بعد العنصرية العرقية الغرب يغرق في العنصرية الثقافية.. كتاب جديد
تاريخ النشر: 15th, July 2024 GMT
الكتاب: في العنصرية الثقافية، نظريات ومؤامرات وآداب
المؤلف: عبدالكريم بدرخان
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
يدرس عبدالكريم بدرخان، الباحث في العلوم السياسية، في كتابه هذا إشكالية تحول العنصرية في العقود الأخيرة من العنصرية البيولوجية القائمة على افتراض وجود أعراق متمايزة، إلى العنصرية الثقافية القائمة على تقسيم البشر إلى ثقافات متمايزة، وهي عنصرية "تقوم على ركيزتين الأولى: تحديد صفات جوهرانية ثابتة لثقافة شعب أو جماعة معينة، والثانية هي تعميم هذه الصفات على جميع المنتسبين لتلك الثقافة بحكم الولادة، ليصبح بعد ذلك من السهل تفسير سلوكات الأفراد والشعوب ببضع صفات يفترض أنها ثابتة فيهم".
والأهم من رصد هذه الظاهرة، بحسب بدرخان، هو تبيان الجوانب غير العلمية في النظريات والأطروحات والخطابات العنصرية، بنقد فرضياتها الأساسية، وإظهار قصورها وانحيازها، ما يقتضي دراسة المرجعيات الفكرية التي تقوم عليها، التي قد تشمل المعتقدات الدينية، أو المرويات التاريخية، والنظريات السياسية المتشكلة في الحقبة الاستعمارية وفترة الحرب الباردة وما بعدها، وكذلك نظريات المؤامرة والمنتجات الأدبية، التي يرى بدرخان أنها راجت مع رواج فكرة الإسلاموفوبيا، خصوصا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
ن العنصرية، بشكل عام، كظاهرة اجتماعية قديمة قدم الجماعات البشرية، لكن الجانب الخطير منها عادة ما يكون من صنع النخب، سياسيين وزعماء قبائل وطوائف، ورجال دين وفلاسفة وأدباء، وهؤلاء هم من يضعون الأسس الفكرية والفلسفية والعلمية الزائفة للتمييز العنصري، ويستخدمونها لتحشيد الناس ضد بعضهم البعض.يشير بدرخان إلى أن ثمة ميل شائع لتصور وجود "جواهر" ثابتة للأفراد والجماعات، وكذلك لثقافتها، يمتلىء عادة بالأحكام التنميطية والمسبقة، وينزع إلى النظر إليها باعتبارها "الآخر" المختلف عن الذات، ويجعل منها خصوصا في حالات الصراع نقيضا للذات. وهنا يأتي دور النخب السياسية التي تستغل هذه التصورات وتوظفها تحت شعارات حماية الجماعة أو الشعب، أو الوطن أو الدين والتقاليد، وعبر إثارة المخاوف من "الآخر" سواء كان هذا الآخر حركات تحرر داخلية، أو جماعات أقلية أو مهاجرة، أو حتى دولا، لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية لهذه النخب لا مصالح الجماعات التي تتدعي تمثيلها.
ويلفت بدرخان إلى أن التفسيرات "الثقافوية" شاعت في العقود الثلاثة الأخيرة عند دراسة أوضاع الدول والشعوب وتفسير تقدمها أو تأخرها، والكثير من الظواهر السلبية والايجابية في مجتمعاتها، ويقول أنه من الضروري نقد هذه التفسيرات بسبب افتقارها إلى الشروط العلمية ولأنها خطيرة جدا. فهي من حيث لا علميتها تميل إلى الاستهتار بالتخصصات العلمية عندما تفسر مختلف الظواهر بالثقافة فقط، فهي تعزل الثقافة عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتشكل فيها، أما من حيث خطورتها فهي تحيل المسؤولية إلى خصائص ثابتة في ثقافة الشعب، وبالتالي تبرىء السلطات الحاكمة من مسؤوليتها عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية. فضلا عن خطورة سهولة استحضارها في الصراعات السياسية الداخلية والخارجية، وبها تتحول الصراعات السياسية إلى صراعات طائفية وقبلية وهوياتية.
