الاشمئزاز يعني أنّ الكائنات الحيّة الدقيقة في داخلك لديها حَدس تجاه الأشياء بالخارج

ستيفن بنكر، عالم نفس إدراكي

يعد القرف والاشمئزاز من المشاعر الطبيعية، ولكن لهما قدرة تفسيرية هائلة. تلك القشعريرة التي تداهمنا حين يصف لنا أحدٌ ما تناثر أحشاء رجل تعرّض للدهس، أو ملامحنا التي تتشنّج عندما يقوم شخص يداه متعرّقتان بتناول الطعام من أمامنا دون أن يغسل يديه، بينما من جهة أخرى نُصادف أصدقاء ومعارف من مختلف الفئات الذين لا يَرون أيّ مشكلة عند تناول طعام نعتبره مقزّزا، كل ذلك ليس أمرًا هيّنا أو دون معنى عند خبراء علم النفس.

نتحدث هنا عن سيكولوجيا القرف، وببعض التبسيط، يمكن القول: إن الأشخاص الذين لا يجدون مشكلة في أيّ شيء وقليلي الاشمئزاز هُم غالبًا فوضويون أو على الأقل منفتحون على تجارب عديدة، في الوقت الذي يبدو فيه أنّ ذوي النظام والترتيب المُفرِط غالبًا أشخاص حذرون يختارون كلّ شيء بعناية وحساسية وهم شديدو الاشمئزاز والانزعاج من أمور قد يحسبها البعض عادية. والحقيقة أن الأمر أعمق من هذا التبسيط. فما هو القرف؟

الشعور بالقرف درجات وغالبا لا يأتي وحده حيث تصاحبه مشاعر وعواطف أخرى (بيكسلز) القرف

إنّ الاشمئزاز من الديدان الموجودة على الّلحوم يمنعنا من تناول الطعام الفاسد واستدخال المرض إلى أجسامنا. تمامًا كما أنّ الاشمئزاز من معتقدات الآخرين يحمينا من التهديد الفكري والأخلاقي، فحين نشمئز ننفر ونمنع مرضهم الأخلاقي من تلويثنا روحيًا

– راشيل هيرز، عالمة النفس أميركية (كتاب: هذا مثير للاشمئزاز)

بشكلٍ عامّ، فإنّ الموضوعات التي تُثير القرف تكاد تكون نفسها من ثقافة لأخرى، باستثناءات طفيفة تتعلّق بخصوصية بعض الحضارات والتقاليد. وقد وُجد في دراسة أنّ الشعور بالقرف شعور عالمي، موجود عند كلّ البشر، حتّى أنّ تعابير الوجه التي تظهر على وجه الشخص الذي يشعر بالاشمئزاز تظهر بنفس الطريقة على وجوه العميان والذين وُلدوا وهُم لا يُبصرون. وكذلك، فإنّ أي شخص يُمكنه أن يتعرّف على تعابير الوجه الممثّلة للاشمئزاز وأن يفهمها على هذا الأساس، مهما كانت ثقافته أو نشأته.

لكن الشعور بالقرف درجات، وغالبا لا يأتي وحده، حيث تصاحبه مشاعر وعواطف أخرى، تخلق من تفاعلها مع بعضها بعضا مزيجا من المواقف النفسية، وقد وجد عالم النفس روبرت بلوتشيك أن التداخل بين العواطف المتقاربة ينتج عنه عاطفة أخرى جديدة، مثال: الاشمئزاز مع الحزن يتولّد عنهما الشعور بالندم، والخشية مع القبول يتولّد عنهما الخضوع.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2التنين وإسرائيل.. من أرض الميعاد الصينية إلى زمان طوفان الأقصىlist 2 of 2البحر الأحمر يشتعل.. ما قدرات الحوثيين العسكرية؟ وإلى أي مدى تصل؟end of list

وفي حال تداخل الاشمئزاز مع الغضب يتولّد الشعور بالاحتقار. ومن هنا فإنّ الشعور بالقرف هو الرغبة المُلحّة بالابتعاد عن مُثير مزعج للنفس يدفعها للنفور منه، يرافقه ردّ فعل جسدي بإثارة بالغثيان والإعياء.

(الجزيرة) لماذا نشعر بالاشمئزاز والتقزّز؟

إن شعورنا بالاشمئزاز يؤدّي وظيفة وقائية، فالنفور من القَيء أو البراز أو القمامة أو الجثث المتحلّلة هو ردّ فعل ضروري لإبعادنا عن المواد والأجسام المُلوّثة بالجراثيم والأمراض، وهناك تفسير بحثي راقب ردود الفعل لبعض الأشخاص بعد أن عرضت عليهم صور مقرفة، ووجدوا أنّ حرارة الجسد ترتفع عند شعورهم بالقرف والاشمئزاز، وارتفاع درجة الحرارة تعبير عن تحفز المناعة بطريقة دفاعية تجاه ما يعتقد أنّه مَرَضيّ أو جرثومي.

وهذا من جهةٍ بيولوجية صرفة، لكن ما يحدث معنا ككائنات بشرية اجتماعية هو أنّ الشعور بالتقزّز ينسحب من مجال حمايتنا من الجراثيم الطبيعية، إلى سياق تحصيننا من الجراثيم الاجتماعية، فالتقزّز من سلوكيات الآخرين له تأثير لا تتخيله، ليس على حياتنا الاجتماعية بل وحتّى على آرائنا السياسية كما تُشير الدراسات.

