بالطلاق أعيش أرملة من عشرين سنة فاتوا.. ما سألتش أبوك طلقنى ليه؟.. علشان ما كنتش بأسكتله لما بيشتمني.. ما كنتش بأبوس ايده اللى بيلطشنى بيها.. لما طردنى ما زحفتش على ركبى واترجيته عشان يرجعنى تاني».

أنا حرة

تنتصر الأنوثة على الأمومة في المعركة التى تُفرض على أم ياسين، ثم ينتصر الموت عليهما معًا. من حيوية المرأة المقبلة على الحياة في المشهد الأول، إلى أطلال امرأة في المشهد الثانى والأخير، حيث الاحتضار والتهيؤ للرحيل. لا شيء يبقى من القوة والجمال، والذبول يطول الجسد والروح والصوت.

فارق شاسع بين الخضوع والإذعان في «أنا حرة»، والتمرد المبرر في «بين القصرين»، والمشترك بين الحالتين المتناقضتين هو توهج زوزو، التى تمثل بلغة الجسد ورسائل العينين وطبقات الصوت.

الست الناظرة

ما أكثر أدوار «الشريرة» المسكونة بالقسوة في رحلة إبداع زوزو نبيل، ولعل الأهم في التعبير عن هذا التوجه ما نجده في «جريمة في الحى الهادىء»، ١٩٦٧، و«الست الناظرة»، ١٩٦٨.

في الفيلم الأول، تحشد زوزو كل مخزون موهبتها لتقديم ملامح القائدة حادة الذكاء والخبث للخلية الصهيونية التى تقوم بتخطيط وتنفيذ عملية اغتيال اللورد موين، وزير المستعمرات البريطاني. تتكىء قسوتها على الهدوء والثقة والثبات الانفعالي، ولا احتياج في هذا السياق للاستعانة بالموروث السلبى الساذج للسينما المصرية، حيث الشيطنة والضجيج الإنشائي. لا ذرة واحدة من الافتعال والتصنع، وينخفض الصوت إلى مرحلة الهمس القاتل. كل ما تفعله يؤكد أنها امرأة بلا قلب أو مشاعر إنسانية، وإيقاعها متزن محسوب. كراهية المشاهد لها، لأسباب سياسية وأيدلوجية، لا يحول دون اعترافه ببراعتها وتفردها في تجسيد الشر غير التقليدي.

حكمت زوجة الأب، في الفيلم الثاني، متطرفة في كراهية ابنة زوجها، سعاد حسني، والقسوة عليها. دور بارز جدير بالتأمل والاهتمام، ومساحة تتيح ظهور تجليات مختلفة للتعنت في ظل سلبية الزوج محمود، عماد حمدي. تتفنن في إذلال وإهانة الابنة المتفوقة دراسيًا، لحساب ابنتها من زوجها الأول، ماجدة الخطيب. كل ما تفعله ينهض دليلا ينم عن كراهية أصيلة عميقة لا تنشغل بالبحث عن أسباب ومبررات. شراستها تلتهم كل من يقف أمامها، وتتحكم في انفعالاتها بلا عناء. تتحول من حال إلى حال في سهولة ويسر، وعفوية من لا يمثل.

العجوز المرهقة

ها هى زوزو نبيل تصل إلى الفصل الأخير ذى المذاق المختلف: العجوز المرهقة ضحية البيروقراطية المصرية المتوحشة في «مستر كاراتيه»، ١٩٩٣، ويبقى تجسيدها لشخصية سكينة أم منتصر في «الهروب»، ١٩٨٨، مع المخرج الفذ عاطف الطيب، هو الدور الأعظم في تاريخها الحافل، عند الكثيرين من متابعى أفلامها.

المرأة العجوز المنهكة، تتكىء على ذراع ابنتها قليلة الحيلة، بحثا عن معاشها المتعثر بعد وفاة الزوج. كل شيء فيها يوحى باقتراب النهاية، والتعب الذى يسكنها يتجاوز الجسد إلى الروح. في صوتها وهن، والشكوى من غرائبية سلوك معذبيها تنبىء عن زهد لا يجد للاستمرار في الحياة معنى: «تعبت.. ربنا يهد حيلهم زى ما هدوا حيلي.. مش فاهمة آخرة البهدلة دى إيه؟.. صبر إيه يا ابني.. اللى بيعملوه ده كفر.. كفر».

