هل يستبدلون «الآلة» بـ«الإلهام»؟
تاريخ النشر: 31st, August 2024 GMT
طالعنا مؤخرا، أخبارا تتحدث عن استعانة الكتاب الغربيين بالذكاء الاصطناعي في كتابة رواياتهم. لم يفعل هؤلاء الكتَّاب سوى أنهم منحوا الآلة عناوين وخطوطا عريضة للأحداث بينما انبرى هو في إنجاز الكتابة بسرعة فائقة. هؤلاء الكتَّاب لم يجدوا حرجا في القول: إن الذكاء الاصطناعي يساعدهم على إصدار حزمة روايات في العام الواحد بعد أن كانوا يصدرون رواية يتيمة كل بضعة أعوام.
إذا انتقلنا إلى الأدباء والمترجمين والنقاد العرب.. ترى ما رؤيتهم حول الاستعانة بالذكاء الاصطناعي؟ وما حدود تدخله ومساعدته لهم؟ وهل يمكن أن تحل الآلة بديلا للكاتب في المستقبل؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيبون عنها في التحقيق الآتي.
الناقد والكاتب الأردني الدكتور محمد عبيد الله يرى أن الخوف من التحولات الجديدة خوف نمطي، لا يخص الذكاء الاصطناعي وحده، فقد تكرر في مختلف التحولات التي شهدتها البشرية، فغالبا ما نشعر بالخطر والخشية من مغادرة ما ألفناه، ونفكر فيما سنخسر لا فيما يمكن أن نربحه، مؤكدا أن الذكاء الاصطناعي هو طور جديد من أطوار ذكاء الآلة استنادا إلى محاكاة الذكاء البشري.
يفرض هذا التحول تحديات جديدة بالتأكيد، ويوجد مشكلات أيضا، ولكنه سيوجد معها حلولها وفرصها، بحسب عبيد الله، كما يتطلب أخلاقيات جديدة ينبغي التوافق عليها ونشرها، لتكون جزءا من أخلاقيات عصر جديد.
ويستدرك: «أما الإبداع الأدبي فأنا لا أخشى عليه، حتى لو تطورت قدرة الآلة على الصياغة وبناء سلاسل الجمل، لكنها ستظل لغة آلة، خالية من التجربة التي لا يمكن للآلة أن تعيشها، إلى جانب الموقف الذي ينطلق منه الأديب، أقصد الموقف السياسي والفكري والاجتماعي، وهو يميز الكاتب الإنسان عن الكاتب/ الآلة، فالأديب الحق يختار موقعا ينطلق منه، وليس الإبداع إنشاء جمل وتقنيات وشكليات بمقدور الآلة محاكاتها وإنتاجها بصورة فائقة وخاطفة. ربما نستريح من «أدباء» المحاكاة والتقليد أصحاب القوالب النمطية، هؤلاء -لحسن الحظ- هم من ينافسون إنتاج الآلة، وستكون أكثر قدرة منهم في «التقليد» و«المحاكاة»، أما الأديب المبدع صاحب «الخيال الخلاق» فلا أظن أنه سيقلق من شيء».
ويضيف: «هناك مشكلة الانتحال والسرقات الأدبية، وهي قضية قديمة من عهد الشفاهية الأولى ومرت بكل مراحل التطور في عهد الكتابية زمن المخطوطات، ثم تطورت في عصر المطبعة، وأخيرا في العصر الرقمي. نعم سيطور لصوص الأدب أدواتهم ويستثمرون تطبيقات الذكاء الاصطناعي وقدراته، ولكن في المقابل الأديب الحق لا ينتحل، بصرف النظر عن سهولة أو صعوبة الوصول للمادة الصالحة للانتحال، ذلك أن الانتحال مسألة أخلاقية وليست مسألة إمكانية».
