جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-12@11:46:21 GMT

الحياة لمن عاشها بعقل.. خمسٌ يرفعن خمس

تاريخ النشر: 3rd, December 2024 GMT

الحياة لمن عاشها بعقل.. خمسٌ يرفعن خمس

 

سلطان بن ناصر القاسمي

في كل مرة أستعيد التفكير في الحكمة التي أشرنا إليها سابقًا في مقالاتنا عن "خمس يُعرفن بخمس"، أجد نفسي أمام زخم جديد من التأملات التي تعيد تشكيل نظرتنا إلى الحياة وقيمها. واليوم، نستكمل سلسلة "الحياة لمن عاشها بعقل" بالحديث عن خمس فضائل عظيمة تُعرف بأنها ترفع خمسًا أخرى، لتُضيف إلى حياتنا أبعادًا أعمق، وتجعلها أكثر ثراءً بالمعاني والدروس.

أولًا أنَّ التواضع هو الفضيلة التي ترفع صاحبها، وهو الخلق الذي يجعل الإنسان أكثر قربًا من الناس وأكثر قبولًا للحق. التواضع ليس مجرد تصرف اجتماعي لطيف، بل هو عبادة قلبية تُعزز صلة الإنسان بربه وبمن حوله. قالت عائشة رضي الله عنها: "إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة.. التواضع". والتواضع كما عرّفه العلماء هو الخضوع للحق وقبوله ممن جاء به، صغيرًا كان أو كبيرًا.

وبالنظر إلى واقع حياتنا، نجد أن التواضع يرفع الإنسان في كل مكان، سواء كان غنيًا أو فقيرًا، قويًا أو ضعيفًا. فمن يملك المال ويتواضع للفقير، ومن يملك العلم ولا يتعالى على من يجهل، كلاهما يجسدان هذه الفضيلة. يقول الإمام الشافعي: "التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام". والتواضع يورث المحبة في القلوب، ويجعل صاحبه محبوبًا بين الناس، مما يساهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية وبناء مجتمعات أكثر ترابطًا وسلامًا.

لذلك، إذا أردنا أن نبني مجتمعًا مليئًا بالمحبة والإخاء، فعلينا جميعًا أن نتحلى بهذه الصفة النبيلة، لأنها الطريق إلى قلوب الناس وإلى رضا الله.

أما الفضيلة الثانية، فهي المال الذي يرفع صاحبه إذا أُحسن استخدامه؛ فالمال في الإسلام ليس هدفًا بحد ذاته؛ بل وسيلة لتحقيق الخير ومساعدة الآخرين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى" (رواه البخاري). واليد العليا هي اليد المعطية التي تمنح دون أن تنتظر مقابلًا، أما اليد السفلى فهي اليد الآخذة التي تحتاج إلى العون.

وعندما نفكر في قيمة المال، نجد أنه يمكن أن يكون نعمة أو نقمة، حسب كيفية استخدامه. حيث أن المال الذي يُكتسب بجهد ويُنفق بكرم يرفع من قدر صاحبه؛ لأنه يصبح وسيلة لتحقيق الخير وإعانة الآخرين. ولكن المال الذي يُستخدم للتفاخر أو للسيطرة على الآخرين قد يتحول إلى وسيلة للذل واللؤم.

ولهذا، علينا أن ننظر إلى المال كأداة للارتقاء بالنفس ومساعدة المحتاجين، وأن نحذر من أن يصبح وسيلة للفساد أو التباهي؛ فالمال الذي يُستخدم بحكمة يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة.

وبالحديث عن الفضيلة الثالثة، نجد أن الصمت هو الذي يرفع الإنسان عن الزلل. في عالمٍ يمتلئ بالصخب والحديث غير المفيد، يصبح الصمت فضيلة عظيمة تحمي الإنسان من الوقوع في الأخطاء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (رواه البخاري).

والصمت، عندما يكون في موضعه الصحيح، يُجنب الإنسان الكثير من المشاكل، ويجعل كلماته أكثر قيمة وتأثيرًا. ففي كثير من الأحيان، قد يكون الصمت أبلغ من الكلام، خاصة عندما لا تكون الكلمات ضرورية أو عندما يكون الحديث قد يُسبب أذى للآخرين.

