مقدمة الترجمة

لعقود طويلة، تفاخرت الولايات المتحدة بهيمنتها في مجال الابتكارات التكنولوجية الجديدة، لكن هذه الهيمنة تتعرض مؤخرا لتهديد واضح من قبل الصين. ليس الأمر أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة في مجال الابتكار، لكن قاعدتها الصناعية الضخمة منحتها الريادة في تقديم الابتكارات الجديدة إلى الأسواق العالمية بأسعار منافسة.

يسلط هذا المقال المطول من "فورين أفيرز" الضوء على القاعدة الصناعية الضخمة للصين، والطريقة التي تعزز بها النهضة التكنولوجية في البلاد.

نص الترجمة

في عام 2007، بدأت شركة "أبل" في تصنيع هواتف آيفون في الصين، وكان البلد الآسيوي حينها معروفا بالعمالة الرخيصة أكثر منه بالتكنولوجيا المتطورة. لم تكن الشركات الصينية في ذلك الوقت قادرة على إنتاج أي من مكوِّنات آيفون الداخلية، التي استُورِدت من ألمانيا واليابان والولايات المتحدة، واقتصر دور الصين في صناعة الأجهزة آنذاك على العمالة التي جمَّعت مكوِّنات آيفون في مصانع شركة "فوكسكون" بمدينة شِنزِن، وهو دور لم يتجاوز 4% من القيمة المضافة لإنتاج الهاتف.

حين طُرِح هاتف "آيفون إكس" بعد 11 عاما، كان الوضع قد تغيَّر جذريا، فلم يكن العمال الصينيون يقومون بتجميع معظم هواتف آيفون فحسب كما جرت العادة، بل إن الشركات الصينية كانت قد بدأت تنتج المكوِّنات المعقدة داخل تلك الهواتف، بما في ذلك المكوِّنات الصوتية وأجزاء الشحن وعبوات البطاريات. وبعد أن تمكنت من إنتاج تلك التكنولوجيا المعقدة، باتت الشركات الصينية قادرة على طرح منتجات أفضل من منافسيها في أوروبا وآسيا. اليوم، ونحن نشهد أحدث جيل من هاتف آيفون، تُنتج شركات التكنولوجيا الصينية أكثر من 25% من القيمة المضافة للجهاز.

نحن نشهد أحدث جيل من هاتف الأيفون، تُنتج شركات التكنولوجيا الصينية أكثر من 25% من القيمة المُضافة للجهاز. (غيتي)

يُعَد جهاز آيفون واحدا من أدق الأجهزة الموجودة في العالم، إذ يعتمد على مجموعة فريدة من التقنيات الدقيقة، ولكن ما جرى مع آيفون في الصين ليس حدثا استثنائيا، حيث إن توسُّع تصنيعه في الصين يشي لنا باتجاه أوسع يشمل أغلب السلع المُصنَّعة. لقد خطت الشركات الصينية خطوات واضحة من مرحلة تجميع المكونات المُصنَّعة في الخارج إلى مرحلة إنتاج التقنيات الأحدث الخاصة بها. وبالتزامن مع صدارته في مجال معدات توليد الطاقة المتجددة، فإن البلد الآسيوي الآن يتصدر في عدد من مجالات التكنولوجيا الصاعدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكَمِّية. وكل هذه النجاحات تتحدى الفكرة القائلة بأن الريادة العلمية هي الطريق إلى الريادة الصناعية، فرغم مساهماتها المتواضعة نسبيا في البحوث الرائدة والابتكارات العلمية، نجحت الصين في الاستفادة من معرفتها بالعمليات الصناعية للتفوّق على الولايات المتحدة في عدد متزايد من التقنيات الإستراتيجية.

في خضم المنافسة المتعاظمة مع بكين، سعت الولايات المتحدة لتقييد وصول الصين إلى التقنيات الغربية الحساسة، ولتعزيز تقاليدها في البحث والابتكار العلمي. ولذا، فرضت إدارة بايدن عام 2022 قيودا واسعة جديدة على بيع تقنية الشرائح الإلكترونية المتطورة في الغرب لصالح الشركات الصينية، بالتزامن مع دعم صناعة التكنولوجيا في الولايات المتحدة عن طريق تشريع "تشيبس (CHIPS)" وقانون العلوم الجديد وتخصيص 280 مليار دولار لهما، وستساعد تلك التشريعات واشنطن على استعادة تفوّقها في مجال إنتاج أشباه الموصّلات ومجال الطاقة المتجددة.

إذا كانت واشنطن جادة في منافستها التكنولوجية مع الصين، فإنها ستحتاج للتركيز على ما هو أكثر من الابتكارات العلمية الرائدة، وسيتوجَّب عليها أن تتعلَّم الاستفادة من القوى العاملة الأميركية بالطريقة نفسها التي انتهجتها الصين. (شترستوك)

بيد أن القوة المتنامية للشركات الصينية تشير إلى أن نهج واشنطن لعله يفتقد عنصرا جوهريا، وهو الأخذ في الاعتبار أن صعود الصين ليس مجرد نتيجة نقل التقنيات من الشركات الغربية أو سرقتها، وأنه لا يعتمد على القفزات العلمية المهمة، بل إن صعود الصين إلى حد كبير أتى مدفوعا بالتحسُّن في القدرات الصناعية الصينية نفسها، وهو ما استفادته البلاد من عمالتها الصناعية الضخمة والمعقدة. إن نقاط القوة تلك لدى الصين تبدو واضحة في رد فعل الأخيرة على القيود الأميركية المفروضة طيلة الأعوام القليلة الماضية. لقد فضّلت الشركات الصينية في السابق تجنب الاعتماد على التكنولوجيا الصينية من أجل شراء التقنية الأفضل، التي كانت دوما أميركية، أما الآن، وبينما تَحُول الولايات المتحدة بينهم وبين التقنية الغربية، يبدو أنهم يبذلون جهدا أكثر من أي وقت مضى لتنمية صناعة صينية محلية مزدهرة في مجال الشرائح الإلكترونية.

إن دخول الصين عالم القوى التكنولوجية الكبرى ينطوي على عدة دروس للولايات المتحدة وحلفائها. على عكس الغرب، أسست الصين قطاعا تكنولوجيا ضاربا بجذوره، ليس في البحوث الجذابة والمجالات العلمية المتقدمة، بل في المهام الأقل جاذبية المرتبطة بتحسين الإمكانيات الصناعية ذاتها. وإذا كانت واشنطن جادة في منافستها التكنولوجية مع الصين، فإنها ستحتاج للتركيز على ما هو أكثر من الابتكارات العلمية الرائدة، وسيتوجب عليها أن تتعلم الاستفادة من القوى العاملة الأميركية بالطريقة نفسها التي انتهجتها الصين، حتى يتسنى لها توسيع نطاق تصنيع الابتكارات العلمية وبناء منتجات أفضل بسُبُل أكثر كفاءة. باختصار، كي تستعيد الولايات المتحدة الصدارة في مجال التقنيات الرائدة، عليها أن تنظر إلى عملية التصنيع نفسها بوصفها جزءا أساسيا من عملية التطور التكنولوجي، وليس على أنها مجرد كواليس تجري في الخلف مقابل صدارة البحوث والتطوير والابتكارات التي تجذب الأنظار دوما.

الابتكار ليس كل شيء.. حقيقة الطفرة الصينية

يُشكِّك عدد من متابعي المنافسة الأميركية-الصينية في الريادة التكنولوجية الصينية، وهم محقّون في ذلك، حيث أفرزت الصين عددا قليلا من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات أو العلامات التجارية العالمية المعروفة. كما أنها لا تزال عاجزة عن تدشين أصناف جديدة كُليا من السلع في سوق الإلكترونيات، على غرار ما فعلته اليابان وكوريا الجنوبية سابقا مع الكاميرات الرقمية وألعاب الفيديو، ولم تستطع أن تنافس أوروبا والولايات المتحدة حتى الآن في مجال صناعة السيارات والطائرات. عوضا عن ذلك، ركَّزت الشركات الصينية على تصنيع المنتجات التي يمكن أن تُباع بأسعار أرخص في الدول النامية. أما غياب العلامات التجارية الصينية المتطورة فأكَّد على تصوُّر غربي مفاده أن الصين مصنع ضخم لا بيئة خصبة للابتكار.

لا تزال الشركات الصينية كلها متأخرة بحوالي 5 سنوات على الأقل عن شركة "TSMC" التايوانية الرائدة عالميا في مجال أشباه الموصلات المتطورة. (رويترز)

تظل الصين أيضا متأخرة عن الغرب في عدد من التقنيات المعقدة، فقد حققت صناعة الشرائح الإلكترونية في الصين عددا قليلا من الطفرات الجديرة بالنظر، بما في ذلك تصنيع شرائح الهواتف المحمولة وأنواع معينة من شرائح الذاكرة المتطورة. وفي مجال تصنيع الشرائح المنطقية (Logic Chips) الموجودة في كل المنتجات الرقمية في العالم، لا تزال الشركات الصينية كلها متأخرة بحوالي 5 سنوات على الأقل عن شركة "TSMC" التايوانية الرائدة عالميا في مجال أشباه الموصلات المتطورة، بل وتعاني الشركات الصينية من ضعف أكبر حين يتعلق الأمر بتطوير الأدوات الخاصة بتصنيع تلك الشرائح، مثل آلات الليثوغرافيا المستخدمة في طباعة أشكال محددة على رقائق السيليكون، ومعدات القياس المستخدمة في ضبط جودة عملية إنتاج الشرائح التي تشمل المئات من الخطوات، إذ تعتمد الصين في كل ذلك اعتمادا هائلا على الواردات اليابانية والأميركية والأوروبية. علاوة على ذلك، لا تزال الصين تخطو خطواتها الأولى في عالم ابتكار البرمجيات الضرورية لتصميم الشرائح المتطورة.

