وصفة الهلاك السوري والعلاج المؤجل
تاريخ النشر: 3rd, December 2024 GMT
قاع الهاوية السحيق الذي حفره نظام الأسد للشعب السوري منذ 13 عاما، متسع وممتلئ بكل شيء، طافح بجثث السوريين وحطام مدنهم وقراهم، مع مواصلته إدارة الظهر لمطالب شعبه، والنظر لكل ما جرى في سوريا بعور أخلاقي وسياسي عربي وبنفاق دولي، ما يجعل من إعادة اجترار المفردات التي عفا عليها الزمن من كثرة الانكشاف والتعري المرتبط بنظام الأسد وسياسته الدموية الكارثية على السوريين وتأثيرها على المنطقة العربية؛ وما ارتبط بها على الثورات المضادة عموما وعلى القضية الفلسطينية بشكل خاص، مسائل لا يمكن القفز عنها في محاولة ارتداء لباس فضفاض يسحل عن جسد نظام مترهل فاسد وضعيف؛ مع استعارة عضلات حلفائه ليستخدمها على أجساد السوريين.
وما حصل خلال الأيام القليلة الماضية من تطور للأحداث في الشمال السوري، في حلب وإدلب وحتى ريف حماة، تأكيد لجملة من حقائق مثبتة في الرزنامة السورية لأكثر من عقدٍ، وعلى رأسها أن الاستعداد السوري لمواجهة نظام كنظام الأسد وحلم بناء دولة ديمقراطية ومواطنة وحريات سياسية ومجتمعية، لم يكن قليلة الأعباء والتضحيات كبقية الأحلام العربية.
فالمحاذير المطلقة سابقا، عن الأجندات العربية والإقليمية والدولية المستثمرة في الحفاظ على بقاء وظيفة نظام الأسد، صدح بها السوريون عاليا قبل اتهامهم المزعوم بدونية معرفتهم بما ينشدون، لنزع شرعية مطالبهم بالتحرر من نظام متجذر بالاستبداد والطغيان، فيما لم يستطع هذا النظام حفظ سيادة ووحدة الأرض السورية المتباكى عليها من قبل عضلاته المستوردة من موسكو وطهران وواشنطن وتل أبيب؛ مخترقو سيادته مع بقية القرى المحتلة على الأرض، مع الندب العربي والبكاء على أمن النظام.
يقف السوريون على أعتاب محنة مركبة من التعقيد؛ تجلت في سرعة التآزر العربي والإقليمي على ضوء تمدد الفصائل العسكرية في إدلب والسيطرة على حلب وفرار النظام من مواقعه العسكرية، وهذا التعاضد من البعض العربي مع نظام الأسد خوفا من انهياره، عايشه الشارع السوري والعربي قبل أكثر من 13 سنة عندما ثار السوريون في كل مساحة سوريا قبل استعانة الأسد بكل عصابات الأرض لمعاونته على قتلهم وقمعهم وتهجيرهم، فكانت كلفة الحفاظ على وظيفة نظام الأسد عالية جدا على مستوى الحطام السوري لما كان له من مردود مؤثر على مجريات عربية شاملة.
إعادة الأسطوانة العربية الغربية بعد السيطرة على حلب، بمعاودة نصب فزاعة "محاربة الإرهاب" بعد رؤية أبناء سوريا يعودون لمدنهم وقراهم التي هجروا منها وخسروا فيها نسيجهم المجتمعي المسحوق، هي إعادة نشر الخوف من فقدان الأسد لوظيفته، لذلك كان التعبير الإسرائيلي بالتنسيق مع الولايات المتحدة للاطمئنان على مصير النظام الآخذ بالخلخلة، وهرولة موسكو وأبو ظبي والقاهرة وبغداد وطهران بالتأكيد على دعم الأسد، وبإعادة الاستهبال للقفز عن الفشل الذي منيت به استراتيجية حماية الطاغية السوري التي اعتُمدت خلال العقد الماضي.