ومن هنا، نصيحتي- لكل من يقرأ هذا المقال- أن يجعل الصمت أداة للحكمة والتفكر، خاصة في المواقف التي تتطلب ضبط النفس. فعندما يصمت الإنسان، فإنه يُظهر احترامه للآخرين، ويُجنب نفسه الوقوع في الزلل الذي قد يُضعف مكانته أو يُفسد علاقاته.

أما الفضيلة الرابعة، فهي الحياء الذي يرفع الخلق. الحياء في الإسلام هو زينة الأخلاق، وهو الذي يمنع الإنسان من الوقوع في القبائح أو التفريط في حق الآخرين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخيرٍ" (رواه البخاري).

والحياء، كما عرفه العلماء، هو خلق يحمل صاحبه على فعل الجميل وترك القبيح. قال ابن القيم: "الحياء من الحياة، وكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم". الحياء يجعل الإنسان يتصرف بوعي واحترام، ويعزز علاقاته بالآخرين لأنه يُظهر اهتمامه بمشاعرهم وحقوقهم.

وفي حياتنا، نجد أن الحياء هو خلق يحمي الإنسان من الوقوع في الأخطاء، ويجعله محبوبًا بين الناس. فالحياء ليس ضعفًا أو خجلًا زائدًا، بل هو قوة تجعل الإنسان يضع لنفسه حدودًا وقيمًا يلتزم بها.

وأما الفضيلة الخامسة هي ترك الهزل الذي يرفع الكلفة. الهزل في معناه الإيجابي هو المزاح الخفيف الذي يُضفي المرح على الحياة، ولكن إذا زاد عن حده، فقد يُضعف العلاقات ويُقلل من احترام الآخرين.

إن الكلفة، التي تعني المجاملات الزائدة، قد تكون ضارة إذا أصبحت وسيلة للنفاق أو للتغطية على الحقيقة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا" (رواه أبو داود). لذلك، فإن ترك الهزل الزائد والتحلي بالجدية في التعامل هو الطريق لبناء علاقات صادقة وواضحة.

وفي ختام هذا التأمل في "خمس يرفعن خمس"، نجد أن هذه الفضائل ليست مجرد صفات يمكن أن يتحلى بها الإنسان في لحظات عابرة؛ بل هي أسس متينة تبني عليها حياة ذات معنى وقيمة؛ حيث إن التواضع يجعلنا أكثر إنسانية، نلامس به قلوب الآخرين ونتقرب به إلى الله الذي يحب المتواضعين. والمال حين يُستخدم بحكمة، يصبح وسيلة لإغاثة الملهوف وتحقيق الخير، فيكون المال رفعة للنفس وسببًا لتعزيز الروابط الإنسانية.

أما الصمت، فإنه حكمة تجعل الإنسان في مأمن من زلات اللسان وتفتح له أبواب التأمل والفهم العميق. وكذلك الحياء، تلك الزينة التي تزيد القلب نقاءً، هو عنوان الأخلاق الرفيعة ودليل الإيمان الصادق. وأخيرًا، ترك الهزل يرفع الكلفة ويُبقي العلاقات صادقة وواضحة، خالية من المجاملات التي تعكر صفوها.

هذه القيم الخمسة هي بمثابة الأوتاد التي تُثبّت خيمة حياتنا على أرض صلبة. إنها تضفي على أفعالنا معاني أعمق، وتجعل من وجودنا قيمة مضافة في حياة الآخرين. الإنسان الذي يتبنى هذه القيم لا يعيش فقط لذاته، بل يصبح جزءًا من بناء مجتمع متماسك مليء بالحب والاحترام.

لنتذكر أن التحلي بهذه الفضائل لا يأتي من فراغ، بل يحتاج إلى جهد مستمر، ورغبة صادقة في تحسين الذات، وعزم على المضي قدمًا في طريق الإصلاح الداخلي. الحياة الحقيقية ليست بما نملك من مال أو مكانة اجتماعية؛ بل بما نتركه من أثر طيب وما نغرسه من قيم تعيش بعدنا.