وأحيانا مجرد تفكيرك بأن شخصا ما يثير قرفك سيسكن معك في بيت واحد، أو يعمل معك في نفس الحيّز المكاني، قد يقلب ميزان يومك في اتجاه من الكآبة والقلق، ولك أن تتصور أنه مهما كانت درجة اتفاقك مع ذلك المقرف في الفكر والهوية الاجتماعية، تظل شرنقة القرف مغلقة أمام حواسك وتصدك عن كل هذه المشتركات، ولا يبقى في بؤرة تفكيرك سوى شعور الاشمئزاز الذي يملأ عينيك كلما رأيته.

وقد كشفت بعض الدراسات أن الأشخاص الذين يعانون من حساسية مرتفعة تجاه التقزز قد يكونون أكثر ميلاً للمحافظة الأخلاقية وتجنّب السلوكيات والمواقف التي تعتبر محرّمة أو ممنوعة في تقاليدهم الثقافية.

لكن البحث الذي أجراه الباحثون النفسيون تايبر وزملاؤه عام 2009 يشير إلى أن هناك 3 أنواع رئيسية من الاشمئزاز: الاشمئزاز من المسببات المرضية، الاشمئزاز الجنسي، الاشمئزاز الأخلاقي من السلوكيات السلبية.

وتتنوّع ردود فعلنا بتنوّع الحواس التي تستقبل القرف، فمنها الصوتي عند تناول الطعام بصوت مرتفع، أو الصوري عند مطالعة مشهد مُقرِف مثل التعفّن أو الفطريات أو الأمراض الجلدية أو ما يُذكّر بالقتل والمَوت، وقد تأخذ منحى أخلاقيا، مثل المواقف المنافية أخلاقيًا بالنسبة للشخص، كالجنس المحرّم أو الشذوذ الجنسي والمواقف الاجتماعية المزعجة وقد تشمل حتّى مقاييس التعريض للروائح الكريهة.

لكنّ الدراسات تُشير إلى أنّ شعورنا بالتقزّز والاشمئزاز مسألة شديدة التعقيد، ولا تنتمي إلى عائلة واحدة. كان هذا ما دفع سيغموند فرويد عالم النفس الشهير للتساؤل: لماذا قد يُقدِم زوجان على الاقتراب من بعضهما دون اشمئزاز، بينما يشعران بالتقزّز عند استخدامهما بالخطأ فرشاة الأسنان الخاصّة بالطرف الآخر؟

علاقة التقزّز والشعور بالقرف بالتوجّهات السياسية ذوو الحساسية المرتفعة للاشمئزاز قد يعانون من مشاعر قوية من النفور والانزعاج عند التعرّض لمواقف تتضمن خرقًا للقيم الدينية أو الأخلاقية (شترستوك)

اللافت في شعور القرف أنه كاشف لميولك ومواقفك السياسية، فالأشخاص الذين يسهل إثارة شعورهم بالقرف والتقزّز والاشمئزاز يميلون نحو المواقف المحافظة السياسية، فتجدهم يرفضون الإجهاض والشذوذ الجنسي، في حين تزداد انفتاحية وليبرالية الشخص الأقل تجاه الاشمئزاز ومُثيرات القرف.

وكلّما كان معامل الانفتاحية للشخصية مرتفعا قلّت حساسية الفرد للتقزّز والقرف، وهذا يعني أنّ الذين يُقدمون في نمطهم المعيشي على تجارب عديدة وغريبة وأفكار مختلفة لا يشعرون في الغالب بالتقزّز من الأشياء من حولهم بدرجة كبيرة، مثل أولئك الذين يُسجّلون درجات أقلّ على سمة الانفتاح.

وقد وجدت بعض الدراسات أن المشاركين الذين تعرضوا لرائحة كريهة أو مواقف مثيرة للاشمئزاز كانت ردود فعلهم صارمة تجاه السلوكيات التي تتنافى مع المعايير الأخلاقية، حتى وإن كانت هذه المخالفات لا تتضمن عناصر محسوسة مثيرة للاشمئزاز بشكل مباشر.

ويرى عالم النفس الأميركي بول بلوم أنّ النفور الذي قد يشعر به الأشخاص تجاه بعض الأفعال، مثل الشذوذ الجنسي أو الإجهاض أو وجود المهاجرين، يمكن أن يُفسر في سياق أوسع كجزء من البوصلة الأخلاقية والإرث الأخلاقي المُستدخَل بيولوجيًا على هيئة شعور. وهذه البوصلة تُرشد الأفراد للابتعاد عن ما يُعتبر مخالفًا للطبيعة أو الفطرة الإنسانية.

لكنّ التقزّز لا يقتصر على الاتّجاه السياسي فحسب، وإنّما قد يرفع درجة الحساسية النفسية مثل الشعور بالذنب بعد ارتكاب المعاصي، فالذين يعانون من حساسية عالية للتقزز قد يجدون أنفسهم أكثر ميلاً للتأثر سلبيًا بعد تجارب تنتهك معاييرهم الأخلاقية.

وبهذا المعنى فإن الشعور بالتقزّز له توجهات مفيدة في الضبط الاجتماعي، بل ويساعد في جعل النّاس أكثر اتّساقًا أخلاقيًا ويجنّبهم المواقف والسلوكيات التي ستجعلهم يشعرون عند ارتكابها بالتناقض والازدواجية أو النفاق، بمعنى أنه قد يكون علامة من علامات سلامة الفرد وعمق تكوينه الأخلاقي.

فقد وُجِدَ على سبيل المثال أن الذين يتميزون بحساسية مرتفعة للاشمئزاز قد يعانون من مشاعر قوية من النفور والانزعاج عند التعرّض لمواقف تتضمن خرقًا للقيم الدينية أو الأخلاقية، مثل المشاركة في الكذب أو الغش، وهو نفور حميد نسبيًا يُعزّز من التزام الأفراد بالمعايير الأخلاقية الصارمة التي يؤمنون بها.

