د. عبدالله باحجاج

سنعتمدُ على إحصائيَّة مَعَالي الدكتور وزير العمل عن عدد الباحثين في بلادنا، والذين حدَّدهم بـ100 ألف باحث عن عمل؛ منهم: 80% لم يسبق لهم العمل، و20% سبق لهم. ونرى أنَّ الاهتمامَ الوطنيَّ ينبغي أن ينصبَّ بصورة مُركّزة على حلِّ هذا العدد لدواعي التصفير، الذي يُؤسِّس لنجاح تطوير بيئة العمل والعمال والتوظيف في البلاد، في موازاة الجهود الوطنية التي تُبذل كرفع وتيرة التوظيف السنوية، وإطلاق مبادرات التدريب المقرون بالتشغيل، والإحلال، وتنمية الموارد البشرية، وكذلك لإنجاح التنظيرات الفكرية التي أخذ يُدلِي بها مؤخرًا بعض أصحاب المعالي الوزراء كـ"المهارات الأهم من الشهادات"، و"نقل مهمة التوظيف للقطاعات".

. إلخ.

فكيف يُمكن حل قضية التراكم العددي للباحثين تماهيًا مع هذه الجهود الحكومية؟ التساؤل ينبغي أن يُشكِّل الشغلَ الشاغلَ للتفكير الوطني العام؛ بمعنى ليس الحكومي فحسب، وإنما تتشارك فيه كذلك النُّخب من حيث ضخِّ الحلول والأفكار التي تنسجم مع التحولات الكبرى في بلادنا؛ فهذه قضية لا يُنتظر حلها ضمن تلكم السياقات، وإنما تُحتِّم سياقًا مُنفصلًا لكنه يكون متماهيًا معها. ومن هنا، نرى أنَّ حلَّ هذا العدد التراكمي لن يكُون من خلال السيرورة الاعتيادية للتطورات والسياقات الراهنة، وإنَّما من خلال منطق الصيرورة، وهي من المستلزمات الأساسية للتكيُّف مع مختلف التحولات، خاصة انعكاساتها الاجتماعية المباشرة.

وهذه التحولات تَأخُذ من منطق الصيرورة منهجًا وفلسفة؛ وبالتالي فإنَّ بعض انعكاساتها -وبالأخص الاجتماعية- تستوجب الصيرورة كرد فعل للفعل ذاته -أي: الصيرورة البنائية مقابل الصيرورة الانعكاسية– وسنجد النتيجة وفق هذه المعادلة كالآتي: التكييف الوطني في الوقت المناسب بين التحولات وانعكاساتها. ومن هنا، فإنَّ قضية تصفير ملف التراكم العددي لن يكون مركزيًّا، وإنما مُناطٌ بكل محافظة من محافظات البلاد خصوصًا بعد تبنِّي نظام المحافظات منذ العام 2022، ومنح كل محافظ صلاحيات لا مركزية واسعة، كتنفيذ السياسة العامة للدولة، وتنمية واستثمار الموارد الخاصة بالمحافظة والترويج لها من أجل تحقيق التنمية المستدامة وخلق فرص عمل للمواطنين.. إلخ. ونقترح من أجل ذلك: تشكيل لجنة تكون تابعة مُباشرةً لكل محافظ، مكوَّنة من أعضاء مجلسيْ الشورى والبلدي في كل محافظة، ومن خبرات محلية تقوم بحصر عدد الباحثين في كل محافظة، ومخوَّلة باكتشاف فرص عمل لهم في الشركات الكبيرة في المحافظة. ومن ثمَّ عقد لقاء بين المحافظ والرؤساء التنفيذيين للشركات الواقعة في الإطار الترابي لكل محافظة، وحملهم على قبول فكرة التَّصفِير كمسؤولية وطنية واجتماعية للشركات، على أن يتم تدوير بعض فرص العمل على الباحثين في المحافظات التي يقلُّ فيها النشاط الاقتصادي حتى الآن ولا تنتج فرصَ عمل كبيرة.