نظريات زائفة
يقول بدرخان إن العنصرية، بشكل عام، كظاهرة اجتماعية قديمة قدم الجماعات البشرية، لكن الجانب الخطير منها عادة ما يكون من صنع النخب، سياسيين وزعماء قبائل وطوائف، ورجال دين وفلاسفة وأدباء، وهؤلاء هم من يضعون الأسس الفكرية والفلسفية والعلمية الزائفة للتمييز العنصري، ويستخدمونها لتحشيد الناس ضد بعضهم البعض.
ويضيف أن العنصرية البيولوجية المبنية على فكرة تفوق عرق ما على آخر مثلت أخطر مراحل العنصرية، وكانت المحرقة النازية من أكبر جرائمها. وفي الوقت الحالي "مع صعود سياسات الهوية في الديمقراطيات الغربية، تستخدم الأحزاب السياسية المهيمنة وتلك الساعية إلى السلطة، خطابا عنصريا ثقافيا ضد المهاجرين واللاجئين، وتحملهم مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية، من أجل كسب أصوات الطبقة العاملة، والفئات المتضررة من العولمة، بخطاب يركز على الكرامة والهوية الثقافية واستعادة الوطن المسروق".
يتألف الكتاب من سبعة فصول يقدم في الأول منها بدرخان تعريفا لمفهوم الثقافة، ومفهوم الثقافوية بوصفها رؤية وموقفا فكريا ومنهج تفسير، مع نقد لهذا المفهوم "لما فيه من اختزالية، ولما قد يترتب عليه من نتائج خطرة"، كما يقدم تعريفات لمصطلحات مثل الأحكام التنميطية والأحكام المسبقة، وتعريفا ب"الأخرنة" و"هي العملية التي نجعل فيها الآخر مختلفا وغريباعنا"، والمركزية الإثنية التي تقابلها النسبية الثقافية.
وفي الفصل الثاني يقدم بدرخان عرضا تاريخيا للعنصريات، بدءا من عنصريات ما قبل العرق، مثل التعصب القبلي والتمييز الطبقي، ثم اختراع مفهوم العرق في القرن الثامن عشر، وما بني عليه من دراسات كان يعتقد وقتها أنها علمية، وهي تعتبر اليوم من العلوم الزائفة، ثم عنصريات ما بعد العرق مثل المركزية الأوروبية، ومعاداة المهاجرين، والإسلاموفوبيا..، لينتقل بعد ذلك إلى تعريف مفهوم العنصرية الثقافية، وتحديد منهجها الذي "يمكّن من نقد النظريات السياسية، ونظريات المؤامرة، والأعمال الأدبية والخطابات الإعلامية، واستخراج المواقف والتوصيفات العنصرية منها".
إن العنصرية الثقافية العربية "تكرار لمقولات عنصرية قديمة وجديدة، ومنها الهجوم المتكرر على اللغة العربية ووصفها بالتخلف والجمود والاستبداد والذكورية والعنف، في مقابل اللغات الأوروبية التي تتميز بصفات معاكسة لذلك، ثم نقل تلك الصفات من اللغات إلى البشر".في فصل آخر يشرح بدرخان الفرق بين النظرية العلمية ونظرية المؤامرة، ودور الأخيرة في صعود التطرف، مستشهدا بكتابات تحريضية طرحتها شخصيات غربية مثل الصحافية أوريانا فالاتشي، التي تحدثت عن وجود مؤامرة بين المسلمين وبالتواطؤ مع السياسيين الأوروبيين، هدفها غزو أوروبا عن طريق الهجرة والإنجاب، ثم تعريبها وأسلمتها وإخضاع سكانها لأحكام أهل الذمة، لنتقل بعد ذلك إلى عرض أهم المقولات السياسية في خطاب الإسلاموفوبيا، ونقدها. كما يعرض بدرخان ل 14 رواية أدبية صدرت بين عامي 2003 ـ 2015 في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وأستراليا، كان لها تأثيرا في نظريات المؤامرة، وفي أيديولوجية اليمين المتطرف في فرنسا والولايات المتحدة، تناولت الإسلام والمسلمين في الغرب.
