موقع النيلين:
2025-12-13@23:05:58 GMT

هذا هو حميدتي .. خطاب إعلان الإفلاس

تاريخ النشر: 10th, October 2024 GMT

أول ملاحظة في خطاب حميدتي هي خروجه لمخاطبة الناس بشكل مباشر على غير العادة حيث كان يخرج بخطاب معد ومكتوب يعبر عن رؤية محددة هي رؤية التحالف السياسي للمليشيا وقحت.

لقد جاء الخطاب هذه المرة بشكل تلقائي وحميدتي (نسبة إلى حميدتي نفسه) للغاية. خطاب يعبر عن غياب المشروع وغياب الرؤية. لقد حصر حربه في الدفاع عن النفس وعاد مرة أخرى إلى المظلومية والتبرير والندم، كعادته دائما.

إذا قرأنا هذا مع حديث الناطق باسم حلفاء المليشيا بكري الجاك وحديث ياسر عرمان والاثنين أظهرا تراجعا واضحا في الموقف من الجيش، وكذلك الكلام الذي خرج من إعلام المليشيا، هجوم عبدالمنعم الربيع العنيف على قحت، وكذلك “جوج ماجوج” أحد القادة الميدانيين، كل ذلك يدل على أن التحالف بين المليشيا وقحت قد تصدع وربما انهار. فقد فشل كل طرف في توفير ما يريده الطرف الآخر؛ فشلت المليشيا عسكريا وفشلت قحت في توفير الغطاء السياسي داخليا وخارجيا.

في نفس السياق فقد هاجم حميدتي الاتفاق الإطاري وقال إنه سبب الحرب. في حين أنه في بداية الحرب وفي اليوم الأول قال إن حربه هي من أجل تنفيذ الاتفاق الإطاري. وهذا الكلام هو تماما عكس ما كان يقوله قبل الحرب. والتسجيلات موجودة.

لقد خرج حميدتي ليقول لمقاتليه أنهم يقاتلون بلا مشروع وبلا رؤية ولا أهداف. فلا أدري كيف يريدهم أن يستمروا في القتال!

لذلك فهذا الخطاب هو خطاب إعلان الإفلاس. لقد أعلن فشل الاتفاق الإطاري وأنه تسبب في الحرب. وألقى باللوم على الدول التي كانت تقف وراء الاتفاق الإطاري وحملهم المسئولية فيما وصلت إليه البلد. ويبدو أن حميدتي يبحث كعادته عمن يعلق عليه فشله مثل كل مرة.
السؤال الطبيعي هو إذا كان حميدتي يرى أن الإطاري سيتسبب في الحرب، فلماذا كان يدافع عنه بتلك القوة ولماذا ظل يحشد قواته لشهور في الخرطوم استعدادا لهذه الحرب؟ أما كان الأفضل عدم المضي في هذا الاتفاق؟

لم يقل لنا حميدتي من الذي أقنعه بالاستمرار في دعم هذا الاتفاق وحشد القوات لشهور في الخرطوم وإعداد مسرح الحرب.

بربك ما الذي كنت تتوقعه وأن تدعم اتفاقا تعرف أنه سيشعل الحرب وسيدمر البلد وبالتزامن مع ذلك كنت تعمل على تجهيز قواتك للحرب. فأنت شاركت في الإتفاق وأنت أعددت للحرب. فهذه الحرب ليست بين الجيش وقحت، ولكنها بين الجيش والدعم السريع. أنت طرف في الحرب وطرف أساسي، فكيف تتكلم عنها وكأنها شيء خارج عن إرادتك تسبب فيه الاتفاق الإطاري. أنت قررت أن تحارب بدليل استعدادك لها مع دعمك لسببها الرئيسي، وأنت كنت تعلم أن الوسيلة الوحيدة لتنفيذ الاتفاق الإطاري هي الحرب وعملت لها.