ثمة نمط مشابه في قطاع الطيران الصيني، ولننظر مثلا لشركة الصين للطيران التجاري (COMAC)، وهي المكافئ الصيني لشركتَي "إيرباص" و"بوينغ"، وهي شركة مملوكة للدولة مدعومة بـ71 مليار دولار من التمويل الحكومي، فبعد مرور 15 عاما على تأسيسها، بدأت الشركة بالكاد في إنتاج أول طائرة تجارية من صنعها. تدرك الشركات الصينية في مجالَي الشرائح الإلكترونية والطيران حقيقة مؤلمة مفادها أن العديد من المكونات الأساسية في تلك الصناعات تظل واردة من الغرب، مثل معدات الإنتاج والبرمجيات المتطورة ومحركات الطائرات وأنظمة الإلكترونيات الجوية، وهذا الاعتماد على التكنولوجيا الغربية يعني أن القيود الأميركية الجديدة على الشرائح بإمكانها أن تُلقي بالصين في نفق مظلم.

بعد مرور 15 عاما على تأسيس شركة الصين للطيران التجاري (COMAC)، بدأت الشركة بالكاد في إنتاج أول طائرة تجارية من صنعها. (غيتي)

غير أن الصين، وهي بصدد أوجه الهشاشة الجدِّيّة تلك، تُنجز تقدّما متسارعا في مجموعة كبيرة من التقنيات الأخرى. لقد نجحت الشركات الصينية في إثبات نفسها أمام منافسيها الأوروبيين واليابانيين في إنتاج أدوات آلية متقدمة، مثل الأذرع الروبوتية والمِضخّات الهيدروليكية وغيرها من معدات. وكما تكشف لنا قصة آيفون، فإن الصين تنافس اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان اليوم بتمرّسها في سلاسل إمداد الإلكترونيات. بالإضافة لذلك، ورغم جهود الرئيس الصيني "شي جين بينغ" مؤخرا لتشديد السيطرة الحكومية على شركات الإنترنت مثل "علي بابا" و"تِنسِنت" و"ديدي"، تبدو الصين قوية أيضا في مجال الاقتصاد الرقمي، وتبقى شركاتها قادرة على المنافسة بقوة في مواجهة عمالقة وادي السيليكون عبر تطبيقات مثل "تيك توك"، الذي ينافس "فيسبوك" منافسة حامية.

تتصدر الصين العالم أيضا في بناء البنية التحتية الحديثة، بما في ذلك خطوط نقل الأحمال الكهربائية العالية، والسكك الحديدية السريعة، وشبكات الإنترنت من الجيل الخامس. وفي عام 2019، أصبحت الصين أول بلد يرسل مركبة جوّالة إلى الجانب الآخر من القمر، وبعد عام واحد حقق علماء الصين طفرة أخرى بتطوير اتصالات مشفرة كميّا عبر الأقمار الصناعية، ما جعل بلادهم تقترب من تدشين مجال للاتصالات عصي على الاختراق. كل هذه الإنجازات تكشف جهود الصين الحثيثة للتمكّن من المهمات الصناعية والعلمية الأصعب يوما بعد يوم.

القوة الشمسية العظمى

شكّلت معدات الطاقة المتجددة واحدة من نجاحات الصين التكنولوجية الكبرى في السنوات الأخيرة. لقد نشأ سوق تجاري لتكنولوجيا الطاقة الشمسية مع مطلع القرن الحادي والعشرين، وأتت معظم الابتكارات حينها من الولايات المتحدة، وكان منطقيا أن تقود الشركات الأميركية ذلك المجال الصناعي. ولكن في عام 2010، أعلن مجلس الدولة الصيني أن توليد الطاقة الشمسية "صناعة إستراتيجية صاعدة"، ومن ثَمّ أطلق العنان لسلسلة من الدعم الحكومي وتأسيس الشركات في هذا القطاع، والتي اتجه معظمها نحو توسيع القدرات التصنيعية.

في غضون ذلك، اكتسبت الشركات الصينية الكثير من أسس تحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كهربائية، وبدأت تُطوِّر الأساليب المتاحة لديها لإنتاجها. واليوم، تهيمن الشركات الصينية على كل مرحلة تقريبا من سلسلة إمداد قطاع الطاقة الشمسية، بدءا من معالجة السيليكون الضروري لإنتاج الخلايا، وحتى تركيب الألواح الشمسية. وقد طورت الصين أيضا من التكنولوجيا نفسها، فلم تعد الألواح الصينية الأرخص سعرا في السوق العالمي فحسب، بل والأكثر كفاءة أيضا، أضف لذلك أن الانخفاض الشديد في تكلفة إنتاج الألواح الشمسية طيلة العقد الماضي أتى مدفوعا أساسا بالابتكارات الصناعية في الصين.

على مدار الأعوام القليلة الماضية، تبوأت الشركات الصينية مواقع قوية في إنتاج البطاريات ذات السعة الكبيرة المستخدمة في السيارات الكهربائية. فبينما يبتعد العالم رويدا عن محركات الإشعال الداخلي، باتت تكنولوجيا البطاريات المتطورة جزءا محوريا في صناعة السيارات. وقد احتلت الصين موقع الريادة في هذا المجال أيضا، على سبيل المثال، تُعَد شركة "CATL" الصينية التي تأسست عام 2011 أكبر مُصنِّع للبطاريات في العالم، وهي تتعاون مع كبرى شركات السيارات مثل "بي إم دَبليو" و"تِسلا" و"فولكس فاغِن"، علاوة على ريادتها في تطوير أنواع أحدث وأكثر كفاءة من المزيج الكيميائي، مثل ذلك المستخدم في بطاريات أيونات الصوديوم، التي يمكن إنتاجها دون اللجوء إلى مكونات شحيحة في الطبيعة مثل عنصر الليثيوم أو معادن الكوبالت.

لقد أقرّت إدارة بايدن بمخاطر الاعتماد على الصين في التقنيات الحساسة التي تحتاج إليها الولايات المتحدة من أجل الانتقال "الأخضر" (من النفط والغاز إلى الطاقة المتجددة)، غير أن سلسلة من الجمارك الأميركية، جنبا إلى جنب مع تحقيقات أميركية في استخدام الصين للعمالة القسرية داخل سلاسل إمداد قطاع السيليكون، لم يُزحزِحا بكين عن موقع الصدارة في قطاع الطاقة الشمسية. إن أحد هذه التحقيقات، الذي فتحته وزارة التجارة الأميركية وهدَّدت -بموجبه- بتطبيق الجمارك بأثر رجعي على واردات معدات الطاقة الشمسية بنسبة أكثر من 250%، سرعان ما ألقى بمُستهلكي المعدات الصينية الأميركيين إلى أزمة طاحنة، ومن ثَمّ وجد الرئيس بايدن نفسه مُجبرا في يونيو/حزيران 2022 على إصدار قرار رئاسي يوقف أي جمارك إضافية لمدة عامين من تاريخه.

في غضون ذلك، ورغم تمرير قانون تخفيض التضخّم في أغسطس/آب 2022، والذي يسعى لتسريع وتيرة التحوُّل نحو السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة، فإن القانون اصطدم بعراقيل وضَعَها جعلت معظم السيارات الكهربائية المتاحة في السوق العالمي غير مؤهلة للدعم المالي الفيدرالي المخصص لذلك القطاع في أميركا. وفي الوقت الراهن، يبدو أن الولايات المتحدة والكثير من حلفائها الغربيين سيظلون معتمدين على الصين في خضم سعيهم للتحوُّل الأخضر وتقليص الاعتماد على الكربون.

لم تأتِ هيمنة الصين في قطاعات المكوِّنات الشمسية أو بطاريات السيارات الكهربائية أو الإلكترونيات من فراغ، إذ إن التقدُّم الصيني السريع وثيق الصلة بنقاط القوة الصناعية وضبط الجودة التي تمتلكها. منذ مطلع التسعينيات إلى اليوم، انتقلت العمالة الصينية من إنتاج ألعاب الأطفال والمنسوجات البسيطة إلى تنفيذ عمليات صناعية معقدة واستثنائية لا غنى عنها في إنتاج الإلكترونيات المتطورة مثل آيفون. وعلى مدار هذه المسيرة الطويلة، عادة ما حققت الشركات الصينية طفرات ملحوظة من صُنعها، حيث إن الابتكارات التكنولوجية في الصين لم تأتِ من الجامعات ومختبرات الأبحاث، بل أتت عن طريق التعلُّم الذي أفرزته عملية الإنتاج الضخمة نفسها. ولذا، فإن السعة الهائلة لصُنع الأشياء في الصين تقع في القلب من صعود البلاد سُلَّم التكنولوجيا المتطورة.

سر القفزة الصينية.. الخبرة الكثيفة في مقابل كل صناعة صينية استفادت بالفعل من السياسات الحِمائية الحكومية، توجد صناعات أخرى لم تنفعها تلك السياسات حتى الآن، مثل صناعة السيارات. (شترستوك)

لقد تحقَّق التقدّم التكنولوجي الصيني بأثمان باهظة، إذ نجحت بكين في احتلال مكانتها الحالية عبر كمّ مذهل من الموارد الحكومية، وقد أدت حُزَم الدعم الحكومي الضخمة تلك إلى تأثير مُضلِّل، فقد نشرت الهيئة الوطنية للبحوث الاقتصادية بولاية ماساتشوستس الأميركية دراسة في ديسمبر/كانون الأول الماضي وجدت أن بكين لديها سِجل سيئ في انتقاء الفائزين بالدعم الحكومي، وأنهم يميلون عادة إلى تحقيق معدلات أبطأ في نمو الإنتاج. وقد جرت العادة، وفقا للعديد من نُقّاد النموذج الصيني، بأن تأتي القفزات الصينية مدفوعة بالحماية الزائدة التي توفرها الحكومة، علاوة على سرقة حقوق الملكية الفكرية واسعة النطاق في الصين.

