محمد بن علي العريمي

[email protected]

 

في لحظة فارقة من التاريخ الاقتصادي العالمي، يلوح سؤال جوهري في الأفق: إلى متى يمكن لنظام البترودولار أن يُحافظ على صلابته في وجه البدائل الصاعدة؟ منذ مطلع السبعينيات، ارتبطت تجارة النفط بالدولار الأمريكي، وأصبحت عوائد هذه التجارة تمثل أحد أعمدة القوة الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة.

ومع مرور عقود، بدا هذا النظام وكأنه ركيزة لا تهتز، لكنه اليوم يواجه تحديات متراكمة تعكس تغير موازين القوى الدولية، وتنامي طموحات اقتصادات ناشئة، وتزايد الدعوات إلى نظام نقدي عالمي أكثر تنوعًا وأقل انحيازًا.

ولعلَّ ما يجعل المشهد أكثر إثارة هو أن هذه التغيرات لا تأتي دفعة واحدة، بل تتسلل ببطء إلى البنية العميقة للاقتصاد العالمي، ما يفرض على القارئ طرح السؤال: هل نحن أمام بداية النهاية أم مجرد إعادة تموضع مؤقت؟

الأرقام هنا تتحدث بوضوح أكثر من أي خطاب سياسي. فبحسب بيانات صندوق النقد الدولي حتى الربع الأول من عام 2025، استحوذ الدولار على نحو 57.74% من احتياطيات العملات الأجنبية المعلنة لدى البنوك المركزية، مقابل أكثر من 70% مطلع الألفية. هذا التراجع، وإن بدا تدريجيًا، فإنه يعكس مسارًا واضحًا لانحسار الهيمنة. بالمقابل، حافظ اليورو على حصة تقارب 20%، فيما لم يتجاوز الرنمينبي الصيني 2.12% رغم الجهود الهائلة التي تبذلها بكين لفرض عملتها على المسرح العالمي. وإذا انتقلنا إلى قطاع الطاقة، نجد أن النفط لا يزال يُسعّر في معظمه بالدولار، بنسبة تتراوح بين 75% و80%، لكن هذه النسبة لم تعد مطلقة كما كانت. ففي عام 2023، على سبيل المثال، شهدت التجارة النفطية بين روسيا والصين صفقات تجاوزت قيمتها 19 مليار دولار تم تسويتها باليوان، وهو ما يمثل إشارة صريحة إلى أن بعض القوى الاقتصادية الكبرى بدأت بالفعل في اختبار بدائل عملية خارج النظام التقليدي.

هنا لا بد من التوقف عند الدور الصيني. فمنذ إطلاق "اليوان النفطي" عام 2018، وضعت بكين نصب عينيها هدفًا استراتيجيًا يتمثل في تقليص الاعتماد على الدولار. واليوم، مع توسع استخدام اليوان الرقمي عبر تجارب فعلية لتسوية صفقات الطاقة، تزداد فرص العملة الصينية في اكتساب موطئ قدم في أسواق النفط العالمية. ولا يقف الطموح الصيني عند هذا الحد؛ بل يمتد إلى إنشاء بنية تحتية مالية موازية مثل نظام المدفوعات عبر الحدود (CIPS)، الذي يهدف إلى توفير بديل عن شبكة "سويفت" التي تهيمن عليها المؤسسات الغربية. إلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل أن الشراكة الاقتصادية المتنامية بين بكين وموسكو، والتي تقدر تجارتها الثنائية بأكثر من 125 مليار دولار سنويًا، تشكل أرضية خصبة لتعزيز استخدام العملات المحلية في الصفقات الاستراتيجية.

لكن الصين ليست وحدها في هذا المشهد. فروسيا، التي واجهت عقوبات غربية واسعة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وجدت نفسها مضطرة إلى البحث عن بدائل عملية لتجاوز الحصار المالي. وهكذا تحولت تدريجيًا إلى تسوية جزء كبير من تجارتها بالروبل أو اليوان، ما أعطى دفعة إضافية لجهود تقليص الاعتماد على الدولار. وفي السياق ذاته، جاء انضمام السعودية والإمارات إلى مجموعة بريكس ليضيف بعدًا جديدًا. فالمجموعة، التي تمثل نحو 45% من إنتاج النفط العالمي، تسعى بوضوح إلى تعزيز استخدام العملات الوطنية في التبادل التجاري، وهو ما يفتح الباب أمام تحولات محتملة في سوق الطاقة العالمية، لاسيما إذا قررت بعض الدول الخليجية قبول تسعير جزء من صادراتها بعملات غير الدولار.