منتهى الغباء مع الجبن والهروب من المسئولية. الإطاري هو سبب الحرب ولكن أداة الحرب هي الدعم السريع، وبدون الدعم السريع لا يمكن للإطاري أن يتسبب في الحرب؛ لأن قحت لا تملك السلاح.

أنت دمرت قواتك ودمرت أهلك ونفسك ودمرت البلد والشعب السوداني. ولكنك أجبن من أن تواجه هذه الحقيقة، لذلك تبحث عن شماعات لفشلك.

الحقيقة هي أن حميدتي أراد أن يحكم. وحارب لأجل ذلك؛ وحارب بكل قوة وبكل جدية؛ إستعد لهذه الحرب لفترة طويلة وتلقى دعما هائلا بالمال والسلاح والمرتزقة وعقد تحالفات سياسية وتلقى وعود خارجية بالدعم والمساندة. حارب بكل ما يملك ولكنه فشل وخسر الحرب. هذه هي الحقيقة.

والآن جاء يتكلم بهذا الارتباك والضعف تحت وطأة الهزيمة الأخيرة في جبل مويا. رغم أنها ليست الهزيمة الوحيدة التي تلقتها المليشيا في الأيام الأخيرة. ولكن لأن خطابه انفعالي ولحظي فقد تجاهل بقية محاور القتال. لم يتطرق أبدا إلى الخرطوم ومعركة عبور الجسور إلى الخرطوم وبحري وتمدد الجيش في العاصمة. ترى ما هي الرسالة التي تتلقاها بقايا المليشيا في العاصمة ودارفور والجزيرة وهي ترى القائد حميدتي يتجاهل حتى وجودها. ربما ظنوا أن القائد قد نسيهم ونسي وجودهم وأنه لا يملك ما يقدمه لهم.

لقد تكلم كشخص مهزوم يستجدي جنوده كي يقاتلوا من أجل هدف غير موجود. إذا كنت قائد عسكري في المليشيا وأملك القليل من العقل لماذا أستمر في هذه الحرب؟ فهي حرب خاسرة بالمقاييس العسكرية باعتراف القائد نفسه وبلا هدف سياسي وتضعني في مواجهة شعب كامل وجيش يملك سلاح طيران فتاك؟ لماذا أقاتل؟

أخيرا، ما دامت هذه حرب بلا مشروع ولا أهداف كما هو واضح من خطاب قائد المليشيا، وقد خسرتها المليشيا باعتراف قائدها، أتمنى أن يجدد القائد العام للجيش مرة أخرى النداء لمن تبقى من المليشيا لكي يستسلموا ويسلموا أنفسهم، مع عفو عام عن كل من لم يرتكب جريمة بحق المواطن. كفرصة أخيرة.

حليم عباس

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الاتفاق الإطاری هذه الحرب فی الحرب

إقرأ أيضاً:

كوثر بن هنية: أصنع الأفلام لإعادة الإنسان إلى مركز الحكاية لا لتقديم خطاب سياسي

حوار ـ فيصل بن سعيد العلوي 

شكّل فيلم «صوت هند رجب» محطة مهمة في مسار المخرجة التونسية كوثر بن هنية، إذ أعاد ترتيب موقع التجربة الإنسانية داخل السرد، مستندا إلى واقعة حقيقية خرج منها صوت طفلة محاصرة وسط النار في غزة... هذا الصوت تحوّل في المعالجة إلى مساحة بحث عن أثر المأساة في حياة أشخاص يعيشون الحدث كواقع يومي يواجهون فيه العجز والخوف ومحاولة النجاة ... حيث اقتربت المخرجة من علاقة الصورة بالذاكرة، ومن قدرة السينما على نقل تجربة حسّية تجعل المتفرج قريبا من القصة مهما كان موقعه الجغرافي أو السياسي... ومع وصول أعمالها إلى منصات دولية والتتويج بمهرجان البندقية، تواصل «هنية» النظر إلى الحضور العالمي من زاوية تتعلق بكيفية تفكيك الصور المسبقة عن المنطقة، وتقديم شخصيات بتجارب معقدة تراها جزءا من المشهد الإنساني العام وليس استثناء ثقافيا. 