وثمّة تطبيقات عدّة لهذه المعلومة، على سبيل المثال، إذا كُنتَ سياسيًا ذا آراء محافظة، فيمكنك استخدام الاشمئزاز للتلاعب بناخبيك. كما فعل رجل الأعمال الأميركي كارل بالادينو حين استغلّ عاطفة الاشمئزاز بشكل فعّال للتأثير على خصومه من المُرشّحين، حين قام بإرسال منشورات الحملة الانتخابية التي تتضمّن خصومه وأضاف رائحة القمامة المتعفّنة على المنشورات، حتّى يتم ربط الصورة رمزيًا بالرائحة الكريهة، الأمر الذي يدفع للتحريض على الاشمئزاز تجاه خصومه وربطهم بالتعفّن والفساد وإيذاء الوطن.

(الجزيرة)

 

الاضطرابات النفسية والشعور بالتقزّز والاشمئزاز

تُشير بحوث أيضًا إلى وجود علاقة قوية بين الحساسية للاشمئزاز وبعض الاضطرابات النفسية، مثل الوسواس القهري المتعلق بالنظافة والخوف من التلوث.

فالذين يشعرون بالاشمئزاز بشكل مفرط قد يتخذون إجراءات مبالغا فيها لتجنب الملوثات، مثل الغسل المستمر لليدين أو تجنب المواقف التي يعتبرونها محفزة للتلوث. وهذا السلوك يمكن أن يؤدي إلى الاضطرابات السلوكية والنفسية، ويعكس الدور المهم للاشمئزاز في تطوير واستمرار هذه الأعراض.

ولا يقتصر انعكاس الاشمئزاز على سلوكيات النظافة والتطهّر والانتقائية فحسب، ولكنّ الاشمئزاز من شأنه أيضًا أن يُؤدّي إلى اضطرابات الأكل. فذوو الحساسية العالية للاشمئزاز قد يتجنبون تناول أنواع معينة من الطعام أو يشعرون بالقلق الشديد عند الأكل في الأماكن العامة ورؤية النّاس من حولهم يأكلون بطريقة معيّنة أو غير لائقة، وقد تنعكس هذه الانطباعات العميقة والتصوّرات المُقزّزة حول النّاس والطعام، وبعض المناظر القبيحة لعملية الأكل، إلى تطوّر اضطرابات الأكل مثل اضطراب الشره العصبي أو اضطراب فقدان الشهية العصبي، وهي من الاضطرابات النفسية الخطيرة من حيث معامل الإخطار واحتمالية موت صاحبها عند تشخيصها بشدّة مرتفعة ولفترة طويلة، وهذا أحد المداخل التفسيرية لتطوير اضطراب فقدان الشهية العصبي حيث يكون الخوف من التلوث هو المحرك الرئيسي لهذه السلوكيات.

أيهما أكثر حساسية للقرف: الإناث أم الذكور؟

تظهر الأبحاث العلمية أنّ الإناث يَملِكنَ حساسية أعلى للشعور بالقرف مقارنةً بالذكور، بفرق واضح إحصائيًا. فهن أكثر حساسية للنفور من التعرّق، والتقاط رائحة الجسد، وأقلّ ممارسة لسلوكيات مثل البُصاق على الأرض ونحوه.

بالإضافة إلى أنّ بعض الدراسات وجدت أن ممتلكات الذكور والشباب غير المتزوّج، وشققهم ومكاتبهم في العمل، بشكلٍ عام تحتوي على بكتيريا بنسبة أكثر من الإناث وممتلكاتهنّ.

ويبدو أن النساء يشعرن بالإعياء والاشمئزاز بشكلٍ أكبر على مستوى النفور من القذارة، ولهذا فإنّهن في الغالب يبتعدن عن المهن المتعلّقة بمجالات الصرف الصحّي ومكافحة الحشرات، وجمع القمامة والمهن التي تستلزم كثيرًا من الاتّساخ والتعرّض المباشر للأوساط والأجسام غير النظيفة.

وهذا ما أثار فضول باحثين كُثر لمحاولة تفسير هذه الفروقات الواضحة بين الجنسين فيما يتعلّق بمسألة الحساسية للقرف، فما النظريات التي وُضعت لتفسير الفرق بين شعور الإناث والذكور بالقرف؟

 

أولًا: التفسير المتعلّق بالأمومة النساء أكثر قدرة على احتمال الأذى والتصرّفات المزعجة للأطفال (شترستوك)

من جهةٍ تاريخية، تبدو الأسباب التي جعلت من النساء أكثر حساسيةً وتقزّزًا مفهومةً بشكلٍ منطقيّ، إذ إنّ الحوامل أكثر عرضة للإصابة بالغثيان، وهي وسيلة بيولوجية لحماية الجنين خلال فترة الحمل من مُسبّبات الأمراض.

فالنساء كُنّ على الدوام الطرف الأكثر عنايةً بالأطفال عن قرب، ولأنّهن ينخرطن بأنشطة متعلّقة بتحضير الطعام وإرضاع الصغار، فإنّ المصلحة البقائية التطوّرية تستلزم حرصا ونظافة أعلى لكي لا تتعرّض النساء للجراثيم والأمراض ومن ثمّ نقلها إلى الأطفال.

وهذا التفسير بالطبع يضع إشكالًا مُهمًّا حول قدرة النساء على تحمّل العديد من الانفعالات والتصرّفات المليئة بالجراثيم التي قد تصدر عن الأطفال، في السنين الأولى، مثل التقيّؤ المتسمرّ، والإخراج أو التبوّل اللاإرادي، وتبديل ملابس الأطفال المُتّسخة. إنّ التفسير للحساسية المرتفعة للإناث تجاه مُسبّبات الأمراض من شأنه أن يتعارض مع حقيقة قدرة الأمّهات والنساء عموما على الاعتناء بالأطفال وما يصدر عنهم من انفعالات سلوكية.