ومع ذلك، يظل من الصعب الحديث عن انهيار وشيك للبترودولار. فالعوامل التي تمنحه الصمود لا تزال قوية. أولها عمق الأسواق المالية الأمريكية وسيولتها الهائلة، التي تجعل من الدولار الخيار الأكثر أمانًا وسهولة في التسويات الدولية. ثانيها أن العقود الآجلة للنفط، وأسواق المشتقات، وشبكات التأمين والتمويل التجاري كلها مبنية أساسًا على الدولار، وهو ما يجعل تغييره مهمة معقدة تتطلب إعادة هيكلة جذرية للنظام المالي العالمي. ثالثها أن البدائل نفسها تعاني من مشكلات هيكلية: فاليوان مقيد بضوابط حكومية تحد من حرية رأس المال، والروبل يفتقر إلى الاستقرار بفعل العقوبات والتقلبات السياسية، أما اليورو فرغم مكانته لا يزال مرهونًا بأزمات داخلية في الاتحاد الأوروبي.

لذلك، يبدو المستقبل مرسومًا على مراحل. فمن الآن وحتى عام 2030، من المرجح أن يحافظ الدولار على موقعه المهيمن، محتفظًا بنسبة تتراوح بين 55 و60% من الاحتياطيات العالمية، مع استمرار تسعير أغلب النفط به. لكن بعد 2030، قد نشهد توسعًا أكبر لاستخدام العملات المحلية في التجارة، خصوصًا مع تزايد المبادرات الرقمية للبنوك المركزية، ما قد يخفض حصة الدولار في تجارة النفط إلى حدود 50%. أما بعد 2040، فمن المتوقع أن يتبلور نظام متعدد العملات، حيث يصبح الدولار أحد الأعمدة الرئيسية، لكن دون احتكار كامل، إلى جانب اليورو واليوان وربما عملات أخرى مرتبطة بتكتلات إقليمية كبرى.

القارئ هنا مدعو إلى التفكير في الصورة الأوسع: إن مستقبل البترودولار لن يُحسم فقط عبر صفقات النفط أو قرارات فردية من الدول، بل من خلال تحولات أعمق ترتبط بقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على قوة مؤسساتها المالية، وبمدى نجاح الصين وحلفائها في بناء بدائل موثوقة، وبالسرعة التي سيتحول بها العالم نحو الطاقة المتجددة التي قد تقلص أهمية النفط نفسه. وفي هذه النقطة الأخيرة يكمن البعد الاستراتيجي الأكثر خطورة؛ إذ إن تراجع الاعتماد على النفط سيضعف تلقائيًا الأساس الذي قام عليه نظام البترودولار منذ نصف قرن.

منذ ولادة نظام البترودولار قبل نحو نصف قرن، بدا الدولار الأمريكي كعمود لا يتزعزع في هندسة التجارة العالمية للطاقة: عملة تسعير، عملة تسوية، ومساحة للاحتياطيات. لكن ما نراه اليوم ليس انهيارًا مفاجئًا بل عملية تآكل بطيئة وممنهجة، مشوبة بفرص جديدة ورهانات جيو-اقتصادية قد تعيد رسم خريطة الدفع الدولي خلال عقود قادمة. الأرقام الحديثة تقول الكثير: سجلت إحصاءات صندوق النقد الدولي (بيانات COFER ) أن حصة الدولار من احتياطيات العملات الأجنبية المصرّح عنها لدى البنوك المركزية لا تزال تهيمن، لكنها تراجعت إلى ما يقارب 57–58% في آخر بيانات 2024–2025، بعد أن كانت تفوق 70% مطلع الألفية، ما يؤكد اتجاهًا طويل الأمد نحو تنويع الاحتياطيات وسط ضغوط جيوسياسية وتغيرات سوقية.

في سوق النفط نفسه تبقى الأغلبية العظمى من العقود مُسعّرة بالدولار؛ تقديرات المؤسسات التحليلية والمراكز البحثية تشير إلى أن حصة التعاملات المسجلة بالدولار تتراوح في نطاقات مرتفعة (تقديريًا بين نحو 70- 80%)، لكن ما تغير هو أن صفقات ثنائية وإقليمية بدأت تُختبر بعملات محلية أو بآليات بديلة- حالات ملاحَظة بين روسيا والصين وأطراف آسيوية أخرى تظهر تسويات فعلية باليوان والروبل، واستخدام أدوات تبادلية مثل المقايضة أو حتى العملات الرقمية في بعض الصفقات لتجاوز قيود المدفوعات المصطنعة بالعقوبات. هذه التحولات لا تعني أن السوق العالمي للنفط قد تحوّل نهائيًا، لكنها تشير إلى تزايد الخيارات خارج نطاق الدولار في شواهد ملموسة على الأرض.