رغم أن هناك بعض الحقيقة في تلك الادعاءات، فإنها غير كافية لتفسير صعود الصين، ففي مقابل كل صناعة صينية استفادت بالفعل من السياسات الحِمائية الحكومية (مثل منصة الإنترنت الشهيرة "بايدو") توجد صناعات أخرى لم تنفعها تلك السياسات حتى الآن، مثل صناعة السيارات، حيث لا تزال الصين بعيدة عن امتلاك شركات تنافس بسياراتها كبرى الشركات العالمية. إن نقل التكنولوجيا دون موافقة أصحابها وسرقات الملكية الفكرية لعله ساعد بعض الصناعات الصينية، والولايات المتحدة وحلفاؤها مُحِقُّون في مكافحة تلك الظواهر، بيد أن تلك الظواهر وحدها لا تفسر لنا ريادة الصين لمجالات البطاريات والهيدروجين والذكاء الاصطناعي.

بدلا من ذلك، يكمن العامل الأهم في نهضة الصناعات التكنولوجية الصينية في المناخ المصاحب لها. على مدار العقدين الماضيين، خلقت الصين سعة إنتاجية لا يضاهيها أحد في مجال الصناعات كثيفة التكنولوجيا، وهي سعة تتسِم بوجود كم هائل من العمالة، وشبكات وفيرة من المُورِّدين، ودعم حكومي واسع. وتستند عناصر القوة تلك على تاريخ الصين الصناعي، ففي عقودها الأولى بعد تأسيس الجمهورية، أولت الحكومة اهتماما خاصا بالصناعة، وقد فعلت ذلك بشكل كارثي أثناء "القفزة الكبرى للأمام" التي دشّنها "ماو زيدونغ"، ثم فعلته مجددا بشكل أكثر كفاءة تحت قيادة "دِنغ شياوبينغ" الذي أطلق العنان لإصلاحاته الحديثة الأربعة. وبدءا من التسعينيات، انطلقت الإمكانيات الصناعية الصينية، وحفّزتها بالأساس طبيعة السوق العالمي أكثر من المبادرات الحكومية الصينية نفسها، وذلك إبّان انضمام البلاد إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001.

نقل الرئيس "شي جين بينغ" اهتمام بلاده بالصناعة طيلة العقد الماضي إلى حالة قصوى، فبعد أن وصل إلى منصبه بعامين، أطلق مبادرة "صنع في الصين 2025″، وهو إطار للسياسات هدَفَ إلى نقل القاعدة الصناعية الصينية من الصناعات ذات العمالة الكثيفة إلى قطاعات التكنولوجيا المتطورة. وفي عام 2021، في مُستهل خطتها الخمسية الأخيرة، أعلنت بكين عن حملة لتحويل الصين إلى "قوة صناعية عظمى". ولم يكن ذلك مجرد شعار رنَّان، بل وجّهت الحكومة في الحال جهودا هائلة وكميات ضخمة من القروض لصالح شركات التكنولوجيا المتطورة، حتى وهي تعلم بأن أمامها سنوات طوال قبل أن تدرّ الأرباح.

يُدلِّل على ذلك ما جرى في قطاع الطاقة الشمسية، فقد أغرقت بكين جميع الشركات الناشئة بالدعم الحكومي، وشجعت عددا يفوق احتياجاتها للدخول في هذا المجال، لكنها أشعلت في تلك الشركات حِس المخاطرة، وخلقت صناعة ذات تنافس عنيف جدا تقدَّم فيه الأقوى على حساب الأضعف. ونتيجة لذلك، تهيمن الشركات الصينية على تلك الصناعة الإستراتيجية التي يعتمد عليها العالم كله. إن هذا النهج في تشجيع الإمكانيات الصناعية إلى حد يفيض عن الحاجة يناقض العقيدة الاقتصادية الكلاسيكية الموجودة في الغرب، التي تؤكد على الاهتمام بنشاطات تضيف القيمة مثل البحوث والابتكار وتسويق المنتجات، وتُقلِّل من شأن عملية الإنتاج المادية نفسها بوصفها جزءا يمكن تدبيره بتكلفة بسيطة خارج عُقر دارها، وعادة في بلد آسيوي.

نموذج شِنزِن.. وادي السيليكون الصيني

لقد أصبح نهج الصين المدفوع بالإمكانية التصنيعية نفسها محوريا لقدرتها على منافسة الغرب في مجال التكنولوجيا المتطورة. ولفهم السبب، من المهم أن ندرك طبيعة القوى التي تحرك الابتكارات الناجحة. إن إنتاج تكنولوجيا جديدة يشبه صنع البيض المخفوق، فهناك المكونات والخطوات ثم المطبخ المُجهَّز بالأدوات اللازمة. بيد أن الأدوات وحدها لا تكفُل الوصول إلى نتيجة جيدة، وحتى أولئك الذين يمتلكون أفخر الأدوات وأفضل الوصفات لا يمكنهم أن يصنعوا بيضا مخفوقا لذيذا إن لم يطبخوا قط في حياتهم. إن العنصر الإضافي هنا هو الخبرة العملية، والمهارات التي يمكن تعلُّمها فقط بتكرار التجربة مرات ومرات، وهي التي نشير إليها بـ"المعرفة العملياتية"، وهي جزء من التجربة التي ساعدت الصين على التحوُّل إلى قطب في الابتكار التكنولوجي.

معظم منتجات شركة أبل تُصنَّع عن طريق شركات أخرى مثل "فوكسكون" و"بِغاترون" التي تدير قوى عمالية خاصة بها في الصين. (شترستوك)

رغم أنه يصعُب علينا قياس المعرفة العملياتية تلك، فإنه بوسعِنا تقديرها عبر النظر في مستوى الخبرة الموجود لدى قوة عاملة بعينها، وفي نشأة الشبكات المتداخلة من النشاط الصناعي. وتمتلك الصين نقاط قوة واضحة على هذين المستويين، فقد حققت البلاد نجاحاتها التكنولوجية الأبرز في تطوير قوة عاملة ضخمة وعالية الخبرة يمكن تطويعها وفقا للاحتياجات في صناعات التكنولوجيا الكثيفة، فمثلا، لا تزال شركة أبل تعد الصين البلد الوحيد القادر على تعبئة مئات الآلاف من العمال المُدرَّبين تدريبا عاليا في وقت وجيز، والقادر على إتاحة الوصول إلى شبكات كثيفة من مُورِّدي المكونات المادية، وكذلك القادر على الاستناد إلى الدعم الحكومي لحل المشكلات الكثيرة المتداخلة التي تنشأ في خضم إنتاج الملايين من منتج بعينه سنويا، مثل آيفون.

بيد أنه يُذهلنا بالقدر نفسه كيف استخدمت الصين الشركات الأجنبية للمساعدة في بناء شبكاتها الصناعية المعقدة، أو ما يسميه الاقتصادي "براد دي لونغ" بـ"مجتمعات هندسة الممارسة". لقد أصبحت شركات أميركية مثل "كاتربيلار" و"جنرال إلكتريك" وتِسلا" جهات توظيف كبرى في الصين، كما أن معظم منتجات شركة أبل تُصنَّع عن طريق شركات أخرى مثل "فوكسكون" و"بِغاترون" التي تدير قوى عمالية خاصة بها في الصين. وعلى العكس من اليابان التي حافظت على سوق مغلق نسبيا أثناء عقود النمو بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الصين حفَّزت قفزتها الصناعية عبر التعلم المباشر من الشركات الأجنبية. ورغم حرب التجارة التي شنّها الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب"، امتنعت بكين عن الرد بالمثل تجاه الشركات الأميركية في الصين، وينبع ذلك جزئيا من إدراكها للخبرة الإدارية التي تجلبها تلك الشركات، وما تنقله من مهارات صناعية للعمال الصينيين.

عبر التفاعل المستمر مع العمليات الصناعية لكبرى شركات العالم الرائدة في مجالاتها، اكتسب العمال الصينيون مهارات يمكن أن يأخذوها معهم إلى الشركات المحلية. ولننظر مثلا في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، إن إنتاج البطارية يتطلب أكثر من 10 خطوات واضحة، وتحتاج كل خطوة منها إلى تسلُّم البطارية من الخطوة السابقة بشكل لا مجال فيه للخطأ. لقد اكتسب مُديرو الهندسة الصينيون المعرفة العملياتية الضرورية لهذه المهمة عبر خبراتهم في مجال الإلكترونيات التجارية. على المنوال نفسه، كان نقل المعرفة التصنيعية واحدا من مفاتيح هيمنة الصين في مجال الطاقة الشمسية، وهو قطاع شهد قفزات طيلة العقد الماضي، لم يكن الدافع لها الابتكار العلمي بحد ذاته، وهو تخصُّص الولايات المتحدة، بل النجاح في تخفيض التكلفة عبر زيادة كفاءة عملية الإنتاج، وهو نقطة القوة الصينية.

إن ظهور مدينة "شِنزِن" بوصفها معقلا للتكنولوجيا العالمية يُنبئنا بأهمية "المعرفة العملياتية". في السنوات التالية لتوطين صناعة آيفون عام 2007، طوَّرت المدينة صناعة تكنولوجية محلية حيوية ومثالية لإنتاج الأجهزة المعقدة، وسرعان ما بدأ العمال يستخدمون خبرتهم الإنتاجية والهندسية لابتكار منتجات أخرى. وقد بُنيَت معامل للبحوث والتطوير إلى جانب منشآت التصنيع، ومن ثَمّ حظي مهندسو شِنزِن بوصول لا مثيل له للمورِّدين والعمال ذوي الخبرة والمُصمِّمين المهرة. واليوم، تتبوأ المدينة موقع الصدارة في الطائرات المسيّرة التجارية، وخوذات الواقع الافتراضي، وغيرها من الإلكترونيات المُستحدَثة، وتقف وراء هذه الصدارة عمالة ماهرة أمضت سنوات اختلطت فيها برواد الأعمال أصحاب الأفكار الجريئة، وفي عصر أصبحت فيه أسعار المكونات الإلكترونية زهيدة، مثل الكاميرات والبطاريات والشاشات. ولذا، تُشبِه شِنزِن اليوم منطقة وادي السيليكون في الولايات المتحدة، حيث يختلط أساتذة الجامعات برواد الأعمال، بالعمال، بالمستثمرين.

