كلمات شُكر واجبة لمَن علموني
تاريخ النشر: 11th, December 2024 GMT
فى الثامن والعشرين من نوفمبر من كل عام يحتفل الناس بعيد شًكر، يُقدمون فيه الشُكر لله على نعمه بالصحة والعافية والسلام والرزق.
وفى ثقافات مُختلفة، ولدى شعوب أخرى هناك دومًا أيام مُخصصة لتقديم الامتنان لكل مَن قدم خدمة أو عملًا عظيمًا لإنسان، وهى من المناسبات الاجتماعية الجميلة التى يتآلف فيها البشر ويتذكرون كُل مَن أحسن إليهم ونفعهم يومًا.
وكُنت أتمنى أن يكون لدينا يوم مُخصص للشكر يُرسّخ لفضيلة الوفاء والامتنان لكل مَن قدموا لنا معروفًا يومًا ما.
وأنا شخصيًا مدين بامتنان حقيقى لأساتذتى العظام الذين تركوا بصمات خالدة فى شخصيتي، وأسهموا فى تكوينى المهنى لأصبح ما أنا عليه الآن. إننى أتذكرهم جميعًا بمحبة وتحية لأترحم على مَن فارقوا الحياة منهم، وأدعو بالصحة وطول العمر لمَن ما زالوا على قيد الحياة، فلولاهم فى حياتى ما كان لى أن أحقق ما حققت علميًا ومهنيًا واجتماعيًا.
وبقناعة حقيقية، فأنا مدين لوالدى رحمه الله، بمحبتى الخالصة لمهنة المحاماة، إذ كان يصطحبنى معه ووهو محام قدير، وأنا صبى صغير فى عطلات الصيف إلى المحاكم، لأشاهد المرافعات، وأتابع الخطابات البليغة، وأتعرف على محاورات القانون عن قُرب، وأعايش قامات عظيمة فى المحاماة مثل الأستاذ شوكت التوني، والأستاذ على الرجال رحمهما الله.
لقد كانت نزهاتى فى ساحات العدالة مع والدى وأنا صغير، سببًا مباشرًا فى تعلُقى بمهنة المحاماة، ولتفضيلى كلية الحقوق على باقى الكليات رغم تفوقى فى الثانوية العامة، وإصرارى على أن أصبح مُحاميًا أولًا.
وفى الكلية أنا مدين أيضًا لأساتذة عظام، ترك كُل منهم بصمة فى ذهنى بموقف أو درس أو عبارة بليغة. أتذكرهم بحب خالص مُقررًا أنهم كانوا أساتذة بمعنى الكلمة، وكان لديهم علم عظيم وقيم راسخة لا يُمكن إنكارها، وفى طليعة هؤلاء الدكتور فتحى والي، والدكتور محمود سمير الشرقاوي، والدكتورة سميحة القليوبي، والدكتور يحيى الجمل، والدكتور أحمد البرعي، والدكتور فؤاد رياض والدكتور صوفى أبو طالب، والدكتور مأمون سلامة، والدكتور محمود السقا، والدكتور نعمان جمعة، والأستاذ الكبير عزالدين الحسينى نائب أول رئيس محكمة النقض، وغيرهم.
أتذكر موقفًا لا أستطيع نسيانه وأنا أدرس فى إنجلترا لنيل الماجيستير يخص البروفيسور براين نايبر الذى ساندني، وشجعني، ورأى أننى أستحق استكمال الدراسة للحصول على الدكتوراه، وبذل جهدًا كبيرًا ليتيح لى منحة للدكتوراه.
ولا أنسى مساعدة وتشجيع أستاذى فى الدكتوراه رحمه الله جوزيف نورتون، وهو أمريكى يعمل فى إنجلترا، حيث أتاح لى العمل كمساعد له فى مجال التنمية الاقتصادية ما أهلنى فيما بعد لأصبح أستاذًا زائرًا فى جامعة لندن. كذلك لا أنسى القاضى الكبير لورد همفرى لويد الذى شارك فى الإشراف على رسالتي، وبعد ذلك عملت معه كمحكم فى العديد من القضايا الدولية.