ولو أخذنا محافظة ظفار نموذجًا لتطبيق الفكرة؛ ففيها شركات كبيرة حكومية وخاصة على سبيل المثال لا الحصر: ميناء ريسوت، ومطار صلالة، والمنطقة الحرة، وشركات أوكتال والميثانول والأمونيا والشركات اللوجستية، وبنوك كبرى، وقطاعات مدنية وعسكرية، وفنادق أربع وخمس نجوم، جميعُها قادرة على استيعاب التصفير حتى خارج نطاقها الإداري والترابي.

وذلك شأن بقية المحافظات؛ فلو أخذنا أي محافظة أخرى، سنجد فيها المشاريع والشركات الكبيرة، وفيها سنجد فكرة التصفير قابلة للتطبيق، كالوسطى حيث أصبحت تشتهر بالمشاريع العملاقة في الدقم؛ سواء كانت حكومية أم خاصة، اقتصادية وصناعية؛ كالمصافي والصناعات البتروكيماوية والأنشطة التجارية والسياحية واللوجستية والصناعات الخفيفة والمتوسطة والصناعات السمكية ومشاريع التطوير العقاري والمدن الصناعية والاقتصادية. وجوهر المقترح هنا يتمثَّلُ في قيام كل محافظة بحصر الباحثين في نطاقها الترابي، والبحث لهم عن فرص عمل في المشاريع والشركات الكبيرة فيها، مع الانفتاح الإيجابي على المحافظات التي تقل فيها إمكانية تطبيق الفكرة، على أنْ يتم ذلك بتوجيهات عُليا لضمان التنفيذ، وتكون أداة تنفيذها رأس الهرم للامركزية، ويتمُّ ذلك وفق منهجيات الحكومة القائمة، كالتدريب والإحلال؛ لضمان المهنية، وحتى لا يُصبح التصفير عالة على المشاريع والشركات.

وسنجد جيلَ الباحثين عن العمل مُهيَّأً سيكولوجيًّا وذهنيًّا للالتزام باستحقاقات الوظيفة -أي وظيفةٍ- لأنَّ تاريخه الطويل في البحث والانتظار يُحصِّن وعيه، ويقوِّي تمسُّكه بالعمل مهما كانت ظروفه وتحدياته. والكثير منهم قد وصل لسن 35 و40 سنة، والكل قد وصلته رسالة التحوُّلات الشاملة في البلاد. لذلك؛ لدينا الآن ذهنيات مُنفتحة، وستكون مُتفاعلة إيجابًا مع الفرص التي تُعرَض لها، وستتلبسها من خلال التدريب والتأهيل كخيار تتيحه لها الظرفية، ولن تُفرِّط فيه.

وبعد هذا التصفير.. ستَجِد مؤسسات الدولة المختلفة الوقتَ المناسبَ والهدوءَ الكاملَ لتطوير سوق العمل، ودعم القطاع الخاص، وتنمية الموارد البشرية، واختبار تطبيق الأفكار الجديدة، والأهم هنا أنَّ التفكير بصناعة جيل تقني/تكنولوجي للاقتصاد العُماني الحديث القائم على التقنية العالية، سيكُون دونَ ضغوط التراكم العددي للباحثين، وسيكون الهاجس الأوحد هو كيفية التخطيط لاستيعاب المخرجات السنوية. هنا، سنجد الإجابة في ما قاله مدير عام وحدة الشراكة والتخصيص بوزارة المالية: "عندنا مشاريع بقيمة 6 مليارات ريال، ستُنجز خلال 10 سنوات، وستخلق فرصَ عمل للعمانيين، وبلادنا منذ عهدها المُتجدد توقِّع بصورة مستمرة على عدة مشاريع مليارية، وآخرها التوقيع على اتفاقيتين للهيدروجين في محافظة ظفار بقيمة 11 مليار دولار أمريكي".