وينهي عبيد الله كلامه قائلا: «على المستوى الشخصي، أنا من جيل أصبح قديما نسبيا في عصر السرعة والرقمية، ولكني أحاول أن أفهم إمكانات برامج الذكاء الاصطناعي، وأفيد منها كوسيلة للبحث وجمع المعلومات والترجمة الآلية، وغير ذلك من تطبيقات، ولكنني -ككاتب تكوَّن تقليديا- لا أسمح للآلة أن تكتب بدلا مني، ولا أن تفكر بدلا مني، هذه مهمة الكاتب/ الإنسان، ومهمة الآلة هي أن تساعده لا أن تحل محله».
متعة شخصية
من جهته لا يفضل الروائي المصري محمد الفخراني الاستعانة ببرامج الذكاء الاصطناعي، ليس لأسباب (درامية)، ولكن ببساطة لأن هذا سيُقَلل من متعته الشخصية بالكتابة.
ويلفت الفخراني إلى أن البعض ربما يعتبرون الذكاء الاصطناعي فرصة لفَتْح آفاق جديدة، ومقترحات أخرى على كتابته، ويقول: إن ذلك يمثل نوعا من «الاختيار»، ويسأل: لكن ما حدود هذه المساعدة؟ هل يقدم الذكاء الاصطناعي أفكارًا يتم الاشتغال عليها أم يفكك فكرةً ما إلى سرد؟ هل يترجم من لغة إلى أخرى، أو أي اقتراحات أخرى يقدمها؟ ويجيب على نفسه: «حدود هذه المساعدة تتوقف عند أن يظل العمل منتميا لصاحبه «البشري»، وفي رأيي أن قدرات الذكاء الاصطناعي تظل مرهونة بقدرات الكاتب نفسه، صحيح أنها تساعده، لكنها لن تنقله إلى نقطة أبْعَد، إنها تمنحه إمكانية الإنجاز في وقت أقل، وتساعده في اقتراحات، وخطوط عامة أو حتى تفاصيل داخل عمله أيا كان، لكنها لن تنقل هذا العمل إلى مستوىً أفضل، يظل «ذكاء» الذكاء الاصطناعي وقدراته داخل حدود دائرة ذكاء «البشري» الذي يستعمله، وجاهزيته العقلية والإبداعية».
حدود الآلة
أما الناقدة والمترجمة المصرية الدكتورة زينب محمد عبد الحميد فتؤكد أن العالم البحثي لن يخلو من تضمين الذكاء الاصطناعي ضمن أدواته التي تعنى باستجماع قاعدة معلوماتية ومرجعية شاملة وإن كانت هذه الأداة لم تدعم إلى الآن بدقةٍ اللغة العربية مقارنة بلغات أخرى بما يرجعنا إلى دلالة تتعلق بموقعنا من عالمنا اليوم. مشددة على أننا لا نستطيع أن نقنن حدود استخدام الذكاء الاصطناعي وذلك لأننا ببساطة لم نستوعب في عالمنا العربي هذه المساحة التي تبدو مجهولة أو لنقل إن خطانا نحوها لم تتجاوز الحدود الشكلية بعد.
وبخصوص الترجمة سيسهل الذكاء الاصطناعي ترجمة إحصاءات ومعلومات كثيرة، لكن كلما اقتربنا من «الأدبية» تقلص دور الذكاء الصناعي، بحسب زينب، إذ إنه لم يستطع إلى الآن في أحسن حالاته إيصال الحالة الشعورية أو إدراك ما بين السطور وقطعا لن يصل إلى المدلولات الأدبية كافة أو ما نطلق عليه «ما وراء النص» الذي هو مرمى كثير من النقاد، كما أنه جوهر عملية الترجمة التي تسعى بالأساس لا إلى ترجمة معجم المؤلف بل إلى نقل أدبيته وأسلوبه إلى عالم ثقافي مغاير.
وتقول: «قد يجد بعض الناس في عالم الذكاء الاصطناعي شبحا يقلل من دور الإنسان إلا أنني أراه مرحلة لتقليص الأعباء وحمل الإنسان على إظهار بصمته المتفردة التي لن تُهدَر في جمع المعلومات بل ستتحول هذه الطاقة نحو الاكتشاف والإبداع الرامي نحو تجاوزه المستمر للحدود والتوقع».