هل نسي هؤلاء أن جيش موسكو ومرتزقة "فاغنر" وكل الدعم المالي والعسكري والسياسي الذي حظي به نظام الأسد من طهران ومليشياتها طوال سنوات طويلة ومن أبو ظبي وإعادة التطبيع معه، لم ينجحوا في تطهيره من الجرائم، بل جعلوا من نظام مهووس بالبقاء والسيطرة يعتقد أن بمقدوره إدارة الظهر حتى لمن يعيد تعويمه بالحديث عن عملية سياسية والالتزام بجنيف 1 و2، وتطبيق القرار الدولي 2254.
ترك السياسة والتركيز على مفردات العسكر والتطرف والإرهاب، وتزوير وعي السوريين بعدم مقدرتهم على حكم أنفسهم إلا بسفاح يضع السكين على أعناقهم، كل ذلك أودى بما يسمى محادثات أستانا وسوتشي وجنيف إلى مصيرها الحالي، واستبدل ما يردده الصادحون من حنجرة الأسد أن الأولوية هي للحفاظ على الأمن أو فرضه بسيطرة "القوات الحكومية".
لكن الأمن "مخردق" بعدوان صهيوني شبه يومي جعل من نظام الأسد أضحوكة، وحناجر الخوف على أمن وسيادة ووحدة سوريا لم تظهر بالاستئساد نفسه بوجه المحتل الصهيوني، لكن بإعادة استهلاك ما خلّفه إعلام الأسد في العام الأول من الثورة، بأبواق ملأت شاشات محور الممانعة. واليوم، الإعلام "الرديف" الداعم لنظام الأسد الذي كان قبل أربعة أيام منهمكا بتحليل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان وتداعيات الشروط الإسرائيلية على تنفيذ هذا الاتفاق في الجنوب اللبناني، قلب إبرة الموجة ليقول إن أزمة نتنياهو في لبنان دفعته لتحريك عملائه في سوريا من الفصائل لتضغط على سوريا الأسد نتيجة مواقفها الداعمة للمقاومة.
التزوير السخيف، خلال المعركة التي خاضتها المقاومة في لبنان أو غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مفضوح بموقف النظام وحليفه الروسي وحلفاء إسرائيل في محور التطبيع العربي مع الأسد.. كيف ظهروا في المعركة المستمرة؟ الأجوبة معروفة، لم يعد في جعبة النظام ما يقدمه في هذا الجانب، استهلك كل شيء في قاع الهاوية الذي حفره للسوريين ولنفسه.. النظام أحدث بسوريا والسوريين ما عجز الاحتلال عنه وسهّل كل مهامه، أعاد مع الاحتلال تركيب سوريا التي يريدها النظام وموسكو وتل أبيب وطهران، وبقية منافقي العالم المتحضر.
السوريون لم يثوروا على نظام الأسد لهزيمته عسكريا، وما شاهده العالم بعد هروب جيشه من مطاراته ومعسكراته، من ترسانة وذخائر وصواريخ وبراميل متفجرة، لم تكن معدة لمؤازرة حلفائه في المقاومة اللبنانية أو لدعم غزة، كل مخزون سلاح النظام ومقدراته لها بوصلة وهدف كشفت عنه جغرافيا السوريين وأجسادهم.
وكل وصفة توصي بالحفاظ على سوريا ووحدة أراضيها وعدم التدخل بشؤونها دون الاعتراف بحق السوريين في الخلاص من طاغية مجرم وسفاح؛ تعني أن وصفة الهلاك السوري التي كتبت منذ 13 عاما في العيادة الإسرائيلية بختم عربي لن تعيد أحلام الوظيفة، ولن تجدد أنشودة شعار الممانعة بالتطهر ببعض كلمات جوفاء عن عروبة أضاعها النظام وقضية خانها وتآمر عليها وقتل حاضنتها، ومقاومة غدر بها ونحرها. فسوريا التي أسقطها الأسد بيد محتلين كثر للحفاظ على كرسي الحكم سلالته، ليس لها من وصفة شفاء إلا بالخلاص منه ومحاكمته بجانب مجرمي الاحتلال، ومن يراهن على غير ذلك ليتمعن في القاع الذي وصل إليه الأسد ونظامه المتمسك بوصفة علاجه من سقوط مؤجل.