هنا.. نرى أنَّ فكرة التصفير من المنظور اللامركزي وبآلياته البرجماتية سالفة الذكر تستحق الدراسة، ومن ثمَّ التطبيق؛ ففيها غاية وطنية وهي حل قضية الباحثين التراكمية نهائيًّا، والتفكير في مستقبل المخرجات السنوية من منظور ما سينتج عن المشاريع الجديدة من فرص عمل، وإذا ما تمَّ تطبيق مقترح سعادة وكيل وزارة العمل للعمل بنقل اختصاص التوظيف إلى القطاعات، فإنني أقترح هنا تشكيل لجنة عُليا لتخطيط الموارد البشرية العُمانية والإشراف على القطاعات واحتياجات الاقتصاد الجديد من الكفاءات التقنية والتكنولوجية التي يجري الآن تسابقٌ إقليميٌّ عليها.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

اللغة التي تفشل

تكتمل الكارثة بالعجز اللغوي عن وصفها. لم نعد قادرين على القول؛ لأن القول لم يعد قادرًا على ممارسة أفعاله، ولأن القول العاري من الإرادة موعود بخيانة نفسه. سولماز شريف، الشاعرة الأمريكية الإيرانية الأصل كانت قد كتبت ذات مرة:

«كل قصيدة فعل.

كل فعل عمل سياسي.

ولذا فكل القصائد سياسية». (اقرأ مقالتها «الخصائص شبه المشتركة بين السياسي والشعري: المحو» بترجمة مزنة الرحبية، على مجلة الفلق الإلكترونية).

تذكرنا شريف، فيما ننسى، بأن تسييس القصيدة ليس مسألة اختيار، بل هو شرط شعري مسبوق بشرط أول: أن تكون القصيدة فعلاً. فعل القصيدة شرط شعري لا حياد عنه. على القصيدة أن تفعل فعلها السياسي، «أن تدقَّ جدار الخزان» بتعبير غسان كنفاني كي تتحقق شعريًا. وبهذا المعنى تضع سولماز شريف شعرنا المكتوب في خضم الكارثة أمام تحدٍ وجودي يعيدنا للبحث في أزمة سابقة تتعلق بالدولة والحرية، وبالفضاء السياسي للغة عمومًا: كيف نكتب شعرًا «فاعلًا» بلغة معقَّمة معطَّلة سياسيًا من الأساس؟ فإذا كانت الخطب المنبرية الصريحة تفشل فشلها الذريع في الفعل، فكيف لإيماء الشعر أن يفعل بهذه اللغة المقهورة سياسيًا؟! يدهشني أن أقرأ عن غزيين يحاولون تعلم اللغة الإنجليزية كلغة طوارئ يترجمون بها معاناتهم للعالم. ولعل هذا الشاهد هو الأبلغ على فشل هذه اللغة، العربية، وعلى عطالتها السياسية، اللغة التي لم تعد تسعف، ولم تعد تلبي مهمة التواصل والوصول.

«قهر اللغة» هو الفصلُ الأقسى من فصول هذه الإبادة المفتوحة، حين تنتحر الكلمات على حدود السياج الخفي، الفاصل الواصل بين اللفظ ودقة المعنى. اللغة المقهورة التي ظلت عاجزة عن الفعل السياسي نكتشف اليوم، في امتحانها الأصعب، أنها مصابة بالعجز حتى أن الإيفاء بوظيفتها الأخيرة «التعبير». ولكن من منَّا الآن على استعداد ليقرَّ بعجز لغته عن التعبير، فضلاً عن الإتيان بجديد في هذا المناخ من الاستعصاء المرير، استعصاء ما بعد الصدمة؟!

سؤال الإبداع في الإبادة هو أيضًا سؤال إشكالي من ناحية أخلاقية وفلسفية في الآن نفسه: كيف لنا، قبل أي شيء، أن نبحث في الإبادة عن معنى؟ معنى جديد؟ كيف نطالب بإبداع من وحي الإبادة دون أن نجد في هذا المطلب تناقضًا فلسفيًا من قبل أن يكون أخلاقًيا؟ أوليس في هذا التسول البائس تواطؤًا يجعل من الكتابة «الجمالية» عن الإبادة تطبيعًا لها، أو توكيدًا ضمنيًا لما تسعى لاستنكاره؟ ربما تصبح مقولة أدورنو الشهيرة عن استحالة كتابة الشعر بعد «أوشفيتز» ضرورية في هذا السياق، حتى وإن بدت لنا مكابرة الكتابة في هذا الظرف، رغم قهر اللغة، مكابرةً أخلاقيةً مشروعة، بذريعة أن بديلها المطروح ليس سوى الصمت، الصمت عن الجريمة.

