المسكوت عنه
لاحظت خلال أقامتي بكندا ، أنواع مختلفة من المشاكل الأجتماعية التي أخذت تطفح علي السطح وسط المجموعات التي هاجرت الي كندا خلال العقدين الأخيرين أو ما يزيد مما حد من الأستفادة من الفرص التي تتوفر في هذا القطر ومثيلاته من الدول الأوربية . ليس في وضع يسمح لي بتقديم النصح وأنما الهدف أشراك القارئ والقادمين الجدد بالمعلومة التي أستقيتها بالمعاشرة ومن وسائل الأعلام في هذا العالم الغربي المضطرب.
نعلم أن هذه البلاد تختلف عنا في عاداتها وتقاليدها الأجتماعية والثقافية ومن الضروري الأندماج والتعايش مع هذا الواقع الجديد والأنخراط في معاملاته ونظامه والأستفادة من تجارب الجاليات التي سبقتنا في المهجر والأقتناع التام بأن هذا القطر سيكون موطناً لنا ولذريتنا مع الشكر والأمتنان والتقدير لأستقباله وضيافته لنا بعد أن عانين الأقامة في ظل حكم عسكري باطش لثلاثين عاماً ونيف أعقبه حرب وتشريد وجوع ومرض وأقامة في بلدان بدون هوية .
أولي المشكلات الأجتماعية التي تواجه المهاجرين الجدد تكمن في التأقلم مع هذه البيئة التي توفر للمرأة حقوقها كاملة غير منقصوة . أبتدأً من حق العمل والتعليم والمطالبة بمشاركة الزوج في جميع المهام والتي تعني بالضرورة تقسيم المهام والمسئوليات ومراقبة المنصرفات المالية من قبل الزوجة . من الضروري أن يكون الرجل السوداني منفتحاً ومتقبلاً لهذه المفاهيم . عدم أحترام الزوج والتقصير أمام هذه الألتزامات سينعكس علي الحياة الزوجية ويحولها الي جحيم ، وبالضرورة علي تربية الأطفال وسلوكهم كما سيترك بصماته علي حياة الأسرة الاقتصادية . هذه حقوق مُكتسبة للزوجة بالقانون والمعايشة اليومية في هذا المجتمع . قد تتفاوت درجات تطبيقها بحكم النشأة الأ أنها تبرز من حين الي آخر في المعاملات اليومية داخل الأُسر.
في هذا الجزء من العالم رياض الأطفال والمدارس الأبتدائية لهم الأولوية في التربية ، يتولون نيابة عن الآباء والامهات جزئياً هذه المهمة . وليس من غرائب الصدف أن تجد الطفل أو الطفلة يستمع بأهتمام بالغ لتوجيهات المعلمة في الروضة أكثر من الأستماع لحديث الوالدين . في هذا المجتمع يُحرم علي الوالدين عقاب الأطفال عن طريق الضرب أو الأهانة اللفظية واذا حدث مثل هذا التصرف من الأمهات او الآباء سيفقدهم فلذة أكبادهم وستتولي الدولة رعاية الطفل بأرساله الي أُسرة أخري تعتبر (أصلح) من الوالدين ، مما يعرض العائلة الي سونامي . جهاز التلفزيون في المجتمع الغربي يشارك الوالدين في التربية بغرسه مفاهيم تتناسب مع البيئة التي سينشأ فيها الطفل ، وهذه من ضرائب الهجرة وفقدان الأوطان . زمليتنا الكندية أماً وأباً وليس بالتجنس مثلي، مهندسة كيميائية قديرة ، زرناهم بالمنزل ولم نجد تلفزيوناً أتضح أن السبب تفادياً لإنغماس الأطفال مع هذه الشاشة المغرية لفترات طويلة وهم مازالوا في سن مبكرة . هذا حدث قبل ظهور الزلزال الأكبر وأعني ثالثة الأثافي التلفونات الذكية . بعض الأسر الكندية تسمح للأطفال بساعات محددة في اليوم لمشاهدة التلفاز وبعضها يمنع التلفونات منهم إضافة الي أن كندا تعتبر من أغلي الدول فيما