عربي21:
2025-10-13@20:56:31 GMT

السياسة والعقيدة: بؤس الأيديولوجيا أم بؤس غيابها؟

تاريخ النشر: 5th, July 2024 GMT

* أفكر أحيانا في شكل المنحنى البياني الذي يمكن رسمه للأيديولوجيا في المنطقة العربية: لصعودها وأفول نجمها بمرور الزمن. كيف لك أن ترسم منحنى كهذا؟ لا أقصد شيئا معقدا على الإطلاق، أقصد رسما بيانيا كلاسيكيا من النوع الذي يتعرف عليه المرء أواخر المرحلة الابتدائية: محور عمودي يمثل حضور الفكر العقائدي بين الجماهير، ومحور أفقي يحاكي الزمن (منذ خروج الأتراك أوائل القرن الماضي، وحتى هذه اللحظة).

سيكون رسما مفيدا يختصر تغيرات هذه القوة ويكثّفها، خصوصا لمن يحبون "رسم" المفاهيم ولا يفهمون الظواهر قبل أن يروها محشورة بين محورين على ورقة بيانية.

* لن تكون النتيجة محل اختلاف كبير لمن يحاولون تخيلها، فالأرجح أن المنحنى المنشود سيكون شكلا مقعرا، عاليا على جنبيه وغائرا في الوسط. أي أنه يعبّر عن بداية قوية للفكر العقائدي، يتلوها ضعف وانحسار، ثم عودة -بعد ذلك- للقوة الأولى. آلاف الأحداث ومئات القضايا وعشرات العقود تنطوي الآن في قوسٍ بسيط ورسمٍ معبّر. بداية المنحنى تحاكي زمن المجد العقائدي والأفكار المؤدلجة الكبرى وتنافس الأحزاب الشهيرة بوقتها (بنكهة قومية-اشتراكية غالبة)، ثم تعقب ذلك سنين الخيبات الحادّة وانهيار المشاريع الكبرى (النكسة وكامب ديفيد والاضمحلال السوفييتي ثم غزو العراق وتدميره). لكن القعر الأقصى كان حتما في الربيع العربي، ليس فقط لفشل هذا الحدث والعدمية السياسية التي ولّدها عند كثيرين بتعثّره، بل بسبب ما رافقه من تنكيل نظري في الفكر العقائدي، وتعميم أدبيات التحول الديمقراطي والليبرالية السياسية (حتى بين إسلاميين كثر).

لقد عاد الفتى الأيديولوجي العاقّ بعد أن تاب و"تمشيخ"، ونفض عن نفسه غبارا كثيرا. ليس القصد عودة حركة بعينها أو تنظيم دون سواه، وإنما عودة الإيمان الواسع بالفكرة العقائدية وقدرتها على التغيير. الأمر ليس ميلادا معجزا من الفراغ ولا انبثاقا بدأ ببيان عسكري للقائد العام أعلن فيه انطلاق طوفان الأقصى. العقائدية الإسلامية (أو أي مسمى آخر لهذه الظاهرة) كانت اللاعب الأثبت -وإن لم تكن الأقوى- في الساحة العربية
* لكن لعل أهم ما في المنحنى هو آخِره، والذي يمكن تأريخه بالسابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حين انعكست الآية وعادت أسهم الأيديولوجيا لتصعد من جديد. ليس الأمر غريبا، فقد ثبت يومها -بالبرهان العسكري القاطع- أن الإسلام الأيديولوجي قادر على اجتراح اختراقات هائلة، عسكريا وسياسيا على السواء.

* لقد عاد الفتى الأيديولوجي العاقّ بعد أن تاب و"تمشيخ"، ونفض عن نفسه غبارا كثيرا. ليس القصد عودة حركة بعينها أو تنظيم دون سواه، وإنما عودة الإيمان الواسع بالفكرة العقائدية وقدرتها على التغيير. الأمر ليس ميلادا معجزا من الفراغ ولا انبثاقا بدأ ببيان عسكري للقائد العام أعلن فيه انطلاق طوفان الأقصى. العقائدية الإسلامية (أو أي مسمى آخر لهذه الظاهرة) كانت اللاعب الأثبت -وإن لم تكن الأقوى- في الساحة العربية منذ نشوء هذه الساحة، ولولا حضورها ولولا نَفَسها الطويل لما كانت هذه المعركة ممكنة من الأساس. ما صنعه الطوفان هو تصعيد كمّي هائل لقوةٍ كانت تعتمل دوما على الأرض.