صوتها الجميل المرهق واضح المخارج، لا يفقد عذوبته ورونقه، لكنه مغلّف بمؤثرات العكارات المتراكمة جراء المعركة الشرسة غير المتكافئة التى تخوضها ضد الزمن وخلل الإدارة الحكومية. حضورها يأخذ القلب وينعش الروح، ويصنع حالة من الشجن النبيل، تفرض على من يشاهدها أن يفكر في المصير الذى ينتظره عندما يتقدم به العمر.

أم صعيدية

مع عاطف الطيب، تبدو زوزو كأنها ولدت أما صعيدية، مجبولة على قوة التحمل والصبر على المكاره ومواجهة أعتى المحن بإرادة لا تلين ولا تعرف المهادنة. امرأة عادية مثل آلاف في مثل عمرها، يزدحم بهن صعيد مصر، حيث توارث القيم مبدأ راسخ مستقر. تحترم ذكرى زوجها كأنه حى لم يمت، والعلاقة مع الابن معقدة كثيرة المفردات، ففيها الحب والخوف والصمود الذى يعلى من شأن الكرامة. تتعرض للاعتقال فلا تجزع، ويعبر وجهها عن الدهشة دون الخوف. تنهر زوجة ابنها عندما تهم بالعويل، وتمسك كيس الدواء متجهة إلى سيارة الشرطة واثقة الخطى بلا انحناء.

في المحكمة، تقف متماسكة أمام القفص، وتقول لمنتصر كاتمة ما يدور في أعماقها من هواجس: «عايز حاجة أجيبهالك معايا؟»، وهل تملك نساء الصعيد إلا التماسك على هذا النحو؟.

يخافها منتصر ويحبها، وتخاف عليه وتحبه، وما مشاهد المواجهة مع العظيم أحمد زكى إلا الدروس البليغة يستمتع فيها المشاهد بحوارات تشبه الموسيقى والشعر، وتتجاوزهما.

تبقى حية عظيمة الحضور والتأثير في الفيلم بعد موتها، وما جنازتها المهيبة إلا الدليل العملى على استمرار منظومة القيم التى تنتمى إليها مثل الأجداد والأسلاف.

 

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: مصطفى بيومي أدوار ا الذى لا

إقرأ أيضاً:

عبد السلام فاروق يكتب: رفعت سلام .. العاصفة الهادئة في سماء الثقافة المصرية

كنا، ونحن صغار نتعثر على أعتاب المعرفة، نلتقط أسماء كالنجوم من صحف ومجلات ثقافية تصل إلى مدينتنا الريفية بمحافظة المنيا، كرسائل من عالم مواز، عالم أكثر رحابة وأشد وهجاً.

وكان من بين هذه الأسماء التي لم تنفصل في ذاكرتي عن صفة "المثقف الحقيقي"، اسم رفعت سلام كان يصل إلينا عبر مقالاته وترجماته كأنه صوت يأتي من عمق القاهرة، من ذلك القلب النابض الذي لم نره بعد، لكننا كنا نسمع دقاته في السطور التي تصلنا. 

لقد عرفته باكراً جداً، وعرفته كما يعرف الشجر الأصيل: من جذوره الراسخة في تربة الفكر، ومن ساقه القوية التي لا تعرف الانحناء أمام رياح الموضة العابرة، ومن أوراقه التي لا تتساقط مع كل خريف، تكتسي بلون جديد من الصبر والحكمة.

كان رفعت سلام ظاهرة ثقافية فريدة في تماسكها وانعتاقها معاً لم يكن مجرد شاعر ينساب في دروب القصيدة، ولا مترجماً ينقل بين اللغات، ولا ناقداً يحلل النصوص. 

كان كل ذلك في كينونة واحدة متجانسة، مثل نهر كبير تتقاطع في مجراه روافد من المعرفة، كلها تصب في بحر الرؤية. كانت طاقته الإبداعية طاقة كونية، لا حد لها ولا سقف، لأنها لم تكن طاقة انفجار عشوائي، كانت طاقة نمو عضوي، تنضج ذاتها بنفسها، مع مرور الوقت وتراكم التجربة وهنا يكمن سر عظمته: فالاستمرارية عند المبدع الحقيقي ليست تكراراً، هي اكتشاف متجدد للذات والعالم.
شاعراً برؤية خاصة.