يتعلق بخدمات الأتصالات . تربية الأطفال تتطلب التضحية بجزء كبير من الحياة الأجتماعية للوالدين وفي هذا يدخل عامل الزيارات من غير مواعيد وبقاء الوالدين أو الضيوف لساعات طويلة بعد المواعيد المحددة لخلود الأطفال للراحة . تقضية الوقت ومشاركة الأطفال أهتماماتهم يساعد كثيراً في فهم ما بدواخلهم ويقربهم أكثر للوالدين . أعلم أن كل هذه المعلومات متوفرة للمهاجرين الجدد وهم علي معرفة ودراية بها الأ أن تكررها والتشديد عليها يوضح أهميتها لأرتباطها بتربية النشئ خاصة في عدم وجود العائلة الممتددة أو علي الأقل الجدة أو الجد ، حيث أن مساعدتهم في التربية لا تقدر بثمن . نجد أن كثيرين من الكنديين والكنديات يفضلون السكن والعمل في أماكن يتواجد بها أقارباء من فروع العائلة لأنهم يلعبون دوراً هاماً في التربية ومساعدة الوالدين . لا يخفي علينا أن قبول الدول الغربية لهذه الأعداد من المهاجرين الذين ضربت الحروب ببلدانهم أهدافها أصبحت ظاهرة للعيان خاصة أذا لاحظنا أنخفاض المواليد وسط الأوربيين بهذه الدول . الأعباء المالية التي تقدمها الدولة للجيل الأول من المهاجرين تتحصل علي فوائدها من تربية الجيل الثاني والثالث علي الطريقة التي تتناسب مع مفاهيم وقيم الدولة التي أختار الوالدين الهجرة اليها . وفي هذا المقام لا يفوتنا أن نذكر الأعداد الكبيرة والتسهيلات التي يتلقاها المهاجر الأوكرايني مقابل المهاجر السوداني في كل الدول الأوربية وكندا تعتبر رائداً في هذا المضمار . أضافة الي أن الفكرة قد تكون أكبر من وجه الشبه بين المهاجر الأوكرايني ونظيره الأوربي والكندي لها أبعاداً سياسية أخري تتلخص في الأبادة الجماعية والتطهير العرقي الجاري للقومية الاوكراينية حيث تُجري المفاوضات في الغرف المغلقة لازالتها من خريطة العالم . ربي أحفظ السودان وأهله .
من المفيد للقادمين الجدد الذين يحضرون علي كفالة أشخاص مقيمين أن يفكروا في الاستقرار في المدن الصغيرة حتي وأن كانت بعيدة من الذين تولوا كفالتهم لعدة أسباب منها الأيجارات وتكلفة المعيشة أقل وثانياً الانخراط في الحياة الكندية أسهل وأسرع لسهولة الحركة وأخيراً البيئة لتعلم اللغة وتربية الأطفال قد تكون أفضل من المدن الكبيرة .
أنخراط الأطفال والشباب والشابات في الأنشطة المختلفة في المدارس مهم ، هنالك توجد مختلف المناشط للألعاب الرياضية بالمدارس ، بخلاف أهميتها التي ورثناها من مقولة العقل السليم في الجسم السليم ، في هذا المجتمع تمثل نسبياً درعاً واقياً من الأنخراط في السلوك الضار. مراقبة الأطفال في سلوكهم خاصة فيما يتعلق بتعاطي المخدرات يكتسب أولوية ، هذه الآفة التي دخلت المجتمع أصبحت منتشرة في كل مكان حتي وصلت الي الفصول الدراسية . تُجار المخدرات في بعض الأماكن يتجولون حول المدارس ويعرضون بضاعتهم مجاناً حتي ينجذب التلميذ/ة اليها وفي هذا عبء أضافي للوالدين في المراقبة أضافة الي أنها أصبحت تباع في كثير من المحلات التجارية تحت ضوابط عمرية معينة . الملاحظ أن محلات بيع المخدرات فاقت في عددها محلات بيع الخمور حتي في المدن الكندية المحافظة نسبياً كمدينة أتاوا .