منحنى الابتسامة.. كيف تدهور التصنيع الأميركي؟ رغم التراجع النسبي لشركتَي "إنتِل" و"بوينغ"، تظل الولايات المتحدة رائدة صناعة معدات إنتاج أشباه الموصلات ومحركات الطائرات. (رويترز)

في العقود التالية على الحرب العالمية الثانية، استخدمت الولايات المتحدة ريادتها العلمية للهيمنة على الكثير من الصناعات التكنولوجية من الحواسيب وحتى الطيران، وقد رأت واشنطن أن هذا النهج منطقي في وقت مثَّلت فيه ابتكارات المعامل والنقلات الكبرى في التصميم ركنا رئيسا في سباق الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. وبدا أن هذا النهج المدفوع بالعلم يُحبِّذه السوق أيضا، ففي التسعينيات رأى "ستان شيه"، رائد الأعمال التايواني، أن معظم أرباح الصناعات التكنولوجية تأتي من الجزء الأول في سلسلة القيمة -التصميم والبحوث والتطوير- ومن الجزء الأخير كذلك وهو تسويق المُنتَج، في حين أتى النصيب الأصغر من الأرباح من عملية التصنيع ذاتها، التي تقع في منتصف سلسلة القيمة (وهو ما عُرِف بمنحنى الابتسامة [The Smiling Curve]). جسَّدت أبل هذا النموذج بوضوح، حيث تقوم الشركة الأعلى قيمة في العالم اليوم بتطوير منتجاتها بنفسها وكذلك بتسويقها، تاركة أعباء التصنيع قليلة القيمة لشركائها في الصين وغيرها من بلدان آسيوية. وإيمانا بالحكمة ذاتها، أمضت الشركات الأميركية العقدين الماضيين في التركيز على البحوث والتطوير والتسويق، واعتمدت على الصين من أجل احتياجاتها التصنيعية.

كانت إحدى نتائج هذا التركيز هي استمرار الريادة الأميركية في بعض الصناعات التي تحتاج إلى تكامل معقد بين عدد من المجالات العلمية. فرغم التراجع النسبي لشركتَي "إنتِل" و"بوينغ"، تظل الولايات المتحدة رائدة صناعة معدات إنتاج أشباه الموصلات ومحركات الطائرات. على العكس من واشنطن، لا تمتلك الصين تقليدا طويلا في توسيع آفاق العلوم، كما أنها حتى اليوم تُنتِج بحوثا ابتكارية أقل بكثير في تلك الصناعات من الولايات المتحدة، ولديها سجلّ ضعيف نسبيا في الترويج للبحوث العلمية المفيدة.

بيد أن هذا لا يعني أن قطاع التكنولوجيا الأميركي على ما يرام، فقد انصاعت الكثير من الشركات الأميركية لمنطق منحنى الابتسامة أكثر من اللازم في العقود الأخيرة، وكرَّست موارد أكبر لطرفَي المنحنى (البحوث والتسويق)، وتركت قدرات التصنيع في مهب الريح. منذ عام 2000، خسرت الولايات المتحدة حوالي 5 ملايين وظيفة تصنيع -ما يكافئ ربع قوتها العاملة التصنيعية- بسبب هذا الاتجاه، ما نتج عنه فقدان مهارات كثيرة، لا في عمالة خطوط الإنتاج فحسب، بل وفي عمال الآلات ومديري المصانع ومُصمِّمي المنتجات. وعلى المدى البعيد، ترك هذا التدهور واشنطن في موقع ضعيف يعيقها عن الهيمنة على التكنولوجيا الجديدة الصاعدة.

وصلت واردات منتجات الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة إلى 8 مليارات دولار عام 2022، وأتى معظمها من الشركات الصينية التي تنتج منتجاتها في دول جنوب شرق آسيا. (شترستوك)

على سبيل المثال، كان من المفترض أن تتصدر الولايات المتحدة قطاع الطاقة الشمسية مع ريادتها العلمية فيه، وقد أبدت استعدادا بالفعل لتحقيق ذلك الهدف، ففي عام 2012 فرض الرئيس السابق "باراك أوباما" جمارك على واردات منتجات الطاقة الشمسية الصينية في محاولة منه لحماية المُنتجين المحليِّين، ولكن حتى مع هذه الإجراءات الحِمائية، لم يتمكن مُصنِّعو الولايات المتحدة من المنافسة. لقد امتلكت الصين بالفعل وصولا جاهزا لقاعدة ضخمة من العمال والمُورِّدين المهرة، ومن ثَمّ أمكنها أن توسِّع نطاق الإنتاج بلا حدود، أما الولايات المتحدة، وبعد سلسلة من تسريح ملايين العمال، خسرت معظم مخزونها من المعرفة العملياتية، ولم تعد لديها سعة بناء قاعدة تصنيع فعّالة. نتيجة لذلك، وصلت واردات منتجات الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة إلى 8 مليارات دولار عام 2022، وأتى معظمها من الشركات الصينية التي تنتج منتجاتها في دول جنوب شرق آسيا.

إن فشل قطاع الطاقة الشمسية الأميركي جزء من حكاية أكبر عن تدهور التصنيع الأميركي. لقد حفَّزت هذا التوجّه الأتمتة المتزايدة إلى حد ما، لكن مكامن الضعف الأخرى فيه جديرة بالنظر أيضا. ففي الأيام الأولى لجائحة كوفيد-19، وكغيرها من البلدان، احتاجت الولايات المتحدة إلى كميات ضخمة من لوازم الوقاية الشخصية والمعدات الطبية، لكن الشركات الأميركية عانت الأمرَّين للتكيّف مع تلك الاحتياجات وتكريس خطوط الإنتاج لصناعة أقنعة الوجه وعيدان القطن المستخدمة في المَسَحَات، وهي منتجات غير معقدة بأي حال. لقد حدث ذلك لأن تلك الشركات خسرت الكثير من المعرفة العملياتية الضرورية، في حين استطاع نظراؤها في الصين التكيف سريعا مع حالة الطوارئ حينها وأنتجوا العديد من اللوازم الطبية التي احتاجت إليها الولايات المتحدة وغيرها من البلدان.

حتى الآن، تبدو جهود الولايات المتحدة لإعادة توطين الوظائف الصناعية التي ذهبت إلى آسيا مخيبة للآمال، فقد دفعت شركة أبل نحو إنتاج المزيد من أجهزة الحاسوب الخاصة بها في ولاية تِكساس مثلا، لكن جهودها تراجعت بعد عام 2012 بسبب افتقارها لدعم بيئة صناعية تتوافر فيها المكونات الإلكترونية. أتت واحدة من الاستثناءات حين نجحت الولايات المتحدة في إنتاج لقاحات الحمض النووي الريبوزي (RNA)، التي أثبتت كفاءة أفضل من اللقاحات التقليدية التي أنتجتها الصين. غير أن المنافسة مع الصين وصناعاتها المتطورة في قادم الأعوام تحتاج من واشنطن إلى ما هو أكثر من مجرد الانتصار في سباق واحد صغير في مجال التكنولوجيا الحيوية.

سباق اكتشاف نقاط الضعف (شترستوك)

في خضم تحديها للنهج الغربي في التطور التكنولوجي، لم تتوانَ الصين عن الإقرار بنقاط ضعفها في مجال إنتاج المعرفة العلمية، ففي تقرير للمؤتمر الوطني العام العشرين للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن الرئيس "شي" أن العلوم والتكنولوجيا ستكون واحدة من أولويات الحزب القصوى، ورغم أن التحسّن الملحوظ في بيئتها البحثية سيستغرق بعض الوقت، تشهد الصين تقدما ثابتا في مجالات مثل استكشاف الفضاء والاتصالات الكمِّية. وتبدو بكين حريصة تحديدا على تطوير صناعة أشباه موصلات محلية، لا سيما وقد حُرِم عملاق الاتصالات الصيني "هواوي" وشركة تصنيع الشرائح الإلكترونية الصينية "SMIC" من الوصول إلى التقنيات المتقدمة الأميركية والأوروبية. إن واحدة من النتائج غير المقصودة لتقييد وصول الشرائح الإلكترونية الذي فرضته واشنطن هي الدفعة التي تلقتها الاستثمارات الصينية في العلوم والبحوث والتطوير.

على النقيض، لم تقف الولايات المتحدة حتى الآن على نقاط ضعفها فيما يخص المعرفة العملياتية، ولا شك أن تمرير قانون "تشيبس" وقانون تخفيض التضخّم العام الماضي يمثل خطوة كبرى للأمام في السياسة الصناعية الأميركية، بالنظر إلى ما يُخصِّصه من مليارات من التمويل الفيدرالي لصالح الصناعات المتطورة. غير أن الكثير من السياسات الأميركية ما زالت مُنصبَّة على توسيع آفاق العلوم وليس البناء على المعرفة العملياتية والبيئة الصناعية الضرورية لجلب المنتجات إلى الأسواق. ولذا، فإن نهج واشنطن للمنافسة التكنولوجية مع الصين يضعها في خطر تكرار الأخطاء التي ارتكبتها في مجال الطاقة الشمسية، حيث يضع العلماء الأميركيون أُسس تكنولوجيا جديدة ثم يرون بأم أعينهم الشركات الصينية وهي تتصدر سباق إنتاجها. على سبيل المثال، في مجال المُحلِّلات الكهربائية (Electrolyzers)، التي تفصل الهيدروجين عن الماء وتُعَد أداة محورية لإنتاج الهيدروجين الأخضر، تبدو الصين في طريقها للهيمنة على ذلك القطاع بكفاءة الإنتاج العالية لديها.

