كيف سيتأثر الاقتصاد التركي بالهجوم الإسرائيلي المنتظر على إيران؟
تاريخ النشر: 15th, October 2024 GMT
أنقرة (زمان التركية) – يثير التوتر المتزايد بين إيران وإسرائيل، جارة تركيا على حدودها الشرقية، مخاوف بشأن تأثر الاقتصاد التركي الهش.
ويترقب العالم ردا اسرائيليا على الضربات الصاروخية التي شنتها إيران في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ففي حال استهداف إسرائيل منشآت النفط والمنشآت النووية الإيرانية، فقد تفتح الباب أمام أزمة اقتصادية جديدة.
وأكد الخبراء في حديثهم مع وكالة دويتشه فيله النسخة التركية أن ضرب إسرائيل منشآت إيران الاستراتيجية قد يؤثر ذلك سلبًا ليس فقط على دول المنطقة، وخاصة تركيا، ولكن أيضًا على التجارة العالمية بأكملها. خاصة إذا تم إغلاق مضيق هرمز، فقد يتوقف ما يقرب من 20 في المئة من تجارة النفط والغاز الطبيعي في العالم.
وينظر إلى هذا على أنه سيناريو كارثي للبلدان المستوردة للطاقة، وخاصة تركيا.
ماذا سيحدث لأسعار النفط؟امتدت موجة العنف في الشرق الأوسط، التي بدأت بهجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023 ثم استمرت مع الهجمات الإسرائيلية على غزة، إلى لبنان.
وشنت إيران هجومًا صاروخيًا باليستيًا على إسرائيل في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري بعد أن اغتالت إسرائيل زعيم حزب الله، حسن نصر الله، في لبنان.
أدى القلق بشأن تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران في أعقاب الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل إلى ارتفاع أسعار نفط برنت بأكثر من 3 في المئة إلى 75 دولارًا خلال يوم واحد.
تراجعت أسعار النفط إلى مستوى 75 دولارًا بعد تصريحات قاسية أعقبها تأخير في الهجوم الإسرائيلي وتصريحات الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بأن المنشآت النفطية الإيرانية لن تتعرض للضرب على الرغم من ارتفاع أسعار النفط فوق 80 دولارًا.
تجارة بقيمة 5 مليار دولارعكست بيانات هيئة الاحصاء التركية بلوغ صادرات تركيا إلى إيران 3.2 مليار دولار وواردتها نحو 1.5 مليار دولار خلال عام 2023 أي يبلغ حجم التجارة بين البلدين حوالي 5 مليارات دولار.
ووفقًا لتقرير “تقييمات التجارة الثنائية بين تركيا وإيران” لميثاق طهران التجاري الصادر عن وزارة التجارة التركية في ديسمبر / كانون الأول 2023، تحتل معدات الآلات والمنتجات البلاستيكية والكيميائية والمنتجات الزراعية المراتب الثلاثة الأولى في صادرات تركيا إلى إيران على التوالي.
ويمثل الغاز الطبيعي والمنتجات البتروكيماوية 60 في المائة من الواردات من إيران، تليها المعادن والمنتجات الزراعية.
وفي الوقت نفسه، تجدر الإشارة أيضًا إلى الزيادة في واردات الألومنيوم من إيران في السنوات العشر الأخيرة، حيث بلغت واردات الألومنيوم من إيران 45 مليون دولار في عام 2015، غير أن هذا الرقم ارتفع إلى 822 مليون دولار بحلول نهاية عام 2022.
توقف النفط الإيرانيأفاد نجدت بامير، كبير المحاضرين وخبير سياسة الطاقة في جامعة قبرص الدولية، أن تركيا توقفت عن شراء النفط من إيران بعد أن وسعت الولايات المتحدة حصارها على إيران.
وأضاف بامير أن الهجوم المحتمل على إيران لن يسبب مشكلة لاحتياجات تركيا من النفط، قائلا: “لفترة من الوقت، لبينا 45 في المئة من احتياجاتنا النفطية من إيران بأسعار معقولة، ولكن الآن انخفضت هذه التجارة إلى ما يقرب من الصفر”.