وعندما بدأت العمل فى المحاماة التقيت الأستاذ الكبير على الشلقانى، وكان رجلًا مثقفًا، وليبراليًا، وراقيًا، ومنظمًا، ووقف إلى جانبى مُرشدًا وناصحًا ومساعدًا، وفتح عينى على كواليس وأسرار العمل المُنظم، ولا أنسى مساندة المحامية الكبيرة منى ذو الفقار أمد الله فى عمرها.
ولكُل هؤلاء وغيرهم ممن لم تُسعفنى الذاكرة لاستعادة دعمهم وتشجيعهم وعلمهم أكرر شُكرى ودُعائى لهم بُحسن الجزاء، فهذا هو أقل ما يجب.
وما أحوجنا جميعًا إلى أن نشكُر مُعلمينا وأساتذتنا، وكل مَن قدم لنا يد العون فى جميع مراحل الحياة.
وسلامٌ على الأمة المصرية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د هانى سرى الدين الثامن والعشرين الصحة والعافية
إقرأ أيضاً:
تأملات من وراء القضبان.. نظرة إلى أعماق النفس البشرية
منذ أن وطأت قدماي عتبات قاعات المحاكم، لم تعد الحياة كما عرفتها من قبل. لم أعد أرى العالم بعين السذاجة، بل بعين المحاماة الثاقبة التي تخترق الحجب وتكشف الخفايا. كانت كل قضية، وكل موكل، وكل شهادة، بمثابة درس قاسٍ ومؤلم في طبيعة البشر، درس كُتب بمرارة التجربة وعمق الجراح، تاركًا شروخًا تضرب روحي، وثقلاً يربض على قلبي.
لقد علمتني المحاماة أن الذئاب قد ترتدي ثياب الحملان، وأن المظاهر غالبًا ما تكون خادعة بشكل يدمي القلب. رأيت لحىً تبدو وقورة تخفي وراءها أكاذيب مدوية تئن لها الضمائر، وثراءً بُني على غش محكم ينهش أرواح الأبرياء، وفقرًا كان الثقة المفرطة في غير محلها هي السبب فيه، فتدفع ثمنها أرواحٌ بريئة. أيقنت أن الصديق قد يخدع، والشريك قد يخون، وأن الذمم يمكن شراؤها وبيعها في سوق النخاسة البشرية، وأن المواقف النبيلة تتحول إلى سلعة تُباع بأبخس الأثمان. وحتى الشخص الحذر يُؤتى من مأمنه، ووعود الكثيرين ما هي إلا سراب يتبدد عند أول اختبار، ويبقى الضعيف دومًا مُستغلًا. لا أحد بمأمن من الخديعة، حتى أشد الناس فطنة وحرصًا. حقًا، إنها مهنة الحكماء الجبابرة.
مشاهد لا تُمحى: ظُلمات النفس البشريةلكن هذه الدروس القاسية لم تكن مجرد ملاحظات عامة، بل كانت تتجسد في أبشع صورها في القضايا التي تعاملت معها، مشاهد لا يمكن أن تمحوها الذاكرة، فقد رأيتُ الكثير جدًا:
شاهدت أبًا يغتال فلذات كبده، ويغتصب بناته، ممزقًا بذلك أقدس الروابط الإنسانية، ومخلّفًا وراءه دمارًا نفسيًا لا يلتئم. ورأيت على النقيض أمهات يضحين بكل غالٍ ونفيس، بل وقد يصل الأمر إلى القتل، دفاعًا عن أبنائهن، في مفارقة مؤلمة تظهر مدى التناقض البشري ومرارة الخيارات.
تصدمني ذاكرتي بصور ابن يضاجع أمه أو أخته، يمارس عليها أبشع أنواع الإكراه، أو في حالات أكثر غرابة ومأساوية، برغبتها المريضة، محطمًا بذلك كل تابو اجتماعي وديني، ومخلفًا عارًا يلطخ الأجيال. ولم تكن صدمتي أقل عندما رأيت العم والخال يفترسون شرف عوائلهم، أو يرتكبون جرائم قتل بشعة من أجل الميراث، الذي يصبح لعنة تدمر أواصر الدم وتُعمي البصائر.
