أفريقيا والقوى العظمى: انقلابات وطرائف سوريالية

لا العرب ولا الأفارقة أوّل مَنْ أدرك الترابط الوثيق بين الشرق الأوسط وأفريقيا، بل كانت القوى الإمبريالية الأوروبية هي السبّاقة إلى ذلك الإدراك الحاسم.

تقاسم النفوذ الراهن بين واشنطن وموسكو سياسيا واقتصاديا واستثماريا وعسكريا وأمنيا؛ تغيب عنه حصص فرنسا، ذات الماضي الكولونيالي العريق في القارّة.

اشتغلت القوى الاستعمارية الأوروبية على توظيف ديناميات الترابط بين الشرق الأوسط وأفريقيا، ولم تجد مشكلة في المزاوجة بين الانقلابات والطرائف السوريالية!

تتوارى أنساق النفوذ الصيني، وإنْ كانت تحضر فعلياً على الأرض وفي قلب المنافسات الاستثمارية الضارية، رغم الغياب الشكلي عن الحصص الظاهرة على الخريطة.

لم تكد تختتم قمة سانت بطرسبرغ حتى هبّ جنرالات النيجر وأطاحوا برئاسة المدني المنتخب محمد بازوم، وسجلوا سابع انقلاب في القارة خلال أقلّ من 3 سنوات.

لم يفوّت بريغوجين فرصة مديح جنرالات النيجر الانقلابيين، وفي الآن ذاته الإعراب عن مزيد من مظاهر الولاء لعرّابه سيّد الكرملين، كأنه لم يأمر بالزحف نحو موسكو قبل أسابيع.

* * *

في وسع امرئ أن يبدأ من إحصائيات بسيطة، لكنّ دلالاتها وافرة ومتعددة الجوانب: القمة الروسية – الأفريقية التي احتضنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بطرسبورغ مؤخراً، اجتذبت 21 رئيساً أفريقياً، مقابل 45 في قمةّ مماثلة انعقدت سنة 2019؛ وفي المقابل، نجح الرئيس الأمريكي جو بايدن في جمع 50 من ضيوفه الأفارقة، خلال قمة التأمت أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي.

هذه خريطة تعكس تقاسم النفوذ الراهن بين واشنطن وموسكو، على أصعدة سياسية واقتصادية واستثمارية وعسكرية وأمنية؛ تغيب عنها حصص فرنسا، ذات الماضي الكولونيالي العريق في القارّة، وصاحبة العدد الأكبر من أشكال التدخّل في شؤون البلدان الأفريقية.

كذلك تتوارى أنساق النفوذ الصيني، وإنْ كانت تحضر فعلياً على الأرض وفي قلب المنافسات الاستثمارية الضارية، رغم الغياب الشكلي عن الحصص الظاهرة على الخريطة.

في جانب آخر، لم يكن من دون مغزى خاصّ أنّ قمة سانت بطرسبرغ لم تكد تختتم جلساتها حتى هبّ جنرالات النيجر وأطاحوا برئاسة المدني المنتخب محمد بازوم، وسجلوا بذلك الانقلاب السابع في القارة خلال أقلّ من 3 سنوات؛ فحذوا في النهج الانقلابي حذو رفاقهم في السلاح، جنرالات مالي وبوركينا فاسو وغينيا وتشاد والسودان؛ وكانوا على نحو أو آخر يقتفون أثر الرئيس التونسي قيس سعيّد، أستاذ القانون الذي بزّ غالبية العسكر الانقلابيين في القارّة.

طريف، في مغزى ثالث، أنّ المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا («إيكواس») سارعت إلى إطلاق وساطة بين رئيس البلاد والمجلس العسكري الانقلابي في النيجر، ولكن اختيارها وقع على محمد إدريس ديبي، الرئيس الانتقالي التشادي الذي كان هو نفسه قد انتزع السلطة عبر انقلاب؛ ولم يكن عجيباً بالطبع، بقدر ما كان سوريلياً، أن يدعو الانقلابي إلى… إعادة الحياة الديمقراطية والدستورية في النيجر!

طرفة أخرى، لا تغيب عنها خلائط سوريالية من طراز هو الأشدّ ابتذالاً في علاقات القوى العظمى بالقارة الأفريقية، تمثلت في أنّ يفغيني بريغوجين، قائد ميليشيات «فاغنرّ»، كان أحد نجوم قمة سانت بطرسبرغ الروسية – الأفريقية؛ في غمرة تهليل وترحيب من جانب بعض انقلابيي القارّة، ممّن يتطلعون إلى خدمات مرتزقته، طال الزمان أم قصر.

وهكذا لم يفوّت بريغوجين فرصة مديح جنرالات النيجر الانقلابيين، وفي الآن ذاته الإعراب عن مزيد من مظاهر الولاء لعرّابه سيّد الكرملين، وكأنه لم يكن الآمر بالزحف نحو موسكو قبل أسابيع معدودات.