وتضيف: «على المستوى الشخصي فإني سأقبل بمساعدة الذكاء الاصطناعي في حدود بحثية تختصر جهد استجماع المصادر الورقية أو عرضا معلوماتيا شاملا، لكنني لن أتخلى عن جوهر الباحث حيث التدقيق والمراجعة ولن أنفلت من سياق الحالة الأدبية التي تسعى إلى تشكيل الكلمة والمعلومة بلباس إنساني وثقافي جمالي وثري».
أخطاء كارثية
الكاتب السوري نصار الحسن اطَّلع على بعض الأعمال التي استعان أصحابها بالذكاء الاصطناعي لإنجازها، ووجد بها الكثير من الأخطاء، مؤكدا أن تلك الأخطاء تصل إلى حدود الكوارث في «الترجمات» على وجه التحديد.
بشكل شخصي هل تقبل بمساعدة الذكاء الاصطناعي؟ أسأله فيجيب: «في حدود معينة، لأن العمل الروائي يحتاج لضبط دائم وهندسة صارمة تخص الأفكار والخيال. علينا ألا ننسى الإرث الثقافي وخصوصية التجارب الشخصية للكاتب وإمكانية تشتت النص إذا منحنا مساحة أكبر للذكاء الاصطناعي. يمكننا أن نتعامل معه في حدود ضيقة، وأن نستعين به في بعض المقترحات التي تشبه مقترحات المعارف والأصدقاء عندما نستفسر منهم حول أمرٍ ما».
فكر وروح
الكاتبة اللبنانية براءة الأيوبي ترى أن الذكاء الاصطناعي مثله مثل التطبيقات الموجودة لغايات وأهداف معينة، وفيما يتعلق بمسألة الكتابة تحديدا، فبالتأكيد تساعد إمكانيات هذه التكنولوجيا المتطورة الكبيرة، أي شخص مهما بلغ من عمرٍ أو ثقافةٍ أن يستخدمها في صياغة نصٍ ينسبه إلى نفسه. ولكن المسألة لا تتعلق بمدى قدرة هذا التطبيق على ممارسة الكتابة أو لا، ولكنها ترتبط بمصداقية الكاتب نفسه تجاه نفسه أولا وتجاه الآخرين ثانيا، مؤكدة أن الكاتب لا يحق له اللجوء إلى هذا التطبيق في سبيل إخراج نصٍ متكامل، يخرج به لجمهور القراء على أنه عملٌ إبداعيٌ من صناعته، فالكتابة هي روح، قبل أن تكون مجرد كلمات وعبارات نملأ بها فراغ السطور، الكتابة هي انعكاس لفكر وشخصية الكاتب، وإلا لماذا يفضل القراء كاتبا دون آخر؟ ولماذا يميلون إلى كتاباتٍ دون سواها؟ لو أن الأمر يتعلق فقط بصياغة عبارات صحيحة بلغةٍ متينة، لما كان هناك فرق بين كاتبٍ وآخر باعتبار أن معظم الأعمال تخضع لعملية التدقيق اللغوي قبل نشرها.
وتضيف: «أنا كقارئة قبل أن أكون كاتبة، تشدني كتابات لمؤلفين ومؤلفات أعتبرهم مفضلين وأبحث دائما عن جديدهم في المكتبات والمعارض. ثمة نكهة خاصة يتميز بها كل كاتب عن آخر، وهي التي تمنح نصه خصوصية. لذلك لن تستطيع التكنولوجيا مهما تطورت أن تكتب نصا إبداعيا بكل ما للكلمة من معنى، وهي بالتأكيد تفتقد إلى الإلهام الذي يرتكز إليه الكاتب. وبالطبع من حق القارئ أن يستمتع بقراءة الكاتب قبل قراءة النص. لذلك أنا على قناعةٍ تامة أن استعانة المبدع بالذكاء الاصطناعي يجب أن لا تتجاوز حدود الاستفادة من معلومة لغوية أو فكرية معينة، دون إلقاء المهمة الإبداعية إليه، وذلك انطلاقا من مسؤوليته الأدبية والأخلاقية أيضا».