لقد رأيت أثرياء يقتلون فقراء من أجل جفنة بسيطة من الجنيهات، وكأن حياة الإنسان لا تساوي شيئًا أمام حفنة من المال. رأيت قاتلاً يزهق روحًا بريئة لا تُفهم الأسباب، وكأن الأرواح أصبحت بلا قيمة أو حرمة. بل ورأيت مغتصبًا زوجته ملكة جمال ويسعى لقضاء حاجته بمعاشرة الحيوانات، في انحراف مريع للغريزة البشرية، يعكس فراغًا روحيًا وتشوهًا نفسيًا لا يصدق.
ما ينقص العقول الإجرامية: ظُلمات لا تضيئها شمسكل هذه الأمور الغريبة والمؤلمة أصبحت بالفعل ثقلاً يريق نفسي، وحجرًا على قلبي، وشروخًا تضرب روحي. إني أتألم.. أتألم.. وأغرق في وحل الأرواح الثائرة التي تطلب القصاص. هذه المشاهد تجعلني أتساءل دومًا: ماذا ينقص هذه العقول الإجرامية قبل ارتكاب الجريمة، أو أثنائها، أو بعدها؟
إن ما ينقصها هو في جوهره: الوازع الأخلاقي والإنساني. هم يفتقرون إلى البوصلة الداخلية التي تميز بين الصواب والخطأ. ينقصهم التعاطف، فهم لا يرون الضحية كإنسان له كرامة وحياة، بل مجرد أداة لتحقيق رغبة مريضة أو منفعة دنيئة.
ينقصهم الرادع الداخلي، فالضمائر ميتة أو خافتة إلى حد الصفر. وينقصهم الرادع الخارجي، معتقدين أنهم سيفلتون بفعلتهم. غالبًا ما يكون خلف هذه الجرائم اضطرابات نفسية وسلوكية عميقة، تجعلهم غير قادرين على التفكير المنطقي أو التحكم في دوافعهم الشاذة. لديهم تشوه هائل في سلم القيم والأولويات، حيث تصبح حياة الإنسان بلا قيمة تُذكر. إنهم يعيشون في انفصال عن الواقع، يبررون لأنفسهم أبشع الأفعال، ويرون العالم من منظورهم المريض.
شركاء في المواجهة: لمة الحكماءكل هذه المشاهد، وكل هذه القصص، رسمت في ذهني صورة معقدة ومؤلمة للنفس البشرية. صورة تظهر كيف يمكن للشر أن يتسلل إلى أقدس الأماكن، وكيف أن الظلم قد يأتي من أقرب الناس. هذه الحقائق المرة لا نراها وحدنا نحن المحامين، بل يشاركنا في مشاهدتها وكشفها رجال البحث الجنائي الأكفاء الذين يسهرون على كشف الحقائق، وأعضاء النيابة العامة الأجلاء الذين يحققون العدالة، و القضاة الذين يُصدرون الأحكام باسم القانون والضمير.
إنها تذكرنا دائمًا بأن الحقيقة غالبًا ما تكون أغرب وأقسى من الخيال، وأن دورنا جميعًا يتجاوز مجرد تطبيق القانون، ليشمل فهم هذه التعقيدات ومحاولة تحقيق العدالة في عالم قد يبدو في كثير من الأحيان غير عادل وقاسٍ إلى حد لا يطاق. هذا هو حملنا، وهذا هو ألمنا، وهذا هو دورنا في مهنة الحكماء الجبابرة.
اقرأ أيضاًفي غياب الرقابة.. خريجة حقوق تترك المحاماة وتمارس مهنة «طبيب أمراض جلدية» بدمنهور
نقيب المحامين: تعديلات قانون المحاماة السابقة تغلبت فيها المصلحة الشخصية
عاجل.. عدم دستورية المادتين 107 و 116 من قانون المحاماة