من أين تأتي قوة البدائل؟

أولًا: من الشق التجاري: نمو تبادلات آسيا–آسيا، وخصوصًا العلاقة الاقتصادية المعمقة بين الصين وروسيا، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية مستويات قياسية في السنوات الأخيرة، ودفعت الأطراف إلى ترسيم مصفوفات تسوية جزئية باليوان والروبل لتقليل المخاطر المصاحبة للاعتماد على منظومة المدفوعات الغربية. ثانيًا من البنية التحتية المتنامية: بكين عملت على بناء شبكات دفع بديلة مثل نظام CIPS، وطورت تجارب لليوان الرقمي؛ بهدف تسهيل تسويات دولية أسرع وأكثر مباشرة؛ تلك الأدوات تُقدّم خيارًا عمليًا لتسوية عقود الطاقة دون المرور الكامل عبر النظام التقليدي.

لكن الطريق إلى استبدال أو تحجيم البترودولار محفوف بعقبات بنيوية. سوق السندات الأميركية والمعاملات بالودائع الأمريكية تقدمان سيولة عملاقة لا تضاهى، وهو ما يجعل معظم المؤسسات المالية العالمية تستمر في تفضيل الدولار لأسباب تتعلق بتوافر الأدوات التحوطية، وتعمق أسواق الدين، والقدرة على التأمين والتمويل. كما أن البدائل تعاني من مشكلات ثقة وسيولة: اليوان يعاني من قيود على حرية تحويل رأس المال، والروبل والدرهم يواجهان قيودًا سياسية وجيو-اقتصادية، واليونية الأوروبية رغم قوتها مضطربة داخليًا أحيانًا. وفي أوقات الاضطراب، تتجه الأسواق دائماً إلى الملاذات الراسخة — والولايات المتحدة ما زالت تملك الأعمق والأكثر قبولًا عالميًا.

لا يمكن تجاهل العامل الثالث: الطاقة نفسها. التقديرات الدولية تُظهر أن مسار الطلب على النفط قد يختلف خلال العقد المقبل مع تسارع الاعتماد على الكهرباء المتجددة والمركبات الكهربائية والتحسن في كفاءة الطاقة الصناعية. تقارير الوكالات الدولية للطاقة تشير إلى سيناريوهات فيها تقل أهمية النفط تدريجيًا في مزيج الطاقة العالمي، ما يعني أن أساس البترودولار، أي ربط النفط بعملة واحدة للاستفادة من دورة العوائد والاحتياطيات، قد يفقد من أهميته العملية إذا قلّ الطلب على النفط أو تبلورت أسواق طاقة بديلة. هذا التحول ليس فوريًا لكنه يُعدّ عاملًا مركزيًا في أي توقعات بعيدة المدى.

ما الذي نتوقعه عمليًا خلال العقود القليلة المقبلة؟ السيناريو الأكثر احتمالًا يضعنا أمام تحول تدريجي: حتى نهاية العقد الحالي (حتى 2030) سيستمر الدولار كعملة محورية للاحتياطيات وتسعير معظم النفط، مع تراجع طفيف نسبيًا في الحصة نتيجة لمبادرات احتياطية وإقليمية. بين 2030 و2040 قد ينخفض الاعتماد النسبي للدولار في بعض سلاسل التجارة (خاصة بين دول آسيا-الآسيوية والبلدان الصديقة في الشرق الأوسط) إلى حدود حيث يصبح النظام المالي العالمي متعدد الأعمدة، مع تزايد الحضور النسبي لليوان، وربما لمجاميع إقليمية وعملات رقمية للبنوك المركزية. وما بعد 2040 يعتمد على متغيرين حاسمين: مدى نجاح التقنيات منخفضة الكربون في خفض طلب النفط، ومقدار التقدم الذي تحرزه بدائل الدفع في تحقيق سيولة وقبول دولي حقيقيين.

ختامًا، يمكن القول إن البترودولار لا يزال حاضرًا بقوة في عالم اليوم، لكنه لم يعد في مأمن من التحديات. هو أشبه بقلعة شامخة بدأت بعض حجارتها تتآكل تحت ضغط الزمن، فيما يحشد خصومه بدائل مختلفة لاختبار صلابته. وإذا واصلت الاتجاهات الحالية مسارها، فإن العقود المقبلة قد تشهد تحولات جذرية تُعيد رسم خريطة القوة المالية والاقتصادية، ليتحول النظام من هيمنة مطلقة إلى شراكة متوازنة. السؤال إذن ليس ما إذا كان البترودولار سينهار، بل متى، وبأي وتيرة، وبأي شكل سيتحول العالم إلى عصر جديد من التعددية النقدية.