في هذا الحوار... تجيب المخرجة التونسية كوثر بن هنية (الحائزة مؤخرا على جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي لعام 2025 عن فيلمها «صوت هند رجب») عن هذه الأسئلة وسواها، مستندة إلى تجربتها ومسارها الممتد عبر أفلام متعددة.. 

بعد الفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية... ما الذي مثّلته التجربة الأخيرة على مستوى علاقتك بالصورة، وعلى مستوى إدراكك لدور السينما في توثيق المأساة الإنسانية المعاصرة؟ 

قبل الوصول إلى مهرجان البندقية كان التحدي الأساسي هو صنع الفيلم نفسه، وجاءت الفكرة من شعور بالألم والغضب تجاه ما يحدث في غزة، وعندما استمعتُ إلى صوت الطفلة في تسجيل المكالمة بدا الأمر كأنه صوت جماعي يعبّر عن مدينة وشعب في حالة استغاثة... كان ذلك دافعا مباشرا للبدء في العمل، خصوصا أن إحساس العجز أمام حدث بهذه القسوة كان ثقيلا، وكان إنجاز الفيلم أحد الطرق للتعامل معه. 

أؤمن بأن للسينما قدرة عملية على لفت الانتباه إلى قضايا إنسانية معقّدة، وعلى خلق تواصل شعوري بين الجمهور والواقع الذي يشاهده، حتى لدى الأشخاص الذين لا تجمعهم علاقة مسبقة بالقضية ذاتها. حين يرى المتفرج مثلا الصعوبات التي يواجهها العاملون في الإسعاف أثناء أداء مهامهم، يدرك حجم المأساة من خلال التجربة لا من خلال المعلومات فقط، وهذا النوع من الاتصال الإنساني هو ما يجعل الصورة ذات أثر. 

إنجاز العمل كان خطوة أولى، لكن تقديمه للجمهور يحتاج سياقا يسمح له بالوصول إلى دوائر أوسع، حتى لا يظل محصورا في مسار ضيق أو ضمن جمهور محدد، وعرض الفيلم في البندقية كان فرصة لطرحه في مساحة مشاهدة دولية مفتوحة، وهو ما أعطاه حضورا أوسع وأتاح له الخروج من محيطه الأول. 

في أعمالك تتقدم الشخصيات الهشة أمام منظومات سلطوية أو اجتماعية أكبر منها؛ كيف تشكّل هذا الهاجس في بداياتك، أترينه اليوم فكرة فنية أم مشروعا نقديا ممتدا؟ 

هذا الهاجس موجود منذ البداية، وهو ليس اختيارا طارئا بقدر ما هو انعكاس لعلاقتنا كبشر مع السلطة بصورها المختلفة، ففكرة الظلم وما ينتج عنه من اختلال في ميزان القوة حاضرة في معظم الأفلام التي قدمتها، لأنها جزء من الواقع الذي نعيشه سواء تعلق الأمر بسلطة سياسية أو اجتماعية أو مؤسساتية. 

في التجربة الأخيرة يظهر هذا الجانب بشكل واضح، فالاحتلال ليس حاضرا في الكادر بصورة مباشرة، لكنه موجود من خلال آثاره التي تتحكم في مصير الشخصيات ومحاولاتها للنجاة... ظروف المسعفين، عائلة الطفلة، والعجز أمام منظومة أكبر كلها تعبيرات عن علاقة غير متكافئة بين طرف يملك القوة وطرف يعيش تحت تأثيرها. 