ويستخدم الباحثون حلًّا لهذا التعارض، عبر استحضار خاصّية نفسية أخرى، من حقل علم نفس الشخصية. إذ بحسب دراسات عريضة وواسعة، فإنّ النساء يُسجلن درجات مرتفعة على مقياس سمة التوافقية Agreeableness للشخصية التي تجعلهنّ أكثر قدرة على احتمال الأذى والتصرّفات المزعجة للأطفال، والإلحاح والاعتمادية المُفرطة على مُقدِّمي الرعاية التي يتّسم بها الأطفال في السنوات الأولى، وهي ذات السمة التي تجعلهنّ أكثر رفقًا ولطفًا مع أطفالهنّ. وهكذا يجتمع التفسيران معا، إذ تبتعد النساء قدر الإمكان عن مسبّبات الأمراض بفعل الحساسية للتقزّز، وفي الوقت نفسه يحتملن الملامسة المباشرة لها فيما يتعلّق بأطفالهنّ.

 

ثانيًا: عدم تقزز الرجل من عوامل جاذبيته ممارسات الرجل غير المبالية طريقة لتسويق ذاته للجنس الآخر بوصفه شريكًا شجاعًا قادرًا على منافسة أقرانه (غيتي)

ولعلّك تلاحظ أنّ السلوكيات المُقرفة بشكلٍ عام ترتبط كثيرًا بالتهوّر واللامبالاة. وعلى مستوى الرجال والذكور، فإنّ التصرّفات المتهوّرة والخَطِرة وعدم الاكتراث للتفاصيل المؤذية والمقرفة تُعبّر أكثر عن شجاعة الرجل بالنسبة لأقرانه.

وهذا ما يحجز له مكانة اجتماعية جيدة بين أقرانه، وهي سلوكيات قد تُعدّ ضرورية في بعض المواقف والأماكن، لكيّ يحظى بالاحترام أو يُرسل لأقرانه أنّه قادر على التنافس والمواجهة، وبالتالي يجعلهم أكثر حذرًا وتقديرًا له.

ولذات السبب السابق، تبدو ممارسات الرجل غير المبالية والأقل تقزّزًا طريقة لتسويق ذاته بالنسبة للجنس الآخر، بوصفه شريكًا محتملًا شجاعًا وقادرًا على منافسة أقرانه، وتقديم المساعدة في الأزمات والكوارث وتحقيق ما يعجز الآخرون عن فعله. وهو تعبير عن قدرته على القيام بأفعال استثنائية، مما يجعله أكثر جاذبية لأنّ هذا قد يعبّر عن قدرته على جمع الموارد الغذائية أو إنقاذ عائلته دون الاكتراث لمسبّبات القرف أو الأمراض.

بحثت دراسات عديدة في علم النفس لاختبار هذه الفرضية، عن طريق قياس مستويات التقزّز لدى الأفراد وذلك بحسب نفورهم واشمئزازهم من مُسبّبات الأمراض أو المُمرِضات، وسلوكهم الاجتماعي في حياتهم العملية، وقد وجدت الدراسة أنّ الأشخاص الذين يسجّلون قِيَم مرتفعة من حيث حساسيتهم لممرضات ومُسبّبات الأمراض، أي أنّهم أكثر اشمئزازًا من غيرهم، هؤلاء تحديدًا أقلّ إقدامًا على مساعدة الآخرين وتقديم يد العون لهم عند احتياجهم للمساعدة، خوفًا من العدوى أو التلوّث أو بفعل التحامل العنصريّ المرتبط بالتقزّز والقرف. وهذه النتيجة دليل مباشر على المنعكسات الخفية للتقزّز والتي تجعل الرجل الأقل تقزّزًا أكثر جاذبية، وكأنّ هذا التدنّي في مستويات التقزّز بالنسبة للرجل ما هو إلّا تعبير عن ممكنات تقديمه للمساعدة والعون في المستقبل والمواقف القادمة حين تستلزم الأحداث تدخّل شخص ما لإنقاذ الموقف بالرغم ما فيه من مخاطرة وملوّثات ودماء أو مسبّبات الأمراض ومُثيرات الاشمئزاز.

(الجزيرة)

وهذا المنظور التحليلي يرتبط بدراسات من جانب آخر، وهو الحقل الأنثروبولوجي الذي صيغت فيه نظرية تفسيرية طريفة وماتعة تُدعى "فرضية الوَغد المَجنون" (Crazy Bastard Hypothesis) وهي أنّ النّاس حين يَرون شخصًا يُقدم على سلوكيات خطيرة ومتهوّرة، وأنّه يقوم بأفعال استثنائية لا يقوم بها غيره، فإنّ النّاس تفضّل أن يكون هذا الشخص حليفًا أو صديقًا على أن يكون عدوًا أو مُنافسًا.

ولأنّ سلوكيات التهوّر وعدم الاكتراث قد تكون مُقلقة بالنسبة لنا، وقد تُشعرنا بالتهديد والخطر إن كانت تصدر عن شخصٍ لا نأمنه ولا نثق به ولا يثق بنا. وقديما قالت العرب "خاب قوم لا سفيه لهم".