x.com/nizar_sahli
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأسد سوريا حلب سوريا الأسد حلب سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نظام الأسد
إقرأ أيضاً:
الاستثناء السوري عربيا
منذ انطلاق الربيع العربي 2010 ـ 2011، شكلت الحالة السورية استثناء عربيا لجهة فشل الثورة في إسقاط رأس النظام بشار الأسد كما جرى في تونس ومصر وليبيا، في وقت شكلت استثناء أيضا لجهة العنف الذي استخدمه النظام تجاه الثورة، وهو عنف لم تعرفه بلدان الربيع العربي على الإطلاق.
فشل الثورة
ثمة أربعة أسباب رئيسية استثنائية انفردت فيها الحالة السورية مقارنة بنظيراتها العربية، تفسر فشل الثورة، أو تأخرها أربعة عشر عاما لتحقيق هدفها في إسقاط النظام:
1 ـ طبيعة نظام الأسد الذي نجح في إقامة تحالفات عابرة للطوائف، لأسباب يطول شرحها، ثم في إقامة منظومة عسكرية ـ أمنية بالغة التعقيد والقوة، وفي هذه المنظومة العابرة للطوائف، شكل العلويين عصبها الرئيس، الامر الذي حال دون تفكك المؤسستين أو وقوفهما على الحياد.
أدى التركيب العسكري ـ الأمني ـ الحزبي ـ الطائفي للنظام إلى اخترق البيروقراطية التي يهيمن عليها السُنة في المدن واختراق مماثل في القرى، الأمر الذي جعل السُنة غير متاحين للتعبئة ضد النظام إلى حد كبير.
بينت تجارب التاريخ أن الأقليات تقف في المفترقات التاريخية الخطيرة إلى جانب بعضها البعض ضد هيمنة الأكثرية، ذلك أن التفكير الأقلوي هو بطبيعة الحال تفكير غير وطني، يبح عن تعزيز الهوية الجماعية للطائفة وضمان استمرارها، بغض النظر.ولذلك فشلت الثورة في تحقيق اختراق هام في بنية النظام، العسكرية، والأمنية، والحزبية، والسياسية.
2 ـ التنوع الطائفي والإثني في سورية، وقد بينت تجارب التاريخ أن الأقليات تقف في المفترقات التاريخية الخطيرة إلى جانب بعضها البعض ضد هيمنة الأكثرية، ذلك أن التفكير الأقلوي هو بطبيعة الحال تفكير غير وطني، يبح عن تعزيز الهوية الجماعية للطائفة وضمان استمرارها، بغض النظر.
لهذا السبب، فضلت الأقليات في سوريا الوقوف إلى جانب النظام وخسارة إمكانية نجاح الثورة وتحقيق الانتقال إلى دولة ديمقراطية، خصوصا في تلك الفترة، أي بداية الثورة حين كان يطغى عليها الجانب العلماني ـ الليبرالي.
3 ـ كان للعامل الخارجي دورا رئيسا في إفشال الثورة، بحكم مجاورة سوريا لفلسطين المحتلة، حيث كانت إسرائيل والولايات المتحدية يخشيان من سيطرة الجماعات الإسلامية على الحكم.
وهي حالة غير موجودة في بلدان الربيع العربي، وإضافة إلى ذلك يمكن القول إن انفجار الوضع في سوريا سينعكس سلبا على دول الجوار، بخلاف الدول العربية الأخرى: تونس، ليبيا، مصر.
4 ـ فشل الثورة السورية في تشكيل هيكل سياسي ـ عسكري موحد من شأنه أن يشكل كتلة تاريخية قادرة على إحداث الفرق، وقد انعكس هذا التشرذم في الخطاب السياسي الذي كان ذا طابع إسلامي راديكالي على مستوى الثوار المسلحين، وذا طابع سياسي راديكالي على مستوى الائتلاف الوطني.
