عندما يقفز الذكاء الاصطناعي على حواجز اللغة؟
تاريخ النشر: 15th, October 2025 GMT
مؤيد الزعبي
لطالما كانت اللغة حاجزًا يقف بين الإنسان والشعوب الأخرى، وفي الوقت ذاته كانت بوابةً لاكتشافهم، والبعض يجدها رحلة يخوضها ليتعلّم ويتعرّف ويكتسب المهارة التي تمكّنه وتُميّزه عن غيره بامتلاكه لغة الآخر، وكثيرًا ما كانت اللغة مصدر رزق؛ إذ شكلت مهارة الترجمة أو التحدث بلغة أجنبية مسارًا مهنيًا لكثيرين، لكن اليوم، ومع التطور الهائل في تقنيات الذكاء الاصطناعي واقتحامها عالم الترجمة من أوسع أبوابه، يبدو أن الأبواب القديمة بدأت تُغلق أمام المترجمين، فيما تُفتح في المقابل أبواب جديدة أمام البشرية بأكملها؛ أبواب الاستكشاف والتفاعل الثقافي.
وقد أصبح بإمكاننا بفضل هذه التقنيات أن نتعرف إلى ثقافات جديدة، ونمارس طقوسًا مختلفة، ونتذوق ألوانًا من الفنون والموسيقى، ونتحاور مع عقول وأفكار من شتى بقاع الأرض، ونبني صداقات تتجاوز الحدود والمسافات، في تواصلٍ لم تعرفه البشرية بهذه السهولة من قبل.
مع كل هذا الانفتاح المذهل، يحق لنا أن نتساءل: هل يمثل هذا التطور نعمةً تُقرّبنا أكثر وتعمّق تواصلنا الإنساني؟ أم أنه يحمل وجهًا آخر، يخفي في طيّاته خطر ذوبان الخصوصية الثقافية واللغوية التي تضمن تنوع الحضارات واستمرارها؟ أود أن أتحاور معك عزيزي القارئ من خلال هذا الطرح، لنتأمل معًا الوجهين المختلفين لهذا التحول التكنولوجي الذي يعيد صياغة علاقتنا بالعالم وبأنفسنا.
حضرتُ قبل أيام حفل إطلاق منتجات شركة IFLYTEK أثناء معرض جايتكس في دبي؛ حيث عرضت سماعات وأجهزة ترجمة فورية محمولة تتحوّل بها محادثاتك مع شخص يتكلم لغة مختلفة إلى لغتك الأم، ويتحول الحوار الفوري إلى حوارٍ بلا فواصل أو حواجز لغوية تقريبًا. وهذه التقنية لا تنهي فقط الحاجة إلى مترجم بشري في بعض السياقات؛ بل تفتح أمام البشر بابًا جديدًا للتعرّف على عوالم وثقافات، وكم من دولة فكرت السفر إليها وكانت اللغة هي الحاجز الوحيد الذي يقف أمامك، ولكن مع الذكاء الاصطناعي بات الأمر ممكنًا وسهلًا، ولن أخوض اليوم في دقة الترجمة فمثل هذه التقنيات مازالت في طور التقدم والتطوير وستصل يومًا لما نصبوا إليه من ترجمة دقيقة وسلسة.
الذكاء الاصطناعي بات اليوم يتعرف فوريًا على اللهجات واللهجات الفرعية، وليس فقط يمكنه فهم اللغة الرسمية؛ بل طريقة النطق ومخارج الحروف أيضًا، ويومًا بعد يوم تصبح الآلة أكثر قدرة على فهم اللهجات واللغات، ومع استخدام الأجهزة المحمولة أو السماعات سيجعل الترجمة ترافقك في الطريق، في الاجتماعات، في السفر، في التبادل الثقافي، وأيضًا في المكالمات الهاتفية بحيث تتم الترجمة فوريًا في أذنك، والأجمل من كل هذا أن الذكاء الاصطناعي يتيح لك ليس فقط فهم ما يقول الآخر، بل أيضًا تلمّس إحساسه، ثقافته، عادات التعبير، وذلك من خلال محاكاة الذكاء الاصطناعي لصوت ونبرة المتكلم، وهذا يخلق احتكاكًا ثقافيًا أكثر عمقًا مما لو اعتمدنا فقط على وسيط بشري أو على الترجمة الكتابية التقليدية، وتخيل كيف يمكن نقل التجربة لتصبح تجربة تفاعلية يومية نستخدمها في كل شيء من حولنا، من موسيقى وأفلام ونقاشات ومحاضرات وندوات.