كان شاعراً بكل ما تحمله الكلمة من معنى لم يكن شاعراً يكتب الشعر فقط، كان شاعراً يرى بالشعر. كان ذا بصر حديدي يخترق سطح الكلمات ليصل إلى مضايق الشعر الخفية، تلك المناطق الوعرة التي تختبئ فيها أسرار الإبداع. وقد تجلت رؤيته الشعرية المتفردة في دواوينه التي شكلت علامات مضيئة في مسيرة الشعر العربي الحديث.

ديوان "إشراقات " كان بمثابة بيان شعري جديد، حيث مزج بين الصورة البصرية الحادة والإحساس الوجودي العميق. كان رفعت سلام في هذا الديوان يستكشف علاقة الذات بالكون، من خلال لغة شعرية مكثفة تخلق عالمها الخاص، بعيداً عن البلاغة التقليدية. ثم جاء "إنها تؤمي لي " ليوغل أكثر في تجربة الاغتراب الداخلي والبحث عن معنى في فوضى العالم. هنا، تحولت القصيدة إلى رحلة استكشافية داخل النفس البشرية بأوجاعها وأحلامها.

أما " هكذا قلت للهاوية "، فقد مثل نقلة نوعية في مشروعه الشعري، حيث تناول موضوع المقدس والمدنس في حياة الإنسان المعاصر، بنبرة تتراوح بين الجدية والسخرية العميقة. وكانت قصائده في هذا الديوان تشبه طقوساً يومية لإعادة اكتشاف العالم من جديد.

المترجم الذي صاغ جسراً بين الثقافات
لم يكن رفعت سلام مترجماً عادياً ينقل النصوص من لغة إلى أخرى، كان صانع جسور بين الثقافات. اختياراته للترجمة لم تكن عشوائية، كانت جزءاً من رؤيته الثقافية الشاملة. كان يختار النصوص التي تثير أسئلة وجودية وفنية تهم القارئ العربي، مع الحفاظ على روح النص الأصلي وأناقته اللغوية.

من أبرز إنجازاته في هذا المجال ترجمته لقصائد الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، التي مثلت تحدياً كبيراً بسبب خصوصية الصورة الشعرية لدى ريتسوس وارتباطها بالتاريخ اليوناني والتراجيديا الإنسانية. استطاع رفعت سلام أن ينقل هذا العالم الشعري المعقد إلى العربية بلغة شعرية مكافئة، تحافظ على غموض الصورة وعمق الدلالة.

كما كانت ترجمته لأعمال الشاعر الفرنسي بودلير علامة فارقة في تقديم تيار الحداثة الشعرية العالمية للقارئ العربي. لقد فهم رفعت سلام أن ترجمة بودلير تحتاج إلى أكثر من معرفة لغوية، تحتاج إلى فهم عميق لمشروعه الشعري الذي يجمع بين التاريخ والأسطورة واللغة. فجاءت الترجمة كعمل إبداعي مواز، يفتح آفاقاً جديدة للشعر العربي.

ولا يمكن إغفال ترجماته المهمة للأعمال الشعرية الكاملة ل (كفافيس، ورامبو)، حيث نقل ليس فقط النص، نقل روح الشعر وفلسفته. كانت ترجماته الشعرية تحمل إحساساً باللغة، وكأنه يكتب النص من جديد بلغة عربية حية تنبض على خشبة المسرح.

يرى ما وراء الكلمات
كان يرى السرد ليس كحكاية تحكى، كان يراه كنسيج من الدلالات والإشارات. وكان ينظر إلى السينما والفنون بعين الشاعر الذي يبحث عن الشعري فيها، عن ذلك الوميض الإنساني الذي يحول الصورة إلى فكرة، واللحن إلى سؤال. كان شعره ونقده وجهين لعملة واحدة: عملة الحساسية المفرطة تجاه الجمال، والوعي الحاد بمسؤولية المثقف.