عنصرية مستوردة
يتوقف بدرخان أيضا عند بعض مظاهر العنصرية الثقافية في السياسة والثقافة العربيتين، رغم أنها ليست موضوع البحث كما يقول، بهدف تحقيق شيء من التوازن، ولأن بحثها يجعلنا "ندرك خطورة الظاهرة أكثر، فهي ليست في مكان بعيد، بل تعيش بيننا". ويوضح بدرخان أن التركيز على العنصرية الثقافية في الغرب له ما يبرره، ذلك أن التيارات الفكرية الحديثة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار هي من منتجات الثقافة والسياسة الغربيتين. ومن جهة أخرى فإن "عنصريتنا العرقية والثقافية مستوردتان من الغرب، ولا تعدوان كونهما تكرارا وتقليدا، وليستا عنصريتين أصيلتين". وعلى سبيل المثال فإن العنصرية الثقافية العربية "تكرار لمقولات عنصرية قديمة وجديدة، ومنها الهجوم المتكرر على اللغة العربية ووصفها بالتخلف والجمود والاستبداد والذكورية والعنف، في مقابل اللغات الأوروبية التي تتميز بصفات معاكسة لذلك، ثم نقل تلك الصفات من اللغات إلى البشر".
يلفت بدرخان أن الحكم على خطاب ما بأنه عنصري ثقافي ليس غاية في حد ذاته، فالأهم تبيان خطورة هذه العنصرية، إذ تستخدم في العالم العربي لتبرير الاستبداد، عندما تفسر أوضاع المجتمع والسياسة بالثقافة أو بخصائص ثقافية راسخة في الشعب، ولا تتحمل السلطات، بالتالي أي مسؤولية عن الأوضاع القائمة. وقد يستخدمها مثقفون للوقوف في وجه الحراكات الشعبية التحررية بحجة أن الشعب يفتقر إلى ثقافة الديمقراطية، وعليه أن يقبل بالاستبداد. وهو منطق مستخدم "بالتبيعية أو الاستعارة" بحسب بدرخان، أما أصله فجاء من تبرير السياسات الغربية الداعمة للاستبداد حيث دعمت الولايات المتحدة الأمريكية أنظمة فاشية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ضد إرادة شعوبها، في الوقت الذي كانت فيه تسمي نفسها "زعيمة العالم الحر".
وتكمن خطورة هذه العنصرية في عالمنا العربي في " تطييف النزاعات السياسية" بحسب بدرخان، عبر اختراع تقسير طائفي للتاريخ، "يصوره في صورة حرب دائمة بين فرقتين.. فيتحول النزاع السياسي ..إلى حرب دينية.. وإلى صراع أبدي لا ينتهي..". ويضيف إن هذه العنصرية الثقافية تستخدم كذلك في تبرير انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تتدعي الأنظمة السلطوية في العالم الثالث أن حقوق الإنسان منتج غربي، ومصممة للإنسان الغربي. وفي المقابل فإن الدول الغربية تستخدم هذه العنصرية لتبرير سياسات التمييز ضد المهاجرين، عند افتراض أن لثقافتهم صفات سلبية ثابتة، ما يقلل فرصهم في سوق العمل، مثلا، أو يجعلهم هدفا لجرائم الكراهية.
يرى بدرخان أن التعددية الثقافية هي الأصل، وأنها واقع المجتمعات الذي على الدول احترامه والاستفادة من غناه، فمعظم الثقافات مولّدة من ثقافات ولغات سابقة عليها، لذلك فإن ادعاء أصالة اللغة أو الثقافة وفصلها عما يحيط بها، وأحاط بها عبر التاريخ، من ثقافات ولغات أخرى هو محض خيال. ولذلك فإن "كل النظريات الثقافوية التي تستخدم لتفسير الأوضاع القائمة باعتبارها نتاجا طبيعيا لتلك اللغات أو الديانات أو الثقافات، وكذلك لتبرير سياسات التدخل والهيمنة والتمييز،هي نظريات غير علمية، يعوز أصحابها المعرفة بأصول اللغات والديانات والثقافات التي يرونها متفوقة في طبيعتها، فقد يرجع نصف ما فيها إلى اللغات والديانات والثقافات التي يرونها متخلفة في طبيعتها".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب عرض قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه العنصریة
إقرأ أيضاً:
بردة النبي لروي متحدة رحلة كتاب روائي في عقل إيران الثورة
في بانوراما الأدبيات والكتابات المعاصرة التي حاولت تفكيك ألغاز الثورة الإيرانية، يحضر كتاب "عباءة النبي: الدين والسياسة في إيران" للمؤرخ روي متحدة (صدر للمرة الأولى عام 1985) كعمل استثنائي يغوص في أعماق الروح الإيرانية ولا يكتفي بالتحليل السياسي كما تفعل أغلب الكتابات والأعمال البحثية التي تدرس إيران المعاصرة.