نجاح الثورة
تتطلب الأمر أربعة عشر عاما حتى يسقط النظام السوري، وفي هذا استثناء سوري على مستويين: الأول المدة الزمنية الطويلة جدا، والثاني، وهو الأهم، أي الذي يشكل استثناء سورياً، هو سقوط النظام بالكامل، وليس رأسه فقط، ثم سيطرة الثوار على مقاليد الحكم وهو استثناء عربي.
بخلاف ليبيا واليمن اللتان سقط فيهما النظام بالكامل، إلا أن الثورة فيهما لم تنجح في السيطرة على الدولة، أما تونس ومصر، فقد سقط فيهما رأس النظام، فيما بقي الأخير قائما إلى حد ما في تونس، وإلى حد كبير جدا في مصر.
في مصر، ظلت النخبة الحاكمة ونخبة رجال الأعمال على حالها دون تغيير، كما ظلت أوضاع الطبقتين الوسطى والدنيا مثل ما كانت عليه قبل الثورة، وبقي الجهاز القضائي سليما، يضاف إلى ذلك أن كثيرا من الوزراء الذين عملوا في ظل المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال الثمانية عشر شهرا في الفترة الممتدة بين الإطاحة بـمبارك وانتخاب محمد مرسي كانوا قد شغلوا هذا المنصب.
بخلاف ليبيا واليمن اللتان سقط فيهما النظام بالكامل، إلا أن الثورة فيهما لم تنجح في السيطرة على الدولة، أما تونس ومصر، فقد سقط فيهما رأس النظام، فيما بقي الأخير قائما إلى حد ما في تونس، وإلى حد كبير جدا في مصر.ومع وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، تم تثبيت النظام المصري واستمراريته، خصوصا سيطرة الجيش على مقاليد الأمور.
وفي تونس، لم يتغير النظام الاجتماعي بالفعل، فالطبقة التي كانت لها السيطرة أيام بن علي احتفظت بنفوذها القوي، بل يمكن القول أكثر من ذلك، حيث شكل وصول قيس سعيد إلى السلطة تأكيدا قويا على إعادة إحياء منظومة الحكم القديمة وإن بشخوص مختلفة.
سورية الجديدة
يكمن الاستثناء السوري الحالي في أن الثوار سيطروا على مقاليد الدولة السورية في ظل غياب تام لمنظومة الحكم القديمة، الأمر الذي يسمح للحكم الجديد البدء من الصفر.
إن سورية اليوم عبارة عن صفحة بيضاء، لا توجد فيها قوى مضادة ذات تنظيم عسكري وسياسي من شأنها أن تشكل تهديدا للحكام الجدد.
وفي ظل بيئة إقليمية ودولية داعمة للحكم الجديد، ستجد الأقليات نفسها مضطرة إلى الانصياع لدمشق: بدأ هذا أولا مع "قوات سورية الديمقراطية" التي وافقت على الانخراط في الدولة الجديدة، أما الدروز، فإن سلوك بعضهم إنما يعبر عن حالة ضياع سياسي وهوياتي، لكن الوقت كفيل بخضوعهم نهاية المطاف، وأما العلويين، فهم اليوم أقرب من أي وقت مضى في تاريخهم من الانخراط في مشروع وطني سوري جامع، بسبب اكتشافهم ـ ولو متأخرا ـ حقيقة الأسد ونظامه، وبسبب خطاب الشرع المتصالح والمنفتح على جميع مكونات الشعب السوري، بمن فيهم العلويين ذاتهم.
لقد كان الاستثناء السوري في بقاء نظام الأسد مدة طويلة بعد الثورة أثرا مدمرا على البلاد، ونأمل في الاستثناء العربي المتمثل بسقوط النظام السوري بالكامل أن يكون عاملا إيجابيا في إعادة بناء الدولة والمجتمع من جديد وعلى أسس جديدة.