وفقًا للمعلومات التي قدمتها بامير، حتى اليوم، توفر تركيا ما يقرب من 70 في المئة من وارداتها النفطية من روسيا و 25 في المئة من العراق والباقي من كازاخستان.
أزمة عالمية بسبب مضيق هرمزمن ناحية أخرى، أشار بامير إلى أنه إذا تعرضت منشآت إيران النفطية والنووية للهجوم، فقد تغلق إيران مضيق هرمز، الذي له أهمية استراتيجية في تجارة الطاقة العالمية، قائلا: “إذا اعتقدت إيران أن عليها أن تخوض حربًا وجودية، فسوف تغلق مضيق هرمز، حيث يمر 21 مليون برميل يوميًا، وسترتفع أسعار النفط إلى عنان السماء. عندها لن تتأثر تركيا فحسب، بل سيتأثر الاقتصاد العالمي بأكمله بشدة بهذا الأمر”.
يُعرف مضيق هرمز، الذي يربط الخليج العربي بخليج عمان ويفصل إيران وعمان، بأنه أكبر خط إمداد بالوقود لإيران، وكذلك العراق والكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة وقطر، إلى بقية العالم. ويعني إغلاق هذا الطريق أن 20-25 في المئة من نفط العالم و 18 في المئة من الغاز الطبيعي سيقطعان عن الأسواق العالمية.
أسعار النفطوأوضح بامير أن متوسط سعر نفط برنت بلغ 101 دولار في عام 2022 وأن إجمالي فاتورة استيراد الطاقة في تركيا، التي كانت تعتمد بنسبة 92 في المئة على النفط الأجنبي، ارتفعت إلى 96.6 مليار دولار في ذلك العام مفيدا أن أسعار النفط انخفضت إلى 82 دولارًا في عام 2023 مما خفض فاتورة الطاقة في تركيا إلى 69.1 مليار دولار.
وأكد بامير أن ارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب الإسرائيلية الإيرانية في هذه الفترة ، قد يشكل ضربة عنيفة أخرى للاقتصاد التركي، الذي يمر بفترة خانقة، قائلا: “لأنه إذا نمت الحرب، فإن أسعار النفط عند مستوى 75 دولارًا اليوم سترتفع إلى 100 دولار و 150 دولارًا و 200 دولار. ولا نستطيع معرفة عند أي حد ستتوقف أسعار النفط”.
اتفاقية الغاز الطبيعي بين تركيا وإيرانإلى جانب النفط، يشكل الغاز الطبيعي أحد المجالات التجارية المهمة مع إيران في مجال الطاقة التركي.
وكان وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، ألب ارسلان بيرقدار، قد التقى بوزير النفط الإيراني، جواد أوفجي، في طهران خلال زيارة رسمية في أوائل أبريل/ نيسان الماضي.
وقال بيرقدار في بيان يتعلق باللقاءات الإيرانية إن المفاوضات مستمرة للفترة الجديدة من اتفاقية الغاز الطبيعي لمدة 30 عامًا بين البلدين، والتي ستنتهي في عام 2026.
وتستورد تركيا 99 في المئة من احتياجاتها السنوية من الغاز الطبيعي البالغة حوالي 55 مليار متر مكعب، حيث تشتري 15 في المئة من هذا من إيران.
وأضاف بامير أن قطع خطوط الغاز الطبيعي في حالة نشوب حرب محتملة سيتسبب في أضرار كبيرة للمنشآت الصناعية التركية.
على الرغم من تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران، إلا أن هناك من يعتقد أنه لن يكون هناك هجوم على إيران من شأنه أن يضر بالاقتصاد العالمي.
ووفقًا لبوزكورت آران، مدير مركز الدراسات التجارية التابع لمؤسسة أبحاث السياسة الاقتصادية التركية (TEPAV)، وعلى الرغم من توقع هجوم إسرائيل المحتمل بقلق، فمن غير المرجح أن يكون هناك هجوم سيعرض كل من دول المنطقة، بما في ذلك تركيا، والاقتصاد العالمي للخطر.
وزعم آران أن اسرائيل لن تهاجم المنشآت النفطية والنووية في إيران مفيدا أن نقل اسرائيل للحرب إلى إيران سيؤدي لرد فعل سيضر بها أيضا.
