لجريدة عمان:
2025-12-14@10:26:06 GMT

الذئب .. مجرم حرب

تاريخ النشر: 8th, September 2024 GMT

كل الصفات التي يشار بها إلى الذئب تذهب إلى إضفاء الكثير من صفات الشجاعة، والنخوة، والإقدام، والمبادرة ـ وأنا أتحدث هنا عن مرحلة متقدمة من عمر المجتمع ويبدو أن الفكرة حاليًا لا تزال تلقى القبول ـ فعندما يشار إلى فلان من الناس على أنه كان مبادرًا يقال: والله إن «فلان ذئب» وعندما يراد لعمل أن يتم على الوجه السرعة، فهناك فلان يمكنه ذلك لأنه التصقت به صفة «فلان ذئب».

ومع مرور الأيام تأصلت صورة الذئب على أنه «ضمنيًا» مصلح مصان الجانب، لا يتلبسه الهوان والضعف، والتراجع والتقهقر، مبادر، جسور، لا يهاب، بينما في المقابل هناك الكلب وهو من نفس فصيلة الذئاب، أو العكس، يدفع ثمن إنجازات الذئب، فكل الصفات المذمومة يشار بها إلى الكلب، ففلان كلب؛ لأنه لم يقم بواجبه، وآخر كلب لأنه أخل ما اتفق عليه، وأنه كلب لأنه انحاز نحو مصلحته، وأنه كلب لأن «ما فيه خير» انقض الوعد، أخلّ بالأمانة، كذب، سرق، انتصر لهواه، إذا فهو كلب، ومنها: «دع الكلاب تعوي فالقافلة تسير» أي أنه عواء ليس له قيمة، ولماذا أوتي بالكلب دون الذئب؟ مع أن هناك قناعة بأن الكلب: وفيّ، وأمين، ومخلص، وفي المقابل يؤكد الواقع أن الذئب ـ كحيوان ـ انتهازي، يتلصص، يغير على القطعان والزرائب خاصة في الليالي الحالكة، يهاجم عندما يستوحد بالشخص في الأماكن القاصية، يقتل، لا يراعي في إنسان «قرابة ولا عهدا». والمقارنة تذهب نفسها إلى الحمار الذي تكال عليه تهم الفساد، والغباء، وعدم القدرة على التصرف، ففلان من الناس حمار لا يفهم، لا يعي، لا يقدر، غبي لا يعرف كيف يتصرف، ومعنى هذا أن كل ذي مسؤولية أخل في جزء منها متعمدًا أو غير متعمد «ساهيًا» فهو معرض لأن تصوب إليه سهام صفة الحمير! بينما في الواقع أن الحمار صبور وقد سماه البعض «صابرا» لصبره على التحمل، وعلى المشاق في حمل الأمتعة والناس من مكان إلى آخر، وقد تعاملنا مع الحمير في القرية لمّا كنا صغارا، ولمسنا فيها الكثير من الذكاء، والتصرف بحكمة، بالإضافة إلى صبرها الكبير على الجوع والعطش، وتحملها الأكبر على مجموعة المسؤوليات الملقاة على عاتقها، والمنفذة عن طريق صاحبها الذي لا يقل وحشية في تعامله نحوها، في كثير من الأحيان، فقط لأنها «حمير» وفي عالمنا الإنساني هناك ذئاب بشرية كثيرة تصول وتجول، تقتل وتنهب، وترتكب الموبقات، ولا أحد يرد لها رأسا، وفوق ذلك هي مقدرة، ومحترمة، وتحصل على المؤازرة التامة من كل القوى.