وأيًّا كان التفسير المحتمل اجتماعيًا وبيولوجيًا وثقافيًا خلف تطوير البشر لمقاييس التقزّز والاشمئزاز وعلاقته بالتدين أو التوجّهات السياسية أو الاضطرابات النفسية والمخاطرة والسلوكيات الاستعراضية، فإنّ فهم التأثير العميق للتقزّز والحساسية للقرف وتكوينه البيولوجيّ العميق يُمكن أن يُساعدنا على فهم العديد من الفروقات الفردية، وعلى النظر إلى الاختلافات السياسية والمواقف الأخلاقية ليست كنقاش عقلاني فحسب، بل اعتبار المكوّن الجسماني العميق المدفوع بالقرف أحيانًا والتقزّز لا يمكن للشخص أن يمنع نفسه من الشعور به عند الحديث بموضوعات مُعيّنة ومناقشتها. كما يُعيننا هذا الفهم على توجيه النقاشات الأخلاقية والاجتماعية المعاصرة بطريقة تُراعي البُعد العاطفي والشعوري للرأي العام، وعدم النظر إلى القناعات الشخصية بوصفها ذات بُنية عقلانية مُجرّدة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد الاضطرابات النفسیة الأشخاص الذین یعانون من الذین ی التی ت من الم

إقرأ أيضاً:

ألغاز الاغتيالات السياسية

من الناحية السياسية، تبدو الاغتيالات أقرب إلى الكوارث الطبيعية منها إلى انفجاراتٍ مُحكمة، فهي تُحدث فوضى، وقد تغيّر مسار التاريخ. غير أن منفّذيها لا يمكن أن يعرفوا مُسبقًا الاتجاه الذي ستأخذه الأحداث بعدها، حين أطلق غافريلو برينسيب الرصاصة التي قتلت الأرشيدوق فرانز فرديناند عام 1914، كان هدفه انتزاع استقلال السّلاف الجنوبيين من الإمبراطورية النمساوية - المجرية؛ لكن ما نتج عن فعلته كان اندلاع الحرب العالمية الأولى ومقتل ملايين البشر.

وعلى الضفّة الأخرى، عندما اغتال متطرّف يميني رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1995 خلال تجمع مؤيّد لاتفاقات أوسلو، يمكن القول إنه حقق هدفه كاملًا، وهو القضاء المستمر على مسار السلام. لهذا يُشار إلى اغتيال رابين أحيانًا بوصفه «أنجح» عملية اغتيال في التاريخ الحديث.

تبدو الحادثتان مختلفتين جذريًّا، لكنّهما، وفق معيار المؤرخ سايمون بول في كتابه «موتٌ تحت الطلب: تاريخٌ حديث لعمليات الاغتيال»، تشترك الواقعتان في سمات أساسية. يكتب بول: «قبل عام 1914، كان الاغتيال حكرًا على أفراد ساخطين، أو المتآمرين في بلاطات الملوك، أو جماعات صغيرة من المتحمسين لقضايا خاسرة». غير أنّ برينسيب دشّن نموذجًا جديدًا، فحتى لو كانت نتائج الاغتيال فوضوية، فإن دوافعه أصبحت واضحة. صار القاتل السياسي شخصية «عقلانية»، دقيقة في اختيار هدفها، ذات دوافع قابلة للقراءة، وفي كثير من الأحيان جزءًا من حركة أوسع أو مؤامرة تستهدف إسقاط السلطة.

وعلى الرغم من أنّنا نسمع غالبًا عن برينسيب وحده، فإنه كان جزءًا من خلية اغتيال تضم سبعة رجال، مرتبطة بشبكة سرية أكبر بكثير. أما قاتل رابين، فكان ينتمي إلى حركة آخذة في الاتساع، ضمّت في صفوفها إيتمار بن غفير، السياسي الذي هدّد رابين مباشرة على الهواء قبل اغتياله، والذي يشغل اليوم منصب وزير الأمن القومي في إسرائيل.

يلاحظ بول تاريخيًّا أنّ «النتائج المباشرة للاغتيالات خيّبت آمال منفذيها في معظم الأحيان»، ما عدا اغتيال رابين، فهي واحدة من الاستثناءات النادرة. مثال آخر محتمل هو ما جرى عام 1942، حين نفّذ عملاء بريطانيون ومقاتلون من المقاومة التشيكية عملية مشتركة لقتل راينهارد هايدريخ، أحد أكثر قادة النازية وحشية، وأحد مهندسي «الحل النهائي». كانت دوافع العملية واضحة تمامًا، وأصبحت، كما يكتب بول، «نموذجًا للاغتيال الشريف الذي ينفّذه ديمقراطيون يتصرّفون بضمير». لكن النتائج الأخرى كانت كارثية، فقد أغار النازيون على قرية ليديتسه التي آوت يومًا أحد مشغّلي الراديو البريطانيين، فقتلوا رجالها، وزجّوا بنسائها في معسكرات الاعتقال، وأخذوا الأطفال «الآريين» لتربيتهم في أسر ألمانية، بينما ذبحوا بقيتهم.

ويختصر بول ما خلص إليه التقرير البريطاني حول اغتيال هايدريخ بقوله: «كان نجاحا تقنيّا... وكارثة عمليّاتية».