ذات مرة، كنا في مهرجان الجواهري الأول الذي أقيم بمدينة أربيل بشمال العراق ، وهو أحد تلك اللقاءات الثقافية التي تشتبك فيها العقول كما تتشابك الأسياخ الحمراء في النار، وجدت نفسي في حوار معمق معه حول الشعراء في عصرنا. دار الحديث عن أصل الفعل الإبداعي: هل هو نبض فردي معزول، هل هو حصيلة تفاعل مع محيط اجتماعي وثقافي؟ وتحدثنا عن الحالة الثقافية بكل تشعباتها: حالة الفرد المبدع الذي يحمل عبء رؤيته في صحراء اللامبالاة، وحالة المؤسسة التي تترنح بين الرسمي والخاص، وحالة المجتمع الذي يتلقى الثقافة كسلعة استهلاكية في أفضل أحواله.

وفي خضم هذا النقاش، استقام أمامي رجل بحجم فكره. كان قارئاً شاسع المساحات، لا يقرأ النصوص فقط، يقرأ العالم من خلالها. كانت له رؤية واضحة، وموقف أخلاقي لا يتزحزح، وأدوات نقدية صقلها بنفسه حتى أصبحت بصمته الخاصة التي لا تخطئها العين. كان يمتلك ذلك النوع من الذكاء الذي لا يقتل الطفولة الداخلية للمبدع، يحاورها وينميها.

اليوم، وأنا أتأمل رحيل رفعت سلام الشاعر والمترجم، لا يسعني إلا أن أشعر بحزن عارم ، حزن لا علاقة لها بالألم العابر، حزن الافتقاد إلى نموذج إنساني نادر. لكنني سعيد بأنني عرفت رفعت سلام صديقاً وصحفياً ورفيقاً في رحلة التفكير. وأشعر باعتزاز عميق بتجربته الثقافية الهائلة، تلك المنحة السماوية التي تمنحنا، نحن الباقين في الساحة، الثقة والأمل.

فحينما يغيب مثل هذا العملاق بهدوء، لا يترك فراغاً خلفه، يترك إرثاً مضيئاً. إرثاً يثبت أن في مشهدنا المصري العميق، تحت ضجيج السطح وصراعاته، تبقى هناك بقية من نماذج فريدة. نماذج لا تصنعها الجامعات ولا الجوائز، يصنعها الإصرار على النقاء الفكري، والالتزام بالجمال، والإيمان بدور المثقف كحارس للضمير الجمعي. هذه النماذج هي التي تكتمل في انعتاقها، الإنسان لا يكتمل في القيود، يكتمل في انعتاقه من كل ما هو زائف وعابر. وهي التي تلهم بضوئها جيلاً كاملاً، لأن نور الحكمة الحقيقية لا ينطفئ بغياب حامله، يتحول إلى شمعة في يد كل من يبحث عن الحقيقة.

رحل رفعت سلام، بقي شاهداً. شاهداً على أن الثقافة يمكن أن تكون نقية وعميقة وجادة في زمن الاستهلاك. شاهداً على أن مصر، بترابها وتاريخها وناسها، لا تزال تنجب أولئك الذين يحملون مشاعل المعرفة، ليس ليظهروا أنفسهم، لينيروا الدرب للأجيال القادمة.

فسلام عليك أيها الصديق، وسلام على روحك التي صانت الجمال، وسلام على قلمك الذي كان دائماً نبضاً للحياة.

طباعة شارك محافظة المنيا رفعت سلام القاهرة

مقالات مشابهة

  • جمع بين الموهبة والعلم.. ذكرى رحيل سمير سيف أحد أبرز صناع السينما المصرية
  • يوسف.. إهمال مع سبق الإصرار؟
  • تفاصيل صغيرة
  • أيام.. "إيديكس"
  • الغلبة للأسود.. تاريخ مباريات السعودية والمغرب قبل لقاء كأس العرب الليلة
  • مصطفى الشيمي يكتب: كلب يونس
  • عبد السلام فاروق يكتب: رفعت سلام .. العاصفة الهادئة في سماء الثقافة المصرية
  • للزمالك.. رب يحميه!
  • أحمد سيد  : أزمة ثقة.. عقدة تعرقل انطلاق برنامج الطروحات بالبورصة
  • جلسة صلح تنهي خصومة ثأرية استمرت سنوات في بنى سويف