فهذه المقاربات غير الواعية بين تصرفات الإنسان وأحكامه، وإلصاقها بحيوانات بعينها، تحتاج إلى كثير من المراجعة، ولا تقبل ولا تلقى بعواهنها هكذا دون تمحيص، وبالتالي فعندما يكون الحديث عن الظلم، فلا أتصور إطلاقًا أن الظلم حالة بشرية متبادلة بين البشر أنفسهم، سواء بالكلمة أو بالفعل، وإنما وفق تقييم خاص أن الظلم يشمل جميع الكائنات التي خلقها الله تعالى في هذا الكون، وبما أن الإنسان يتحدث عن العدالة، والمساواة، والإنصاف، في القول والفعل، فإن هذا المستوى من الترقي يحمله مسؤوليات أكبر في تعامله مع غيره من الكائنات الحية، وإن كانت هناك من الحيوانات سخرت لخدمة الإنسان، فذلك ليس معناه، أن يعمم الإنسان بذرة الشر، أو يؤصل صورًا نمطية على جميع الكائنات، وإن حدث ذلك فلا أتصور أن ذلك لن يدخله في دائرة المساءلة والعقاب. وإن كانت الفكرة هنا لا تتحدث عن هذا الجانب الضيق من المسألة العامة لها «الثواب والعقاب» ولكن تذهب إلى الأكثر من ذلك، وهو عدم إعطاء الشرعية في إلصاق الصفات التي تتميز بها الحيوانات القائم نشاطها على الغرائز بالإنسان الذي وهبه الله العقل المدبر، وخاطبه ربه في كثير من الآيات، وكلفه بحضور العقل الموكول إليه إحداث فارق نوعي في تمييز الخطأ والصواب، والصالح والطالح.

ونعود إلى الذئب كشخصية محورية في هذه المناقشة، وما سجله التاريخ في حقه أو ضده، فمرة يظهر على أنه مغلوب على أمره، ومرة يظهر على أنه قاتل منتصر لغريزته، ولعل حادثة العجوز التي تعيش في الصحراء وآوت جرو ذئب فاعتنت به وأطعمته حتى تحركت فيه الغريزة الطبيعية للحيوان المتفترس، فإذا به يفترس شياهها، واحدة تلو الآخر، وأنشدت في نكرانه للجميل قولًا، ما يعيد للأذهان شيئًا من المراجعة في مجموعة من المقاربات التي يقيمها البشر بين الحيوانات وصفاتها الحقيقية، وتأثير ذلك على الواقع. تقول المرأة التي اغتال الذئب شياهها:

«بقرت شويهتي وفجعت قومي

وأنت لشاتنا ابن ربيب

غذيت بدرها ونشأت معها

فمن أنباك أن أباك ذيب»

وتختم أنشودتها بهذه الحكمة البالغة الرائعة:

«إذا كان الطباع طباع سوء

فلا أدب يفيد ولا أديب»

والقصة موجودة في كثير من المواقع لمن يريد أن يستزيد بكثير من التفاصيل، والعبرة كما أراها هي في البيت الأخير، فالمسألة عند هذا المعنى أن لا عبرة في الانتماء، سواء أكان انتماء إلى الإنسانية، أو إلى الحيوانية، فالمسألة مرتبطة كثيرا بالطباع التي يكون عليها هذا الكائن، ومهما حاول الإنسان وهو الذي بيده العصمة في ترويض بني جنسه، أو في ترويض الكائنات الأخرى من حوله، فإن الطبيعية الفطرية هي التي تمهر على خاتمة السلوك، ولكم رأينا رأي العين كيف تلتهم الأسود مربيها ومدربيها أمام الجمهور في برامج «السيرك» العالمية، فلم تنفع كل سنوات الترويض والجهود المضنية التي بذلت لإخراج هذا الكائن من حالته الطبيعية القائمة على الافتراس، والهجوم والتوحش، إلى حالة الانكسار والامتثال والخضوع. وعندما أنشبت الغريزة أظفارها، ضرب بكل ما تم لإيقاف هذه اللحظة الحاسمة عرض الحائط، وبعد أن أكمل الأب أو الأم تربية أحد أبنائهما، فإذا هو يقف الند بالند أمام منصة المحكمة، يحاكم أحدهما على شيء من متع الحياة، وإذا بالطالب «الصعلوك» الذي للتو يبدأ في فك حروف الكلمات، يتعالى صوته مهددا متوعدا معلمه أمام زملائه، وإذا بهذا الموظف الأمين المخلص الذي اغتاله الزمن وهو يجهد بين الأوراق أو أجهزة الحاسب الآلي يرى قائمة المكرمين والمجيدين فقط؛ لأن في المؤسسة ذئبا بشريا، يقتحم حواجز النظم الإدارية لغايات في نفسه، منها المؤسسة والوطن براء كبراءة الذئب من دم يوسف (فأكله الذئب) حيث انتقلت غريزة الاشتهاء من الذئب الحقيقي «الحيوان» إلى الذئب البديل «الإنسان» في لحظة زمنية فارقة بين الخير والشر، وهي ذات اللحظة الزمنية التي ترمى فيها القنابل والأسلحة المسمومة من فوق آلاف الأمتار على شعوب مغلوبة على أمرها، لا تملك من معززات الدفاع عن نفسها ضد صنوها، فالقاتل إنسان متوحش في جلد ذئب، والمقتول إنسان ضعيف في جلد عنزة ترتعد فرائصها حيث يقبل الجزار لجز عنقها، ومع ذلك تلقى هذه الذئاب المتوحشة في حالتيها الحيوانية والبشرية التقدير والعون والدعم.