توزيع الطلاب علي المدارس يتم علي حسب موقع السكن ، قد تكون المدرسة التي بالقرب من السكن مدرسة كاثوليكية . هذه مدارس ممتازة ولا تجبر التلميذ علي أعتناق المسيحية وأنما هنالك حصة للديانة المسيحية وفي هذا توسيع لمدارك الطالب مما يجعله ملماً بالدين المسيحي . كذلك توجد مدارس أسلامية في بعض المدن وعلي ما أعتقد تُطالب بدفع رسوم ولا علم لي بمقرراتها . نما الي علمي أن معلمة سودانية قدمت للتدريس بأحدي المدارس الأسلامية وكان من ضمن شروط قبولها كمعلمة أن تتحجب . الحجاب مسموح به في المدارس الكندية ولا غبار عليه رسمياً في كل المحافظات الكندية ما عدا محافظة كوبيك حيث يدور لغط كثير حوله . والحديث عن المدارس بالضرورة أن يقود الي بعض العادات في المجتمع المدرسي الكندي . هنالك ظاهرة وسط طلاب المدارس ، يطلق عليها المبيت مع الأصحاب أو الجيران وغالباً ما تكون أيام العطلات الأسبوعية . يجب أنتباه أولياء أمور الطلبة وخاصة القادمين الجدد لهذه الظاهرة ، من المهم التعرف علي أسر أصدقاء الأطفال قبل السماح لهم بالمبيت خارج المنزل . منعها وتحريمها للأطفال قد لا يكون مفيداً لكن الفحص واجب .
الجوامع موجودة في كل كندا ، وفي بعضها يتم أستقطاب للشباب والشابات لكي ينخرطوا في تطرف ديني يؤدي الي نتائج غير حميدة ، نرجو من الجميع الأنتباه لهذه الظاهرة . ذهاب الأبناء والبنات الي الجوامع لا يعني بالضرورة الألتزام بتعاليم الدين الحنيف في بعض الحالات تكون العواقب وخيمة . أذا لم تكن الفتاة مقتنعة بالحجاب لا يجب فرضه عليها . روي لي أحد الأساتذة بالجامعات أنه رأي طالبات يحضرن الي الجامعة وهن محجبات والبعض الآخر منقبات وقبل الدخول الي قاعة المحاضرات يتوجهن الي أماكن مخصصة داخل الحرم الجامعي حيث يستبدلن الزي الأسلامي بأزياء غربية . في المنزل وأمام الوالدين زي أسلامي لإرضائهم وفي المدرجات زي أفرنجي وفي هذا أزدواج للشخصية عواقبه قد تكون وخيمة .
الشباب والشابات في سن المراهقة وحتي بعدها ينخرطون في علاقات عاطفية مع أقرانهم من المواطنيين الأصليين أو الذين هاجروا من دول مختلفة من هذا العالم وهذا شيئ طبيعي وخاصة في المجتمعات الغربية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) . الحجرات ، الآية 13 . وقوف الوالدين ضد الطبيعة البشرية يجعل الأبن أو الأبنة مثار تندر وسط أربابهم تؤدي الي عزلتهم . التدخل الغير مدروس من الوالدين في العلاقات العاطفية قد يفقد الوالدين الأبن /ة ويحرمهم من الأبوة . في هذه البلاد توجد حقوق قانونية للحيوانات ناهيك من الأنسان الذي يصل الي عمر الثامنة عشر . وأذا قدم شكوي للدولة عن الطريقة التي يُعامل بها في المنزل من قبل والديه سيعرضهم الي محاسبة قانونية . عليه حين قررنا أن نحضر الي هذه الديار يجب أن نضع نصب أعيننا الظروف الأجتماعية التي عشنا فيها والظروف الأجتماعية التي تشكلت عليها البيئة الجديدة التي قررنا العيش فيها . عدم التصالح مع هذه المفاهيم قد يؤدي الي أمراض نفسية والي تشتت الأسرة والي حالات أنفصام وأمراض نفسية وأرتكاب جرائم وموبغات تصل الي الأنتحار والقتل . الهجرة ثمنها باهظ كما ذكرنا آنفاً وخياراتنا أصبحت محدودة خاصة في ظروف اللاوطن ، أذا لم يكن هنالك أستعداد وتفهم للقادم الجديد لهذه البيئة فالأفيد والأجدي أن يبقي الذي ينوي الهجرة الي كندا حيثما هو سوي داخل السودان الذي مزقته الحروب أو خارج السودان مُشرداً منبوذاً .