بشكل شخصي هل تقبلين بمساعدة الذكاء الاصطناعي؟ تجيب: «الكتابة بالنسبة لي متعة وراحة وحتى وسيلة لتفريغ الشحنات الانفعالية، لذلك عندما أكتب أعيش في عالمي الخاص والذي لا أسمح لأي دخيلٍ أن يعترض خصوصيته. أنا شخصيا أرفض السماح للذكاء الاصطناعي بأن يتسلل إلى حالة الكتابة عندما أعيشها، وتحت أي عنوان كان. معظم كتاباتي تطغى عليها الناحية الوجدانية والإنسانية بشكلٍ عام، ولا يمكن أن أترك لأي متطفلٍ أن يقتحم طريقتي في التعبير والصياغة كائنا مَن كان، فما بالك بتطبيقٍ تكنولوجي جامد؟!».
عائق كبير
من جهته يقول الشاعر العماني لبيد العامري: «قد أكون متطرفا في رأيي إذا قلت: إن الذكاء الاصطناعي عائق كبير في سبيل الإبداع والابتكار، وحقيقة هذا ما أؤمن به، لكن في الوقت ذاته أشعر أنني أقف في وجه التطور التكنولوجي البشري، فثمة هنالك، ما علينا أن لا ننكره، استخدامات جيدة ومقبولة للذكاء الاصطناعي، شرط أن تكون محدودة وجزئية ومصونة بعين الرقيب الأخلاقي، كتحليل البيانات وتنظيمها بسرعة ودقة ومراجعة الأخطاء وتعديلها وغيرها من الخواص التي بسَّطت وسرَّعت من العملية البحثية، التي يستطيع أن يستفيد منها بشكل خاص الباحث والمترجم. لكن ثمة ما جعلني أتلكأ فيما يخص الكاتب والناقد، حيث إنني أجد أن كل مهنة ترتكز على الإبداع واللغة ستزيد من صعوبة ولوج الذكاء الاصطناعي إلى بابها، إلا على صعيد تصحيح الأخطاء الإملائية واللغوية، لأنه ربما سيشوهها ويفرغها من أصالتها، فأنا، وأعتقد أن كثيرين مثلي، يكفهرون ويشيحون بوجوههم عن أي لغة خشبية جامدة وإن كُتِبت بيد إنسان، فما بالك بروبوت؟!».
ويضيف: «أما بشكل شخصي فأنا لا أستخدم الذكاء الاصطناعي البتة، لأنني في الحقيقة لا أعرف كيف أستخدمه، فضلا عن كوني أقدس الإبداع البشري بفنونه وآدابه، وبما أنني شاعر فأجد أن الشعر والكتابة الإبداعية بمنأى قصي عن الذكاء الاصطناعي، وإن حدث في يوم وأدركه سيكون هو يوم مقتل الشعر والإبداع والفن والحضارة والتاريخ بخنجر تكنولوجي. لكن رغم كل هذا لا نعلم ما يخبئه لنا المستقبل، ربما سيتغير ويغيرنا معه».
مجرد وسيلة
أما الكاتبة والشاعرة الموريتانية أم النصر مامين فتؤكد أننا لا يمكننا غمط «الذكاء الاصطناعي» حقه، فقد ساعد في تسهيل الحياة وساهم في مرونتها، ولم يكن الإبداع بمنأى عن ذلك بشكل قطعي حيث ساعد المترجمين في ترجمة نصوصهم، حتى وإن لم يكن ذلك بالشكل الأمثل والمطلوب، لعدم قدرته على فهم سياق الكلام، كما ساعد النقاد في تجميع معلومات ومصطلحات وتعريفات تعينهم في كتابة دراساتهم النقدية، وكذلك الأمر مع الباحثين في مختلف حقول المعرفة، رغم الحاجة إلى إعادة تمحيص وتدقيق ما يصدر عنه من معلومات، نظرا لسرعة تعاطيه وجاهزيته الفائقة لمعالجة مختلف البيانات.