وثمة احتمال قوي أن يشهد العالم نظامًا نقديًا أكثر تعددية خلال العقود المقبلة، وهو تحول قد يحمل معه آمالًا اقتصادية مهمة؛ منها: فتح أسواق جديدة للتمويل المحلي، تقليل تكاليف التحويل لبعض الاقتصادات الناشئة، وإتاحة أدوات تمويلية تناسب طموحات التنمية المستدامة. إن التحول المدروس يمكن أن يولد فرصة لإعادة توجيه فائض النفط نحو استثمارات نوعية في الطاقة النظيفة والتعليم والابتكار، بدلًا من أن يظل ركيزة لهيمنة عملة واحدة فقط. ما نحتاجه الآن من صناع القرار هو رؤية اقتصادية متسقة، وأطر قانونية مشتركة، واستثمارات في بنى تحتية للدفع والتسوية تقبلها الأسواق وعندها يمكن أن تتحول المخاوف إلى آمال واقعية تُترجم إلى نمو معيشي وتنموي أوسع في كثير من أنحاء العالم.

 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الطاقة في زمن الاضطراب.. قراءة سياسية - اقتصادية في خريطة الأسواق العالمية

علياء السعيدية

خلال متابعتي لبيانات أسواق الطاقة اليابانية، والتي أراها أداة ممتازة لفهم العلاقة العميقة بين الطاقة والاقتصاد والسياسة كونها تكشف بدقة كيف تتفاعل الأسعار مع كل حدث عالمي أو محلي يتضح سبب اختيار اليابان إنشاء سوق فوري للكهرباء في وقت مبكر. فهذا السوق لم يكن إطارًا للتداول فقط، بل جاء بوصفه حلًا عمليًا لتحديات متراكمة. فاليابان بوصفها دولة تعتمد بشكل واسع على استيراد النفط والغاز كانت في حاجة إلى نظام يخفّف من آثار تقلبات الأسعار العالمية، وفي الوقت نفسه يساعد الشركات على مواجهة التغيرات المناخية اليومية التي تؤثر مباشرة على تكلفة إنتاج الكهرباء. ومن خلال هذا السوق، تمكنت اليابان من تحويل مشكلاتها إلى نظام مرن وشفّاف يعكس واقع العرض والطلب، ويمنح الشركات قدرة أكبر على التكيف والاستجابة.

ومع تبيّن دوافع إنشاء هذا السوق الفوري، وكيف أصبح أداة للتعامل مع التحديات اليومية والاقتصادية، يبرز سؤال مهم: كيف يتصرف هذا النظام عند وقوع أزمة حقيقية؟ وجاء عام 2022 ليقدّم الإجابة الأصعب. ففي هذا العام واجهت أسواق الطاقة اليابانية اضطرابًا غير مسبوق، ارتفع على إثره سعر الكهرباء بشكل حاد، ليصل إلى ذروته التاريخية متجاوزًا 80 ينًا للكيلو واط وفقًا لبيانات السوق.

سلسلة من الأحداث المتتابعة — بدءًا من صدمة أسعار الغاز العالمية، مرورًا بتوقف عدد من المفاعلات النووية، ووصولًا إلى موجات الطقس القاسية — دفعت الحكومة اليابانية والجهات التنظيمية إلى إعادة النظر في قوانين إدارة سوق الطاقة، وهو سوق حر يتمتع بدرجة عالية من الشفافية والانضباط.

إن وضوح التقلبات في تلك الفترة يمنحنا رؤية واقعية لما يحدث خلف الكواليس، وكيف تتفاعل الأنظمة المرِنة حتى في دولة منظمة كاليابان مع الصدمات المفاجئة، وتحاول امتصاصها وإعادة التوازن للسوق.

وعند الحديث عن الصدمات، فلا شك أنك سمعت العبارة المتكررة «الحرب الروسية رفعت أسعار النفط»، غير أن وقع هذه العبارة لم يكن واحدًا في كل مكان فدول تضررت بشدة، ودول أخرى استفادت. وقد أدركتُ آنذاك جانبًا من هذا الضرر، إذ كانت سنوات 2021–2022 من الأعوام الثقيلة التي شهد فيها العالم تضخمًا كبيرًا قد لا يعود إلى مستوياته السابقة بسهولة.