يتبع
حامد بشري
2 نوفمبر 2024
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأجتماعیة التی فی التربیة وفی هذا خاصة فی قد تکون فی بعض فی هذا
إقرأ أيضاً:
اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني
بالنظر إلى التطورات المتسارعة في المشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي، تبدو اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند خطوة تحمل طابعًا استراتيجيًا واسع التأثير، ليس فقط من حيث تعزيز التبادل التجاري، بل من حيث إعادة صياغة الدور الاقتصادي لسلطنة عمان على مدى السنوات المقبلة. فالمؤشرات الأولية القائمة اليوم تُظهر أن التعاون بين البلدين آخذ في النمو بوتيرة ثابتة، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية خلال العام المالي 2024-2025 ما يقارب 10.61 مليار دولار، وهو رقم يعكس علاقة اقتصادية راسخة قابلة للتوسع بمجرد تفعيل الاتفاقية المرتقبة. ويأتي ذلك في وقت تتطلع فيه سلطنة عُمان إلى اقتصاد أكثر تنوعًا، وأكثر قدرة على المنافسة، وأكثر انفتاحًا على الأسواق الآسيوية والعالمية.
وإذا ما نظرنا إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فإن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لعُمان يمنحها نقطة قوة محورية. فالموانئ العُمانية مثل صلالة والدقم وصحار لا تُعد بوابات بحرية عادية، بل منصات إقليمية ذات قدرة عالية على خدمة التجارة الدولية وربط آسيا بأفريقيا والخليج وأوروبا. وفي حال اكتملت اتفاقية CEPA، فإن هذه الموانئ لن تكون مجرد نقاط عبور للسلع العُمانية أو الهندية، وإنما محاور لوجستية تجذب الاستثمارات الصناعية والخدمية، وتدعم حركة إعادة التصدير، وتُسهم في بناء منظومة اقتصادية تُضاعف القيمة المضافة داخل سلطنة عُمان. ومن شأن هذه المنظومة أن تُعيد تشكيل قطاعات واسعة تتعلق بالنقل والتخزين والخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية، الأمر الذي ينعكس على توسيع فرص العمل وتحسين نوعية الأنشطة الاقتصادية.
ومع أن الاتفاقية تفتح آفاقًا واسعة أمام التجارة في الاتجاهين، إلا أن الجانب الأكثر أهمية لسلطنة عمان يكمن في تعزيز الصناعات المحلية. إذ تستهدف عُمان ضمن رؤيتها 2040 بناء اقتصاد متنوع قائم على الصناعة والتكنولوجيا والخدمات المتقدمة، وليس اقتصادًا يعتمد على سلعة واحدة. ومع الحصول على نفاذ تفضيلي إلى سوق تتجاوز قوامها 1.4 مليار نسمة، فإن مجالات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألمنيوم، الأسمنت، الرخام، المنتجات الزراعية، والمنتجات التقليدية العُمانية يمكن أن تشهد توسعًا نوعيًا في صادراتها. هذه الأسواق الضخمة لا تستوعب المنتجات فحسب، بل تحفّز أيضًا الصناعات المحلية على رفع مستويات الجودة، وتحسين سلاسل الإنتاج، وزيادة الطاقة التشغيلية، وإيجاد مساحات أكبر للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تطمح إلى التصدير.