وتستدرك: «لكن رغم سرعة الوصول للمعلومات وسهولة الاطلاع عليها يبقى من غير المقبول اعتماد المبدع على رافد الآلة كمرجعٍ وحيد، بدلا من اعتبارها مجرد وسيلة تغذي فضوله المعرفي، وتجبره على العودة للمراجع والمصادر المعرفية الموثوقة»، وتضيف: «ترك زمام الأمور للآلة يعني عالما من المعلبات والمشاعر الباردة، وإنتاج الكثير من السذاجة والجمود واللا معنى، فبدون الإنسان وحساسيته وتفاعله الشاعري الممتزج بفطرة بشرية صرفة لا يمكن استساغة ما تنتجه الآلة الصناعية مهما بلغت من ذكاء ولا يمكن أن تكون ذات نفع حقيقي فذكاؤها مستمد من ذكاء صانعها، وبدون عنايته وتوجيهه لا قيمة لها».
ثم تنتقل أخيرا للتحدث عن تجربتها الشخصية: «أعتقد أنني سأكون مسرورة بمد يد المساعدة إلى الذكاء الاصطناعي والمساهمة في تطويره وتطوير طرق تفاعله مع الأعمال الموكل إليه إتمامها. ولكن هل أعتقد بأنه يهدد عمل الإنسان ويحد من فاعليته؟ الجواب: لا. لا أعتقد أن هذه الآلات تستطيع هزيمة هذا الكائن المسمى «الإنسان» لقدراته الفائقة وحاجته الرهيبة للتغير وتطور رؤيته للحياة والكون، فمهما ازداد تغول هذا الذكاء فإنه سيتآكل ويتلف بدون رعاية وتطوير مبرمجه وتحديثه المستمر».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بالذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی لا یمکن یمکن أن
إقرأ أيضاً:
هل يُعيد الذكاء الاصطناعي صياغة بيئة التعلم؟
أمل بنت سيف الحميدية **
يشهد التعليم العالمي تحوّلًا مُتسارعًا بفعل الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد مجرد تقنية مساعدة؛ بل أصبح محركًا رئيسًا يُعيد تشكيل العملية التعليمية؛ ففي العقود الماضية كان التعليم يعتمد على التلقين والمناهج الثابتة، أما اليوم فقد دخلت أدوات التحليل الذكي والتعلم التكيفي والفصول الافتراضية إلى المدارس والجامعات، لتفتح آفاقًا جديدة أمام الطلبة والمعلمين.
هذا التحول ليس خيارًا ترفيهيًا؛ بل ضرورة تفرضها متغيرات العصر ومتطلبات بناء رأس مال بشري قادر على المنافسة، وهو ما أكدته رؤية "عُمان 2040" التي وضعت التعليم أولوية وطنية للتنمية.
وتكمُن أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم في قدرته على جعل العملية التعليمية أكثر عدلًا وتخصيصًا ومرونة. فقد أوضحت منظمة اليونسكو في تقرير "الذكاء الاصطناعي في التعليم" الصادر عام 2023، أنَّ النماذج التعليمية الذكية تتيح مُتابعة تقدم الطلبة بشكل فردي، وتقديم محتوى يتناسب مع مستوياتهم وسرعتهم في الاستيعاب. كما إن الاستثمار في هذه الأدوات يدعم المعلمين في أدوارهم التربوية والإبداعية، ويحررهم من المهام الروتينية مثل إعداد الاختبارات أو متابعة الحضور. وفي السياق العُماني، يعدّ هذا التحول مُتسقًا مع الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040 التي تستهدف بناء نظام تعليمي متطور قادر على استيعاب الثورة الرقمية.
ويُؤكد تقرير الثورة الرقمية للذكاء الاصطناعي في التعليم العالي الصادر عن البنك الدولي لعام 2023، أن الذكاء الاصطناعي أحدث ثورة في التعليم العالي، عبر أدوات تحليل البيانات التعليمية والتنبؤ بمعدلات النجاح وتخصيص المناهج. كما يشير تقرير المسارات الرقمية للتعليم "تمكين أثر أكبر للجميع" الصادر عن البنك الدولي عام 2023، إلى أنَّ بناء بيئة تعليمية رقمية متكاملة يتطلب خططًا استراتيجية طويلة المدى تشمل البنية التحتية والتشريعات والتدريب المستمر للكوادر.