لكن الأسواق اليابانية دفعتني لاحقًا إلى النظر في المسألة من زاوية مختلفة، لا كفرد ينتمي إلى دولة مصدّرة للطاقة، بل كمقيمة في دولة مستوردة بالكامل. ففي اليابان، فقد السوق توازنه في تلك الفترة، إذ شهد قطاع الطاقة موجة غير مسبوقة من الضغوط أدّت إلى خروج عدد كبير من مزوّدي الكهرباء من السوق.

ووفقًا لبيانات الصناعة: «حتى مارس 2023، تم إجبار 195 شركة من مزوّدي الكهرباء على إعلان إفلاسها أو إغلاق أبوابها أو الخروج من السوق نهائيًا».

ماذا حدث فعلا !

رفعت روسيا أسعار الطاقة عبر سياسة واحدة فقط: خفض إمدادات النفط والغاز عن أوكرانيا، ثم عن أوروبا، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما حدث في سبعينيات القرن الماضي عندما أوقفت الدول العربية إمدادات النفط. ويبدو أن روسيا رأت في هذا الأسلوب تكتيكًا مناسبًا لإعادة إحيائه من جديد. ومع تطوّر الأحداث، تحوّل ما كان يُنظر إليه سابقًا باعتباره “تفصيلًا عابرًا” في سلاسل الإمداد إلى نقطة ارتكاز عالمية، وجعل من أوكرانيا دولة محورية بصورة مفاجئة. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل كنّا نمنح موقعها هذه الأهمية قبل اندلاع الأزمة؟ لست متأكدة، لكن العالم وجد نفسه مضطرًا اليوم لفهم دورها وتأثيرها الحقيقيين.

أما اليابان، التي تستورد جزءًا من احتياجاتها من النفط والغاز من روسيا، فقد واجهت بعد اندلاع الأزمة سلسلة من الصعوبات المتراكمة. فقد تعقّدت عمليات الشحن، وارتفعت تكاليف النقل والتأمين، وأضيفت علاوة مخاطر على كل شحنة. والأسوأ أن أوروبا — بعد انقطاع الغاز الروسي عنها — استحوذت على معظم المعروض العالمي من الغاز الطبيعي المسال، ما دفع اليابان إلى شراء احتياجاتها من السوق الدولية بأسعار أعلى بكثير.

وفوق هذه الأزمات المتلاحقة، جاء المناخ ليُضاعف حجم المشكلة؛ إذ شهدت اليابان في ذلك العام موجات حر وبرد قاسية رفعت الطلب على الكهرباء بشكل مفاجئ، بينما كانت عدة محطات نووية متوقفة نتيجة مشكلات السلامة المتراكمة في السنوات السابقة. ولا يمكن تجاهل أن العالم كله كان آنذاك لا يزال يتلمّس طريقه للخروج من تبعات جائحة كورونا.

وبين هذه الضغوط المتشابكة، قدّمت اليابان مثالًا مهمًا في إدارة الأزمات، رغم وجود نقطة ضعف واضحة تمثلت في انخفاض هامش الاحتياطي من الطاقة لديها. وقد دفع ذلك الحكومة إلى إعادة النظر في سياسات واستراتيجيات إدارة الطاقة في البلاد.

وفي خضمّ هذا الاضطراب العالمي، برز النفط والغاز الأمريكيان فجأة كحل جاهز وفعّال، ليس لأنهما الأرخص دائمًا، بل لأنهما الأكثر توفرًا والأبعد عن الصراعات الجيوسياسية المباشرة. فقد وجدت أوروبا نفسها، بعد انقطاع الغاز الروسي، تعتمد بشكل كبير على واردات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، التي تحوّلت خلال أشهر من “مصدّر مهم” إلى المنقذ الأكبر للطاقة الأوروبية.

وبينما كانت أوروبا تشتري كل ما تستطيع من الشحنات، ظهر تأثير ذلك على آسيا بأكملها، إذ ارتفع الطلب العالمي وازدادت المنافسة لدرجة جعلت الغاز الأمريكي خيارًا جذابًا لليابان أيضًا، رغم تكاليف الشحن العالية. ومع ذلك، وفّر الغاز الأمريكي لليابان مصدرًا مستقرًا نسبيًا، بعيدًا عن المخاطر المرتبطة بروسيا أو الشرق الأوسط.