لقد وصل "أندي غروف"، المدير التنفيذي الشهير لشركة "إنتِل"، لهذا الاستنتاج منذ 10 سنوات، حين حثّ بلاده على تقليل هَوَسها بما أسماه "لحظة الابتكار الأسطورية" والتركيز أكثر على عملية طرح الابتكارات في الأسواق، وأضاف قائلا إن تلك المرحلة الأخيرة "هي المرحلة التي تكبُر فيها الشركات بحق، حيث تعمل على تفاصيل التصميمات، وتقرر كيف تنتج بأقل كُلفة، وتبني المصانع، وتُوظّف الناس بالآلاف". إن تخصيص الأموال ليس سوى الخطوة الأولى لبناء قطاع تكنولوجي صلب، ويجب أن يصاحبه جهد أميركي لإنهاء التكاليف الزائدة التي عادة ما تصيب محاولات بناء بنية تحتية صناعية في البلاد. وسيتعيَّن على الكليات والجامعات المرموقة في الولايات المتحدة أن تُدرِّب الطلبة بشكل أفضل على عمليات التصنيع المتطورة، وسيكون لزاما على واشنطن أن تتعلم من ريادة بكين في هذا المجال، وأن تبحث بنفسها عن استثمارات أجنبية. وقد دَعَت إدارة بايدن بالفعل، مثلها مثل إدارة ترامب، العديد من الشركات اليابانية والكورية والتايوانية كي تبني مصانع لإنتاج الشرائح الإلكترونية في الولايات المتحدة، وهي شركات مُرحَّب بها بسبب خبرتها في سلاسل إمداد الإلكترونيات.

هناك واقع اقتصادي في نهاية المطاف يقضي بأن الولايات المتحدة ستظل دوما مكانا صعبا لإنتاج السلع، نتيجة لتعدادها السكاني الصغير نسبيا والأجور الأعلى المطلوبة فيها، أضف لذلك أن الدولار الأميركي بوصفه عملية الاحتياطي الدولي يزيد من الكُلفة النسبية لإنتاج السلع محليا، ومن ثَمّ ستظل الولايات المتحدة عاجزة عن منافسة الصين في معظم مجالات تصنيع السلع المطلوبة بكميات ضخمة. بطبيعة الحال، لا يجب أن تسعى الولايات المتحدة لإنتاج كل شيء، بل يجب عليها أن تستهدف الصناعات الإستراتيجية التي تتميز فيها بعنصر تفوُّق منطقي.

لقد تعرّض السوق الصيني لهزّة بسبب الإغلاقات المتكررة التي فرضتها جائحة كوفيد-19، وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، يبحث مستثمرون كثيرون الآن عن تجنُّب المخاطر المرتبطة بالاستثمار في الصين، ومن ثَمّ يبدو أن هناك فرصة فريدة من نوعها للولايات المتحدة كي تستعيد بعضا من وظائف التصنيع التي خسرتها، بيد أن واشنطن بحاجة إلى سياسة صناعية جديدة تُركِّز على العمال والمعرفة العملياتية وليس على هوامش الربح، وإلا فإن الصين ستقود الثورة التكنولوجية القادمة، لا الولايات المتحدة.

_________________________

هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: السیارات الکهربائیة الشرائح الإلکترونیة فی الولایات المتحدة الشرکات الأمیرکیة الطاقة المتجددة أشباه الموصلات صناعة السیارات المستخدمة فی الاعتماد على الصینیة من أکثر کفاءة الکثیر من فی العالم مع الصین الصین فی علیها أن فی الصین حتى الآن واحدة من شرکة أبل فی إنتاج فی قطاع عن طریق أکثر من لا تزال ضخمة من فی مجال ومن ث م من الم فی تلک غیر أن فی عام عدد من فی هذا فی خضم فی ذلک

إقرأ أيضاً:

الرئيس ضد الجامعة.. القصة الكاملة للصراع بين ترامب وهارفارد

تشانغ كاي تشي، طالب ماجستير صيني في السنة الدراسية الأولى بكلية الصحة العامة في جامعة هارفارد، كان قد حجز رحلة للعودة إلى الصين لقضاء عطلة الصيف القادمة، لكن قرار إدارة ترامب بمنع جامعته من تسجيل الطلاب الدوليين باغته.

وعلى إثر ذلك ألغى تشانغ خططه بالعودة إلى بلاده، قلقا من أنه لن يتمكن من العودة إلى الولايات المتحدة إذا غادر. قضى تشانغ ليالي عدة بلا نوم، ورغم أن أمر التقييد القضائي المؤقت للقرار بعث في قلبه بعض الراحة، فإن خططه الصيفية لا تزال معطلة في ظل ضبابية المشهد، وفقا لما نقلته عنه صحيفة "وول ستريت جورنال".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أستاذ بهارفارد: الأمر مع ترامب أشبه بمشاهدة دولة تنتحرlist 2 of 2مستوى جديد من التصعيد بين ترامب وهارفاردend of list

يُعد كاي تشي واحدا من بين قرابة 7 آلاف من الطلاب الدوليين في جامعة هارفارد الذين وجدوا أنفسهم عالقين في اشتباك بين جامعتهم وبين الرئيس ترامب وإدارته، ومن المؤكد أن موقفه ازداد تعقيدا بحكم انتمائه إلى 277 ألف طالب صيني في الولايات المتحدة من المرجح أن تُراجَع تأشيراتهم لفحص علاقاتهم بالحزب الشيوعي الصيني، وتحديد إذا ما كانوا يدرسون تخصصات حساسة تخطط الإدارة الأميركية الحالية لحرمان الصينيين من دراستها، وفق تأكيدات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو.

تقدم هذه القصة القصيرة لمحة عن بعض تداعيات المعركة المحتدمة بين ترامب والجامعات الأميركية التي تتصدرها جامعة هارفارد في الوقت الراهن، وهي معركة اشتعلت منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي واتخذت عناوين عدة، بدأت بمزاعم "مكافحة معاداة السامية" وحصار الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأميركية، لكنها سرعان ما كشفت عن وجوه أخرى تتعلق بالصراع على هوية المجتمع الأميركي وطبيعة العلاقة بين الحكومة والمؤسسات التعليمية.

PRESIDENT TRUMP: “Billions of dollars has been paid to Harvard. How ridiculous is that?… And they have $52 billion as an endowment… Harvard's going to have to change its ways.”

Harvard doesn’t deserve another penny! pic.twitter.com/2zBAeoYIE3

— Proud Elephant ???????????? (@ProudElephantUS) May 23, 2025

إعلان كيف اشتعل الصراع بين ترامب وهارفارد؟

بدأ الأمر بعد تولي دونالد ترامب مهام منصبه بفترة وجيزة، حيث وقَّع أمرا تنفيذيا بتشكيل "فرقة عمل" معنية بمعاداة السامية بهدف "استئصال الممارسات المعادية للسامية في المدارس والجامعات".

وبحلول مارس/آذار، أعلن الفريق المُشكَّل أنه سيراجع عقودا تزيد قيمتها على 255 مليون دولار ومنحا متعددة السنوات بقيمة 8.7 مليارات دولار بين الحكومة الفدرالية وجامعة هارفارد والهيئات التابعة لها، بما في ذلك المستشفيات التي يُدرَّس أطباؤها في كلية الطب بجامعة هارفارد، في محاولة لفرض تغيير في مؤسسة عصفت بها الاحتجاجات المناصرة لفلسطين عقب حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر.

وقتها، اتهمت وزيرة التعليم ليندا ماكماهون جامعة هارفارد بالفشل في "حماية طلابها من التمييز المعادي للسامية، والترويج لأيديولوجيات مثيرة للانقسام على حساب حرية البحث، ما عرّض سُمعتها لخطر جسيم" بحسب وصفها.

وفي وقت لاحق من شهر أبريل/نيسان، أرسلت الإدارة خطابا تطالب فيه الجامعة باستيفاء 10 متطلبات شملت تغييرات في المناهج الدراسية وحظر قبول الطلاب "المعادين للقيم الأميركية"، وإجراء تدقيق للتحقق من "تنوع وجهات النظر" في الجامعة (حيث تتهم الإدارة الجامعة بالتمييز ضد الأميركيين البيض المحافظين)، ومن جانبها رفضت هارفارد الامتثال لطلبات الإدارة ووصفتها بأنها غير قانونية.

محتجون في جامعة هارفارد يحملون قطعة من القماش مكتوب عليها "حرية التعبير تشمل فلسطين"، في احتجاج على مساعي الحكومة الفدرالية الأميركية تشويه وتجريم المظاهرات الطلابية الرافضة لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. (الفرنسية)

كان رد الإدارة الأميركية قاسيا، ففي البداية، قامت بخفض 2.2 مليار دولار من منح الأبحاث متعددة السنوات، و60 مليون دولار من العقود الممنوحة لهارفارد، معظمها من المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، وهي جهات حكومية. كما جمّدت ما يقارب 500 منحة من المعاهد الوطنية للصحة لمؤسسات تابعة لجامعة هارفارد، مثل مستشفى بريغهام والنساء (Brigham and Women’s Hospital) في بوسطن، وهي ثاني أكبر مستشفى تعليمي تابع لكلية الطب في هارفارد.

إعلان

أكثر من ذلك، قررت الإدارة منع الجامعة من الحصول على منح فدرالية مستقبلية، كما أوقفت منحا بقيمة 450 مليون دولار من ثماني وكالات فدرالية أخرى.

وأوقفت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) منحا بقيمة 60 مليون دولار للجامعة، فيما حثّ البيت الأبيض جميع الوكالات الفدرالية على إلغاء أي عقود متبقية مع هارفارد، التي تُقدَّر قيمتها بنحو 100 مليون دولار، وبذلك وصل إجمالي الأموال الفدرالية المجمّدة للجامعة إلى أكثر من 3.2 مليارات دولار.