مع كل هذا السحر.. ثمة تساؤل يجب أن نعود لطرحه؛ هل هذا التطور نعمة للتعرف على ثقافات جديدة وللتقريب بين البشر، أم أنه يحمل في طيّاته مخاطر؟ هل ستُمحى خصوصية اللغة الأصلية وتختفي الفوارق التي تُميز الشعوب في طريقة التعبير؟ وهل سيصبح “التنوّع اللغوي والثقافي” مجرد تاريخ مسحته التقنية والآلة؟
هذه التساؤلات جميعها مهمة؛ فنحن كبشر حاولنا قدر المستطاع أن نحافظ على ثقافاتنا وتاريخنا عبر اللغة، ولطالما كانت اللغة بحد ذاتها ثقافة لها أسلوبها الذي يميزنا ويكسبنا نوعًا من الخصوصية، ولكن كل هذا معرض للذوبان في ظل تقنيات ستعطينا القدرة على التواصل بشكل أفضل من جانب وتسلبنا خصوصيتنا الثقافية من جانب آخر، إلا لو استطعنا أن نستغل التكنولوجيا والتقنية في المحافظة على موروثنا اللغوي والثقافي بدلًا من أن نمحيه وهذا جانب طويل قد نتناقش فيه في مقال قادم.
أتفقُ مع أن التكنولوجيا جعلت العالم أقرب ولكن علينا أن نستخدم هذا التقدم لنمهد لمساحات مشتركة من الفهم الفكري والتبادل الثقافي؟ وعلينا أن نستفيد من تقنيات الترجمة الخوارزمية أن صح تسميتها هكذا بلا أن نفقد اللغة والثقافة التي نمثلها، فقوة الثقافة ليست فقط فيما نترجمه وننقله عن الاخر بل فيما لا يُمكن ترجمته وهو ما يميز ثقافة عن أخرى، وهو ما يعطي أي شعب خصوصيته في الكثير من الجوانب.
في النهاية يجب أن نعترف بأن الذكاء الاصطناعي قد يمنحنا مفاتيح العالم، لكنه لن يمنحنا روحَه، وبالنسبة لي اللغة هي روح الثقافات، واللغة أكثر من مجرد أداة تواصل؛ إنها هويتنا وذاكرتنا المجتمعية، وتاريخنا كأمة، لذلك حين نعبر إلى المستقبل فلنعبر بأعين منفتحة على الآخر دون أن نغلق أعيننا عن أنفسنا، وأقصد هنا أنه لا يجب لنا الانخراط في فهم الآخر لدرجة أن نذوب نحن وسط ثقافته؛ بل يجب أن نحافظ على ثقافتنا ولغتنا حتى تعيش للغد.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل يُعيد الذكاء الاصطناعي صياغة بيئة التعلم؟
أمل بنت سيف الحميدية **
يشهد التعليم العالمي تحوّلًا مُتسارعًا بفعل الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد مجرد تقنية مساعدة؛ بل أصبح محركًا رئيسًا يُعيد تشكيل العملية التعليمية؛ ففي العقود الماضية كان التعليم يعتمد على التلقين والمناهج الثابتة، أما اليوم فقد دخلت أدوات التحليل الذكي والتعلم التكيفي والفصول الافتراضية إلى المدارس والجامعات، لتفتح آفاقًا جديدة أمام الطلبة والمعلمين.
هذا التحول ليس خيارًا ترفيهيًا؛ بل ضرورة تفرضها متغيرات العصر ومتطلبات بناء رأس مال بشري قادر على المنافسة، وهو ما أكدته رؤية "عُمان 2040" التي وضعت التعليم أولوية وطنية للتنمية.
وتكمُن أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم في قدرته على جعل العملية التعليمية أكثر عدلًا وتخصيصًا ومرونة. فقد أوضحت منظمة اليونسكو في تقرير "الذكاء الاصطناعي في التعليم" الصادر عام 2023، أنَّ النماذج التعليمية الذكية تتيح مُتابعة تقدم الطلبة بشكل فردي، وتقديم محتوى يتناسب مع مستوياتهم وسرعتهم في الاستيعاب. كما إن الاستثمار في هذه الأدوات يدعم المعلمين في أدوارهم التربوية والإبداعية، ويحررهم من المهام الروتينية مثل إعداد الاختبارات أو متابعة الحضور. وفي السياق العُماني، يعدّ هذا التحول مُتسقًا مع الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040 التي تستهدف بناء نظام تعليمي متطور قادر على استيعاب الثورة الرقمية.
