ميراث البشرية.. هل اللحاق الحضاري ممكن؟
تاريخ النشر: 7th, August 2024 GMT
لقد حققت الحضارة الغربية مستوى مذهلا من التطور العلمي أثر على كل مناحي العمران والحياة، إذ يؤكد علماء التاريخ أن الـ200 سنة الماضية اختلفت علميا بشكل جذري عن الـ4 آلاف التي سبقتها، وفي الـ50 سنة الماضية فاق التطور العلمي ما تحقق في 200 سنة ماضية.
كما تسارعت في الـ20 سنة الأخيرة التطورات العلمية بشكل لا محدود، بفضل الإنترنت والتكنولوجيات الحيوية والذكاء الاصطناعي حتى بات الإنسان يفكر في محددات أخلاقية وقانونية تؤطر هذا التطور المذهل حتى لا يدمر نفسه بنفسه.
إننا حينما ننظر إلى هذا التطور الباهر للعلوم والاكتشافات في مختلف المجالات، والفرق الحضاري الهائل بيننا وبين هذه المستويات الخرافية يصيبنا الإحباط ويتهيأ لنا بأن اللحاق الحضاري مستحيل، والأفضل لنا أن نقنع بالمنتجات الحضارية وأن نندمج في الحضارة التي أنشأتها.
ولكن الأمر ليس هكذا ولله الحمد، فثمة فرق بين الأمم التي تشتري المنتجات التي تسهل لها الحياة وتتمتع بها فحسب كما هو حالنا، والأمم التي تشتري المنتجات فتنعم بها ولكن تهيئ لها كذلك الموارد البشرية التي تشغلها وتفككها وتحاكيها وربما تصنع أفضل منها، كما كان حال اليابان مع المنتجات الأميركية الأوروبية ثم الصين التي لحقت اليابان بعد فرق 40 سنة.
واليوم الصين والغرب كفرسي رهان، ثم ها نحن أولاء بعد الصين واليابان العديد من الدول ومنها في بلادنا الإسلامية، كتركيا وإيران وإندونيسيا وماليزيا وباكستان، قد دخلت عالم التكنولوجيا والصناعات الحديثة، بل باتت تصنّع سلاحها.
سألت ذات يوم دكتور مهاتير، كيف صنعت نهضة ماليزيا؟ وكنا واقفين لا يسمح الوقت بإجابة طويلة، فأجابني جوابا مختصرا قائلا: "عزمت على أن أجعل المهندس الماليزي قادرا على العمل بكفاءة في مصنع بالمعايير اليابانية"، فاللحاق بالحضارة الغربية لا يكون إذن من خلال تكديس منتجاتها، ولكن بالركوب في قطارها عن طريق الإنسان الذي يكون في مستواها العلمي ويستطيع أن يركب من أي محطة من محطاتها.
إن الأميركيين والسوفيات لم يهزموا الألمان في الحرب العالمية الثانية لأنهم تفوقوا علميا، إذ لم يكونوا أبدا في المستوى التكنولوجي الذي كانت عليه ألمانيا آنذاك، ولكن لأن المنظومة الفلسفية والإنسانية والاجتماعية الألمانية كانت متطرفة وعنصرية تحتقر الإنسان، ولم تجعل حدا لأطماعها وجرائمها.
ومما أسهم في اللحاق بها استضافة علمائها في مخابر أميركا والاتحاد السوفياتي بعد خسارتها في الحرب. وحين سبق الاتحاد السوفياتي الولايات المتحدة الأميركية في علوم الفضاء وبلوغ سطح القمر في الستينيات أرجع الرئيس الأميركي جون كينيدي ذلك إلى تراجع المستوى التعليمي في بلاده.