ويوضح آران أنه قد يكون هناك تقلب في أسعار النفط غير أنه لن يكون هناك قفزة خطيرة مفاجئة بالأسعار.
وأفاد آران أن العالم الغربي وأوروبا والولايات المتحدة يعطون حاليا الضوء الأخضر للهجمات الإسرائيلية غير أن هذا الأمر لن يستمر للأبد قائلا: “التجارة في المنطقة ذات أهمية كبيرة للاقتصاد العالمي. في نهاية المطاف، يتعين على الأطراف الوصول إلى نقطة أكثر قياسًا، لأن النفط الإيراني يذهب بشكل أساسي إلى الصين والهند وروسيا. ولن تسمح هذه البلدان بصعوبات في عملية إمداد الطاقة. تركيا، من ناحية أخرى، كدولة تقوم بجزء كبير جدًا من تجارتها بجغرافيتها الوثيقة. وعلى الرغم من أنها تتأثر سلبًا ببيئة الصراع هذه، لا أعتقد أن الأمور ستزداد سوءًا من هذا “.
Tags: أسعار النفطالحرب الاسرائيلية على غزةالحرب الاسرائيلية على لبنانالهجوم الايراني على اسرائيلتوقف النفط الإيرانيمضيق هرمز
المصدر: جريدة زمان التركية
كلمات دلالية: أسعار النفط الحرب الاسرائيلية على غزة الحرب الاسرائيلية على لبنان الهجوم الايراني على اسرائيل توقف النفط الإيراني مضيق هرمز النفط الإیرانی الغاز الطبیعی على الرغم من ملیار دولار أسعار النفط فی المئة من مضیق هرمز یکون هناک على إیران إیران فی من إیران دولار ا فی عام هجوم ا
إقرأ أيضاً:
نظام البترودولار.. إلى متى يستمر في الصمود أمام البدائل؟
محمد بن علي العريمي
mahaluraimi@gmail.com
في لحظة فارقة من التاريخ الاقتصادي العالمي، يلوح سؤال جوهري في الأفق: إلى متى يمكن لنظام البترودولار أن يُحافظ على صلابته في وجه البدائل الصاعدة؟ منذ مطلع السبعينيات، ارتبطت تجارة النفط بالدولار الأمريكي، وأصبحت عوائد هذه التجارة تمثل أحد أعمدة القوة الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة. ومع مرور عقود، بدا هذا النظام وكأنه ركيزة لا تهتز، لكنه اليوم يواجه تحديات متراكمة تعكس تغير موازين القوى الدولية، وتنامي طموحات اقتصادات ناشئة، وتزايد الدعوات إلى نظام نقدي عالمي أكثر تنوعًا وأقل انحيازًا.
ولعلَّ ما يجعل المشهد أكثر إثارة هو أن هذه التغيرات لا تأتي دفعة واحدة، بل تتسلل ببطء إلى البنية العميقة للاقتصاد العالمي، ما يفرض على القارئ طرح السؤال: هل نحن أمام بداية النهاية أم مجرد إعادة تموضع مؤقت؟
الأرقام هنا تتحدث بوضوح أكثر من أي خطاب سياسي. فبحسب بيانات صندوق النقد الدولي حتى الربع الأول من عام 2025، استحوذ الدولار على نحو 57.74% من احتياطيات العملات الأجنبية المعلنة لدى البنوك المركزية، مقابل أكثر من 70% مطلع الألفية. هذا التراجع، وإن بدا تدريجيًا، فإنه يعكس مسارًا واضحًا لانحسار الهيمنة. بالمقابل، حافظ اليورو على حصة تقارب 20%، فيما لم يتجاوز الرنمينبي الصيني 2.12% رغم الجهود الهائلة التي تبذلها بكين لفرض عملتها على المسرح العالمي. وإذا انتقلنا إلى قطاع الطاقة، نجد أن النفط لا يزال يُسعّر في معظمه بالدولار، بنسبة تتراوح بين 75% و80%، لكن هذه النسبة لم تعد مطلقة كما كانت. ففي عام 2023، على سبيل المثال، شهدت التجارة النفطية بين روسيا والصين صفقات تجاوزت قيمتها 19 مليار دولار تم تسويتها باليوان، وهو ما يمثل إشارة صريحة إلى أن بعض القوى الاقتصادية الكبرى بدأت بالفعل في اختبار بدائل عملية خارج النظام التقليدي.