يمكن القول إن الموضوع صار مع الوقت جزءا من مسار متواصل أكثر منه مجرّد فكرة تطرح في عمل واحد، لأن علاقتنا بالسلطة ليست ثابتة وهي عنصر يساهم في تشكيل الحياة اليومية ويترك أثرا على الشخصيات والخيارات والقصص التي تُروى. 

... وهل يمكن اعتبار اهتمامك بموضوع الظلم وعلاقة الفرد بالسلطة مسارا مستمرا في أعمالك المقبلة؟ 

من الصعب تحديد ما إذا كان هذا الخط سينتهي عند مرحلة معيّنة أو يستمر في المستقبل. المسألة ليست قرارا مُسبقا بقدر ما هي استجابة لواقع ما يزال مليئا بأشكال مختلفة من الظلم، وهذا يجعل هذه الأسئلة حاضرة تلقائيا في التجارب التي أشتغل عليها، فطالما تستمر هذه الظروف في تشكيل حياة الناس فسيبقى هذا المحور مطروحا في الأعمال، لأنه جزء من طبيعة العالم وليس موضوعا يُغلق بعمل واحد. 

كثير من المخرجين في المنطقة يبدأون من المحلية ثم يتجهون إلى العالمية، بينما يبدو مسارك معكوسا.. كيف ترين علاقتك بالسياق التونسي والعربي في مقابل حضورك الدولي؟ 

القصص التي تأتي من منطقتنا تستحق أن يكون لها حضور دولي، وهذا لا يرتبط بحجم المكان ولا بطبيعته الجغرافية، فتصوير فيلم في قرية صغيرة في تونس أو في أي مكان آخر لا يعني أن القصة محلية بالمعنى الضيق أو غير قابلة للوصول إلى جمهور عالمي... فما يحدد مدى الانتشار ليس موقع الأحداث، بل طبيعة التجربة الإنسانية التي تحملها القصة، وقدرتها على لمس المتفرج أينما كان، فالبعد الجغرافي ليس معيارا لتحديد قيمة العمل أو حدود جمهوره، بينما البعد الإنساني هو الذي يفتح المجال للانتشار والحضور في سياقات أوسع. 

يجرى الحديث دائما عن تمثيل القضايا في السينما، كيف تميزين بين تقديم فيلم يستلهم الواقع وبين التحول إلى لسان خطاب سياسي مباشر؟

أنا لا أميل إلى الخطابات السياسية المباشرة، لأن هذا النوع يضع المتفرج أمام موقف جاهز، وكأنه يتلقّى استنتاجًا نهائيا لا مساحة فيه للتأمل أو بناء رأي شخصي، فالفيلم بالنسبة لي مساحة للطرح والسؤال وليس للتلقين، وما أبحث عنه هو إدخال الجمهور داخل التجربة نفسها وجعلهم يعيشون الحدث من خلال الشخصيات وظروفها وتوتراتها، بدل وضعهم في مقعد يتلقى موقفًا مكتملًا مسبقًا. 

إذن العنصر الأساسي هو البعد الإنساني والحسي في السرد، هل تصل الحكاية إلى المشاهد من خلال التجربة والمعايشة وهل يمكن أن يرى نفسه في القصة حتى لو بدت بعيدة عن حياته المباشرة؟ عندما يحدث ذلك، يتولد فهم أعمق من أي خطاب سياسي واضح، لأن مصدره التعاطف والوعي بالمصير الفردي داخل الحدث، لا الحُكم عليه من الخارج. هذا الاتجاه يجعل السياسة موجودة في الخلفية من خلال الواقع نفسه وتفاصيل الحياة اليومية، لا عبر الشعارات، وعندما يرى المتفرج ما يعيشه المسعفون أو العائلات أو الأفراد في سياق معيّن، يفهم طبيعة الوضع دون أن يفرض عليه أحد طريقة القراءة فالقصة هي التي تفتح الأسئلة، والمشاهد يساهم في الإجابة عنها من موقعه الخاص، وبهذا الشكل يتحول الفيلم إلى مساحة للتجربة والفهم، لا إلى قناة تُعاد من خلالها أفكار جاهزة، الوسيلة ليست إخفاء البعد السياسي، بل تقديمه داخل حياة أشخاص حقيقيين لهم أسماء ومشاعر وهواجس واختيارات، لا مجرد رموز داخل خطاب عام.