وحينما انتهت الحرب الباردة بهزيمة الشيوعية في بداية التسعينيات لم يكن ذلك بسبب ضعف تطورها العلمي والتكنولوجي وإنما بسبب فلسفتها المصادمة للفطرة ومنظومتها الاجتماعية والإدارية المتكلسة، ثم إنه رغم استمرار التفوق الغربي تحت القيادة الأميركية في الجوانب العلمية والاقتصادية والعسكرية فإن المعطيات التي بين أيدينا في العقد الأخير تدل بأن الريادة ستكون في هذه المجالات للصين.
وسيكون ذلك في وقت غير بعيد بالنظر لتفوق هذا البلد في مؤشرات النمو التي تسجلها في براءات الاختراع والصناعة والتجارة وغير ذلك. وقد بدأت تتبعها دول أخرى بهذا الصدد في العالم الشرقي، ومن المفيد أن نعلم بأن تسع العشر من الباحثين في مخابر بعض الدول الغربية هم من شرق وجنوب الكرة الأرضية.
وإذا التفتنا إلى أسباب هذا الفتور الغربي لوجدناها في توقف الشغف الحضاري لدى الإنسان الأميركي والأوروبي بسبب انهيار المنظومة الأخلاقية، إلى الحد الذي صارت فيه الإباحية والنزعات الشاذة تحمى وتشجع بالقانون مما أدى إلى نهاية الأسرة وإزهاق الروح الاجتماعية، كما أدى هيجان الغريزة وانكسار ضوابط الفلسفة الفردانية وفشو الحياة المادية إلى تأليه السوق وتحول الاستهلاك إلى طقوس منضبطة للديانة الجديدة.
وقد دفع ذلك كله إلى تحول الحضارة الغربية إلى آلة فتاكة للظلم والاعتداء على الشعوب وتدمير ركائزها الثقافية لكي لا تنهض من سباتها ولا تفكر في النهوض. وتلك هي إرهاصات سقوط الحضارات على قول ابن خلدون وتوينبي وشبنغلر ومالك بن نبي.
إرث الحضاراتإن الحضارات ميراث البشرية، تورث كما تورث كل تركة، وعلى هذه السنة ورثت الحضارة الإسلامية علوم وفلسفة اليونان وطوّعتها وفق منظومتها الفكرية والثقافية والاجتماعية الإسلامية، وحين انتهت الحضارة الإسلامية ورث الغرب ميراثها، وطوّعه لثقافته ومنظومته الفكرية والاجتماعية المسيحية.
وحين كان الغرب ينقل ميراث الحضارة الإسلامية منذ عهد النهضة الكارولنجية في القرن التاسع الميلادي ثم النهضة الإيطالية فالأوروبية والإصلاح الديني ابتداء من منتصف القرن الـ14، لم تكن أوروبا أقوى من العالم الإسلامي بل كان الأتراك المسلمون يدكون دولهم ومدنهم دكا، غير أن شيئا ما حدث آنذاك في وعيهم الاجتماعي وفي منظوماتهم الإنسانية والإدارية والتعليمية بما جعلهم مؤهلين للحضارة.
وهكذا هو الحال اليوم لا نحتاج أن نكون أقوى من غيرنا ماديا وعلميا لنرث الحضارة الغربية ونستأنف حضارتنا الإسلامية، وإنما نحتاج أن نكون متفوقين فكريا وإنسانيا واجتماعيا وإداريا وتنظيميا، ولذلك يجب أن نعي بأن التحكم في العلوم الاجتماعية أهم من تحكمنا في العلوم التكنولوجية، ليس لأن هذه العلوم أو تلك أو ذانك العلم أو ذاك أفضل من الآخر، وإنما العلوم التكنولوجية قابلة للانتقال حينما تكون المنظومة الاجتماعية والإنسانية قوية تعبر عن ثقافة بلدها وذات رؤية حضارية.
لقد فهم الغرب أدوار العلوم التكنولوجية وأدوار العلوم الاجتماعية، فوجّه وأتباعه، منذ عهد الاستعمار إلى الآن، نجباء وأذكياء الأمة إلى العلوم الكونية والتكنولوجية لتحويلهم إلى تقنيين في مصانعهم ومنشآتهم الرأسمالية، ولسرقة عقول كثير منهم باضطرارهم إلى الهجرة إليهم بسبب غياب البيئة العلمية في بلداننا وغياب الأفق المعيشي وخصوصا بسبب الفساد والاستبداد.