* كيفما قلّبت هذا الموضوع، فإن "إسرائيل" في قلبه. أحد المهتمين الأمريكيين بالشأن العقائدي والفكر السياسي (يدعى إريك هوفر) كتب مرة أن الأيديولوجيا لا تحتاج إلها تعبده؛ بقدر ما تحتاج شيطانا تحشد الناس لحربه. من زاوية كهذه، فإن "الشيطان" الذي كانته الدولة اليهودية فريد من نوعه وجليل في قيمته. 74 عاما و"إسرائيل" ترسم -مباشرة وبالمواربة- ملامح النظام الرسمي العربي، وتفرض سقفا علميا وصناعيا على محيطها باستخدام ذراعها العسكرية الطويلة. ورغم هذا كله، بل ربما تحديدا بسببه، فإن "إسرائيل" غربلت -من حيث لم تقصد- كل من تجرؤوا على مواجهتها، سياسيا وعسكريا وفكريا. أمام قوتها العسكرية الماحقة ونفوذها الدولي الهائل، تمايزت صفوف المتقدّمين لقتالها، وتطورت مقارباتهم في محاولة مستمرة لردم فارق القوة أمام كيان هو الغرب الاستعماري بأكمله مركّزا في دولة واحدة. وها نحن اليوم أمام ما وصلته عملية الغربلة هذه، حيث حركات المقاومة الإسلامية تتصدر الصفوف.

* يخطر ببالي تصوير متفلّت لكنه حريٌّ بأن يقال: إن ما جرى في مواجهة "إسرائيل" منذ القرن الماضي وحتى اليوم هو تطور دارويني لصراع العقائد -واللاعقائد- في المنطقة العربية؛ تطورٌ أفضى بالنهاية لانتخابٍ تاريخي وطبيعي لأقدر الأفكار على الصمود والاستمرار: الفكرة الإسلامية. أدرك طبعا أن قراءة الإسلام داروينيا تحمل قدرا من الرعونة وأنها ستكون محط استهجان عند إسلاميين ودراوينيين على السواء، لكن الفكرة الكامنة في كل هذا تبقى جديرة بالاعتبار.

* ما يدركه كثيرون اليوم هو أن مواجهة عربية جادّة لهذا الوحش العسكري يستلزم مزيجا صعبا من الإيمان الغيبي المطلق والتنظيم "الدنيوي" الصارم الذي لا يحتمل الخطأ. قيمة العنصر الغيبي تتعلق بشيء دنيوي بحت: أنه يتجاوز السد الذي ترسمه العقلانية في مواجهة خصم كهذا، وتسمح بالقفز فوق فارقِ قوةٍ يستحيل عبوره بحسبة الأرقام والوقائع. ما منشأ الشلل والموات السياسي قبل طوفان الأقصى إلا هذا الركوع أمام الاستحالة العقلانية لمواجهة إسرائيل؟

* على هامش المشهد العام، تجد مفارقات تفيض بالرمز وتستحق التأمل. وعموما، فأزمنة التحولات الكبرى هي جنة المفارقات ونبعٌ دفّاقٌ لها. قبل أشهر، دعا المفكر الأمريكي نورمان فنكلشتاين أن يُمنح "الحوثيون" جائزة نوبل للسلام، والدافع طبعا هو الحصار البحري الذي فرضه أنصار الله دعما لقطاع غزة. من كان يتخيل شيئا كهذا: أن يدعو باحث أمريكي يهودي مرموق لمنح أرفع جائزة سلام دولية لرجل من صعدة يقود حركة شعارُها: "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"؟ أمضى الليبراليون العرب ردحا طويلا وهم يهندسون خطابهم على مقاس الحساسيات الغربية، وحاضروا فينا طويلا حول فشلنا العربي في مخاطبة الغرب باللغة التي يفهمها (رغم أنهم أكثر من تسيّد صياغة هذا الخطاب). وفجأة، ينكشف العكس تماما؛ أن محاولة استمالة الآخر لا تستميل الآخر، وأن تسوّل ودّ الغربيين لا يأتي بودّهم. ها هُم من يهتفون بالموت لأمريكا ولا يأبهون كثيرا بالحساسيات ويتحركون بوحي إيمانهم العقَدي، ها هُم يَنفذون في الوعي الأمريكي مسافة لم يقدر عليها ليبرالي من قبلهم. هذه صنائع الأيديولوجيا و"خطابها المتخشب".