لقد بدا النفط والغاز الأمريكيان، في تلك اللحظة، وكأنهما يشكّلان شبكة أمان مؤقتة للاقتصاد الصناعي العالمي؛ حلاً سريعًا لظرف ضاغط، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام سؤال أعمق: هل يمكن التعويل على هذا النموذج على المدى الطويل، أم أنه كان مجرد استجابة اضطرارية لأزمة غير مسبوقة؟

دور استقرار مضيق هرمز

وفي الصورة المقابلة، كان الشرق الأوسط — على الرغم من ابتعاده الجغرافي عن أوروبا — يقف في قلب الأزمة بطريقة لا يمكن تجاهلها. فقد بقيت الدول الخليجية خلال تلك الفترة أكثر مصادر الطاقة استقرارًا في العالم؛ لا تعطلها حرب، ولا تربطها صراعات مباشرة مع أوروبا أو آسيا، الأمر الذي جعلها لاعبًا حاسمًا في توازن السوق العالمي. ومع ارتفاع أسعار النفط، استفادت دول المنطقة من زيادة العائدات، وفي الوقت نفسه اكتسبت وزنًا سياسيًا أكبر؛ لأن جميع الدول الصناعية — من اليابان إلى ألمانيا — كانت تعتمد على بقاء إمدادات الخليج مستقرة ومستمرة.

وبالنسبة لليابان تحديدًا، فإن اعتمادها المرتفع على نفط الشرق الأوسط جعل استقرار هذه المنطقة مسألة أمن قومي؛ فمضيق هرمز الذي يمر منه أكثر من 75% من واردات اليابان من النفط، ظلّ خلال الأزمة نقطة حساسة؛ وأي توتر فيه ينعكس فورًا على الأسعار داخل طوكيو. ولهذا تابعت اليابان مجريات الأحداث في الشرق الأوسط بدقة، ليس من منطلق سياسي فقط، بل لأنها تعلم أن جزءًا كبيرًا من طاقتها اليومية — من المصانع إلى المنازل — يمر عبر الخليج.

وفي هذا السياق، فإن أي اضطراب في الشرق الأوسط يجعل النفط الأمريكي أكثر جاذبية في السوق الدولية، ويرفع إيرادات الولايات المتحدة، إذ ينتج الشرق الأوسط أكثر من ثلث إنتاج النفط العالمي، ويمر عبره أكثر من 25% من شحنات النفط والغاز في العالم. ولذلك يُعد استقرار بعض الدول في المنطقة — مثل سلطنة عُمان — عنصرًا محوريًا في استقرار الإمدادات العالمية. ومن هنا يمكن فهم سبب الحماس الأمريكي في معالجة بعض أزمات المنطقة، مقابل الفتور والاكتفاء بالتنديد في أزمات أخرى.

ويبرز هنا عنصر آخر لا يلتفت إليه الكثيرون: وهو الأمن البحري. فقوة الأساطيل البحرية أصبحت عاملًا أساسيًا لضمان سلامة تدفقات الطاقة. وعند حدوث أزمات، توفر الولايات المتحدة — بحكم وجودها البحري وعلاقاتها مع دول المنطقة — مستوى من “الأمن المكلف” لناقلات النفط والغاز. فعلى سبيل المثال، يمر أكثر من 75% من واردات اليابان من النفط والغاز عبر مضيق هرمز، وفي صورة أوسع تعتمد معظم دول آسيا على هذا الممر البحري الحيوي. وتؤمّن الولايات المتحدة جزءًا من مسارات النقل البحري في الشرق الأوسط، لكن هذا التأمين ليس مطلقًا، بل هو تأمين جزئي مراقَب باستمرار مع بقاء المخاطر قائمة.

ويأتي في صدارة هذا الدور الأسطول الخامس الأمريكي، المتمركز في البحرين، والمسؤول عن المنطقة التي تشمل الخليج، ومضيق هرمز، وبحر عُمان، والخليج العربي. وهو وجود يعكس استمرار أهمية الشرق الأوسط في معادلة الطاقة العالمية، مهما تعددت البدائل المؤقتة.

ماذا لو توقفت الحرب

لن تعود أسعار الطاقة إلى الهدوء؛ لأن أوروبا لن تعتمد مجددًا على الغاز الروسي، وستواصل شراء الغاز الطبيعي المسال بكثافة من الولايات المتحدة وقطر، وهو ما سيُبقي الأسعار مرتفعة نسبيًا على المستوى العالمي. وستستفيد اليابان جزئيًا من تحسن ظروف الشحن، لكنها ستظل تدفع أسعارًا أعلى بفعل المنافسة الأوروبية المستمرة على الغاز المسال. أما عُمان فقد تستفيد من بقاء أسعار النفط عند مستويات جيدة نتيجة استمرار التوترات السياسية في عدد من المناطق المنتجة. وفي كل الأحوال، فإن هذا السيناريو لا يعيد العالم إلى ما قبل 2022، بل يُبقي المخاطر الجيوسياسية حيّة، ويجعل الطاقة أكثر تكلفة وفي بيئة يغلب عليها عدم اليقين لسنوات طويلة.