فلنكن ممن يسعون للرفعة بمعناها الأعمق، رفعة القلب بالحياء، ورفعة النفس بالتواضع، ورفعة الروح بالصمت، ورفعة الأخلاق بترك الهزل، ورفعة الإنسانية باستخدام المال لخدمة الخير. حين نفعل ذلك، نصبح أكثر قربًا من جوهر الحياة الذي أراده الله لنا: حياة مليئة بالخير والنقاء والسلام الداخلي.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

لا تُصادِر فرح الآخرين

سلطان بن ناصر القاسمي

يقول الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف: 156).

في خِضمّ زحمة هذه الحياة التي نعيشها، وبين تقلباتها المتتالية، وما يمرّ أمامنا من قصص تحمل في طياتها دروسًا وعِبَرًا، ينسى بعضنا حقيقة ثابتة لا تتغير: أن البشر لا يتشابهون في نصيبهم من النِّعم، ولا في حجم ما يمتلكونه من أسباب الفرح، ولا حتى في طريقة استقبالهم للحياة ذاتها. فهناك من أُفيض عليه من الخيرات ما لا يُحصى، حتى بات لا يرى في التفاصيل الصغيرة معنى يُذكر، ولا يلتفت إلى الإنجازات البسيطة لأنها لا توازي في نظره ما اعتاد عليه من وفرة.

وفي المقابل، هناك من لا يملك في هذه الدنيا سوى ومضة أمل صغيرة، يتشبث بها كما يتشبث الغريق بطوق النجاة، فرحٌ بسيط في حجمه، لكنه عظيم في أثره، لأنه يشعره أنه ما زال حيًّا، وما زال قادرًا على الفرح رغم قسوة الطريق.

وحين نرى إنسانًا يفرح بشيءٍ نراه نحن عاديًا أو متواضعًا، فليس من العدل أن نُسقِط عليه مقاييسنا، ولا أن نحتقر فرحته لأننا نملك ما هو أكبر منها. فما دام الإنسان لا يملك في هذه الحياة إلا سببًا واحدًا يفرح به، فليس من الحق أن نستكثر عليه تلك الفرحة، ولا أن نقلّل من شأنها، ولا أن نرى صاحبها أقل قيمة ممن حوله. فكل إنسان يحمل في داخله حكاية لا نعرف تفاصيلها، وأوجاعًا لا نرى آثارها، وأحلامًا قد تكون صغيرة في أعيننا، لكنها عظيمة في قلبه.

والحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الفرح ليس معيارًا واحدًا، ولا يخضع لميزان ثابت يُقاس به عند جميع البشر. فقد يفرح أحدهم بابتسامة عابرة صادفها في وقت ضيق، وقد يفرح آخر بتحقيق هدفٍ عمل لأجله سنوات طويلة، وقد يكون الفرح في كتابٍ عثر عليه مصادفة، أو في عبارة قرأها في لحظة ضعف فانتشلته من حزنه، وبدّلت مزاجه، ومنحته دفعة جديدة للحياة. وفي المقابل، هناك من لا تحرّكه كل هذه الأشياء، فتراه متجهمًا حتى في أجمل لحظاته، متشائمًا حتى وهو غارق في النِّعم. ومن الخطأ الكبير أن نحاكم الآخرين بما نراه نحن كبيرًا أو صغيرًا؛ فكل قلب أعرف بحاجته، وأدرى أين يختبئ أمله.

وتكمن قيمة الفرح الحقيقية في كونه عنصرًا أساسيًا من عناصر الصحة النفسية والجسدية، ومحفّزًا للنفس، ولبناء العلاقات الإنسانية المتوازنة. فالفرح ليس مجرد شعور عابر، بل هو طاقة داخلية تمنح الإنسان قدرةً على التحمّل، ومرونة في مواجهة التحديات، ومعنى أعمق للحياة. وهو ليس بالضرورة ضحكة عالية أو احتفالًا صاخبًا، بل قد يكون سكينة هادئة تنبع من الداخل، ورضًا يتكوّن بصمت، وإحساسًا بالطمأنينة لا يراه أحد، لكنه يملأ القلب.