يُعد كتاب «موتٌ تحت الطلب: تاريخٌ حديث لعمليات الاغتيال» عملًا متينًا ومشحونًا بالتفاصيل، وأحيانًا جافًا، ولا يبدو أنه سيُلهب خيال أصحاب نظريات المؤامرة، أو أي قارئ آخر، لكنه يظل كتابًا مفيدًا بفضل شموله الدولي ودقّة توثيقه. والأهم أنّه لا يُهمل عمليات الاغتيال التي ترعاها الدول، خصوصًا تلك التي خطّطت لها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية خلال الحرب الباردة. ويبدي بول مزيجًا من السخرية والذهول وهو يقتبس من دليل تدريبي للوكالة حول الاغتيالات، فمع أن «القتل لا يمكن تبريره»، كما ينصح الدليل، فإن التخلّص من زعيم سياسي يشكّل صعوده خطرًا مباشرًا على قضية الحرية قد يُعد أمرًا ضروريًا»، ما يعني، بحسب الدليل، أن «الأشخاص الذين يشعرون بالاشمئزاز الأخلاقي لا ينبغي لهم محاولة تنفيذ الاغتيال». أما لمن يتجاوزون تلك الحساسيات، فيوصي الدليل بـ«الطريقة الأكثر فعالية»، وهي إسقاط الهدف من ارتفاع لا يقل عن خمسة وسبعين قدمًا على سطح صلب. ويُفضَّل تجنّب المسدسات، فيما يُقبل باستخدام البنادق، التي أصبحت في القرن الحادي والعشرين السلاح الأكثر شيوعًا في عمليات الاغتيال.

ماذا يريد القتلة السياسيون اليوم؟ سؤال يعتمد جوابه على كل حالة، لكنه سؤال تستدعيه الظروف، خاصةً مع بروز مؤشرات على تصاعد العنف السياسي في الولايات المتحدة. ومن أبرز الأمثلة الحديثة محاولتا اغتيال الرئيس دونالد ترامب، إحداهما في بنسلفانيا عام 2024 حين أصابته رصاصة أثناء إلقائه خطابًا انتخابيًّا. وهناك محاولة إحراق منزل حاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو في أبريل بينما كان مع أسرته بداخله، إضافة إلى مقتل النائبة في برلمان ولاية مينيسوتا ميليسا هورتمن وزوجها مارك في يونيو، واغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك في سبتمبر. وبعد أسبوعين فقط من مقتل كيرك، أطلق رجل النار في مركز احتجاز للهجرة في دالاس، لكنه قتل اثنين من المحتجزين بدلًا من الضباط الذين كان يستهدفهم، بعدما استبدّ به - وفقًا لوالديه - خوفٌ هوسي من إصابته بمرض إشعاعي.

استقراء سريع لهذه الحوادث يوحي بأن عصر برينسيب قد انتهى. فقد عاد المشهد إلى زمن المتآمرين الغاضبين والمنعزلين، وإلى رجال ــ فما زال معظم القتلة من الرجال ــ تحرّكهم دوافع ضبابية تتكوّن من مظالم شخصية واضطرابات نفسية ورحلات عبثية عبر الإنترنت. توماس ماثيو كروكس، الشاب العشريني الذي حاول قتل ترامب في بنسلفانيا، كان جمهوريًا مسجّلًا، لكنه ذو ميول متشابكة، ويبدو أنه كان يفاضل بين عدة أهداف بارزة، من بينها جو بايدن وترامب، قبل الحادثة بأسابيع.

ولا نعرف بعد ما الذي كان يأمل تايلر جيمس روبنسون، الشاب من ولاية يوتا المتهم بقتل تشارلي كيرك، في تحقيقه. (لم يُقدّم روبنسون حتى الآن أيّ دفوع.) المدّعي العام جيف غراي رسم سيناريو مفاده أن روبنسون، الذي نشأ في عائلة جمهورية، كان قد اتجه مؤخرًا نحو اليسار وأصبح ــ كما أخبرت والدته الشرطة ــ «أكثر ميلا للدفاع عن حقوق المثليين والمتحولين». وبحسب غراي، كان شريك روبنسون في السكن ــ وهو شريك عاطفي كذلك. وفي تبادل رسائل بعد مقتل كيرك، سأله شريكه: «لماذا فعلت ذلك؟» فأجاب روبنسون: «لقد اكتفيتُ من كراهيته. بعض أشكال الكراهية لا يمكن التعايش معها».

مهما كان روبنسون يظنّ أنه سيحققه، فإن نتائج اغتيال كيرك جاءت عكس ما قد يتخيّله، فهناك الآن تشديد فيدرالي ومحلي على حرية التعبير، وصعود متزايد لشخصية المتطرف الأبيض نك فوينتس الذي يسعى لملء الفراغ الذي تركه كيرك. وكفعلٍ يُفترض أنه تضامن مع المتحوّلين ــ إن كان ذلك ما قصده ــ فقد ترك شريكه، وربما مجتمع المتحوّلين عمومًا، في وضع أكثر هشاشة.

في العقود الماضية، كان العنف السياسي في الولايات المتحدة غالبًا ما يُنفَّذ من قِبل جماعات منظَّمة مثل «الطقس تحت الأرض» اليسارية في سبعينيات القرن الماضي، والميليشيات اليمينية وحركات مناهضة الإجهاض في الثمانينيات والتسعينيات. أمّا اليوم، فأغلب هذه الأعمال يرتكبه أفراد لا ينتمون إلى أي تنظيم. وكما كتبت رايتشل كلاينفيلد، الزميلة البارزة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن هناك «تيارًا أعمق، وهو تفكّك العنف السياسي وخروجه من إطار الجماعات، بينما يتطرّف الأفراد ذاتيًا عبر التفاعل على الإنترنت».

و«أنتيفا» التي يلوّح بها ترامب دائمًا كفزّاعة جاهزة ــ شبكة قاتلة ومنظمة تشبه الجيش الجمهوري الإيرلندي ــ لا وجود لها أصلًا. في الواقع، نحن أمام أفراد يقدمون على أفعال مباغتة ومبهمة لا تبدو جزءًا من أي حملة واضحة المعالم. وحتى حين يخلّفون وراءهم «رسالة» ــ بيانات مبتورة، أو سلسلة منشورات على مواقع التواصل، أو كلمات منقوشة على أغلفة الرصاص ــ فإن الوضوح يظل عصيًّا. نحن نقرأ آثارًا باهتة لأفكار لم تتماسك لتصبح أيديولوجيا.