كما منعوا وزهدوا المتفوقين دراسيا في جامعاتنا في دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية، لكي لا يتحول النجباء إلى مفكرين وعلماء وباحثين في هذه الاختصاصات. ولكي لا نقدر على إنشاء المنظومات البنائية التي تجعل مجتمعاتنا حرة بوفرة القادة الواعين، وقادرة على تنظيم نفسها واستغلال مواردها، مهما كانت شحيحة، والتي ترفع المستويات التعليمية وتنشر الفاعلية الاجتماعية التي تمكن عندئذ من الانتقال التكنولوجي بكل يسر.
سواء كان ذلك بواسطة البعثات العلمية التي يسافر أفرادها من أجل الرجوع للبلد بالعلم، وليس للفرار المعيشي أو السياسي خارجه، أو من خلال المنظومة التعليمية الوطنية التي تصنع الباحث صاحب براءات الاختراع التي تطور الفلاحة والصناعة، والتي تخرج أيضا المهندس الذي يستطيع أن يبني ويحرك المصانع وفق المعايير الأميركية واليابانية والصينية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الحضارة الغربیة
إقرأ أيضاً:
محافظ أسيوط يتفقد سير العمل بمشروع السوق الحضاري بمدينة أبنوب
تفقد اللواء هشام أبو النصر، محافظ أسيوط، بجولة ميدانية لمتابعة سير العمل بمشروع إنشاء السوق الحضاري بمدينة أبنوب، والمقام على مساحة 560 مترًا مربعًا، وذلك في إطار خطة المحافظة لتطوير الأسواق العشوائية وتحسين البيئة العمرانية، واستجابة لمطالب الأهالي بنقل الباعة الجائلين من وسط المدينة.
ورافق المحافظ خلال الجولة المهندس عصام عبدالظاهر، وكيل وزارة الإسكان، وسوزان محمد راضي، رئيس مركز ومدينة أبنوب، وعدد من القيادات التنفيذية وممثلي الشركة المنفذة للمشروع.
وحيث تفقد محافظ أسيوط الطابق الأرضي من السوق، الذي يضم محالًا تجارية مخصصة لاستيعاب الباعة الجائلين المنتشرين حاليًا في الشوارع الرئيسية، والذين يتسببون في ازدحام مروري يومي كما تفقد الطابق الثاني المخصص للمكاتب الإدارية، والطابق الثالث الذي يضم قاعة مناسبات متعددة الاستخدامات بهدف تعظيم الاستفادة من مرافق المشروع وزيادة الإيرادات المحلية.
وخلال الجولة، استمع المحافظ إلى شرح من وكيل وزارة الإسكان ورئيس المركز حول تفاصيل التنفيذ، حيث أوضحا أن المشروع يقام ضمن المرحلة الثانية من المنحة الألمانية (GIZ)، مع استمرار العمل في المرحلة الثالثة لبناء باكيات إضافية تستوعب باقي الباعة.
وأكد اللواء هشام أبو النصر أن السوق الحضاري الجديد يمثل نقلة نوعية في تنظيم حركة البيع والشراء بمدينة أبنوب، ويهدف إلى تخفيف التكدس وتحسين المظهر الحضاري، فضلًا عن توفير بيئة آمنة ونظيفة لتداول السلع الاستهلاكية، بما في ذلك الخضروات والفواكه واللحوم والأسماك والملابس.
وشدد المحافظ على أهمية الالتزام بالجدول الزمني للانتهاء من المشروع، تمهيدًا لافتتاحه الرسمي في أقرب وقت، ونقل الباعة الجائلين إليه لضمان الاستفادة القصوى من إمكانياته وتحقيق الأهداف المرجوة في خدمة المواطنين.