ومن زاوية مستقبلية، يمكن اعتماد سيناريويهن لتقدير أثر الاتفاقية على حجم التجارة الثنائية: سيناريو متحفظ يفترض نموًا سنويًا بمتوسط 8%، وسيناريو تفاؤلي يفترض نمواً بمتوسط 12%، وذلك مقارنة بمعدل النمو الطبيعي للتجارة الذي يدور حول 3%. وبناء على هذه الحسابات، يمكن أن يرتفع حجم التجارة الثنائية من 10.6 مليار دولار اليوم إلى ما يقارب 15.6 مليار دولار خلال خمس سنوات في السيناريو المتحفظ، وإلى ما يتجاوز 18.7 مليار دولار في السيناريو المتفائل. ومع استمرار النمو لعشر سنوات، يمكن أن يصل الحجم التجاري بين البلدين إلى نحو 23 مليار دولار في السيناريو المتحفظ، فيما قد يصل إلى قرابة 33 مليار دولار في السيناريو التفاؤلي. وهذه القفزات المحتملة لا تأتي فقط من زيادة حجم المبادلات التقليدية، بل من توسع في الصناعات التحويلية، والاستثمار في خطوط إنتاج جديدة تستهدف السوقين معًا.
ومن شأن هذه التحولات أن تُعيد تشكيل الاقتصاد العُماني ليصبح أكثر مرونة في مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر قدرة على النمو الذاتي من خلال الإنتاج المحلي والصناعات الوطنية. ومع ازدياد النشاط اللوجستي، وتوسع المناطق الحرة، وتجدد الاستثمارات الصناعية، سيكون لعُمان موقع جديد على خارطة التجارة العالمية، موقع يعكس قدرتها على استغلال مواردها الجغرافية والبشرية والاقتصادية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام. وإذا ما وُظفت هذه الفرص بالشكل الصحيح - عبر التخطيط، وإدارة الموارد بكفاءة، وتطوير التشريعات، وتحفيز الكفاءات الوطنية - فإن السنوات العشر المقبلة قد تشهد تحولًا جذريًا في شكل الاقتصاد العُماني وحجمه.
بينما تتعمق سلطنة عُمان في توسيع شراكاتها الدولية، تمثّل اتفاقية التجارة الحرة مع الهند نقطة تحول قادرة على إطلاق موجة جديدة من النشاط الاقتصادي الذي يترابط فيه التصنيع بالتجارة، ويُكمل فيه الاستثمار اللوجستيات، ويتقاطع فيه النمو الصناعي مع توسع أسواق التصدير. فالعلاقة مع الهند ليست علاقة تجارية عابرة، بل علاقة راسخة تستند إلى تاريخ طويل من التبادل والتداخل الاقتصادي والثقافي، ما يجعل الاتفاقية القادمة امتدادًا طبيعيًا لمسار مشترك يتطور باستمرار. ويُتوقع أن تشكل الاتفاقية حافزًا لعدد من القطاعات التي كانت تتطلع إلى الوصول إلى أسواق أكبر، وفي مقدمتها القطاعات الصناعية التحويلية التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة في سلطنة عُمان، وتستهدف خلق قيمة مضافة قبل التصدير.
ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيو-اقتصادية عميقة تتجه فيها دول عديدة إلى تعزيز الاندماج الإقليمي والانفتاح على آسيا، ما يجعل توقيع الاتفاقية مع الهند خطوة تجسد فهمًا استراتيجيًا لموازين القوى الاقتصادية الجديدة. فالهند اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وضمن أكبر خمس اقتصادات عالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ وبالتالي، فإن تأسيس شراكة اقتصادية شاملة معها يضع عُمان ضمن شبكة اقتصادية صاعدة ستعيد تشكيل مسارات التجارة خلال العقود المقبلة. ومن خلال هذه الشبكة، يمكن لسلطنة عمان أن تعمّق دورها كمركز إقليمي للتجارة والخدمات الصناعية، وأن تستفيد من الطلب الهائل في الهند على المواد الخام والمنتجات الصناعية والسلع الاستهلاكية.