لا يبدو أن التاريخانية بالبؤس الذي وصفه السيد بوبر، بل لربما يكون العكس تماما ما نشهده الآن، حيث سادة المشهد هم المؤدلجون العقائديون، المؤمنون بالسُّنَّة التاريخية الثابتة، والقانون الراسخ الذي تدور عقارب الزمان على وقعه
* قبل قيام دولة الكيان بأربع سنوات، صدر كتاب بعنوان "بؤس التاريخانية"، كتبه عدو الفكر المؤدلج، كارل بوبر. الكتاب لا يهاجم الأيديولوجيا لكنّه يهاجم فكرة لصيقة بها: فكرة السنن الكونية المتواترة التي تحكم التاريخ، وفكرة القوانين الراسخة التي تدور عقارب الأحداث على وقعها. هذه هي التاريخانية التي لا ينقدها كارل بوبر وحسب، بل يكاد يبدي تقززا وجدانيا منها. هذا كتاب ليبرالي بامتياز، لا قياسا على هوى كاتبه وانحيازاته، وإنما قياسا على مزاج الأفكار الواردة فيه. مزاج كهذا يصحّ أن يسمّى بالمزاج "الذرّي"، فهو يريد تقسيم القضايا لوحدات صغرى، ليدرس كل وِحدة على انفراد، ولذلك فهو يتحسس من أي نظرة شاملة للعالم والتاريخ. ماذا يحصل عندما يتسرب تفكير كهذا لمنطقتنا ووعينا ويتجاوز إطاره الأكاديمي ليصبح مزاجا سياسيا عاما؟ النتيجة واضحة لأنها ماثلة أمامنا منذ سنين: تذرير المشهد العربي، ورفض وجود قضية مركزية، ورفع شعار "بلدي أولا"، والتأكيد المتصاعد على الفردانية وأهمية تحقيق الذات، والتسفيه المستمر بفكرة التضحية في سبيل أفكار كبرى تتجاوز الإنسان تحت ذريعة القول بأنه "ما من قضية أهم من الإنسان". اليوم، بعد سبع عقود على صدور هذا الكتاب (ونشوء هذا الكيان) لا يبدو أن التاريخانية بالبؤس الذي وصفه السيد بوبر، بل لربما يكون العكس تماما ما نشهده الآن، حيث سادة المشهد هم المؤدلجون العقائديون، المؤمنون بالسُّنَّة التاريخية الثابتة، والقانون الراسخ الذي تدور عقارب الزمان على وقعه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأيديولوجيا الإيمان إسرائيل التاريخ إسرائيل التاريخ أيديولوجيا الإيمان طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

بين سلاح حماس وخطة ترامب| القاهرة تُمسك بخيوط السلام في غزة وتوازن بين السياسة والإنسانية

في لحظة تداخل فيها صوت المفاوضات مع أصداء الحرب، تعود غزة مجدداً إلى واجهة الحدث العالمي.

فبين أنقاض المنازل وصرخات الأطفال، وبين قاعات التفاوض المغلقة، يتبلور اتفاق جديد لوقف إطلاق النار، تحاول من خلاله واشنطن أن تعيد إحياء مسار السلام، فيما تواصل القاهرة حمل مسؤوليتها التاريخية كحائط صد إنساني وسياسي في آنٍ واحد.

وبينما لا تزال معضلة سلاح حركة حماس تثير الجدل داخل الغرف المغلقة، بدأت تتكشف ملامح الخطة الأمريكية التي تتضمن نشر قوة استقرار دولية في القطاع، بمشاركة عربية وإسلامية واسعة، في محاولة لتحقيق توازن دقيق بين الأمن والسيادة والمصالحة الوطنية الفلسطينية.