في تجربتك يظهر تداخل بين الوثائقي والروائي، وبين الشهادة والدراما، ما الذي يحدد شكل السرد الذي تعتمدينه في كل عمل؟ 

شكل السرد يرتبط بطبيعة القصة نفسها، لأن كل قصة تحمل بنية داخلية تقترح الطريقة الأنسب لتقديمها. عندما أبدأ مشروعًا جديدًا أسأل نفسي عن الطريقة التي يمكن أن تنقل التجربة بأكبر قدر من القوة والوضوح إلى الجمهور، ثم أراجع الأدوات المتاحة داخل السينما، سواء كانت وثائقية أو درامية أو مزيجا بينهما، وأختار منها ما يخدم الفكرة ويجعل المتفرج قريبا من الشخصيات... وهنا القرار لا يقوم على تفضيل شكل محدد أو الالتزام بنمط واحد في كل الأعمال، بل على فهم ما تحتاجه القصة من زوايا تصوير ومونتاج وبناء زماني ومسافة بين الكاميرا والحدث، وهناك قصص تحتاج حضورا مباشرا مع الواقع وشخوصه، وتستدعي بناءً وثائقيًا يترك فرصة للتفاعل اللحظي مع ما يحدث، وهناك قصص أخرى تتطلّب عملا سرديا مركبا يعتمد على الأداء التمثيلي وبناء مشاهد تتيح قراءة داخلية أعمق للشخصيات.. 

وقد تقود القصة أحيانا إلى صيغة تجمع بين مناخ الشهادة وحضور الدراما في الوقت نفسه، لأن التجربة لا تنتمي بالكامل إلى أحد الشكلين، وفي هذه الحالة يكون العمل أقرب إلى مساحة بحث، تُستخدم فيها أدوات متعددة للوصول إلى التعبير الأكثر صدقًا، ضمن حدود تحافظ على جوهر القصة دون أن تُحمّلها بناءً لا يناسبها.. إذن اختيار الشكل هنا قرار مرتبط بما يسمح للقصة بأن تتحقق على الشاشة، ويمنحها المسافة التي تحتاجها كي تصل إلى الجمهور بوصفها تجربة كاملة لا مادة تقريرية أو سردًا مغلقًا. 

تتعاملين في أعمالك مع شخصيات حقيقية وتجارب معيشة، كيف تُدار العلاقة مع هؤلاء خارج الكاميرا، وهل تشعرين بمسؤولية أخلاقية تجاه صورتهم في المستقبل؟ 

التعامل مع أشخاص حقيقيين جزء حساس جدا في العمل الوثائقي، لأن ظهورهم أمام الكاميرا لا يعني أنهم يؤدّون دورًا منفصلًا عن حياتهم اليومية. هم يدخلون الفيلم بصفاتهم وتجاربهم وهوياتهم، وما يظهر على الشاشة يتحول إلى جزء من صورتهم العامة مستقبلًا، وهذا يجعل قرار العمل معهم مسؤولية مشتركة، ويحتاج وعيا بمسار طويل يتجاوز لحظة التصوير... فمن اللحظة الأولى أضع في الاعتبار أنني أدخل مساحة خاصة من حياة هؤلاء، وأن العلاقة معهم لا تنتهي عند انتهاء المشروع، لذلك يكون التواصل مستمرا، وأحيانا يتحوّل إلى علاقة إنسانية طويلة المدى.. وهذا الاتصال يساعد على فهم السياق الذي يعيشونه، ويجعل التصوير قائما على ثقة متبادلة وليس على جمع مشاهد للاستخدام الفني فقط، فالمسؤولية لا تقتصر على الوجود داخل الفيلم، بل تمتد إلى طريقة تقديم المادة وكيف سيستقبلها الجمهور، ومن المهم حماية التجربة من أي تأويل يجرّد الشخصيات من معانيها أو يضعها في موقع لم تختره، لذلك أفكر دائمًا في كيفية صياغة اللقطات والمقابلات والمونتاج بحيث تنعكس التجربة كما هي، دون توجيه المتفرج إلى صورة مسبقة أو استنتاج جاهز، وهذا النوع من العمل يتطلّب وضوحا في النية واحتراما لخصوصية الأشخاص ووعيا بما يمكن أن تحمله الصورة من أثر مستقبلي، لأن الفيلم يستمر بعد عرضه، ويظل جزءًا من السجلّ العام لحياة الشخصيات التي شاركت فيه. 