وإذا ما نظرنا إلى تأثير الاتفاقية على الشركات الصغيرة والمتوسطة في عُمان، سنجد أن CEPA قد تكون فرصة تاريخية لهذه الفئة من الشركات لتوسيع آفاق أعمالها. فالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الاقتصاد الوطني، وتحتاج إلى بيئة تجارية تدعم منتجاتها وتمكنها من الوصول إلى أسواق جديدة. ومع تيسير الإجراءات الجمركية، وتخفيض الرسوم، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق، يمكن لهذه الشركات أن تجد في السوق الهندية منفذًا واسعًا لتسويق منتجاتها، سواء في قطاعات الأغذية، أو المنسوجات، أو المنتجات العطرية، أو الصناعات التقليدية. وهذه النقلة يمكن أن تُسهم في خلق ثقافة تصدير أقوى، وترسيخ روح المبادرة، وتعزيز الابتكار داخل الشركات العمانية.
أما على مستوى الأمن الغذائي، فإن الهند ـ باعتبارها قوة زراعية ضخمة ـ يمكن أن تكون شريكًا استراتيجيًا لسلطنة عمان في تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة. ومع تسهيل الاستيراد عبر CEPA، يمكن لعُمان أن تؤمن سلة غذائية متنوعة بأسعار تنافسية، ما يرفع من مستوى الاستقرار الغذائي ويعزز من قدرة السوق المحلي على مواجهة تقلبات الأسعار العالمية. وفي المقابل، يمكن للمنتجات العمانية الفريدة - مثل التمور واللبان ومنتجات الرخام - أن تجد طريقها إلى منافذ البيع الهندية بطريقة أكثر سلاسة، وهو ما يشكل مكسبًا اقتصاديًا وثقافيًا في آن واحد. ومع توسع المبادلات التجارية وتحسن كفاءة سلاسل الإمداد، ستصبح عُمان مركزًا لوجستيًا أكثر جاذبية للشركات العالمية التي تبحث عن نقطة ارتكاز بين آسيا وأفريقيا والخليج. ويمثل هذا التحول فرصة كبيرة للقطاع الخاص العماني الذي يمكنه استثمار هذا الموقع عبر إنشاء مراكز تخزين وتوزيع حديثة، وتطوير شبكات نقل، وإطلاق خدمات لوجستية متقدمة تدعم التجارة العابرة للقارات. وهذا التحسين في أداء الموانئ والمناطق الحرة سيؤدي إلى دوران اقتصادي أسرع داخل سلطنة عمان، ويُعزّز إيرادات الدولة من الأنشطة المرتبطة بالنقل والموانئ والجمارك والخدمات المساندة.
وفي ضوء هذه المعطيات المتداخلة، ومع ما تحمله المؤشرات الاقتصادية من دلالات واضحة على اقتراب مرحلة جديدة في العلاقات العمانية الهندية، تبدو سلطنة عمان أمام منعطف تاريخي يمكن أن يغيّر مسار اقتصادها خلال العقد المقبل. فكل الأرقام، وكل التوجهات، وكل السيناريوهات المستقبلية تشير إلى أن تفعيل اتفاقية CEPA لن يكون مجرد حدث اقتصادي عابر، بل نقطة انطلاق نحو دورة نمو أكثر نضجًا وجرأة وتنوعًا. ومن المتوقع، إذا ما سارت الأمور وفق الإيقاع الذي ترسمه اليوم المعطيات، أن تتضاعف التجارة الثنائية خلال سنوات قليلة، وأن تتجاوز حاجز 20 مليار دولار في منتصف العقد القادم، وربما تقترب من 30 مليار دولار خلال عشر سنوات، في حال استفادت سلطنة عمان إلى أقصى حد من مزايا التموضع الجغرافي والتكامل الصناعي مع الهند.
ولا تقف التوقعات عند حدود التجارة وحدها، بل تمتد إلى الصناعات التحويلية التي يُرجّح أن تشهد توسعًا ملحوظًا، خاصة تلك المعتمدة على المعادن والبتروكيماويات والمواد البنائية، إلى جانب فرص متنامية في الصناعات الخضراء والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصناعية. ومع بروز الموانئ العُمانية كمراكز توزيع إقليمية، يتوقع أن تتسارع حركة الاستثمار في المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة، بما يعيد تشكيل الخريطة اللوجستية في المنطقة، ويجعل من سلطنة عمان محطة رئيسية في سلاسل الإمداد بين آسيا والخليج وأفريقيا.