وحين نحتقر فرح الآخرين، فإننا في الحقيقة لا نُسقِط نقصًا فيهم، بل نفضح نقصًا فينا. فاحترام المشاعر يحتاج إلى رُقيٍّ في التعامل الإنساني، وتقدير حاجات الناس ورغباتهم يحتاج إلى قلبٍ واسع يحب الخير للآخرين كما يحبه لنفسه. وما أجمل أن نكون ممن يباركون نجاحات غيرهم، ويشاركونهم أفراحهم، حتى لو بدت لنا بسيطة، فربما كانت عندهم أغلى من كل ما نملك.

فالأرزاق تُقسَّم بإرادة الله وبحكمةٍ لا تُدرَك، ومنها تُوزَّع مواطن الفرح في القلوب. فلا تستهِن بما يُسعد الآخرين، ولا تحرمهم لحظة يجدون فيها أنفسهم أحياء من الداخل. دع كل إنسان يفرح بما لديه، فليس من العدل أن نُطالب الجميع أن يفرحوا بالطريقة ذاتها، ولا أن نُجبر القلوب على مقاييس لا تشبهها.

وهنا تحضرني قصة تختصر هذه المعاني كلّها. في أحد الأيام، كانت هناك عزومة عند إحدى الأسر، وقد قامت ابنتهم بإعداد القهوة وتقديمها للضيوف. وعند تقديمها، وجّهت إحدى الحاضرات انتقادًا لطريقة إعدادها. فما كان من تلك المرأة إلا أن قامت بإعداد القهوة مرةً أخرى على عجل، وقد بدا عليها الارتباك. وعندما أعادت تقديمها، بادرت أمّ البنت إلى مدح القهوة والثناء عليها أمام الجميع، وكأنَّها تريد أن تُعيد لتلك المرأة ثقتها بنفسها. وبعد انصراف الضيوف، تساءل أهل البيت عن سبب موقف الأم، فقالت لهم بحكمة موجعة: "هذه المرأة، للأسف، لا تملك من مقومات الجمال ولا من المال، ولم تنل حظًا وافرًا في علاقاتها الاجتماعية، وكل ما تملكه لتفرح به هو أنها تُجيد إعداد القهوة وتخدم من حولها، فلماذا نستكثر عليها تلك الفرحة؟ حتى لو كانت في فنجان قهوة".

هذه القصة وحدها تكفي لتعلّمنا درسًا عظيمًا: أن بعض الناس لا يملكون إلا أسبابًا صغيرة للفرح، لكنها بالنسبة إليهم كل الحياة. فلماذا نكسر خواطرهم؟ ولماذا نصادر ضحكاتهم؟ ولماذا نُضيّق عليهم مساحات الضوء القليلة التي يملكونها؟

إنَّ زرع الفرح في قلوب الآخرين لا يحتاج إلى مالٍ كثير، ولا إلى جهدٍ عظيم، بل إلى كلمة طيبة، ونظرة رحيمة، وموقفٍ يُشبه الإنسان في نقائه. فدع للناس أفراحهم، صَغُرَت أم كبُرَت، ودَع قلوبهم تُكمل طريقها بما تملك، لا بما نملك نحن.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • “قداسة البابا “: من الأسرة يخرج القديسون وهي التي تحفظ المجتمع بترسيخ القيم الإنسانية لدى أعضائها
  • ما حكم الزكاة على المال المدفوع مقدمًا لإيجار شقة؟.. الإفتاء توضح
  • حـفظ المـال
  • تمساح الزوامل.. قصة أخطر 7 أيام عاشها أهل الشرقية
  • جلال كشك.. الذي مات في مناظرة على الهواء مباشرة وهو ينافح عن رسول الله
  • بالفيديو.. ياسر مدخلي لـ"ياهلا بالعرفج": مسرح الخشبة هو الحياة الموازية التي نتمناها ونبحث عنها ونصلح فيها ما نعجز عن إصلاحه في الحياة!
  • لا تُصادِر فرح الآخرين
  • قومي حقوق الإنسان: الكرامة الإنسانية هي الأساس الذي يُبنى عليه أي نظام ديمقراطي
  • الاعتصام بالله .. معركة الوعي التي تحدد معسكرك، مع الله أم مع أعدائه
  • العراق يرفع حزب الله والحوثيين من قائمة تجميد أموال الإرهابيين