أما إذا توقفت الحرب بسلام، وتوصلت روسيا وأوكرانيا إلى تسوية سياسية، فستنخفض فورًا “علاوة المخاطر” التي رفعت أسعار الطاقة منذ عام 2022. وسيتراجع مستوى الأسعار إلى حدود أقرب للطبيعية، ما يجعل أوروبا تقلل وتيرة شرائها الهائلة للغاز، ويخفف الضغط على الأسواق، ويمهّد لعودة التوازن تدريجيًا. وفي هذا السياق، ستكون اليابان من أبرز المستفيدين عبر انخفاض تكاليف الكهرباء وهدوء السوق. وقد تتأثر عُمان بانخفاض أسعار النفط، لكنها ستستفيد في المقابل من استقرار الشحن والتجارة العالمية. وفي هذا السيناريو، يعود الاقتصاد العالمي إلى وتيرة أكثر طبيعية، وتتراجع موجات التضخم، وتصبح سلاسل الإمداد أقل هشاشة مقارنة بسنوات الأزمة.

وقد يُطرح هنا سؤال جوهري: لماذا لا تُحدث جميع الحروب الأثر نفسه في سوق الطاقة العالمي؟ وسوريا واحدة من أوضح الأمثلة. فعلى الرغم من عودتها إلى المشهد السياسي العربي، لم ينعكس ذلك على أسواق الطاقة؛ لأنها لم تعد لاعبًا فعليًا في إنتاج أو تصدير النفط والغاز. فقد تعرّضت البنية التحتية للطاقة لدمار واسع خلال سنوات الحرب، وبقي الإنتاج المتبقي محدودًا ومجزأ، بينما تمنع العقوبات الدولية — وخصوصًا الأمريكية — أي انتعاش حقيقي في هذا القطاع، إذ تقيد تصدير النفط وتحدّ من تدفق الاستثمارات، وهو ما يفسر سعي دمشق إلى إعادة علاقاتها الخارجية من موقع الضرورة لا الرغبة.

يضاف إلى ذلك أن سوريا ليست ممرًا رئيسيًا لخطوط الطاقة العالمية، ولذلك فإن استقرارها السياسي يظل مهمًا للمنطقة، لكنه غير قادر على تغيير توازنات سوق الطاقة الدولي التي تتحكم بها دول أكبر إنتاجًا وتأثيرًا في المعروض العالمي. 

تعافي العراق.. خريطة

جديدة للطاقة العالمية

 إذا تعافى العراق اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، فإن انعكاسات هذا التعافي لن تبقى داخل حدوده، بل سيشعر بها العالم بأسره. فالعراق ليس بلدًا هامشيًا في معادلة الطاقة العالمية، بل يُعد أحد أهم المنتجين، ويملك قدرة كامنة يمكن أن تعيد رسم موازين السوق الدولية. وفي حال تحقق سيناريو التعافي، سيرتفع إنتاج النفط والغاز بشكل كبير، إذ يمتلك العراق خامس أكبر احتياطي نفطي في العالم، بينما لا تزال كميات ضخمة منه غير مستغلة بسبب الحروب والفساد وضعف البنية الأساسية. وإذا تمكن العراق من رفع إنتاجه إلى أكثر من سبعة ملايين برميل يوميًا — وهو قادر على ذلك — فإن دخوله بهذه القوة سيضيف مصدرًا ثابتًا وكبيرًا للسوق، مما يُشكّل ضغطًا مباشرًا على الأسعار العالمية ويدفعها نحو الانخفاض بفعل دخول لاعب ثقيل بقدرات إنتاجية واسعة.

والحقيقة أن الولايات المتحدة ستفقد جزءًا من نفوذها في حال صعود العراق مجددًا، لأن أوروبا — التي أصبحت تعتمد على النفط والغاز الأمريكيين بعد الحرب الأوكرانية — ستجد بديلًا أكثر استقرارًا وأقل تكلفة في الإمدادات العراقية والخليجية. فمعظم النفط الأمريكي هو نفط صخري مرتفع التكلفة، ويحتاج إلى أسعار عالمية عالية ليستمر في المنافسة، بينما يستطيع العراق ضخ كميات كبيرة بتكلفة أقل وبوتيرة إنتاج أكثر استقرارًا. ومع تراجع اعتماد أوروبا على الطاقة الأمريكية، ستخسر واشنطن ورقة ضغط مؤثرة استخدمتها خلال السنوات الماضية في إدارة علاقاتها السياسية والاقتصادية مع القارة الأوروبية.