وعلى مستوى سوق العمل، تشير التقديرات المستقبلية إلى إمكانية خلق الوظائف النوعية التي يمكن أن تمنح الشباب العُماني فرصًا غير مسبوقة للاندماج في قطاعات صناعية وتقنية جديدة، وترفع من مستوى المهارات الوطنية، وتدعم مسار التوطين في القطاع الخاص. ومع اتساع رقعة التصنيع والتصدير، ستنشأ احتياجات موازية في قطاع الخدمات والتعليم والتقنية، ما ينتج دورة اقتصادية متكاملة ترفد بعضها بعضًا، وتُرسي قواعد نمو متواصل ومستقر.
أما على المدى الطويل، فإن تفعيل الاتفاقية قد يمهد لمرحلة يصبح فيها الاقتصاد العُماني أكثر قدرة على مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر استعدادًا لاستيعاب التحولات التقنية والبيئية والاقتصادية. ومع استمرار التنويع، وتوسّع الصادرات، وتعاظم دور سلطنة عمان كمركز لوجستي محوري، يمكن لعُمان أن تنتقل من موقع المنافس الإقليمي إلى موقع اللاعب الفاعل في التجارة الدولية. وقد نشهد خلال عشر سنوات اقتصادصا عمانيًا متجددًا، واسع القاعدة الإنتاجية، متصلًا بشبكات التجارة العالمية، ومتقدمًا بخطى ثابتة نحو تحقيق رؤية عُمان 2040 بوصفها رؤية طموحة لاقتصاد مرن، مبتكر، ومستدام.
من الناحية النوعية، يشير هذا النمو إلى زيادة الصادرات غير النفطية، حيث من المتوقع أن تستفيد قطاعات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألومنيوم، الأسمنت، الرخام، اللبان، والتمور من تحسن سلاسل التوريد وفتح الأسواق الهندية. النمو في هذه القطاعات، الذي بدأ يظهر بالفعل في بيانات 2025، يعكس قدرة الاقتصاد العُماني على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. عمليا، إذا ارتفعت الصادرات غير النفطية بمعدل يتراوح بين 6% و12% سنويا نتيجة النفاذ إلى السوق الهندي وتحسين اللوجستيات، فإن هذا سيترجم إلى زيادة ملموسة في حصيلة التبادل التجاري الكلي.
تحقيق السيناريو التفاؤلي يتطلب مجموعة من العوامل التمكينية، أبرزها تسريع عمليات التصديق والتوقيع والتنفيذ للاتفاقية مع وضع آلية متابعة مشتركة لضمان تطبيق بنود التفضيل الجمركي وإزالة العوائق الإجرائية. كما يشمل تطوير البنية التحتية اللوجستية للموانئ والمناطق الحرة ومرافق التخزين والتبريد وطرق الربط الداخلي لالتقاط الطلب المتزايد.
كذلك، تعد الحوافز الاستثمارية للقطاعات ذات القيمة المضافة وبرامج التدريب الفنيّة من العناصر الأساسية لضمان استدامة النمو الصناعي. إضافة إلى ذلك، فإن إقامة تحالفات تجارية وشراكات تسويقية مع موزعين هنود يسهم في تسهيل النفاذ إلى الأسواق الهندية على مستوى المدن والمناطق، بينما تتيح حزم الدعم للصادرات الصغيرة والمتوسطة وصول المنتجات العُمانية إلى رفوف السوق الهندي بفعالية وجودة تنافسية.
بشكل عام، تشير هذه التقديرات إلى أن تفعيل CEPA يشكل فرصة استراتيجية لعُمان لتعزيز التجارة الثنائية، تنويع الاقتصاد، جذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل واسعة، ما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتقليل الاعتماد على النفط، مع تعزيز قدرة سلطنة عمان على تأدية دور متنامٍ في التجارة الإقليمية والدولية.