أسلحة حماس الثقيلة.. عُقدة المفاوضات الكبرى

لا يزال ملف تفكيك سلاح حماس الثقيل أحد أكثر القضايا حساسية في مفاوضات وقف إطلاق النار.

مصادر أميركية نقلت لموقع "أكسيوس" أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يأمل أن يؤدي الاتفاق الجاري بشأن غزة إلى استئناف عملية السلام في الشرق الأوسط، مشيرةً إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد خطوات عملية لتطبيق "خطة أمنية جديدة" تبدأ بنشر قوة استقرار دولية قبل أي حديث عن تفكيك السلاح.

ووفقاً للتفاصيل التي كشفتها تلك المصادر، فإن تفكيك أسلحة حماس الثقيلة لن يتم فوراً، بل سيكون المرحلة الأخيرة بعد استكمال انتشار القوة الدولية التي ستضم عناصر من الولايات المتحدة ودول عربية وإسلامية.

قوة المراقبة.. أميركية عربية تركية

تتضمن الخطة تشكيل لجنة لمراقبة وقف إطلاق النار، قوامها ضباط من الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا والإمارات العربية المتحدة، لضمان التنفيذ الفعلي لبنود الاتفاق.

وذكرت المصادر، أن حوالي 200 جندي وضابط أمريكي سيشاركون ضمن قوة المهام الدولية، وإن كانوا لن ينتشروا ميدانياً داخل غزة نفسها، وإنما سيعملون من مراكز مراقبة قريبة من الحدود.

والتقى أمس الجمعة كل من ستيف ويتكوف، المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط، وجاريد كوشنر، مستشار الرئيس ترامب، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، وناقشوا آلية مراقبة وقف النار وخطط انتشار القوة الدولية داخل القطاع.

نقل القوات وانسحاب تدريجي

تشير الخطة الأمريكية ، إلى أن الجيش الإسرائيلي سينسحب تدريجياً من المناطق التي يحتلها في غزة، ليحل مكانه عناصر من الدول العربية والإسلامية المشاركة في القوة الجديدة.

العملية قد تستغرق عدة أشهر، وستتبعها مراحل متتالية تشمل تفكيك المنشآت العسكرية التابعة لحماس، ثم إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والإفراج عن السجناء الفلسطينيين، بما يضمن توازناً رمزياً وإنسانياً بين الجانبين.

ويؤكد مسؤولون أمريكيون أن هذه المراحل ستكون مترابطة زمنياً وسياسياً، بمعنى أن أي تأخير أو خرق في بند من البنود قد يؤدي إلى تجميد الاتفاق بأكمله.
وهو ما يجعل الدور المصري محورياً في ضمان استمرارية التفاهمات، لما تملكه القاهرة من ثقة متبادلة مع كل الأطراف المعنية.

حماس.. السلاح شرعي ومحل تفاوض داخلي

على الجانب الفلسطيني، لا يبدو أن ملف سلاح حماس سيمر بسهولة.

فقد أعلن المتحدث باسم الحركة حازم قاسم ، أن سلاح المقاومة سيُناقش داخل الإطار الوطني الفلسطيني وليس على طاولة المفاوضات الدولية، مؤكداً أن "سلاح حماس شرعي للدفاع عن الشعب الفلسطيني"، وأن الحركة تتحمل "مسؤولية وطنية لإيجاد صيغة توافقية تحافظ على حق الدفاع وتضمن وحدة القرار الفلسطيني".

هذا التصريح يعكس رغبة حماس في تحييد ملف السلاح عن الضغوط الخارجية، وربطه بالحوارات الداخلية التي ستجري قريباً في القاهرة، في إطار ما يُتوقع أن يكون أوسع حوار وطني فلسطيني منذ سنوات.

القاهرة على موعد جديد مع التاريخحوار وطني شامل في العاصمة المصرية

من المقرر أن تستضيف القاهرة خلال الأيام المقبلة مؤتمراً وطنياً فلسطينياً شاملاً، لبحث مستقبل قطاع غزة بعد توقيع اتفاق وقف النار.

المؤتمر الذي ستدعو إليه مصر، بدعم من الولايات المتحدة وقطر وتركيا، سيبحث عدة ملفات حساسة، في مقدمتها آليات إعادة الإعمار، وخطة الانسحاب الإسرائيلي، وملف سلاح الفصائل الفلسطينية.