ويُؤكد تقرير الثورة الرقمية للذكاء الاصطناعي في التعليم العالي الصادر عن البنك الدولي لعام 2023، أن الذكاء الاصطناعي أحدث ثورة في التعليم العالي، عبر أدوات تحليل البيانات التعليمية والتنبؤ بمعدلات النجاح وتخصيص المناهج. كما يشير تقرير المسارات الرقمية للتعليم "تمكين أثر أكبر للجميع" الصادر عن البنك الدولي عام 2023، إلى أنَّ بناء بيئة تعليمية رقمية متكاملة يتطلب خططًا استراتيجية طويلة المدى تشمل البنية التحتية والتشريعات والتدريب المستمر للكوادر.
وبحسب الدليل الصادر عن منظمة اليونسكو بعنوان الذكاء الاصطناعي والتعليم: دليل لصانعي السياسات (صدر عام 2021)، فإنه يوضح كيفية إدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم بصورة أخلاقية تكفل العدالة وتكافؤ الفرص. ويشير إلى ما ينطوي عليه الذكاء الاصطناعي من مخاطر وفوائد، داعيًا إلى استخدامه بما يضمن المساواة والشمولية. كما يتناول قضايا التحيُّز في الخوارزميات وضرورة معالجتها عند تصميم النظم التعليمية، ويؤكد على خضوع السياسات ذات الصلة لمبادئ أخلاقية تراعي الأبعاد المجتمعية، ويربط ذلك بحق التعليم العادل وإتاحة فرص متكافئة لجميع المتعلمين.
ومن الأمثلة التطبيقية، استعرضت دراسة كمالوف وزملاؤه عام 2023 المنشورة على منصة (arXiv) نماذج عملية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الصفوف الدراسية، مثل أنظمة التدريس التكيفي، التي تقوم على تخصيص عملية التعليم وفق احتياجات كل طالب، إضافة إلى الاختبارات الذكية التي تكيّف أسئلتها وفق مستوى المُتعلِّم؛ وهي نماذج يمكن أن تجد طريقها إلى المدارس في سلطنة عُمان.
إنَّ التحولات الرقمية تطرح تحديات موازية، من أبرزها الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والنامية، واحتمال انحياز الخوارزميات، وضعف جاهزية المعلمين للتعامل مع الأدوات الجديدة. وقد شددت منظمة اليونسكو في تقريرها حول الذكاء الاصطناعي التوليدي عام 2023، على أهمية تطوير سياسات واضحة لضمان الاستخدام المسؤول لهذه التقنيات، مع التركيز على مبادئ الأخلاق والشفافية وإتاحة الوصول للجميع. وتؤكد رؤية "عُمان 2040" ضرورة بناء قدرات وطنية في البحث العلمي والتعلم الرقمي، وهو ما يعزز مكانة المعلم كشريك أساسي في التحول، وليس مجرد منفّذ للتقنية.
وبناءً عليه، يمكن صياغة خارطة طريق محلية لتبني الذكاء الاصطناعي في التعليم في سلطنة عُمان. تبدأ هذه الخارطة بتقوية البنية التحتية الرقمية في المدارس والجامعات، ثم تدريب المعلمين على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بكفاءة، يلي ذلك إطلاق برامج تجريبية في عدد من المؤسسات التعليمية لتقييم جدوى النماذج المختلفة، وأخيرًا توسيع التطبيق على نطاق وطني مع مراجعة دورية للنتائج. وهذا التدرج يتوافق مع ما أوصى به تقرير التقنيات المتقدمة من أجل التعليم الصادر عن البنك الدولي عام 2023، الذي أكد أن نجاح دمج التقنيات الحديثة يتطلب التوازن بين الابتكار والبُعد الإنساني.
إنَّ مستقبل التعليم في سلطنة عُمان يسير نحو نموذج ذكي ومستدام يجمع بين التقنية والقيم الإنسانية. فالذكاء الاصطناعي لا يُراد له أن يكون بديلًا عن المُعلِّم؛ بل شريكًا يسهّل مهمته ويعزز دوره في بناء القيم وتوجيه التفكير. ويبقى الهدف الأسمى إعداد جيل قادر على التكيّف مع متغيرات العالم الرقمي، مع الحفاظ على الهوية الوطنية. وهكذا، فإن الذكاء الاصطناعي يصنع الأدوات، أمَّا التعليم فهو الذي يصنع الإنسان القادر على توظيفها لخدمة التنمية والمجتمع.
** كاتبة وباحثة تربوية
رابط مختصر