وبأسلوب روائي فريد، يقدم متحدة سيرة متخيلة لطالب علم شيعي يدعى "علي هاشمي". ومن خلال رحلته الشخصية، يرسم لوحة تاريخية وفكرية غنية لإيران، كاشفا عن الجذور الثقافية والدينية التي غذت ثورة عام 1979. وحظي الكتاب بإعجاب نقدي واسع، ووصف بأنه علامة فارقة نجحت في تقديم صورة إنسانية عميقة، بعيدا عن القوالب النمطية التي حصرت المشهد الإيراني في دائرة العنف والتعصب.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2“الدين المعرفي”.. هل تقودنا سهولة الذكاء الاصطناعي لفقدان قدراتنا الإبداعية؟list 2 of 2الإسلاموفوبيا القاتلة.. كيف يكتسب خطاب اليمين المتطرف الأوروبي وجها دمويا؟end of listروي برفيز متحدة (1940-2024) مؤرخ أميركي مرموق من أصل إيراني، وأحد أبرز المتخصصين في التاريخ الإسلامي والثقافة الإيرانية. تخرج في جامعة هارفارد وعمل أستاذا في جامعتي برنستون وهارفارد، حيث شغل منصب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط. وتميز بقدرته على السرد التاريخي بأسلوب أدبي شائق دون التخلي عن الدقة الأكاديمية.
السرد والحوزة والشعر الفارسيينسج متحدة كتابه عبر مستويات مترابطة تمزج ببراعة بين الشخصي والاجتماعي والوطني، ليقدم للقارئ فهما شاملا للمجتمع الإيراني، ويتميز عن الدراسات السياسية البحتة بكونه سردا حضاريا شاملا يربط الفكر بالتاريخ بالمجتمع، ويقدم إيران كلوحة فسيفسائية متعددة الأبعاد.
وتتمحور القصة حول "علي هاشمي" وهو شاب من مدينة قم ينتمي إلى سلالة النبي ﷺ (سيد) ينشأ في كنف عائلة متدينة ويتلقى تعليمه في الحوزة العلمية ليصبح "ملا". ويتابع القارئ مسار تكوينه الفكري والروحي، ويشاركه مشاعره المتضاربة بين الغضب والابتهاج، والشك والإيمان. وتهتز قناعاته حين يقرأ عن فظائع الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ثم يخوض تجربة "عرفانية" عميقة تقوده إلى رؤيا صوفية تتجلى فيها "الأنوار" في كل ما حوله، في إشارة إلى مكانة التصوف الخاصة في الثقافة الإيرانية رغم تحفظ المؤسسة الدينية الرسمية.
إعلانوتتقاطع رحلة هاشمي مع الاضطرابات السياسية، فيسجن لفترة وجيزة، حيث يلامس اليأس قبل أن يجدد إيمانه. ومع انتصار الثورة، يمتزج فخره برؤية راية الإسلام الخضراء بقلق وجودي حول مستقبل بلاده. وشخصية علي المركبة، التي تعيش التوتر بين التقوى والشك، والتقليد والحداثة، تصبح مرآة صافية تعكس تحولات المجتمع الإيراني في القرن العشرين.