ويقول الدكتور أحمد رفيق عوض، رئيس مركز القدس للدراسات، إن مؤتمر القاهرة سيشكل اختباراً حقيقياً لقدرة الفلسطينيين على صياغة رؤية موحدة لمستقبل غزة، مؤكداً أن نجاحه مرتبط بمدى استعداد الفصائل للتنازل المتبادل و"ترسيخ مبدأ الدولة الفلسطينية الجامعة بدلاً من سلطة الفصائل".

شرم الشيخ.. بوابة الاتفاق الأميركي إلى غزة

قبل هذا المؤتمر المنتظر، كانت مدينة شرم الشيخ قد شهدت على مدار الأيام الماضية مفاوضات مكثفة وغير مباشرة بين إسرائيل وحماس، برعاية مصرية قطرية أميركية، وبمشاركة تركية، أسفرت عن الإعلان مساء الأربعاء الماضي عن المرحلة الأولى من الخطة الأميركية لوقف الحرب.

ويقول مراقبون إن نجاح المفاوضات في شرم الشيخ لم يكن وليد المصادفة، بل نتيجة تحرك دبلوماسي مصري منسّق مع واشنطن وتل أبيب والعواصم العربية، هدفه الأول وقف نزيف الدم في غزة وتهيئة المناخ لمحادثات سياسية أوسع.

القاهرة تُوازن بين الأمن والسياسة والإنسانقوافل المساعدات.. عنوان الدبلوماسية الإنسانية

في الوقت الذي كانت فيه القاعات تغص بالمفاوضين، كانت شاحنات المساعدات المصرية تشق طريقها نحو غزة.

فقد تحركت قافلة المساعدات الإنسانية رقم 48، حاملة آلاف الأطنان من المواد الغذائية والإغاثية والطبية، في مشهد يعكس تصميم مصر على ألا تنفصل السياسة عن الإنسان.

وأكدت قناة "القاهرة الإخبارية" أن هذه القوافل المتكررة أصبحت رمزاً لنهج مصري متواصل يرى في دعم غزة واجباً قومياً وإنسانياً لا ينفصل عن الأمن القومي ذاته.

الأمم المتحدة.. ننتظر الضوء الأخضر

وفي السياق ذاته، أكدت الأمم المتحدة أنها تملك نحو 170 ألف طن متري من المساعدات الإنسانية الجاهزة للدخول إلى غزة، لكنها تنتظر الضوء الأخضر من إسرائيل للسماح بإدخالها.
وقال توم فليتشر، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، إن ما تم إدخاله خلال الأشهر الماضية لم يتجاوز 20% من الاحتياجات الفعلية، محذراً من كارثة إنسانية إذا لم تتسارع الإجراءات.

إسرائيل توافق على إطار اتفاق.. ومصر تضمن التنفيذ

أعلنت الحكومة الإسرائيلية موافقتها على إطار اتفاق يشمل وقف العمليات العسكرية وإطلاق سراح جميع الرهائن المحتجزين في غزة، سواء أحياء أو موتى، تمهيداً لبدء تنفيذ وقف إطلاق النار الكامل.
ونقلت القناة الإسرائيلية "12" أن الاتفاق لقي ترحيباً من الأمم المتحدة وعدد من القوى الإقليمية، وعلى رأسها مصر التي لعبت الدور الحاسم في صياغة التفاهمات وضمان تطبيقها.

اللواء محمد حمد: مصر صنعت التوازن بين الأمن والإنسانية

في تعليقه على الاتفاق والتحركات الجارية، قال الخبير الاستراتيجي اللواء محمد حمد إن مصر أثبتت مجدداً أنها الضامن الحقيقي للاستقرار في الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن القاهرة نجحت في الجمع بين الضغط السياسي والتدخل الإنساني في آنٍ واحد.

وأوضح اللواء حمد أن وقف إطلاق النار ليس مجرد نتيجة تفاوضية، بل هو ثمرة لعمل دبلوماسي مصري دؤوب بدأ منذ اليوم الأول للأزمة، لافتاً إلى أن "القاهرة تحركت في ثلاثة اتجاهات متوازية: أولها الوساطة السياسية، وثانيها التحرك الإنساني عبر القوافل المتواصلة، وثالثها التنسيق الأمني لمنع امتداد الصراع".