هنا لا بد من التوقف عند الدور الصيني. فمنذ إطلاق "اليوان النفطي" عام 2018، وضعت بكين نصب عينيها هدفًا استراتيجيًا يتمثل في تقليص الاعتماد على الدولار. واليوم، مع توسع استخدام اليوان الرقمي عبر تجارب فعلية لتسوية صفقات الطاقة، تزداد فرص العملة الصينية في اكتساب موطئ قدم في أسواق النفط العالمية. ولا يقف الطموح الصيني عند هذا الحد؛ بل يمتد إلى إنشاء بنية تحتية مالية موازية مثل نظام المدفوعات عبر الحدود (CIPS)، الذي يهدف إلى توفير بديل عن شبكة "سويفت" التي تهيمن عليها المؤسسات الغربية. إلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل أن الشراكة الاقتصادية المتنامية بين بكين وموسكو، والتي تقدر تجارتها الثنائية بأكثر من 125 مليار دولار سنويًا، تشكل أرضية خصبة لتعزيز استخدام العملات المحلية في الصفقات الاستراتيجية.
لكن الصين ليست وحدها في هذا المشهد. فروسيا، التي واجهت عقوبات غربية واسعة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وجدت نفسها مضطرة إلى البحث عن بدائل عملية لتجاوز الحصار المالي. وهكذا تحولت تدريجيًا إلى تسوية جزء كبير من تجارتها بالروبل أو اليوان، ما أعطى دفعة إضافية لجهود تقليص الاعتماد على الدولار. وفي السياق ذاته، جاء انضمام السعودية والإمارات إلى مجموعة بريكس ليضيف بعدًا جديدًا. فالمجموعة، التي تمثل نحو 45% من إنتاج النفط العالمي، تسعى بوضوح إلى تعزيز استخدام العملات الوطنية في التبادل التجاري، وهو ما يفتح الباب أمام تحولات محتملة في سوق الطاقة العالمية، لاسيما إذا قررت بعض الدول الخليجية قبول تسعير جزء من صادراتها بعملات غير الدولار.
ومع ذلك، يظل من الصعب الحديث عن انهيار وشيك للبترودولار. فالعوامل التي تمنحه الصمود لا تزال قوية. أولها عمق الأسواق المالية الأمريكية وسيولتها الهائلة، التي تجعل من الدولار الخيار الأكثر أمانًا وسهولة في التسويات الدولية. ثانيها أن العقود الآجلة للنفط، وأسواق المشتقات، وشبكات التأمين والتمويل التجاري كلها مبنية أساسًا على الدولار، وهو ما يجعل تغييره مهمة معقدة تتطلب إعادة هيكلة جذرية للنظام المالي العالمي. ثالثها أن البدائل نفسها تعاني من مشكلات هيكلية: فاليوان مقيد بضوابط حكومية تحد من حرية رأس المال، والروبل يفتقر إلى الاستقرار بفعل العقوبات والتقلبات السياسية، أما اليورو فرغم مكانته لا يزال مرهونًا بأزمات داخلية في الاتحاد الأوروبي.
لذلك، يبدو المستقبل مرسومًا على مراحل. فمن الآن وحتى عام 2030، من المرجح أن يحافظ الدولار على موقعه المهيمن، محتفظًا بنسبة تتراوح بين 55 و60% من الاحتياطيات العالمية، مع استمرار تسعير أغلب النفط به. لكن بعد 2030، قد نشهد توسعًا أكبر لاستخدام العملات المحلية في التجارة، خصوصًا مع تزايد المبادرات الرقمية للبنوك المركزية، ما قد يخفض حصة الدولار في تجارة النفط إلى حدود 50%. أما بعد 2040، فمن المتوقع أن يتبلور نظام متعدد العملات، حيث يصبح الدولار أحد الأعمدة الرئيسية، لكن دون احتكار كامل، إلى جانب اليورو واليوان وربما عملات أخرى مرتبطة بتكتلات إقليمية كبرى.