«كان لوبو ذئبًا رماديًا من أمريكا الشمالية، وعاش في وادي كورومبا (كورومبا كريك في نيو مكسيكو. وخلال تسعينيات القرن التاسع عشر، اضطر لوبو وقطيعه، بعدما حُرموا من فرائسهم الطبيعية مثل البيسون، والأيائل، والقرن المشقوق من قبل المستوطنين، إلى الاعتداء على ماشية المستوطنين للبقاء على قيد الحياة. وحاول مربو الماشية (في مزرعة كروس إل) قتل لوبو وقطيعه عن طريق تسميم جثث الحيوانات، ولكن الذئاب أزالت الأجزاء المسمومة وألقتها جانبًا، وأكلت الباقي (...) وكان إرنست طومسون سيتون يَشْعُرُ بإغْراءٍ قويّ لهذا التحدي، والمكافأة التي كان قدرها 1000 دولار لرأس لوبو، قائد القطيع (...) وعندما امتدت الجهود التي كان من المفترض في البداية أن تستغرق أسبوعين، ثم أصبحت عقب هذه الأحداث أربعة أشهر من المحاولات الفاشلة للقبض على لوبو، أدرك سيتون التعب والإحباط (القصة منقولة بتصرف)، فكم من «لوبو» يعيش بين ظهرانينا متوشح باللباس الإنساني؟.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على أنه کثیر من

إقرأ أيضاً:

أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية

أحمد زيور باشا، هذا الاسم الذي يلمع في صفحات التاريخ المصري، ليس مجرد شخصية سياسية عابرة، بل هو رمز للإصرار والعطاء والتفاني في خدمة وطنه. 

ولد زيور باشا في الإسكندرية عام 1864 في أسرة شركسية تركية الأصل، كانت قد هاجرت من اليونان، لكنه بالرغم من جذوره الأجنبية، حمل قلبه وروحه على مصر، وجعل منها مسرحا لحياته المليئة بالعطاء والمسؤولية. 

منذ نعومة أظافره، أظهر أحمد زيور براعة وحسا عميقا بالواجب؛ فقد التحق بمدرسة العازاريين، ثم واصل دراسته في كلية الجزويت ببيروت، قبل أن يتخرج من كلية الحقوق في فرنسا، حاملا معه العلم والخبرة ليخدم وطنه الغالي.

طفولته لم تكن سهلة، فقد كان صبيا بدينا يواجه العقوبات بحساسية شديدة، وكان العقاب الأصعب بالنسبة له مجرد “العيش الحاف”، لكنه تعلم من هذه التجارب الأولى معنى الصبر والمثابرة، وكان لذلك أثر واضح على شخصيته فيما بعد، إذ شكلت بداياته الصعبة حجر أساس لصقل إرادته القوية وعزيمته التي لا تلين.

عندما عاد إلى مصر بعد دراسته، بدأ أحمد زيور مسيرته في القضاء، ثم تقلد مناصب إدارية هامة حتى وصل إلى منصب محافظ الإسكندرية، وبدأت خطواته السياسية تتصاعد بسرعة. 

لم يكن الرجل مجرد سياسي يحكم، بل كان عقلا مفكرا يقرأ الواقع ويفكر في مصلحة الوطن قبل أي اعتبار شخصي، تولى عدة حقائب وزارية هامة، منها الأوقاف والمعارف العمومية والمواصلات، وكان يتنقل بين الوزارات بخبرة وإخلاص، ما جعله شخصية محورية في إدارة شؤون الدولة، وخصوصا خلال الفترة الحرجة بعد الثورة المصرية عام 1919.