أمّا التواجد الأمريكي في القارّة، العسكري منه على وجه التحديد، فإنه بدأ ويتواصل كإرث مستدام لشراكة واشنطن مع الحلف الأطلسي في تشكيل القيادة الأمريكية الأوروبية، EUCOM؛ وشقيقتها القيادة الأمريكية الأفريقية (أفريكوم)، ولا يغيب هنا المعنى الخاصّ خلف اختيار مدينة شتوتغارت الألمانية مقرّاً لرئاسة أركان هذه القيادة الأخيرة، بالنظر إلى اعتذار 54 دولة أفريقية عن استقبالها، فالتنافس بين القوى العظمى محتدم على قدم وساق!

ولا عجب أن تجلي فرنسا رعاياها من النيجر، ولا ترى واشنطن أيّ سبب للقيام بالإجراء ذاته، متكئة على قاعدة عسكرية للطائرات المسيّرة، وإلى عديد من 1000 جندي أمريكي، واطمئنان إلى واردات الأورانيوم من النيجر.

وقد يصحّ هنا استذكار مواقف الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إزاء مفهوم أفريقيا، والتي انطوت على إدراك إشكاليات الموقع والانتماء، وظلت تتأرجح بين القطب الآسيوي (ثم العربي والإسلامي، استطراداً) الذي انخرطت فيه مصر والناصرية؛ والقطب الأفريقي، الذي اكتشفه ابن النيل وربيب الفلاحين والغيطان.

المفارقة أنه لا العرب ولا الأفارقة كانوا أوّل مَنْ أدرك طبيعة الترابط الجدلي والوثيق بين الشرق الأوسط وأفريقيا، بل كانت القوى الإمبريالية الأوروبية هي السبّاقة إلى ذلك الإدراك الحاسم؛ فاشتغلت على توظيف دينامياته المختلفة، ولم تجد مشكلة في المزاوجة بين الانقلابات و… الطرائف السوريالية!

*صبحي حديدي كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

المصدر | القدس العربي

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: أفريقيا فرنسا روسيا فاغنر إيكواس انقلابات بريغوجين أمريكا الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

الموارد:” أجير الحج” أصدرت 42 ألف تصريح مؤقت

البلاد _ جدة

استعرضت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية جهود خدمة “أجير الحج” في موسم حج 1446هـ، التي نفذتها الوزارة بالتنسيق مع الجهات الحكومية ذات العلاقة؛ بهدف تنظيم العمل الموسمي، وتمكين المنشآت من الاستفادة من الكوادر البشرية المؤهلة داخل المملكة.
وشهدت منصة “باب أجير” إقبالًا واسعًا من الباحثين عن فرص عمل موسمية ومنشآت القطاع الخاص، وأصدرت أكثر من (42) ألف تصريح عمل مؤقت، وتعاقدت من خلالها (3,234) منشأة في أكثر من (60) قطاعًا، واستقبلت المنصة أكثر من (40) ألف سيرة ذاتية، وتجاوز عدد المستفيدين من خدماتها (40) ألف مستفيد. تأتي هذه الجهود امتدادًا لأعمال الوزارة في تسهيل إجراءات التوظيف الموسمي، ورفع كفاءة التشغيل في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، من خلال توفير منصة رقمية، تتيح الربط المباشر بين الباحثين عن العمل وأصحاب الشواغر، بما يسهم في تحسين جودة الخدمات المقدمة لضيوف الرحمن. يذكر أن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية تسعى عبر “أجير” إلى تقديم حلول مرنة لأصحاب الأعمال، وتسهيل وصول المنشآت إلى القوى العاملة داخل السوق السعودي، ودعم مستهدفات رؤية المملكة 2030 في رفع مستوى كفاءة وإنتاجية القوى العاملة.

مقالات مشابهة

  • كوريا الشمالية: هجمات إسرائيل على إيران “جريمة لا تغتفر”
  • الجزيرة للدراسات يختتم مؤتمر التنافس بين القوى العظمى والشرق الأوسط
  • ذوي الهمم يحصدون 11 ميدالية في افتتاح الجائزة الدولية الكبرى لألعاب القوى
  • سفراء الدول الأفريقية الشقيقة في ضيافة الهيئة العربية للتصنيع
  • تقرير: أسواق الكربون حل زائف لأعباء القارة الأفريقية المناخية
  • الموارد:” أجير الحج” أصدرت 42 ألف تصريح مؤقت
  • شقّ الصين والدول الأفريقية يدا بيد الطريق نحو بناء نموذج التضامن والتعاون للجنوب العالمي
  • الصين والدول الأفريقية تشق الطريق يدًا بيد نحو بناء نموذج التضامن والتعاون للجنوب العالمي
  • مقتل 13 مسلحا في عمليات عسكرية لقوات النيجر بمواقع للتعدين
  • انطلاق دورة إعداد مدربي ألعاب القوى في حماة