القارئ هنا مدعو إلى التفكير في الصورة الأوسع: إن مستقبل البترودولار لن يُحسم فقط عبر صفقات النفط أو قرارات فردية من الدول، بل من خلال تحولات أعمق ترتبط بقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على قوة مؤسساتها المالية، وبمدى نجاح الصين وحلفائها في بناء بدائل موثوقة، وبالسرعة التي سيتحول بها العالم نحو الطاقة المتجددة التي قد تقلص أهمية النفط نفسه. وفي هذه النقطة الأخيرة يكمن البعد الاستراتيجي الأكثر خطورة؛ إذ إن تراجع الاعتماد على النفط سيضعف تلقائيًا الأساس الذي قام عليه نظام البترودولار منذ نصف قرن.
منذ ولادة نظام البترودولار قبل نحو نصف قرن، بدا الدولار الأمريكي كعمود لا يتزعزع في هندسة التجارة العالمية للطاقة: عملة تسعير، عملة تسوية، ومساحة للاحتياطيات. لكن ما نراه اليوم ليس انهيارًا مفاجئًا بل عملية تآكل بطيئة وممنهجة، مشوبة بفرص جديدة ورهانات جيو-اقتصادية قد تعيد رسم خريطة الدفع الدولي خلال عقود قادمة. الأرقام الحديثة تقول الكثير: سجلت إحصاءات صندوق النقد الدولي (بيانات COFER ) أن حصة الدولار من احتياطيات العملات الأجنبية المصرّح عنها لدى البنوك المركزية لا تزال تهيمن، لكنها تراجعت إلى ما يقارب 57–58% في آخر بيانات 2024–2025، بعد أن كانت تفوق 70% مطلع الألفية، ما يؤكد اتجاهًا طويل الأمد نحو تنويع الاحتياطيات وسط ضغوط جيوسياسية وتغيرات سوقية.
في سوق النفط نفسه تبقى الأغلبية العظمى من العقود مُسعّرة بالدولار؛ تقديرات المؤسسات التحليلية والمراكز البحثية تشير إلى أن حصة التعاملات المسجلة بالدولار تتراوح في نطاقات مرتفعة (تقديريًا بين نحو 70- 80%)، لكن ما تغير هو أن صفقات ثنائية وإقليمية بدأت تُختبر بعملات محلية أو بآليات بديلة- حالات ملاحَظة بين روسيا والصين وأطراف آسيوية أخرى تظهر تسويات فعلية باليوان والروبل، واستخدام أدوات تبادلية مثل المقايضة أو حتى العملات الرقمية في بعض الصفقات لتجاوز قيود المدفوعات المصطنعة بالعقوبات. هذه التحولات لا تعني أن السوق العالمي للنفط قد تحوّل نهائيًا، لكنها تشير إلى تزايد الخيارات خارج نطاق الدولار في شواهد ملموسة على الأرض.
من أين تأتي قوة البدائل؟
أولًا: من الشق التجاري: نمو تبادلات آسيا–آسيا، وخصوصًا العلاقة الاقتصادية المعمقة بين الصين وروسيا، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية مستويات قياسية في السنوات الأخيرة، ودفعت الأطراف إلى ترسيم مصفوفات تسوية جزئية باليوان والروبل لتقليل المخاطر المصاحبة للاعتماد على منظومة المدفوعات الغربية. ثانيًا من البنية التحتية المتنامية: بكين عملت على بناء شبكات دفع بديلة مثل نظام CIPS، وطورت تجارب لليوان الرقمي؛ بهدف تسهيل تسويات دولية أسرع وأكثر مباشرة؛ تلك الأدوات تُقدّم خيارًا عمليًا لتسوية عقود الطاقة دون المرور الكامل عبر النظام التقليدي.
لكن الطريق إلى استبدال أو تحجيم البترودولار محفوف بعقبات بنيوية. سوق السندات الأميركية والمعاملات بالودائع الأمريكية تقدمان سيولة عملاقة لا تضاهى، وهو ما يجعل معظم المؤسسات المالية العالمية تستمر في تفضيل الدولار لأسباب تتعلق بتوافر الأدوات التحوطية، وتعمق أسواق الدين، والقدرة على التأمين والتمويل. كما أن البدائل تعاني من مشكلات ثقة وسيولة: اليوان يعاني من قيود على حرية تحويل رأس المال، والروبل والدرهم يواجهان قيودًا سياسية وجيو-اقتصادية، واليونية الأوروبية رغم قوتها مضطربة داخليًا أحيانًا. وفي أوقات الاضطراب، تتجه الأسواق دائماً إلى الملاذات الراسخة — والولايات المتحدة ما زالت تملك الأعمق والأكثر قبولًا عالميًا.