وفي تعليقها على محاولة اغتيال ترامب، قالت كاثرين كينِيلي، الخبيرة في تقييم التهديدات، لصحيفة «نيويورك تايمز»: «مثل هذه الحوادث التي نعجز عن فهم دوافعها أصبحت أكثر شيوعًا».

لكن ذلك لا يمنع السياسيين والناس من فرض تفسيراتهم الخاصة بعد وقوع الأحداث. ففي أكتوبر الماضي، سُئل مايك جونسون، رئيس مجلس النواب، عن تهديدات بالقتل وُجهت لهَكيم جيفريز، زعيم الديمقراطيين في المجلس، من رجل شارك في اقتحام الكونغرس في السادس من يناير، ثم سُجن ثم نال عفوًا من ترامب. فأجاب جونسون بالإشارة إلى ما سمّاه «ثقافة الاغتيال» التي ــ حسب زعمه ــ تغذيها اليسار، مضيفًا، بسخافة واضحة: «فلنحرص على ألا نحولها إلى قضية حزبية».

كان ذلك تفسيرًا متعسّفًا، لكن الواقع أن الجمهور المتلقي للعنف السياسي بات هو الذي يركّب المعنى ويرسم الرواية. وحين لا نجد مؤامرة، نخترع واحدة.

ومن بين جميع حوادث الاغتيال التي شهدتها الولايات المتحدة مؤخرًا، يبدو أن الحادثة التي تمتلك «أوضح سردية»، أو على الأقل أكبر جمهور وجد نفسه قادرًا على تبنّي تفسير لها، هي مقتل الرئيس التنفيذي لشركة «يونايتد هيلثكير» براين تومبسون، في ديسمبر 2024.

قُتل تومبسون بالرصاص خارج أحد فنادق وسط مانهاتن بينما كان يحضر اجتماعًا لفعالية الشركة السنوية مع المستثمرين. وفي قطاع يُعرف أصلًا بسمعته السيئة في رفض المطالبات وتحميل المرضى ديونًا طبية ضخمة، كانت شركة «يونايتد هيلثكير» سيئة السمعة أكثر من غيرها. وخلال فترة إدارة تومبسون، ارتفعت أرباح الشركة من 12 مليار دولار في سنة 2021 إلى 16 مليار دولار في سنة 2023.

وعندما اتضح أن المتهم هو لويجي مانِيوني، شاب وسيم في السادسة والعشرين، خريج جامعة بنسلفانيا، ويبدو أنه اختار هدفه بعناية، تحوّل بسرعة إلى بطل شعبي لدى كثير من الأمريكيين ــ روبن هود بقلنسوة، المنتقِم الذي أطلق آلاف النكات والصور الساخرة.

وقد كتب مانِيوني في دفتر بسلك حلزوني صادَرته الشرطة: «مشكلة أغلب الأعمال الثورية أن رسالتها تضيع على الناس العاديين.» وكتب أيضًا: «مؤتمر المستثمرين فرصة ذهبية. إنه يجسّد كل ما هو خاطئ في نظامنا الصحي. ماذا تفعل؟ تقضي على المدير التنفيذي في مؤتمر المحاسبين الطفيليين. إنه عملٌ موجَّه ودقيق ولا يعرّض الأبرياء للخطر. والأهم من ذلك ــ الرسالة تفسّر نفسها بنفسها.»

لكن ــ وكما يشير الصحفي جون هـ. ريتشاردسون في كتابه الجديد «شخصية لويجي: كيف تشكّلت وما الذي يعنيه الاغتيال؟»، لم تكن الرسالة واضحة بالقدر الذي ظنّه مانِيوني. يقول ريتشاردسون متسائلًا: «ماذا كان يُفترض أن يحققه هذا الاغتيال الرمزي؟ سلسلة هجمات على رؤساء الشركات؟ انهيار المجتمع التكنولوجي؟ ثورة؟ أم نظام رعاية صحية أفضل؟».

ريتـشاردسون ــ وهو صحفي بارع واسع الاطلاع ــ لا يجد إجابات مقنعة عن هذه الأسئلة. فهو لم يُجرِ مقابلة مع مانِيوني ولا مع أي شخص مقرّب منه. كما أن القضية لم تعد إلى المحكمة بعد، ومن ثمّ لم تتضح ملامح دفاعه القانوني بالكامل. (مانِيوني دفع ببراءته من تهم القتل والملاحقة).

حاول ريتشاردسون أن يقتفي أثر ما تبقى من حضور مانِيوني على الإنترنت، تتبع منشوراته على «ريديت»، والحسابات التي كان يتابعها على «إكس»، وقوائم الكتب التي راجعها أو دوّنها على «غودريدز». ما وجدَه كان صورة لشاب يميل إلى كتب التطوير الذاتي وتعليقات اجتماعية شائعة، ويقدّم نصائح لطيفة للآخرين حول آلام الظهر ــ وهو أمر عانى منه بنفسه قبل خضوعه لعملية ناجحة ــ ولا يبدو أنه كان غارقًا في نقاشات متعلقة بالسياسات الصحيّة الأمريكية. كانت أفكاره حول ما هو «خاطئ» في العالم، مثل كثير من الناس، صادقة لكنها غير مكتملة، ولا تنتمي بوضوح إلى اليمين ولا اليسار.