وأضاف أن مصر "لم تتعامل مع القضية من منظور إغاثي فقط، بل من زاوية استراتيجية، تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين الأطراف المتصارعة وتهيئة المناخ لاستئناف العملية السياسية الشاملة".

رسالة القاهرة: السلام لا يُفرض بالقوة

وشدد اللواء محمد حمد على أن موقف مصر كان واضحاً منذ البداية: لا يمكن لأي تسوية أن تنجح طالما تُركت غزة تحت الحصار والجوع.
وقال إن القاهرة كانت الطرف الوحيد القادر على التحدث إلى الجميع دون استثناء، بفضل علاقاتها المتوازنة مع واشنطن وتل أبيب والفصائل الفلسطينية.

وأضاف أن "التحرك المصري منح الاتفاق الجديد مصداقية حقيقية"، مشيراً إلى أن مصر لا تسعى إلى أضواء سياسية، بل إلى استعادة روح العدالة التي افتقدها الشرق الأوسط منذ عقود.

أبعاد إنسانية وأمنية للاتفاق

يرى اللواء محمد حمد أن نجاح وقف إطلاق النار، إذا التزم به الطرفان، سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة الإعمار، ويمهّد لعودة التنسيق الأمني الإقليمي في مواجهة الإرهاب والتطرف.
وقال إن مصر تدرك أن التهدئة الدائمة في غزة ليست هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق استقرار أوسع يشمل الحدود المصرية والفلسطينية والإسرائيلية، مما يجعل الاتفاق خطوة في طريق طويل نحو الأمن الشامل.

تحرك مصري يتجاوز حدود السياسة

يؤكد الخبير الاستراتيجي أن ما تقوم به مصر ليس مجرد وساطة، بل قيادة ميدانية حقيقية في العمل الإنساني، وأن القاهرة باتت الجهة الأكثر ثقة لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في تنسيق مرور المساعدات عبر معبر رفح.
كما لفت إلى أن تكرار إرسال القوافل المصرية يؤكد أن الدولة المصرية تنظر إلى معاناة غزة كـ"أزمة إنسانية تخص الأمة كلها"، وليست شأناً إقليمياً محدوداً.

الأمل يعود إلى غزة ببوابة مصر

من بين هدير الشاحنات المصرية التي تشق طريقها إلى غزة، وداخل غرف المفاوضات التي تتشابك فيها مصالح العالم، تبرز مصر كصوت العقل في زمن الانقسام، وكجسر يعبر فوق النيران نحو سلامٍ طال انتظاره.
فالهدنة الحالية ليست نهاية الحرب، لكنها بداية الأمل، ورسالة تؤكد أن السلام لا يُفرض بالقوة، بل يُصنع بالثقة، وبأيدٍ تعرف أن للإنسان قيمة تتجاوز كل الحسابات السياسية.

طباعة شارك حماس النار غزة ترامب الولايات المتحدة

مقالات مشابهة

  • قبل مواجهة إسرائيل.. جاتوزو: عودة السلام لغزة تبعث الأمل.. وتدريب إيطاليا حلم العمر
  • النظرة الاستعمارية.. من جوهر السياسة إلى توماس براك؟
  • معاريف: إسرائيل ترفض مشاركة تركيا بـالقوة الإقليمية التي ستدخل غزة
  • عضو الكنيست : ” حكومة نتنياهو الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل”
  • كاتب فرنسي: هكذا تؤثر الشعبوية على السياسة الخارجية
  • هاشم: الرسالة التي أرادت إسرائيل إيصالها وصلت
  • جيل تيك توك: نهاية الأيديولوجيا أم تحولها؟
  • ثمن الفوضى.. عندما تصبح السياسة الخارجية رهينة المزاج
  • بين سلاح حماس وخطة ترامب| القاهرة تُمسك بخيوط السلام في غزة وتوازن بين السياسة والإنسانية
  • من هو مروان البرغوثي؟ .. الزعيم الفلسطيني الذي ترفض إسرائيل الإفراج عنه