لا يمكن تجاهل العامل الثالث: الطاقة نفسها. التقديرات الدولية تُظهر أن مسار الطلب على النفط قد يختلف خلال العقد المقبل مع تسارع الاعتماد على الكهرباء المتجددة والمركبات الكهربائية والتحسن في كفاءة الطاقة الصناعية. تقارير الوكالات الدولية للطاقة تشير إلى سيناريوهات فيها تقل أهمية النفط تدريجيًا في مزيج الطاقة العالمي، ما يعني أن أساس البترودولار، أي ربط النفط بعملة واحدة للاستفادة من دورة العوائد والاحتياطيات، قد يفقد من أهميته العملية إذا قلّ الطلب على النفط أو تبلورت أسواق طاقة بديلة. هذا التحول ليس فوريًا لكنه يُعدّ عاملًا مركزيًا في أي توقعات بعيدة المدى.
ما الذي نتوقعه عمليًا خلال العقود القليلة المقبلة؟ السيناريو الأكثر احتمالًا يضعنا أمام تحول تدريجي: حتى نهاية العقد الحالي (حتى 2030) سيستمر الدولار كعملة محورية للاحتياطيات وتسعير معظم النفط، مع تراجع طفيف نسبيًا في الحصة نتيجة لمبادرات احتياطية وإقليمية. بين 2030 و2040 قد ينخفض الاعتماد النسبي للدولار في بعض سلاسل التجارة (خاصة بين دول آسيا-الآسيوية والبلدان الصديقة في الشرق الأوسط) إلى حدود حيث يصبح النظام المالي العالمي متعدد الأعمدة، مع تزايد الحضور النسبي لليوان، وربما لمجاميع إقليمية وعملات رقمية للبنوك المركزية. وما بعد 2040 يعتمد على متغيرين حاسمين: مدى نجاح التقنيات منخفضة الكربون في خفض طلب النفط، ومقدار التقدم الذي تحرزه بدائل الدفع في تحقيق سيولة وقبول دولي حقيقيين.
ختامًا، يمكن القول إن البترودولار لا يزال حاضرًا بقوة في عالم اليوم، لكنه لم يعد في مأمن من التحديات. هو أشبه بقلعة شامخة بدأت بعض حجارتها تتآكل تحت ضغط الزمن، فيما يحشد خصومه بدائل مختلفة لاختبار صلابته. وإذا واصلت الاتجاهات الحالية مسارها، فإن العقود المقبلة قد تشهد تحولات جذرية تُعيد رسم خريطة القوة المالية والاقتصادية، ليتحول النظام من هيمنة مطلقة إلى شراكة متوازنة. السؤال إذن ليس ما إذا كان البترودولار سينهار، بل متى، وبأي وتيرة، وبأي شكل سيتحول العالم إلى عصر جديد من التعددية النقدية.
وثمة احتمال قوي أن يشهد العالم نظامًا نقديًا أكثر تعددية خلال العقود المقبلة، وهو تحول قد يحمل معه آمالًا اقتصادية مهمة؛ منها: فتح أسواق جديدة للتمويل المحلي، تقليل تكاليف التحويل لبعض الاقتصادات الناشئة، وإتاحة أدوات تمويلية تناسب طموحات التنمية المستدامة. إن التحول المدروس يمكن أن يولد فرصة لإعادة توجيه فائض النفط نحو استثمارات نوعية في الطاقة النظيفة والتعليم والابتكار، بدلًا من أن يظل ركيزة لهيمنة عملة واحدة فقط. ما نحتاجه الآن من صناع القرار هو رؤية اقتصادية متسقة، وأطر قانونية مشتركة، واستثمارات في بنى تحتية للدفع والتسوية تقبلها الأسواق وعندها يمكن أن تتحول المخاوف إلى آمال واقعية تُترجم إلى نمو معيشي وتنموي أوسع في كثير من أنحاء العالم.