لم تقف الأمور عند هذا الحد، حيث تهدد الإدارة بإلغاء إعفاء جامعة هارفارد من الضرائب ومعاملتها بوصفها كيانا سياسيا، وهي خطوة من شأنها أن تُخضِع أغنى جامعة في البلاد لضريبة دخل فدرالية باهظة جدا. وفي منشور له على موقع "تروث سوشيال" بتاريخ 15 أبريل/نيسان كتب ترامب: "ربما يجب على هارفارد أن تفقد إعفاءها الضريبي وتُفرَض عليها الضرائب بوصفها كيانا سياسيا إذا استمرت في الترويج لـ(المرض) السياسي والأيديولوجي والإرهابي".

كما تدرس الإدارة فرض قيود على المنح والتبرعات (الأجنبية) للجامعة بدعوى تقديمها إفصاحات "غير كاملة وغير دقيقة حول مصادر دخلها".

وأخيرا جاء الفصل الختامي بقرار إدارة ترامب في 22 مايو/أيار الماضي بإلغاء امتياز جامعة هارفارد بتسجيل الطلاب الدوليين الذين يُشكِّلون 27% من عدد طلاب الجامعة (نحو 6800 طالب)، ما يهدد فقدان مئات الملايين من الدولارات سنويا من العائدات التي يوفرها هؤلاء الطلاب، ويضع الاستقرار المالي والأكاديمي للجامعة على المحك.

لماذا هارفارد تحديدا؟

حسنا، هارفارد هي البداية، أو على وجه الدقة هي النموذج الأكبر والأبرز، وهي مثال عملي تضربه إدارة ترامب للجامعات الأميركية على عواقب "عصيان" التعليمات، هذا المثال يأتي مع الجامعة الأقوى والأكثر نفوذا واستقلالا ماليا والأرفع سُمعة على المستوى العالمي، أي إن المقصود ليس جامعة هارفارد بالتحديد، ولكن نظام التعليم الجامعي في الولايات المتحدة الذي يرغب ترامب في إعادة تشكيله بصورة جذرية، وهذا ما أشار إليه أكثر من جهة إعلامية أميركية، ومنها مجلة "فوكس" (Vox).

إعلان

في الحقيقة، لم تكن هارفارد الجامعة الأولى التي سقطت فوقها مطارق ترامب. لقد نالت جامعة كولومبيا في نيويورك الضربة الأولى في مارس/آذار الماضي، حين أوقفت إدارة ترامب 400 مليون دولار من الأموال الفدرالية المخصصة للجامعة التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات الطلابية المطالبة بوقف الحرب على غزة، بزعم "تقاعسها عن مكافحة معاداة السامية"، و"عدم حمايتها الطلاب اليهود طوال المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين".

وبعد تهديد الإدارة 60 جامعة بالمصير ذاته، أرسلت إدارة ترامب في 13 مارس/آذار مذكرة إلى كولومبيا وحدها فيها عدد من الشروط الواجب استيفاؤها في غضون 7 أيام للنظر في مسألة الإفراج عن الأموال مستقبلا. وقد رفعت كولومبيا الراية البيضاء مبكرا ووافقت على معظم مطالب الإدارة، ومنها محاصرة الاحتجاجات الجامعية وحظر ارتداء الأقنعة فيها، وتوظيف 36 ضابط شرطة جديد في الحرم الجامعي ومنحهم صلاحية طرد واعتقال المحتجين، وتسليم بيانات الطلاب للحكومة الفدرالية.

كذلك قامت كولومبيا بتعيين نائب عميد يتمتع بسلطة واسعة للإشراف على قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا، ومركز الدراسات الفلسطينية، كما أكدت بأنها ستقوم بإعادة مراجعة تعريف معاداة السامية داخليا، بالإضافة إلى توسيع هيئة التدريس في معهد الدراسات الإسرائيلية واليهودية.

جانب من اعتصام طلاب جامعة كولومبيا الرافض لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، والداعي لسحب الجامعة استثماراتها من الشركات والمؤسسات الإسرائيلية المنتفعة والمشاركة في الحرب، وقد تم فض الاعتصام بالقوة من قبل شرطة نيويورك في أبريل/نيسان من عام 2024. (الجزيرة) ماذا يريد ترامب؟

على المستوى الشكلي، ما يريده ترامب هو "الامتثال" الذي رفضت الجامعة العريقة تقديمه للإدارة حتى الآن (يرى مسؤولو الإدارة أن الجامعة تراوغ في تقديم متطلبات الإفصاح التي تفرضها).

إعلان

أما على المستوى الموضوعي، وكما يظهر من تصريحات ترامب وأفراد إدارته، فإن مشكلة ترامب مع جامعات النخبة تتجاوز الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل (تجاوبت هارفارد بالفعل مع الكثير من مطالب الإدارة في هذا الملف، مثل تعليق عمل لجنة التضامن مع فلسطين، والصمت على إلغاء تأشيرات عدد من الطلاب، ناهيك برفض المطالب بقطع العلاقات التجارية والأكاديمية مع الكيانات المتورطة في العدوان والمستفيدة منه).

حيث يرى الرئيس أن هذه الجامعات، التي تخرّج قطاعا مؤثرا من الطبقة السياسية والتكنوقراط المرموقين والجنرالات والقضاة والمديرين التنفيذيين وحتى المشرّعين في البلاد، باتت مرتعا لأفكار "اليسار الليبرالي"، وأن إدارتها وسياساتها وحتى مناهجها التعليمية تميز بشكل واضح ضد اليمين المحافظ.

وبشكل خاص، تنظر الإدارة بعين الارتياب إلى برامج التنوع والشمول التي تتبنّاها جامعات النخبة الأميركية.

تختلف هذه البرامج بشكل واضح، لكن الكثير منها ينتمي إلى مجموعة من المعايير التي تطبّقها المؤسسات العلمية الأميركية منذ إصدار قوانين الحقوق المدنية في منتصف الستينيات من القرن الماضي، لضمان إعطاء الأقليات فرصة للارتقاء العلمي والمهني وإصلاح ما أفسدته السياسات العنصرية السابقة. لكن العديد من هذه البرامج تعطي فرصا تمييزية على أساس "الهويات الجنسية المستحدثة"، وهي مسألة تثير الكثير من الجدل في الولايات المتحدة حاليا بين الليبراليين والمحافظين.

على سبيل المثال، تشير الادعاءات الصادرة عن الحكومة الأميركية إلى وجود خلل في المعايير "العِرقية" و"الجنسية" لسياسات التوظيف في الجامعة، يظهر في ارتفاع أعداد أعضاء هيئة التدريس من ذوي البشرة الملونة، والنساء، وأصحاب الهويات الجنسية غير التقليدية (المثليين والمتحولين جنسيا ومزدوجي التوجه الجنسي)، مقابل انخفاض عدد الرجال البيض في الوظائف الدائمة.

إعلان

يتوافق ذلك مع نتائج استطلاع أجرته صحيفة "هارفارد كريمسون" الطلابية عام 2023 خلص إلى أن 2.5 % فقط من أعضاء هيئة التدريس يُعرّفون أنفسهم بأنهم محافظون؛ بينما يُعرّف أكثر من ثلاثة أرباعهم أنفسهم بأنهم ليبراليون. في السياق ذاته، تُجري وزارة التعليم تحقيقات أيضا بشأن ما إذا كانت جامعة هارفارد تمارس ما تُسميه "التمييز العنصري ضد الطلاب المتقدمين للدراسة الجامعية".

هذه السياسات يراها ترامب وأنصاره انحرافا عن المهمة الأصلية للجامعات الأميركية التي يمتلك معظمها للمفارقة جذورا مسيحية محافظة، وتلقّت لعقود طويلة الدعم من الكنائس، ودرّس فيها رجال الدين.

الأكثر من ذلك أن هذه السياسات لا تؤثر على الجامعات فقط، ولكنها تُلقي بأصدائها على البيروقراطية الأميركية التي يرى ترامب أنها باتت "أكثر ليبرالية" و"أقل محافظة"، ومن ثم فإن محاولات ترامب لإعادة تشكيل المشهد التعليمي جزء لا يتجزأ من حملته لـ"تغيير" البيروقراطية الأميركية وتدمير مراكز القوة المؤسسية اليسارية في البلاد، ومنها وسائل الإعلام الرئيسية ومؤسسات التعليم العالي الكبرى، وهو ما عبَّر عنه نائب الرئيس جيه دي فانس في مقابلة في فبراير/شباط 2024 ملخّصا الدافع السياسي وراء استهداف الجامعات بشكل واضح للغاية: "يجب علينا أن نعمل على إصلاحها بشكل عدواني بطريقة تجعلها أكثر انفتاحا على الأفكار المحافظة".

بخلاف ذلك، يرى ترامب الجامعات الأميركية، وبشكل أكثر تحديدا برامج دراسة الطلاب الأجانب، نافذة للاختراق الأجنبي، ولا أدل على ذلك من اتهام وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم لجامعة هارفارد بالتعاون مع الحزب الشيوعي الصيني من خلال استضافة وتعليم أعضائه، ليعلن وزير الخارجية بعدها البدء في إجراءات إلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين المرتبطين بالحزب الشيوعي أو أولئك الذين يدرسون في مجالات "حساسة". ويُعد "التمويل الفدرالي" هو السلاح الأهم للرئيس وإدارته في معركتهم المحتدمة ضد جامعات النخبة القوية.