ويفتح الكتاب نافذة واسعة على عالم الحوزات العلمية وطرق التعليم التقليدية في إيران. ويرسم المؤلف صورة حية لمدينة قم كمركز مقدس للتعليم الشيعي، حيث يتعلم هاشمي النحو والبلاغة والمنطق على أيدي الملالي التقليديين، في نظام تعليمي يشبه في جوهره مناهج أوروبا في القرون الوسطى. ويقدم الكتاب أمثلة على التقوى الشخصية لرجال الدين، مثل الشيخ مرعشي (أستاذ هاشمي) الذي كان يستيقظ قبل الفجر بساعتين ليكرر دعاء "استغفر الله" 300 مرة، مما يمنح القارئ لمحة عن الورع والانضباط في حياة الحوزة. كما يكشف الكتاب عن "منطقة رمادية" من التسامح، حيث تعايش الشك الفكري سرا مع الإيمان، وبقيت تيارات كالتصوف والتشيع الباطني بهدوء داخل مجتمع شديد المحافظة.
ويستكشف الكتاب دور التراث الفارسي، وخصوصا الشعر، باعتباره الموئل الوجداني للإيرانيين، ومجالهم للتعبير عن عشقهم للغموض والمجاز بعيدا عن رقابة السلطات. ويستشهد المؤلف بأبيات لكبار شعراء فارس مثل حافظ وسعدي وفردوسي، مما يضفي على السرد عمقا أدبيا. ويرى متحدة أن "حب الغموض" جوهر الثقافة الإيرانية، وهو ما يتجلى في قدرتهم على التعايش مع التناقضات، مثل الجمع بين الفخر بالتاريخ الفارسي القديم (كالبطل الأسطوري رستم) والهوية الإسلامية الشيعية.
الطريق إلى الثورةيستعرض الكتاب تاريخ إيران الحديث، وكيف أدى دخول التعليم الغربي في عهد الشاه إلى إيجاد ازدواجية ثقافية لدى الشباب الإيراني. ووجد هاشمي نفسه ممزقا بين عالمي الحوزة والجامعة العلمانية. ثم ينتقل السرد لتحليل المسار التاريخي لنشاط المؤسسة الدينية سياسيا. فبعد أن ظل العلماء على هامش السلطة، برز دورهم في محطات مفصلية كانتفاضة التبغ (عام 1891) والثورة الدستورية (عام 1906).
غير أن التحول الأكبر جاء مع سياسات التحديث القسرية لرضا شاه بهلوي وابنه، والتي استهدفت تقليص نفوذ المؤسسة الدينية وتفكيك "منطقة الغموض" التقليدية. وهذه السياسات، التي شملت إلغاء المحاكم الشرعية وفرض القوانين المدنية، أجبرت الكثيرين على اتخاذ موقف واضح. ونتيجة لتآكل شرعية نظام الشاه بسبب الاستبداد والتبعية للأجنبي، استعاد رجال الدين دورهم في قيادة المعارضة، ليصبحوا أقرب إلى هموم الناس من النخبة الحاكمة.
ويبرز الكتاب كيف استثمر الإمام الخميني هذا الغضب الشعبي، خاصة بعد قمع طلاب الحوزة في قم (عام 1963) ومنح الحصانة القضائية للأميركيين (عام 1964) ليطرح نظرية "ولاية الفقيه" كبديل سياسي إسلامي. ومع سقوط الشاه، اضطر الإيرانيون إلى الخروج من منطقة الالتباس الثقافي واتخاذ قرار حاسم، لتتحول العمائم من رمز للإرشاد الروحي إلى أداة للحكم السياسي. ورغم أن الثورة حققت شعارها بطرد الشاه، يختم متحدة كتابه بنبرة قلقة، مشيرا إلى أن التشدد الأيديولوجي الذي أعقب الثورة بات يهدد بتقويض إرث التسامح والتنوع الذي ميز الثقافة الإيرانية لقرون.
إعلان الفكر والاجتماع الإيرانيورغم أن القصة المحورية للكتاب تدور منتصف القرن العشرين، فإن المؤلف يربط أحداثها ومفاهيمها بجذور بعيدة في الماضي. فهو يستحضر مثلا شخصيات فكرية إسلامية كالفيلسوف ابن سينا (القرن الـ11) وصولا إلى شخصيات سياسية حديثة كالدكتور مصدق والمفكر علي شريعتي بالقرن العشرين، وذلك ليظهر امتداد خيط الفكر الإصلاحي والديني عبر العصور، معتبرا أن الثورة الإيرانية لم تكن حدثا منعزلا، بل جاءت تتويجا لتطور تاريخي طويل شمل اجتهادات فقهية وصراعات اجتماعية وتأثيرات استعمارية.
