الحردلو (20) الشعر البدوي والذائقة الجمالية..!
تاريخ النشر: 3rd, September 2024 GMT
يشير "عادل بابكر" في كتابه (الحردلو صائد الجمال) إلى أن من بين أكثر النظريات ذيوعاً حول هجرات القبائل العربية للسودان تلك التي ترجع بها إلى ما قبل ظهور عصر الإسلام..!
وحول هذه النظريات يستعرض د.محمد الواثق في كتابه (الشعر السوداني في القرن العشرين) رؤى مختلفة ومتعارضة حول لغة البطانة؛ لكنه يقول أنها فيما يبدو الأقدم عبر الهجرات الباكرة للموجات التي دخلت السودان من القبائل العربية (ربيعة وجهينة وكنانة).
وهناك رؤى أخرى مثل تلك التي يتبناها بروفيسور عبد الله الطيب والتي تقول إن لغة البطانة هي فرع من اللغة السامية الأم؛ مثلها مثل العبرية والعربية والقييز (Ge'ez). وترتكز رؤية عبدالله الطيب على الفكر التوراتي بأن حام بن نوح نزل في إثيوبيا (الاسم القديم للسودان كما يرى عبد الله الطيب) وزرع لغته السامية هناك..!
**
ومع ميلاد دولة الفونج الإسلامية (1500-1821) التي تُعرف بالسلطنة الزرقاء كانت اللغة السائدة (لغة التخاطب) هي اللغة السودانية الدارجة المتولّدة عن اللغة العربية القديمة قبل الإسلام.. ويقول د.الواثق إن العربية السائدة (المعيارية) بدأت تنتعش وتزدهر بوصول زعماء وشيوخ الطرق الصوفية من مختلف بقاع العالم الإسلامي الذين جذبهم الإعجاب بميلاد دولة إسلامية جديدة في السودان..وظل المشهد الشعري يهيمن عليه الشكل الهجين للغة العربية وهو مزيج بين اللغة العربية الكلاسيكية واللغة الدارجة..!
والمقاطع الشعرية للشيخ (فرح ود تكتوك) على سبيل المثال كانت واسعة الذيوع في ذلك الوقت..ويعود الفضل إلى مقدرة الشعراء المُدهشة في صياغة الرسائل الاجتماعية والدينية في صورة شعرية قوية وحصيفة تحتشد بروح الفكاهة والسخرية التي ما أسرع أن ظفرت بإعجاب السكان المحليين وانتشرت لتستقر عميقا في ثقافة السودانيين حتى اليوم..!
**
ويمثّل زوال عهد الفونج في عام 1821 عهداً جديداً في تاريخ السودان بظهور الإدارة التركية المصرية التي حكمت البلاد لستة عقود حتى عام 1885. وبنهاية دولة المهدية في عام 1898 ارسي الحكم الانجليزي المصري (1898-1956) الأساس لدولة السودان الحديثة عبر حكومة مركزية لها خدمة مدنية ونظام ضرائب وتعليم مدني. ومن ثم انفتحت البلاد أمام تأثيرات الثقافة الأجنبية القادمة من الخارج.
وكان قد جرى إرسال قضاة الشريعة ومعلمي اللغة العربية المصريين إلى السودان، كما تم ابتعاث الطلبة السودانيين للدراسة في القاهرة. وفي هذه الفترة أيضاً قام الأوروبيون بتأسيس مجتمعاتهم الخاصة في السودان، وادخلوا نمطاً جديداً من أساليب الحياة (الأندية والموسيقى والمسارح).
**
د.الواثق يقّرر أنه بالرغم من أن العربية المعيارية أصبحت اللغة الرسمية للدولة الجديدة في هذه الفترة..إلا أن الدوبيت وصل إلى مرتقىً عالٍ بفضل شعراء عباقرة من الجعليين والشكرية والجموعية والبطاحين.
وأصبح إقليم البطانة شرقي السودان مركزاً (Hub) لهذا الضرب من الأدب..ولعب دوراً مركزياً في تشكيل الذائقة الجمالية للسودانيين (Shaping Sudan’s Aesthetic Taste) بالاتساق مع المزاج الديني الذي أوجدته الصوفية الشعبية في عصر الفونج..!