وبحسب الدليل الصادر عن منظمة اليونسكو بعنوان الذكاء الاصطناعي والتعليم: دليل لصانعي السياسات (صدر عام 2021)، فإنه يوضح كيفية إدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم بصورة أخلاقية تكفل العدالة وتكافؤ الفرص. ويشير إلى ما ينطوي عليه الذكاء الاصطناعي من مخاطر وفوائد، داعيًا إلى استخدامه بما يضمن المساواة والشمولية. كما يتناول قضايا التحيُّز في الخوارزميات وضرورة معالجتها عند تصميم النظم التعليمية، ويؤكد على خضوع السياسات ذات الصلة لمبادئ أخلاقية تراعي الأبعاد المجتمعية، ويربط ذلك بحق التعليم العادل وإتاحة فرص متكافئة لجميع المتعلمين.
ومن الأمثلة التطبيقية، استعرضت دراسة كمالوف وزملاؤه عام 2023 المنشورة على منصة (arXiv) نماذج عملية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الصفوف الدراسية، مثل أنظمة التدريس التكيفي، التي تقوم على تخصيص عملية التعليم وفق احتياجات كل طالب، إضافة إلى الاختبارات الذكية التي تكيّف أسئلتها وفق مستوى المُتعلِّم؛ وهي نماذج يمكن أن تجد طريقها إلى المدارس في سلطنة عُمان.
إنَّ التحولات الرقمية تطرح تحديات موازية، من أبرزها الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والنامية، واحتمال انحياز الخوارزميات، وضعف جاهزية المعلمين للتعامل مع الأدوات الجديدة. وقد شددت منظمة اليونسكو في تقريرها حول الذكاء الاصطناعي التوليدي عام 2023، على أهمية تطوير سياسات واضحة لضمان الاستخدام المسؤول لهذه التقنيات، مع التركيز على مبادئ الأخلاق والشفافية وإتاحة الوصول للجميع. وتؤكد رؤية "عُمان 2040" ضرورة بناء قدرات وطنية في البحث العلمي والتعلم الرقمي، وهو ما يعزز مكانة المعلم كشريك أساسي في التحول، وليس مجرد منفّذ للتقنية.
وبناءً عليه، يمكن صياغة خارطة طريق محلية لتبني الذكاء الاصطناعي في التعليم في سلطنة عُمان. تبدأ هذه الخارطة بتقوية البنية التحتية الرقمية في المدارس والجامعات، ثم تدريب المعلمين على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بكفاءة، يلي ذلك إطلاق برامج تجريبية في عدد من المؤسسات التعليمية لتقييم جدوى النماذج المختلفة، وأخيرًا توسيع التطبيق على نطاق وطني مع مراجعة دورية للنتائج. وهذا التدرج يتوافق مع ما أوصى به تقرير التقنيات المتقدمة من أجل التعليم الصادر عن البنك الدولي عام 2023، الذي أكد أن نجاح دمج التقنيات الحديثة يتطلب التوازن بين الابتكار والبُعد الإنساني.
إنَّ مستقبل التعليم في سلطنة عُمان يسير نحو نموذج ذكي ومستدام يجمع بين التقنية والقيم الإنسانية. فالذكاء الاصطناعي لا يُراد له أن يكون بديلًا عن المُعلِّم؛ بل شريكًا يسهّل مهمته ويعزز دوره في بناء القيم وتوجيه التفكير. ويبقى الهدف الأسمى إعداد جيل قادر على التكيّف مع متغيرات العالم الرقمي، مع الحفاظ على الهوية الوطنية. وهكذا، فإن الذكاء الاصطناعي يصنع الأدوات، أمَّا التعليم فهو الذي يصنع الإنسان القادر على توظيفها لخدمة التنمية والمجتمع.
** كاتبة وباحثة تربوية
رابط مختصر