ما الذي يمكن فعله بهذه اللغة التي تفشل؟ على مدى عامين تقريبًا وأنا أراقب لغتي بخوف وحذر. الإبادة المستمرة هناك تمتحن لغتي هنا كما لم أعرف من قبل امتحانًا في اللغة. كيف يكتب اليوم من لم يهيئ نفسه وأدواته من قبل لاستقبال العالم بهذه الصورة؟ ثمة وحشية فاجرة، أكبر من طاقة اللغة على الاستيعاب. عنف يحشرني في زاوية ضيقة من المعجم، وهو ما يجبرني على تعلم أساليب جديدة في المراوغة والتملص للنجاة من هذا الحصار، حصار السكوت الذي لا يقترح إلا الكلام الجاهز.

أستطيع أن أحدد يوم السابع من أكتوبر 2023 تاريخًا لبداية مرحلة جديدة من لغتي. صرتُ كثير التَّفكر في اللغة باعتبارها موضوعًا موازيًا للعالم. بات عليَّ أن أُعقلن لغتي أكثر، أن أرشِّدها، وأن أتحداها في الوقت نفسه. يظهر هذا في تلعثمي وتعثري بالألفاظ كلما حاولتُ الكتابة أو الحديث عن الإبادة التي لم أعد أستطيع التعبير عنها بأي شكل من الأشكال دون الدخول في صراع مع اللغة وإمكانياتها. حتى وأنا أكتب كلمة «إبادة» الآن أصطدم بفراغ عدمي بعد الكلمة، وأدخل في متاه مفتوح لا يؤدي إلى أي شيء، عدم يحيل هذه الكلمة إلى مجرد لفظة إجرائية فقدت حوافها وحدودها من فرط الاستهلاك اليومي.

تختبر الحرب قدرة الشعر والفكر على امتصاص الصدمة واستقبال الفجيعة. حدث هذا جليًا في عقب الصدمة التي ولَّدتها النكسة سنة 1967، سنة الانقلابات الشخصية والتحولات الكبرى في صفوف الشعراء والمثقفين العرب. وهو ما يحدث اليوم وعلى مدى أشهر في صورة أكثر بطئًا وتماديًا. والحرب تأتي لتفحص جهوزية اللغة ولتعيد تشكيلها في نهاية المطاف. إنها تعبثُ بالعلاقة بين الدال والمدلول، وتبعثر الاستعارات القديمة لتأتي باستعاراتها الجديدة، وتفرض مع الوقت معجمها الموحَّد الذي توزعه على الجميع. كما تفتحُ الحرب الباب للشعراء الهواة لتقديم استقالاتهم والانصراف البيوت (لا شاعر للمهمات الصعبة اليوم)، وإن كانت في الوقت نفسه توفر مناخًا انتهازيًا لهذه الفئة من الشعراء المتسلقين على المراثي وأحصنة الحماسة.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

مقالات مشابهة

  • لتأهيل منازل الريف.. محافظ بني سويف يبحث انطلاق أعمال مبادرة سكن كريم
  • تنمية المشروعات ينفذ خطة طموحة لمضاعفة تمويل الشباب بالإسكندرية
  • الصحة: 14 حالة وفاة جديدة بغزة بسبب المجاعة وسوء التغذية يرفع العدد لـ147
  • بيان أمني من كوردستان: الطائرة التي سقطت في اربيل مفخخة ولا إصابات
  • صدور العدد الجديد من مجلة نزوى بملفات متنوعة وقضايا راهنة
  • استغل الباحثين عن عمل وسلب أموالهم.. الشرطة الهندية توقف رجلاً لانتحاله صفة “سفير” لعدد من الدول
  • خبراء وكتّاب لـ"الرؤية": غياب الحلول الجريئة يفاقم أزمة الباحثين عن عمل.. والشركات الكبرى تتصدر مشهد التسريح وتهميش الكفاءات العُمانية
  • كتّاب لـ"الرؤية": غياب الحلول الجريئة يفاقم أزمة الباحثين عن عمل.. والشركات الكبرى تتصدر مشهد التسريح وتهميش الكفاءات العُمانية
  • اللغة التي تفشل
  • قضية الباحثين عن عمل والحلول الفاشلة