ويعتقد د.الواثق أن الدوبيت يُظهر نغمة الأمة بصورة أكثر دقة من الشعر العربي الكلاسيكي..! كما أنه يمثل سجلاً راصداً للحياة الاجتماعية والتطوّرات السياسية في السودان..حيث يكشف عن الحوادث المهمة مثل غزو جيش محمد علي باشا للبلاد؛ ومقتل ابنه إسماعيل على يد المك نمر زعيم الجعليين، وهروب نمر إلى إثيوبيا.والتصرفات القسرية القاسية للحكم التركي؛ وحكم المهدية وهزيمة الأتراك؛ والغزو البريطاني للبلاد؛ وكثير من مثل هذه الأحداث...!
**
وفي المقابل وعلى النقيض من ذلك فإن كثير من شعراء العربية الكلاسيكية الذين خدموا كصوت دعاية و(لسان حال) mouthpiece خلال حكم المهدية وما بعدها، صمتوا بغرابة عن العديد من الحوادث المهمة مثل هزيمة قوات المهدية عام 1898 على يد جيش كتشنر، وما أعقب ذلك من مقتل الخليفة عبدالله ولاحقاً عبد القادر ود حبوبه..ثم على أحداث كبيرة مثل ثورة 1924 ومحاكمة البطل الوطني علي عبداللطيف..كل هذه الأحداث ذهبت إلى مدارج الصمت في سجل الشعر الكلاسيكي..!!
هكذا يرى د.الواثق الأمر في المقاربة بين الشعر البدوي الشعبي والشعر العربي الكلاسيكي..!
وهذا يعني انك ربما تعرف أكثر عن تاريخ السودان السياسي والاجتماعي من خلال الشعر الشعبي البدوي والدوبيت مقارنة بالشعر العربي الكلاسيكي في السودان..!
**
الشاعرة الكباشية المجهولة (قيل إنها اللينة عبد الخير) نراها وقد تصدت (زجلاً) للمفتش الانجليزي (مور) في احد قراراته بمنع رعي الإبل في بعض مناطق الكبابيش..ووجهت له رسالة أصبحت أغنية في شفاه بنات الحي، ثم ما جاورها من قرى، ثم طار صيتها إلى كل أنحاء البلاد..لقد قالت للمفتش "مور" أن إبل أهلها سوف ترعى رغما عنه و)على رأسه(:
ابلاً فوقا الجدعه
فوق الصي منجدعه
قول لي مور أب صلعه..
فوق مداغتك ترعى..!
ثم ألم يتمرد الهمباته في إشعارهم على الحكّام والباشوات وقرارات تقييد الانتقال وتحديد حركة المواطنين:
الباشا البعنولو
شن عرضو وشن طولو..؟
كان حجّر حلولو..
شرق الله البارد هولو..؟!
مرتضى الغالي
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان د الواثق
إقرأ أيضاً:
فلسفة الذم والشتائم في الأدب.. كيف تحوّل الذم إلى غرض شعري؟
ما الذي يدعو الإنسان إلى شتم الآخرين؟ هل جربت أن تسأل نفسك عن أسباب الراحة النفسية التي تجدها أحيانًا بعد شتم أحد أساء إليك؟ هل فكرت بالكلمات التي تتلفظ بها عند الشتم؟ ما مصدرها وكيف تسربت إلى عقلك واستقرت في خلدك وخرجت على لسانك في تلك اللحظة العصبية بالذات؟ هل تعلم أن لعائلتك ومحيطك الباع الأكبر في تشكيل معجمك الذي تهرع إليه عند الحاجة إلى الشتم؟ وهل تعلم أن للشتم وألفاظه وأساليبه أسبابًا خفية تتعلق بماضيك وطفولتك وبيئتك ومجتمعك وأصدقائك؟
إن الناظر في أدبنا العربي بشقيه شعرًا ونثرًا يجد أن الشتم والهجاء احتل مساحة واسعة فيه، لكن أساليبه اختلفت بحسب الشخص والمخاطب والواقعة والمناسبة. لنلقِ نظرة على فلسفة الشتم وتجلياته في الشعر العربي في العصور القديمة. وفي الفرق بين السب والشتم قال أبو هلال العسكري: "إن الشتم تقبيح أمر المشتوم بالقول، وأصله من الشتامة وهو قبح الوجه ورجل شتيم قبيح الوجه، والسبّ هو الإطناب في الشتم والإطالة فيه".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2من بغداد إلى القاهرة.. دروس الروح الأدبية في منافسات الشعراءlist 2 of 2الأكاديمي العراقي عبد الصاحب مهدي: ترجمة الشعر إبداع يهزم الآلةend of list ما سيكولوجية الشتم؟يعرف الشتم بالسَّبِّ أيضًا، وهو استخدام كلمات نابية أو مهينة غير لائقة وغير مقبولة اجتماعيا، للتعبير عن الغضب والاستياء، أو الألم، أو للتندر والفكاهة أحيانًا.