يكتب ريتشاردسون: «نظرة إلى حسابات لويجي وهو يدخل عالم الكبار تكشف أنماطًا ثابتة تتمثل في اهتمامه بالصحة، والذكاء الاصطناعي، والمواد المخدرة المهلوسة، وتغيّر المناخ، والطاقة النووية، واللحوم المنتَجة في المختبرات، والتطور، وصغار الغوريلا... إلى جانب انجراف تدريجي نحو ما يُسمى «المانوسفير»؛ أي دائرة المؤثّرين الذكور ذوي الميول اليمينية».

ولفهم مانِيوني أكثر، عاد ريتشاردسون إلى تقاريره السابقة عن ناشطي «الإرهاب البيئي»، وعن «التسريعيين» ــ وهم الذين يعتقدون أن تسريع التغير التكنولوجي سيُسهم في إسقاط النظام القائم ــ وعن الشباب الذين تأثروا بأفكار تيد كاتشينسكي، «مفجّر الجامعات والطائرات» المعروف بـ«يونيبومبر». كما اعتمد على مراسلات سابقة مع كاتشينسكي نفسه. هذه المقارنات مفيدة بحد ذاتها، لكنها لا تسلط الكثير من الضوء على مانِيوني، الذي يبدو أنه لم يتعمّق في تلك الأفكار إلا هامشيًا. بل ويمكن القول إن قصة كاتشينسكي نقيض قصة مانِيوني تقريبًا، فالأول كتب بيانًا طويلًا ومعقّدًا ضد المجتمع التكنولوجي الحديث، وشنّ حملة تفجيرات قتلت ثلاثة أشخاص وأصابت ثلاثة وعشرين، كثير منهم أبرياء لا علاقة لهم بصراعاته الفكرية. أمّا مانِيوني، فقد كانت حجّته ضد شركات التأمين موجزة وحديثة العهد، وتركّزت على هدف واحد مختار بعناية.

صحيح أن مانِيوني قرأ بيان «يونيبومبر» وراجعه، لكنه عبّر بوضوح عن رفضه لطرقه: «تيد كاتشينسكي يطرح نقاطًا مهمة بشأن مستقبل الإنسانية، لكنه لإثبات وجهة نظره يرسل قنابل إلى الأبرياء بلا تمييز.»

لكن الفعل يصبح مفهومًا ــ وأكثر من ذلك، لا يُمحى ــ عند النظر إلى ردود الفعل عليه. نعم، كان جزء من التمجيد الساخر لمانِيوني والشماتة في موت تومبسون مجرد هراء بارد المشاعر على الإنترنت. لكن جزءًا كبيرًا منه عبّر عن ألم حقيقي وغضب مشروع حيال نظام الرعاية الصحية القائم ــ النظام الذي يعيش الناس ويموتون تحته.

تستشهد تالبت بمعلق على «فيسبوك» اقتبسَ ريتشاردسون كلامه: «بعيدًا عن المزاح، لا أحد هنا مخوّل أن يقرر من يستحق الحياة أو الموت. هذا عمل خوارزمية الذكاء الاصطناعي التي صممتها شركات التأمين لتعظيم أرباحها من صحتك».

بالنسبة لبعض الناس، بدا مقتل تومبسون أشبه بعملية اغتيال «مشروعة» على غرار اغتيال هايدريش النازي. وفي استطلاع أجرته جامعة شيكاغو بعد الحادثة، قال سبعة من كل عشرة أمريكيين إن قطاعي التأمين والرعاية الصحية يتحمّلان «قدرًا متوسطًا» على الأقل من المسؤولية عنه.

بعد ما يقارب عامًا على الحادثة، جمع صندوق الدفاع القانوني لمانِيوني أكثر من مليون دولار. وبحسب الصفحة المخصّصة للأسئلة الشائعة، يتلقى مانِيوني ما بين عشر رسائل ومئة وخمس عشرة رسالة يوميًا، يسجّلها جميعًا ويرد على كثير منها. أما الصور التي تُرسل إليه، فبلغت حدًا جعله «يرجو بلطف» ألا يرسل الناس أكثر من خمس صور دفعة واحدة.

يقترح ريتشاردسون أن «النتائج البعيدة المدى لاغتيال براين تومبسون» قد تدفع في اتجاه تحقيق نظام رعاية صحية شامل يطالب به ملايين الأمريكيين. لكن ما يتطلّبه هذا الهدف فعلًا هو حركة اجتماعية وإرادة سياسية راسخة. وما لدينا حتى الآن ليس سوى «عبادة شخصية» تحيط بشاب في السجن، وتلال من رسائل المعجبين.

مقالات مشابهة

  • «محمد بن زايد للعلوم الإنسانية» تنظم مؤتمرها الدولي الثالث للفلسفة في باريس
  • العلاقة المتبادلة بين الاقتصاد البرتقالي والتحول الرقمي (1- 3)
  • زيادة الإيجار القديم في الإسكندرية بعد قرار المحافظ الجديد.. هتدفع كام؟
  • علي جمعة: صلاح القلب مفتاح صلاح العمل وحسن العلاقة مع الله
  • محددات العلاقة بين إيران والمقاومة: قراءة في خطاب ظريف حول الهوية الوطنية للفصائل
  • عمرو أديب: أي طرف مُجبَر على إرضاء مصر دليل قوة لها لا يستهان بها
  • ألغاز الاغتيالات السياسية
  • تطور جديد في أزمة صلاح مع سلوت.. وكواليس جلسة ليفربول للتهدئة
  • ممثل حماس في إيران يكشف لـعربي21 واقع العلاقة مع طهران بعد حرب الـ12 يوما (شاهد)
  • سميرة أمام محكمة الأسرة: زوجي أجبرني على أفعال مُشينة.. فطلبت الخُلع