طلاب في جامعة هارفارد يحتجون على الحرب في غزة بجوار تمثال جون هارفارد، أول "فاعل خير كبير" في كلية هارفارد، مرتديًا العلم الفلسطيني، في 25 أبريل/نيسان 2024.(أسوشيتد برس) لماذا تمنح الحكومة الأميركية الأموال للجامعات أصلا؟

للجواب عن هذا السؤال علينا أن نتعرف سريعا على هيكل نظام التعليم الأميركي الفريد إلى حدٍّ ما. بادئ ذي بدء، لا تمتلك الولايات المتحدة أي "جامعات وطنية" (الجامعة الوطنية هي تلك التي تأسست بواسطة الحكومة الفدرالية وتتلقى التمويل منها)، وذلك رغم محاولة العديد من الرؤساء في الفترة المبكرة من عمر الاستقلال الأميركي فعل ذلك، وعلى رأسهم أندرو جاكسون (الرئيس السابع للولايات المتحدة) على سبيل المثال، والسبب الرئيسي في ذلك هي المخاوف من فرض الحكومة المركزية سيطرة واسعة على التعليم.

إعلان

بدلا من ذلك ظهرت "الجامعات العامة" التي تتلقى تمويلا من حكومات الولايات، مثل جامعات ميتشغان وتكساس وفرجينيا وكاليفورنيا وغيرها، لكن الجامعات الأكبر والأوسع شهرة والأكثر تميزا أكاديميا كانت من "الجامعات الخاصة"، وفي مقدمتها الجامعات الثمانية الأشهر في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وهي جامعات براون وكولومبيا وكورنيل وكلية دارتموث وهارفارد وبرينستون وبنسلفانيا وجامعة ييل، وجميعها جامعات عريقة يعود تاريخ تأسيسها إلى ما قبل الاستقلال الأميركي عام 1776، باستثناء جامعة كورنيل فقط التي تأسست عام 1865.

على مدار عمرها الطويل، جمعت هذه الجامعات الأموال من مصادر خاصة، في مقدمتها التبرعات، إضافة إلى المصروفات الدراسية التي يدفعها الطلاب (المحليون والدوليون)، وتنافست فيما بينها لجذب الطلاب ومصادر التمويل، ما جعلها خاضعة تماما لقواعد السوق الحر، وهي القواعد التي أجبرت عشرات الكليات والجامعات على الإغلاق. ولكن بحلول زمان الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، قررت الحكومة الفدرالية التدخل لمنع إغلاق الجامعات والكليات الكبرى، ومنحتها تمويلا فدراليا للبقاء على قيد الحياة.

تعززت هذه السياسة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبشكل أخص خلال سنوات الحرب الباردة. وقتها، ظهر إلى النور نموذج "الجامعات البحثية" (التي تتوسع في خدمات البحث العلمي بجانب التعليم) عندما استعان الجيش بالكليات والجامعات الكبرى من أجل إجراء الأبحاث حول التقنيات العسكرية المهمة.

وبحلول عام 1958، أقرّ الكونغرس قانون التعليم الدفاعي الوطني ردا على إطلاق الاتحاد السوفياتي أول قمر صناعي في العالم باسم "سبوتنيك"، وانطلقت مع هذا الحدث استثمارات أميركية ضخمة في العلوم والتكنولوجيا. مهّد هذا التمويل الطريق لشراكة طويلة الأمد، ساهمت من خلالها الحكومة الفدرالية في تحويل الجامعات الأميركية إلى مراكز عالمية للبحث والابتكار واستقطاب المواهب من مختلف أرجاء العالم.

إعلان

وللوقوف على حجم هذا التمويل، تشير بيانات عام 2023 إلى أن الكليات والجامعات الأميركية أنفقت زهاء 109 مليارات دولار على البحث والتطوير، 60 مليار دولار منها، أو ما يقرب من نسبة 55%، قدمتها الحكومة الفدرالية، وفقا لبيانات المؤسسة الوطنية للعلوم. وعلى نطاق أوسع، تشير بيانات وزارة التعليم إلى أن إجمالي حجم التمويل الفدرالي لقطاع التعليم العالي بلغ أكثر من 160 مليار دولار.

تقدم الحكومة هذه التمويلات من خلال قنوات متعددة، أبرزها منح الأبحاث العلمية التي تقدمها مؤسسات مثل المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، ومؤسسة العلوم الوطنية (NSF)، ووزارة الطاقة (DOE)، ووكالة أبحاث الدفاع المتقدمة (DARPA)، ووكالة الفضاء (NASA)، وغيرها.

وهناك أيضا المساعدات الطلابية لذوي الدخل المحدود مثل برنامج "بيل غرانتس" (Pell Grants)، وبرامج التمويل للكليات التي تخدم فئات مجتمعية محرومة مثل الكليات والمعاهد المرتبطة تاريخيا بذوي البشرة السمراء، وهي التي أُسِّست لخدمة الأميركيين من أصل أفريقي وتُعرف بـ"HBSUs"، ومن أمثلتها جامعة هاورد في العاصمة واشنطن، وكلية سبيلمان في جورجيا، وجامعة هامبتون في فرجينيا، وجامعة كالفن في كارولينا الجنوبية، وغيرها.

ما مدى اعتماد الجامعات على التمويل الحكومي؟

تختلف هياكل التمويل كثيرا بين الجامعات العامة وجامعات النخبة الخاصة. وفق بيانات عام 2023، يأتي أكثر من نصف إيرادات الكليات والجامعات العامة الأميركية من مصادر حكومية (إجمالي 53%)، منها 18% تأتي من الحكومة الفدرالية/المركزية، بواقع 68.9 مليار دولار، مقابل نسبة 35% من التمويل تأتي من حكومات الولايات والحكومات المحلية (المدن) وباقي المخصصات المالية الحكومية، بإجمالي 137 مليار دولار. أما باقي التمويلات (غير الحكومية) فيأتي أغلبها من الرسوم الدراسية (بنسبة 21%)، والخدمات والمبيعات والمصادر الأخرى (بنسبة 14%).

إعلان

تختلف الصورة بشكل كبير في الجامعات الخاصة، التي تمتلك هياكل تمويلية أكثر فرادة وتميزا. وتُعد الأوقاف الجامعية تحديدا ركنا مهما في هياكل التمويل تلك، وهي صناديق استثمار دائمة تُدرّ عوائد تُساعد في تمويل الجامعات. تُنشأ الأوقاف عندما يُقدِّم المانحون هبةً يرغبون في استمرارها لغرض محدد ولأجل طويل. تُستَثمر هذه الهبات المالية، ويضع المانحون (مع المنظمة التي يهبون لها الأموال) مسارات لكيفية استثمار عائدات أموالهم، سواء في برامج دعم الطلاب غير القادرين (وهو المسار الرئيسي لإنفاق عائدات الأوقاف)، أو تطوير المباني والمنشآت أو البرامج الأكاديمية، أو غير ذلك.

تمتلك الجامعات الأميركية الكبرى أوقافا ضخمة تناهز ميزانيات دول بأسرها. على سبيل المثال، تُقدَّر قيمة أوقاف جامعة هارفارد بنحو 52 مليار دولار، وجامعة ييل بـ41 مليار دولار، وجامعة ستانفورد بـ38 مليار دولار، وجامعة كورنيل بـ11 مليار دولار. وللمفارقة، فإن الرابطة الوطنية للجامعات الأميركية (NACUBO) قدَّرت إجمالي وقف جامعة أكسفورد البريطانية بجميع كلياتها الـ43 والجامعة المركزية، وهو الوقف الأكبر في أوروبا، بـ8.3 مليارات جنيه إسترليني (نحو 11 مليار دولار).

وبخلاف الأوقاف، يمكن للجامعات الحصول على منح كبيرة لأغراض خاصة، سواء من الأفراد أو المؤسسات، كما تحصل الجامعات المرموقة على دخول كبيرة من الرسوم الدراسية، خاصة من الطلاب الدوليين الذين لا يحصلون على المنح غالبا. كذلك تحصل الجامعات على الأموال من خلال عائدات استثمارية في بعض المشروعات ومن رسوم الخدمات التي تقدمها، سواء كانت خدمات دراسية مثل المطبوعات والدورات التدريبية أو الخدمات الأخرى مثل الرعاية الصحية في المستشفيات الجامعية وغيرها.

لنأخذ جامعة كولومبيا مثالا، بلغت الإيرادات التشغيلية للجامعة في السنة المالية الماضية (2024) نحو 6.6 مليارات دولار أميركي. وكانت أكبر ثلاثة مصادر دخل لها هي إيرادات رعاية المرضى في المرافق الطبية التابعة للجامعة (بنسبة 27% – تعادل 1.8 مليار دولار)، والرسوم الدراسية بعد خصم المساعدات المالية المقدمة للطلاب (بنسبة 23% – تعادل 1.5 مليار دولار)، والمنح والعقود الحكومية (بنسبة 20% – تعادل 1.3 مليار دولار). في حين قُدِّر إجمالي مساهمات المنح والتبرعات وعوائد الاستثمارات مجتمعين بنسبة 22% (نحو 1.45 مليار دولار).

متظاهرون يطالبون قيادة جامعة هارفارد بمقاومة تدخل الحكومة الفيدرالية في الجامعة، وذلك في مدينة كامبريدج، بولاية ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأميركية، 12 أبريل/نيسان 2025. (رويترز) ماذا عن تمويل هارفارد؟ وماذا يعني في سياق الصراع مع ترامب؟

يختلف هيكل تمويل جامعة هارفارد نسبيا حتى بالمقارنة مع جامعة كولومبيا، والسبب الرئيسي في ذلك هو الوقف الضخم للجامعة (52 مليار دولار) الذي أدرّ على الجامعة عائدات بقيمة 2.4 مليار دولار في عام 2024، بما يعادل نسبة 38% من نفقاتها التشغيلية البالغة 6.4 مليارات دولار. وعموما، فإن دخل جامعة هارفارد من الأوقاف وجميع أشكال التبرعات الأخرى يغطي 45% من نفقاتها.

إعلان

بعد ذلك تأتي الرسوم الدراسية التي توفر 21% من نفقات الجامعة (بما يعادل 1.3 مليار دولار تقريبا)، تأتي حصة كبيرة منها من الطلاب الدوليين الذين يدفع معظمهم كامل الرسوم الدراسية (تصل إلى 100 ألف دولار سنويا). أما نصيب الحكومة الفدرالية من التمويل فبلغ 11% (يعادل 700 مليون دولار) موجهة لتمويل الأبحاث المدعومة فدراليا.