وعلى الصعيد النفسي يُفسر الشتم باتجاهات مختلفة ويحمل وظائف عدة، كأن يُستعمل للتنفيس الانفعالي وتفريغ الغضب أو التوتر، أو يُستعمل لتعزيز العلاقات لا سيما بين الأصدقاء! إذ يزيد من الشعور بالألفة، وقد أظهرت إحدى الدراسات أن الشتم في مرحلة المراهقة وفترة الشباب لا يُعد سلوكًا عدوانيا، بل له دلالات اجتماعية وتعبيرية، لأنه أشبه بأداة لبناء علاقات اجتماعية، والتعبير عن النضج، وتأكيد الهوية، وفي أحيان أخرى يُستخدم بوصفه آلية للاندماج داخل الجماعة.
وفي دراسة بعنوان "لماذا نشتم؟"، وجد الكاتب بعد تحليل أسباب الشتم نفسيا وعصبيا واجتماعيا أن هناك رابطًا بين العواطف واللغة والسلوك العدواني، وشرح كيفية تخزين الشتائم في الدماغ بشكل منفصل عن الكلمات العادية، يريد بذلك أن الشتائم عفوية إلى حد ما، وتنشط في مناطق دماغية مختلفة عن اللغة المعتادة المستخدمة في الحياة اليومية.
إعلانويلجأ الناس إلى الشتم بحسب بعض الدراسات بوصفه رد فعل على الألم، لأنه يزيد من القدرة على تحمل الألم الجسدي، إذ يعمل الشتم كآلية دفاعية تزيد من التحمل الجسدي للألم عبر تحفيز الاستجابة الانفعالية وتحفيز إفراز هرمون الأدرينالين في الجسم، فالشتم وفقًا لذلك ليس سلبيا بالمطلق، بل قد يكون مفيدًا للصحة النفسية وتخفيف الألم، وتحسين الأداء والتفاعل في بعض المواقف.
كما يستخدم الشتم في أحيان أخرى للتعبير عن الهوية أو العصيان والتمرد في تحدي السلطة أو الأعراف الاجتماعية. وتؤكد ذلك إحدى الدراسات التي تناولت تاريخ الشتم من العصور القديمة حتى اليوم، إذ ترى أن النظرة المجتمعية للشتم قد تغيرت، وهي في تغير دائم بحسب الدين والثقافة والسياسة، وتذهب إلى أن الشتائم ليست محض كلمات نابية، بل مرايا تعكس تحولات المجتمعات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
وفي سياق اللغة العربية وفي غمرة من المجاز الواسع والتداول اللغوي وسطوة المجتمع وهيمنته على الاستعمالات اللغوية والتراكيب والألفاظ المعتمدة بين الناس عامة، تجد أن للشتم والسّبّ وجوهًا أخرى، فقد تسمع عبارة بسيطة سطحية لا تتضمن أي لفظ خارج عن سياق الأدب ومنظومة الأخلاق، لكنها من الشتم والهجاء بمكان عالٍ، قد لا تصل إليه الألفاظ البذيئة نفسها!
وذلك فضلا عن أنه يُستخدم في مواقف الاستغراب والتضامن الاجتماعي! نعم… لا تعجب، فالمعنى في كثير من الأحيان وإن بدا اللفظ بذيئًا يعتمد على السياق الاجتماعي والنبرة والمخاطَب. والأمثلة في الأدب العربي واللغة العربية العامية المتداولة يوميا كثيرة.