ما الفهم الذي تبحثين عنه عندما تُعرض أعمالك في الغرب، أترغبين أن تُقرأ كأعمال فنية مستقلة أم كمدخل لفهم المنطقة؟ 

ما أطمح إليه هو أن تكون مدخلا إنسانيا لفهم الإنسان قبل أي تصنيفات أخرى، عندما نتحدث عن الجمهور في الغرب أو في أي مكان آخر، فإن الناس عموما يحملون صورا نمطية جاهزة عن الآخرين، لأن العقل البشري يجد هذا النوع من التصنيف أسهل... لذلك يكون الهدف من العمل هو تفكيك تلك الصور، وإظهار الشخصيات القادمة من منطقتنا كما هي، بتعقيداتها وتنوعها وتناقضاتها، لكني لا شك لا أسعى لتقديمهم بصورة مثالية، بل بوصفهم بشرا يمتلكون نقاط قوة وضعف وتجارب متباينة تماما مثل أي شخص آخر في العالم. 

هناك من يرى أن السينما العربية لا تزال أسيرة التلقي الخارجي ومعاييره الفنية، كيف ترين هذا الجدل؟ وهل تمثل الجوائز العالمية محطة ضرورية أم مجرد أثر جانبي للعمل؟ 

هناك جانب يتعلق بطبيعة الفن نفسه، الحكاية والسرد جزء من الثقافة الإنسانية ككل، وليست ملكا لثقافة دون أخرى... نحن لدينا في العالم العربي تراث سردي غني وممتد تاريخيا، ومن المهم أن نستعيد هذا المخزون ونشتغل عليه من داخل ثقافتنا بدلا من النظر إليه من الخارج. 

وفي المقابل نعيش اليوم داخل منظومة ثقافية مهيمنة، تتمثل في النموذج الأمريكي وصناعة هوليوود، وهذا يجعل أفلام هذه الثقافة تتمتع بانتشار كبير تلقائيا، بينما لا تحظى الأعمال القادمة من مناطق أخرى بنفس المساحة، وعندما نصنع أفلاما تنطلق من سياقاتنا وتجاربنا قد لا تصل إلى الجمهور العالمي بسهولة، لأن السوق منحاز أصلا لمن يملك القوة الإنتاجية والإعلامية... لهذا السبب تصبح المشاركة في المهرجانات الكبرى مساحة ضرورية حتى يُشاهَد العمل ويُتاح له الانتشار، وإلا سيظل محصورا في نطاق محدود، وليست هذه مكافأة إضافية أو ترفا بل نتيجة لبنية عالمية تمنح امتيازات لمن ينتمي إلى ثقافة مهيمنة.. وكل هذه العملية معقدة وتحتاج وعيا بكيفية التعامل معها والتفاعل معها دون الاستسلام لشروطها أو فقدان خصوصية التجربة الفنية. 