وعلى مستوى الخليج، يمكن النظر إلى تعافي العراق باعتباره عامل استقرار أكثر منه مصدر قلق. فعودة العراق إلى وضع مستقر تخلق محيطًا إقليميًا أقل توترًا، وتخفف الضغوط الأمنية والاقتصادية على دول الخليج. كما أن استقرار العراق يفتح الباب أمام تعاون اقتصادي أوسع، سواء عبر مشاريع الربط الكهربائي، أو تطوير شبكات الغاز، أو تعزيز التجارة البينية. ومع أن ارتفاع إنتاج العراق يعني دخول لاعب كبير آخر إلى السوق، إلا أن دول الخليج تمتلك خبرة طويلة في إدارة التوازنات داخل «أوبك»، ما يجعل توسع الطاقة الإنتاجية للعراق فرصة لتعزيز الموقف الجماعي بدل تقويضه. وباختصار، فإن نهضة العراق يمكن أن تمهّد لشرق أوسط أكثر استقرارًا، وهذا مكسب مباشر لدول الخليج قبل غيرها.

ومع تتبّع هذه السلسلة المتشابكة من الأزمات — من صدمة الغاز الروسي إلى تنافس أوروبا وآسيا على إمدادات الغاز المسال، ثم دور الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وصولًا إلى سيناريوهات ما بعد الحرب — يتضح أن أسواق الطاقة ليست مجرد أسعار ترتفع وتنخفض، بل منظومة حساسة تتأثر بكل قرار سياسي وبكل درجة حرارة وبكل اضطراب بحري أو بري. إنّ التجربة اليابانية في عام 2022 لم تكشف هشاشة السوق فقط، بل كشفت أيضًا قوة الأنظمة المرنة وقدرتها على امتصاص الصدمات، إذا توفرت الشفافية والحوكمة والقدرة على التحوّل السريع. وهذا ما يجعل دراسة الطاقة اليوم مفتاحًا حقيقيًا لفهم شكل العالم في العقود القادمة.

وفي النهاية، تظهر لنا هذه الأحداث أن استقرار الطاقة في أي دولة لم يعد قضية فنية أو اقتصادية فحسب، بل أصبح قضية وجودية تمسّ الأمن الوطني، والسياسة الخارجية، واستقرار حياة الفرد اليومية. كما أن المشهد العالمي لن يعود بسهولة إلى ما قبل 2022، سواء انتهت الحرب بتسوية أو سيطرة أو استمرار. لكن ما يمكن الجزم به أن الدول التي تُعيد بناء سياساتها الطاقية بذكاء — مثل اليابان اليوم، أو العراق في حال تعافيه، أو دول الخليج عبر تعزيز دورها — ستكون الأكثر قدرة على التكيّف، والأقدر على تحويل الأزمات إلى فرص. وهنا بالضبط تكمن أهمية قراءة أسواق الطاقة: فهي ليست تنبؤًا بالأسعار، بل قراءة لمستقبل العالم نفسه.

علياء بنت سعيد السعيدية متخصصة في علوم هندسة الطاقة والمعلوماتية

مقالات مشابهة

  • هجوم مُركّز من التيّار على وزير الطاقة
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • أين الشرعية؟.. المنصات تتساءل بعد سيطرة أميركا على ناقلة نفط فنزويلية
  • وكالة الطاقة الدولية تخفض توقعاتها بشأن فائض سوق النفط العالمي لعام 2026
  • وكالة الطاقة الدولية: فائض النفط العالمي يتراجع في 2026
  • خالد حنفي: 500 مليار دولار حجم مشروعات إعادة الإعمار التي تستهدفها مبادرة عربية - يونانية جديدة
  • على صلة بحزب الله وايران.. اليكم آخر المعلومات عن ناقلة النفط التي احتجزتها أميركا في الكاريبي
  • الأردن بيئة آمنة للاستثمار
  • الطاقة في زمن الاضطراب.. قراءة سياسية - اقتصادية في خريطة الأسواق العالمية
  • توقعات عالمية.. أسعار النفط ستتراجع إلى ما دون 60 دولارًا في 2026