كيف تناول الشعراء الشتم في أشعارهم في العصور المتقدمة؟الهجاء هو اللبوس الأوسع للشتم والسباب، ويعد غرضًا رئيسًا من أغراض الشعر العربي، وذلك لأن الشاعر عامة يكتب حين يغضب أو يرغب، والمقصود بالهجاء ذمّ شخص أو قبيلة ما وتجريدهم من كل المحامد، وفضح عيوبهم وتسليط الضوء عليها، بغرض الإهانة والتحقير والسخرية. وقد يكون الهجاء دفاعًا عن النفس، أو دفاعًا عن مبدأ عقدي أو سياسي أو اجتماعي، وقد يكون بغرض الانتقام، ويكون أحيانًا للتسلية والتحريش بالآخر فحسب!
وأشدّ الهجاء ما قام على التفضيل، فقد حكى ابن سلام الجمحي عن يونس بن حبيب أنه قال: "أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل، وهو الإقذاع عندهم". وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "من قال في الإسلام هجاء مقذعًا فلسانه هدر".
وحقيقة الهجاء القائمة على السب والشتم قديمة قدم الشعر العربي، فقد قال بعض العلماء كما جاء في كتاب العمدة لابن رشيق: "بُني الشعر على أربعة أركان، وهي: المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء". وقالوا أيضًا إن "قواعد الشعر أربع: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب؛ فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع".
وقال آخرون: "الشعر كله نوعان: مدح، وهجاء؛ فإلى المدح يرجع الرثاء، والافتخار، والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف: كصفات الطلول والآثار، والتشبيهات الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق: كالأمثال، والحكم، والمواعظ، والزهد في الدنيا، والقناعة، والهجاء ضد ذلك كله، غير أن العتاب حال بين حالين؛ فهو طرف لكل واحد منهما".
إعلانكانت ألفاظ الشتم والهجاء في العصور القديمة قاسية قوية الوقع على النفس، وكانت وسيلة للتعبير عن الغضب أو الانتقام أو التحقير الاجتماعي، وكثيرًا ما كانت تعتمد على استهداف الأنساب والأحساب وشتم العائلة والآباء والأجداد، وتعرّج على ذكر النساء واستفزاز المشتوم بذكر أمه وأخته وزوجه وبناته بسوء، وتذهب إلى تصوير المهجوّ في صور نفسية وبدنية دونية وبشعة، وتصفه بأشنع الصفات وتلصق به أقبح الخصال، وتذكر من عيوبه الجسدية ما يحمل على السخرية منه ورسم صورة كوميدية مضحكة له.
يقول ستيڤن پنكر المختص اللغوي والباحث الاجتماعي: "يجب أن تصيب المسبّة ما هو غال وثمين ومحبوب لدى من استخدمها لكي يعتقد أن لها فعالية الجرح والإهانة المقصود"، لذا ترتكز معاني الهجاء على تجريد المهجو من كل الخصال الحسنة والصفات الحميدة، ومن كل ما يعتز به العربي كالنسب الأصيل وخصال الشهامة كالشجاعة والكرم وحماية الجار وإغاثة الملهوف وغير ذلك من محاسن الأخلاق، ولتجريده منها لا بد من رميه بنقيضها من الصفات كالجبن والبخل والغدر والنسب الوضيع.
نجد في العصر الجاهلي كثيرًا من الهجاء الذي يعتمد على الشتم في قصائد يمتزج فيها المدح والفخر بالنفس والقبيلة بهجاء الخصم وشتمه والحط من شأن ذويه وقبيلته. ومن ذلك ما قاله الشاعر الجاهلي بشر بن أبي خازم في ذم رجل يدعى أوس وهجائه:
إِنَّكَ يا أَوسُ اللَئيمُ مَحتَدُه
عَبدٌ لِعَبدٍ في كِلابٍ تُسنِدُه
مُعَلهَجٌ فيهِم خَبيثٌ مَقعَدُه
إِذا أَتاهُ سائِلٌ لا يَحمَدُه
مِثلَ الحِمارِ في حَميرٍ تَرفِدُه
وَاللُؤمُ مَقصورٌ مُضافٌ عَمَدُه
وكذلك امرؤ القيس الذي قال في هجاء قبائل برمتها فجردها من كل مناقبها، وألصق بها من المثالب ما يندى له جبين العربي الأصيل مُعممًا على أفرادها كلهم، صارفًا عنهم أي استثناء، جاعلًا منهم أشنع الناس وأسوأ القبائل والعشائر:
أَلا قَبَّحَ اللَهُ البَراجِمَ كُلَّها
وَجَدَّعَ يَربوعًا وَعَفَّرَ دارِمَا
وَآثَرَ بِالمِلحاةِ آلَ مُجاشِعٍ
رِقابَ إِماءٍ يَقتَنينَ المَفارِما
فما قاتَلوا عَن رَبِّهِم وَرَبيبِهِم
وَلا آذَنوا جارًا فَيَظفَرَ سالِما
وَما فَعَلوا فِعلَ العُوَيرِ بِجارِهِ
لَدى بابِ هِندٍ إِذ تَجَرَّدَ قائِما
ويطالعنا الشاعر المخضرم الحطيئة الهجّاء الأشرس الأعنف الذي لم يسلم أحد من لسانه، حتى طال به أمه وأباه، وهجا نفسه حين ضاقت به السبل وافترّ لسانه!
قال في هجاء رجل يدعى قُدامة:
قُدامَةُ أمسى يَعرُكُ الجَهلُ أَنفَهُ
بِجَدّاءَ لَم يُعرَك بِها أَنفُ فاخر
فَخَرتُم ولم نَعلَم بِحادِثِ مَجدكم
فَهاتِ هَلُمَّ بعدها لِلتَنافُرِ
ومن أَنتُمُ إِنّا نَسينا مَن أنتم
وَريحُكُمُ مِن أَيِّ ريحِ الأَعاصر
وبالمجيء إلى صدر الإسلام نجد أن الشتم على الرغم من مخالفته لتعاليم الإسلام لم يختفِ من سجلات الشعر والنثر العربي، لكنه اتجه اتجاهات مختلفة نوعًا ما عند أولئك الشعراء والأدباء الذين التزموا تعاليم الدين وشريعته.
غير أن الشتم والتعريض بالدين والمعتقد صار وسيلة أيضًا ما دام يؤلم المهجو ويستفزه، لذا صار الهجاء المتبادل بين المسلمين والمشركين آنذاك ينطلق من الأفكار الدينية والمساس بها بشكل مباشر.
وانبرى عدد من الشعراء حينذاك للدفاع عن الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم، كحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك.
ومن أشعار عبد الله بن رواحة الشاعر المخضرم الذي عاش في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان من الشعراء الذين نافحوا عن الإسلام والرسول الكريم، قوله في ذم رجل يعرف باسم قيس:
يا قَيسُ أنتم شِرارُ قَومِكم
قِدمًا وَأَنتُم أَغَثُّهم نَسَبا
حالَفتُمُ الفُحشَ وَالخيانة وال
بُخلَ جميعًا واللُؤمَ والكَذِبا
ومن أشعار كعب بن مالك في ذمّ من يحاول النيل من رسول الله من المشركين صلى الله عليه وسلم قوله:
أعامرَ عامرَ السَّوءاتِ قِدْمًا
فلا بالعقل فُزْتَ ولا السّناء
أَأَخْفَرْتَ النّبيَّ وكنت قدِمًا
إلى السّوْءاتِ تجري بالعراءِ
إعلانوفي العهد الأموي سطع نجم ثلاثة من شعراء الطبقة الأولى، وعرفوا بالمثلث الأموي لوفرة الشعر المتبادل بينهم، وكانوا المواقد التي أنضجت فن النقائض آنذاك حتى وصل إلى الذروة؛ هم جرير والفرزدق والأخطل، فرسان الشعر في العهد الأموي عامة وفي غرض الهجاء خاصة، إذ تبادلوا الشتم والذم حتى اشتهروا به، ولم يترك واحدهم للآخر منفذًا يتسلل منه سوى الرد عليه بما هو أقبح وأشنع. وقد رسم كل منهم لصاحبه صورًا كوميدية أشبه اليوم بالرسوم الكاريكاتيرية؛ ومن ذلك قول جرير في ذم الفرزدق ناعتًا إياه بسوء الخلقة والخلق في آن واحد:
لقد ولدت أم الفرزدق فاجرًا
فجاءت بوزواز قصير القوائمِ
يوصل حبليه إذا جنّ ليله
ليرقى إلى جاراته بالسلالمِ
وقد أمعن كل من الفرزدق وجرير في هجاء بعضهما وذمّ كل ما يخصهما حتى بلغ بهما الأمر أن ارتبطا ببعضهما ارتباطًا نفسيا في الوجود والشهرة والانتشار، وكان جرير يصرّ على وصف الفرزدق بالقرد كثيرًا في أشعاره، فمن ذلك قوله:
إن البليّــة لا بليّة مــثلها
قرد يعلِّل نفسه بالباطل
وقوله أيضًا:
وما كان الفرزدق غيــر قردٍ
أصابتهُ الريــاحُ فاستدارا
وكذلك الفرزدق كان شاعرًا هجّاء محترفًا وألصق بصاحبه لقب "ابن المراغة" لكثرة تكرارها في أشعاره التي ذمّه وهجاه فيها، والمقصود بالمراغة الحمارة! وكثيرًا ما حاول النيل من نسبه إلى أبيه، ومن ذلك قوله:
وابنُ المَرَاغة يَدَّعِي من دَارِمٍ
والعَبدُ غيرَ أبيه قدْ يَتَنَحَّلُ
ليس الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أباهم
حتَّى تُرَدَّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتَلُ
وكان أقذع الذم والهجاء آنذاك ما يحطّ من شأن القبيلة كلها، كحكاية الراعي النميري مع جرير، والبيت الشهير الذي قال فيه جرير:
فغضّ الطرف إنك من نمير
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
وكان الراعي النميري قد حاول الدخول بين جرير والفرزدق طمعًا بالشهرة واكتساب الاعتراف بشاعريته وعلوّ قدمه في نظم الشعر، فقال مرجحًا كفة الفرزدق على جرير تحريشًا لجرير حتى يرد عليه:
يا صاحبي دنا الرواح فسيرا
غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
فامتنع جرير عن الرد عليه شعرًا واكتفى بتحذيره، وطلب منه أن يكفّ عن ذلك مرارًا فلم يستمع إليه! فما كان من جرير إلا أن هجاه بقصيدة سماها "الدامغة"، جعل قبيلته كلها تطأطئ الرأس دهرًا من الزمن، حتى لامه قومه ونبذوه بما جرّه عليهم. ويقال إن هذه القصيدة أخرست الراعي النميري وكانت سببًا بموته كمدًا.
يقول حسام عتال في إحدى مقالاته التي يتحدث فيها عن فن المسبات والشتائم: "ما يتلو ذكر الجنس وشتم العائلة والنسب كمادة للتجريح هو التعريض بالمعتقدات والدين، لكني لم أجد عند أي من الشعوب المختلفة من يسبّ الدين نفسه أو الإله مباشرة وشخصيا سوى في بلاد الشام. فمسبات (ربك وإلهك ودينك) تبدو لسبب ما محصورة في هذه البقعة من الأرض". ثم يفسر ذلك اعتمادًا على تفسير ستيڤن پنكر السابق فيقول إن السبب الرئيس هو قوة الإيمان أو عمق تأثيره في المجتمع في بلاد الشام عامة. فما رأيكم؟
السباب ليس من أخلاق العقلاء ولا من سير الكرام، وهو دليل على ضعف في النفس وإشارة إلى ضيق في الصدر والأفق. فهل استمر الشتم في عصور الشعر العربي اللاحقة؟ هل تغيرت ألفاظه وأساليبه؟ وكيف يشعر المتلقي في وقتنا الحاضر حين يسمع الشتائم في قوالب أدبية؟ هل يتقبلها؟ هل تبدو كوميدية؟ أو أن الأمر يختلف باختلاف الذائقة الفنية للأدب لدى المتلقين؟ وما مدى حضور معاني قوله تعالى في سورة الحجرات: ﴿ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾ في عقولنا وقلوبنا وتصرفاتنا؟