ويناقش الكتاب مثلا الإرث الذي تركه جمال الدين الأفغاني أواخر القرن الـ19 في الدعوة إلى نهضة إسلامية ضد الاستعمار، وتأثير حركة التنباك (احتجاج عام 1891) التي قادها المراجع ضد هيمنة الأجانب اقتصاديا. كما يعرج على الثورة الدستورية عام 1906 بوصفها أول محاولة لإقامة حكم حديث مع الحفاظ على دور للدين، والتي شهدت أيضا انقساما بين تيار علماء الدين المحافظين والتيار الحداثي. وتعطي هذه المحطات التاريخية وغيرها القارئَ الخلفية اللازمة لفهم شعارات الثورة عام 1979 ومطالبها.
كذلك يبرز متحدة الخلفية الاجتماعية لإيران قبل الثورة، فيصف التغيرات السكانية مثل الهجرة الواسعة من الأرياف إلى المدن خلال الستينيات والسبعينيات وما نجم عنها من تصاعد في التدين بين الطبقات الفقيرة كوسيلة للتكيف مع بيئة المدينة غير المألوفة. ويرى أن هذه الظروف الاجتماعية المتفجرة (من قبيل ملايين الشباب الريفي العاطل والمهمش بالمدن الكبرى كطهران) شكلت أرضا خصبة لرسالة الثورة الإسلامية التي وعدت بالعدالة الاجتماعية ورد الاعتبار للهوية الدينية. كما يتناول الكتاب تأثير السياسات الدولية، مثل دعم الولايات المتحدة لحكم الشاه والصراع الإقليمي مع العراق، في إذكاء المشاعر الثورية داخل إيران.
وعلى الصعيد الفكري، يظهر الكتاب تأثر متحدة بحقول معرفية متعددة، فهو مؤرخ ومتخصص في الفكر الإسلامي مما مكنه من قراءة الأحداث بمنظار يجمع بين التحليل الاجتماعي والتعمق الفكري. ويتضح للقارئ إلمام المؤلف بالفلسفة الإسلامية والتصوف والفقه الشيعي، إذ نجد شروحات مبسطة لأفكار مثل الاجتهاد (جهود الفقهاء في استنباط الأحكام) ودور المرجعية الدينية في حياة الشيعة.
ويشرح مثلا تطور نظام التقليد حيث يقلد عامة الناس مرجعيات عليا في الأحكام الشرعية، وكيف ساهم هذا النظام في تماسك المجتمع الشيعي لكنه أيضا جعل منه قوة قادرة على التحشيد السياسي حين يلجأ المراجع إلى إصدار الفتاوى السياسية.
كما يناقش الكتاب مسألة الثقافة المزدوجة في إيران: مزيج من عناصر إسلامية فارسية وأخرى حديثة غربية. ويحضر هنا مصطلح "المونتاج" الذي استخدمه بعض المثقفين لوصف هوية أهل طهران بوصفها مركبة من قطع مستوردة مختلفة، في إشارة إلى التأثيرات الغربية المتنوعة التي مزجها الإيرانيون بهويتهم.
ولاقى الكتاب استحسانا كبيرا من النقاد والقراء، واعتبر مساهمة فريدة في فهم إيران الحديثة. وأشادت به مجلة "فورين أفيرز" لقدرته على تقديم فهم عميق للثورة يفوق ما قدمته الدراسات السياسية التقليدية. كما وصفته مجلة "الدراسات الإيرانية" بأنه "دراسة رائدة في أدبيات الثورة" لما قدمه من تناول شامل للثقافة والتاريخ في قالب قصصي جذاب. وفي المقابل، وجهت للكتاب بعض الانتقادات، أبرزها من الباحث فريد هاليداي الذي رأى أن متحدة قدم صورة رومانسية عن إيران، متجنبا الخوض مثلا في تفاصيل القمع الذي تلا الثورة.