ما التحول الأكبر في رؤيتك منذ أفلامك الأولى حتى اليوم... ما زالت الأسئلة نفسها تقودك أم أن الدوافع تغيرت مع الزمن؟ 

مسألة الظلم لا تزال دافعا كبيرا في الأعمال، لكنها تتطور مع كل تجربة لأن الأدوات تتطور أيضا، ومن فيلم إلى آخر تصبح القدرة على استخدام لغة السينما أوضح وأكثر نضجا، والهدف في كل مرحلة هو تقديم فيلم أفضل من السابق من حيث البناء والرؤية والتقنيات، وهذا التغيّر لا يعني التخلي عن الأسئلة الأولى، لكنه يرتبط بنضج التجربة وتطور الوسائل التي تُروى بها الحكاية. 

في المرحلة المقبلة... تتجهين نحو مزيد من التجريب الفني، أم ترين أن الحاجة الإنسانية تفرض الاقتراب أكثر من القصص الواقعية؟ 

العمل على قصص مستمدة من الواقع لا يتعارض مع التجريب الفني ويمكن أن يفتح مجالًا واسعًا للتجريب الفني، لأن التجربة الحية تحمل طبقات متعددة تسمح باستخدام أدوات مختلفة في السرد والبناء البصري، وهناك قصص تتطلب تقنيات مباشرة تحافظ على قرب الكاميرا من الحدث، وهناك قصص أخرى تحتاج إلى معالجة مركبة تتيح قراءة داخلية أعمق للشخصيات والسياق، وأحيانًا يجتمع الاتجاهان في مساحة واحدة إذا احتاج العمل ذلك. الاهتمام بالقضايا الإنسانية لا يعني تكرار الأدوات نفسها في كل مشروع، فكل قصة تُفرَض بطريقة مختلفة، وتحتاج إلى شكل يبرز تفاصيلها ويجعل حضورها أقرب إلى المتفرج.. وأحيانًا تكون التجربة في التفاصيل الصغيرة التي لا تحتاج إلى بناء بصري معقد، وأحيانًا تحتاج إلى اشتغال بصري وصوتي يفتح طبقة جديدة من الفهم. 

فالتجريب هنا طريقة لفتح مسارات تواصل مختلفة مع الجمهور، ويأتي من داخل القصة نفسها، لا من رغبة في اتباع قالب فني محدد، ولكن من المهم أن تظل التجربة نتيجة لاختيار واعٍ يستجيب لروح القصة ولما يمكن أن تتركه من أثر لدى المشاهد، سواء كانت قادمة من واقع يومي أو من معالجة فنية تعتمد إعادة بناء الحدث. 

مقالات مشابهة

  • كوثر بن هنية: أصنع الأفلام لإعادة الإنسان إلى مركز الحكاية لا لتقديم خطاب سياسي
  • الأرصاد تحذر: أمطار قادمة وثلوج غير متوقعة هذا الأسبوع
  • حين تتحدث الأرقام… مؤشرات الأداء كمرآة للمؤسسة
  • شاهد بالفيديو.. آخر ظهور لفنان “الدعامة” إبراهيم إدريس يظهر وهو يحتفل وسط جنود المليشيا قبل أيام قليلة من إغتياله
  • محددات العلاقة بين إيران والمقاومة: قراءة في خطاب ظريف حول الهوية الوطنية للفصائل
  • تحسّن الموسم المطري بنسبة وصلت إلى 16% بفعل المنخفض الأخير
  • من عالم العقارات إلى الدبلوماسية الفظة.. كيف انعكست النزعة الفوقية في هفوات خطاب توم براك؟
  • تواكُلُ المعارضة التونسية على الغرب.. إعادة إنتاج العجز في خطاب جديد
  • بريطانيا تفرض عقوبات على 4 قادة في الدعم السريع بينهم شقيق حميدتي
  • الزمالك يتلقى خطابًا رسميًا بوقف التعاملات في منطقة خليج الغرام