ظاهريا، يوحي ذلك الهيكل التمويلي أن الجامعة تمتلك حرية مالية للتغلب على الضربات المتعلقة بنقص التمويل الفدرالي، وهذا صحيح إلى حدٍّ ما، لكن المشكلة أن هذه البرامج الفدرالية غالبا ما تكون متعددة السنوات، ما يعني إيقاف أبحاث في مراحل متقدمة بالفعل.

وقد حذّرت هارفارد على موقعها الإلكتروني من أن غياب التمويل الفدرالي سيعني توقف الأبحاث المتطورة في أمراض مثل السرطان وأمراض القلب والسكري، وسيفتقر الباحثون إلى الموارد اللازمة لإنهاء المشاريع الجارية أو تمويل مشاريع جديدة. أكثر من ذلك، تلقت بعض مختبرات هارفارد، بما في ذلك مختبر يعمل على تطوير الأعضاء البشرية القائمة على الرقائق، الذي يُحاكي وظيفة الأعضاء، أوامر بوقف العمل في أعقاب جهود إدارة ترامب لخفض التمويل.

وإضافة إلى ما سبق، يهدد وقف الطلاب الدوليين بفقدان المزيد من العائدات. وحتى لو نجحت الأوامر القضائية أو أي تسوية أخرى في دفع الإدارة إلى التراجع عن موقفها، فإن الطلاب سيكونون مترددين في دفع الأموال ووضع مستقبلهم على المحك في مواجهة قرارات حكومية متقلبة. وتُعد تلك ضربة هائلة لسمعة جامعة هارفارد والجامعات الأميركية عموما في سوق التعليم الدولي من المؤكد أنها ستؤثر على قدرتها التنافسية، واستقطابها للعقول اللامعة. وعلى المدى الطويل سوف يعني ذلك تراجعا في المستوى الأكاديمي للجامعات، وفي إسهاماتها البحثية ونسب الأبحاث الجديدة والعقول اللامعة التي تُخرّجها.

إعلان

وحتى أموال الوقف الكبيرة لن تكون كافية لتعويض هذه الأضرار، نظرا لحقيقة أن الأوقاف غالبا ما تكون مشروطة بمسارات إنفاق محددة، معظمها يتعلق بدعم الطلاب غير القادرين وإنشاء البنية التحتية وتطويرها، ومع اشتداد المعارك والصراعات التي تحيط بالجامعة، ربما يبدأ المانحون أنفسهم في تقليص مساهماتهم. كما أن ترامب لا يزال يمتلك العديد من أوراق الضغط على الجامعة مثل مسألة الضرائب والمساعدات الفدرالية للطلاب التي يمكن حرمان هارفارد منها أيضا.

في الواقع، كانت جامعة هارفارد تعاني بالفعل من مشكلات كثيرة على مستوى السمعة حتى قبل قرارات ترامب، لا سيما فيما يتعلق بحرية التعبير والحرية الأكاديمية في حرمها الجامعي. فقد سجلت الجامعة نتائج سيئة للغاية في العامين الماضيين على التوالي في تصنيفات حرية التعبير في الجامعات التي أصدرتها مؤسسة الحقوق الفردية والتعبير "FIRE". وخلصت استطلاعات المؤسسة إلى أن 67% من طلاب هارفارد قالوا إن من الصعب إجراء حوار صريح وصادق حول "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، في حين أكد 84% من أعضاء هيئة التدريس أنهم يجدون صعوبة في التحدث بصراحة وصدق حول هذا الموضوع.

لكن موقف إدارة جامعة هارفارد تجاه القضية الفلسطينية والقيود المفروضة عليها لم يمنع ترامب من وصمها بـ"معاداة السامية"، في ظل تصاعد الاحتجاجات في أروقتها، وفي عموم الجامعات الأميركية.

كيف ستكون نتائج المواجهة؟

حتى الآن، لجأت هارفارد إلى القضاء مرتين لمواجهة قرارات ترامب. في المرة الأولى، اختصمت الجامعة قرار تعليق 2.2 مليار دولار من المخصصات الفدرالية بدعوى أنه غير دستوري. بررت الإدارة إجراءاتها بالاستناد إلى الباب السادس من قانون الحقوق المدنية، وهو القانون الفدرالي الذي يحظر على الكليات والجامعات التمييز على أساس العِرق أو اللون أو الأصل القومي.

ومع ذلك، فإن التطبيق السليم للباب السادس يتطلب إجراء تحقيق، ومحاولة التفاوض على حل، وجلسة استماع رسمية، وإخطار الكونغرس قبل 30 يوما من سحب الأموال، وبالطبع فإن إدارة ترامب لم تتبع هذه الخطوات.

إعلان

في المرة الثانية، لجأت هارفارد إلى القضاء لتعليق قرار إيقاف قبول الطلاب الدوليين، وحصلت على تعليق مؤقت للقرار لمدة أسبوعين من محكمة في بوسطن، ثم على تمديد للتعليق. في غضون ذلك، أبدت إدارة ترامب مرونة نسبية في التفاوض حول قرارها، وأمهلت الجامعة 30 يوما للطعن على القرار، قبل أن يصرّح ترامب برغبته أن تضع هارفارد حدا أقصى 15% لنسبة الطلاب الدوليين من أجل إتاحة المزيد من المقاعد للأميركيين الراغبين في الالتحاق بالجامعة.

على عكس ما يبدو إذن، لا يخوض ترامب معركة صفرية ضد هارفارد، بقدر ما يشن حرب استنزاف ضد الجامعة عبر رفع سقف المطالبات ثم خفضها جزئيا بما يسمح له بإعادة تشكيل البيئة الأكاديمية برُمّتها.

لربما يوقف القضاء أيضا قرارات ترامب بتعليق بعض المنح الفدرالية، لكن بعد أن تكون القرارات آتت أُكلها جزئيا بهز مجتمعها الأكاديمي وإجباره على إجراء تخفيضات في الموازنة وتعليق بعض المشروعات البحثية. وحتى إذا عادت المنح بعد ذلك، فسوف تكون الجامعة خسرت الكثير بالفعل بسبب حالة عدم اليقين حول أعمالها وعلاقتها المضطربة بالحكومة الأميركية.

على الأرجح، سوف تستمر المعركة بين الشد والجذب لحين التوصل إلى تسوية تفاوضية تحقق لترامب وإدارته جزءا معتبرا من مطالبهم لكنها لن تسحق إرادة الجامعات بشكل كامل، وبمجرد أن تخضع هارفارد لهذه التسوية فإن جامعات النخبة الأخرى سوف تتبعها أو تفعل ذلك معها على الأغلب، وبعد ذلك سوف يأتي أمر 2600 جامعة وكلية تقدم البرامج الجامعية ذات السنوات الأربع بطول الولايات المتحدة وعرضها.

بيد أنه في خضم هذه المعركة، يمكن القول إن ترامب وإدارته يطلقون النار على أقدامهم، ليس فقط بتدمير سمعة ومقدرات الجامعات الأميركية التي تُعد مصدرا رئيسا للقوة الناعمة للبلاد، ولكن عبر المخاطرة بخسارة قرابة 44 مليار دولار من الأموال التي يضخها الطلاب الدوليون سنويا في الاقتصاد الأميركي، التي تدعم أكثر من 378 ألف وظيفة وفق بيانات حديثة صادرة عن رابطة المعلمين الدوليين.

إعلان

وعلى المدى الأطول، تخاطر الولايات المتحدة بفقدان مليارات الدولارات من القيمة المضافة إلى الأسواق الأميركية التي يوفرها الخريجون الأجانب سنويا. ووفقا لتقرير صادر عن المؤسسة الوطنية للسياسة الأميركية، فإن ما يقرب من 25% من الشركات الأميركية التي تبلغ قيمتها مليار دولار على الأقل كان لها مؤسس التحق بجامعة أميركية طالبا دوليا.

وتبقى الخسارة الأكبر، التي لن يمكن قياس حجمها بدقة الآن، هي عزوف العقول النابهة من بين أكثر 1.1 مليون طالب أجنبي يدرسون في الجامعات الأميركية (وفق بيانات 2024). هؤلاء الأشخاص قدّموا إسهامات لا تُقدَّر بثمن في جميع القطاعات الأميركية، من التقنية والذكاء الاصطناعي إلى العسكرية والأمن القومي مرورا بالهندسة والزراعة والطب وغيرها. وقد بدأت العديد من الدول بالفعل في طرح امتيازات لاستقطاب هؤلاء الطلاب، مستغلةً أكبر موجة هجرة عكسية محتملة للعقول من الجامعات الأميركية إلى سائر العالم.

مقالات مشابهة

  • باريس يتوّج بدوري الأبطال وقطر تحتفل.. القصة الكاملة
  • الرئيس ضد الجامعة.. القصة الكاملة للصراع بين ترامب وهارفارد
  • بايدن أم روبوت | من الذي حكم الولايات المتحدة لأربع سنوات قبل ترامب؟.. نخبرك القصة
  • هل تنجح مساعي الولايات المتحدة للتفوق على الصين في سباق التكنولوجيا؟
  • اتهام رجل بريطاني في الولايات المتحدة بالتخطيط لتهريب تكنولوجيا عسكرية إلى الصين
  • "رفضًا للحبس في قضايا النشر".. القصة الكاملة لأزمة نوارة نجم ومحمد الباز
  • الصين تحذّر الولايات المتحدة من «اللعب بالنار» بسبب تصريحات وزير الدفاع الأمريكي
  • الصين تحذر الولايات المتحدة من "اللعب بالنار".. ماذا حدث؟
  • الصين تحذر الولايات المتحدة من اللعب بالنار بشأن تايوان
  • ترامب يدمر ريادة أمريكا التكنولوجية