لكن ما يميز أحمد زيور باشا ليس فقط المناصب التي شغلها، بل شخصيته الإنسانية التي امتزجت بالحكمة والكرم وحب الدعابة، إلى جانب ثقافته الواسعة التي جعلته يجيد العربية والتركية والفرنسية، ويفهم الإنجليزية والإيطالية. 

كان الرجل يفتح صدره للآخرين، ويمتلك القدرة على إدارة الصراعات السياسية بحنكة وهدوء، وهو ما جعله محل احترام الجميع، سواء من زملائه السياسيين أو من عامة الشعب.

عين رئيسا لمجلس الشيوخ المصري، ثم شكل وزارته الأولى في نوفمبر 1924، حيث جمع بين منصب رئاسة الوزراء ووزارتي الداخلية والخارجية، مؤكدا قدرته على إدارة الأمور بيد حازمة وعقل متفتح. 

واستمر في خدمة وطنه من خلال تشكيل وزارته الثانية، حتى يونيو 1926، حريصا على استقرار الدولة وإدارة شؤونها بحنكة، بعيدا عن أي مصالح شخصية أو ضغوط خارجية.

زيور باشا لم يكن مجرد سياسي تقليدي، بل كان رمزا للفكر المصري العصري الذي يحترم القانون ويؤمن بالعلم والثقافة، ويجمع بين الوطنية العميقة والتواضع الجم. 

محبا لوالديه، كريم النفس، لطيف الخلق، جسوره ضخم وقلوبه أوسع، كان يمزج بين السلطة والرقة، بين الحزم والمرونة، وبين العمل الجاد وروح الدعابة. 

هذا المزيج الفريد جعله نموذجا للقيادة الرشيدة في وقت كان فيه الوطن بحاجة لمثل هذه الشخصيات التي تجمع بين القوة والإنسانية في آن واحد.

توفي أحمد زيور باشا في مسقط رأسه بالإسكندرية عام 1945، لكنه ترك إرثا خالدا من الخدمة الوطنية والقيادة الحكيمة، وأصبح اسمه محفورا في وجدان المصريين، ليس فقط كوزير أو رئيس وزراء، بل كرجل حمل قلبه على وطنه، وبذل كل ما في وسعه ليبني مصر الحديثة ويؤسس لمستقبل أفضل. 

إن تاريخ زيور باشا يعلمنا درسا خالدا، أن القيادة الحقيقية ليست في المناصب ولا في السلطة، بل في حب الوطن، والعمل الدؤوب، والوفاء للعهود التي قطعناها على أنفسنا تجاه بلدنا وشعبنا.

أحمد زيور باشا كان نموذجا مصريا أصيلا، يحكي عن قدرة الإنسان على التميز رغم الصعاب، ويذكرنا جميعا بأن مصر تحتاج دائما لأمثاله، رجالا يحملون العلم والقلب معا، ويعملون بلا كلل من أجل رفعة وطنهم وشموخه. 

ومن يقرأ سيرته، يدرك أن الوطنية ليست شعارات ترفع، بل أفعال تصنع التاريخ، وأن من يحب وطنه حقا، يظل اسمه حيا في ذاكرة شعبه، مهما رحل عن الدنيا، ومهما تبدلت الظروف.

مقالات مشابهة

  • من هو رائد سعد القيادي في "حماس" الذي أعلنت إسرائيل اغتياله؟
  • من رجل القسام الثاني الذي اغتالته إسرائيل؟
  • إسرائيل اليوم: هؤلاء قادة حماس الذي ما زالوا في غزة
  • ترامب يهدد بـ رد شديد بعد هجوم تدمر الذي أسفر عن مقتل جنديين أميركيين ومترجم مدني
  • من هو رائد سعد الذي اغتالته إسرائيل بعد 35 عاما من المطاردة؟
  • فلنغير العيون التي ترى الواقع
  • ما أهمية إقليم دونباس الأوكراني الذي تسيطر روسيا على معظمه؟
  • “قداسة البابا “: من الأسرة يخرج القديسون وهي التي تحفظ المجتمع بترسيخ القيم الإنسانية لدى أعضائها
  • "الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه
  • أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية