رؤية النخب السودانية حول الحراك الثوري والتحولات السياسية
تاريخ النشر: 23rd, December 2024 GMT
يتسم التحليل التاريخي لمسارات الثورة السودانية بجدلية معقدة بين النخب السودانية حول طبيعة الحراك الثوري وما حققه من تغييرات. منصور خالد، في كتابه "حوار مع الصفوة", يعد من أبرز من شخصوا طبيعة الصراع الذي شق طريقه عبر تاريخ السودان الحديث، خاصة في أعقاب ثورة أكتوبر 1964. يرى خالد أن هناك صراعاً دائماً بين القوى الثورية ذات الفكر الأيديولوجي، التي تحمل رؤية حداثية تسعى لتجاوز الأنماط التقليدية، وبين القوى التقليدية المتماسكة بالقيم القديمة، التي تعتمد على قواعدها الاجتماعية في الأرياف وتتشبث بهياكلها المحافظة.
هذا الصراع بين قوى التغيير الحداثي وقوى المحافظة الاجتماعية يتجسد في طبيعة العلاقة مع التحولات الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت دائماً محل تنازع. القوى الثورية، التي تستمد شرعيتها من مشاريعها الفكرية المتأثرة بالإيديولوجيات العالمية مثل الاشتراكية والقومية العربية أو الإسلام السياسي لاحقاً، تجد نفسها في مواجهة القوى التقليدية التي ترتكز على إرث عميق من السلطة الاجتماعية، مستندة إلى الهياكل القبلية والطائفية التي طالما سادت في السودان.
القوى التقليدية لم تكن مجرد بقايا من الماضي، بل استطاعت تطوير نفسها لتتماشى مع متغيرات الحداثة، حيث أدركت أهمية الحفاظ على السلطة من خلال التكيف مع أدوات الدولة الحديثة مثل الأحزاب السياسية والديمقراطية الشكلية. محمد أبو القاسم حاج حمد، في كتاباته الفكرية، أكد أن القوى التقليدية في السودان طورت خطاباً مرناً يخدم مصالحها، مما مكنها من امتصاص ضربات القوى الثورية دون أن تفقد هيمنتها الكاملة على المشهد.
ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985 تجسدان هذا التوتر الحاد بين المشروع الثوري والرؤية التقليدية. ثورة أكتوبر جاءت كنتيجة لتحالف بين القوى الثورية في المدن، خاصة النقابات والطلاب، وبين القوى التقليدية التي استغلت الحراك الشعبي لإعادة إنتاج النظام السياسي وفقاً لرؤيتها. القوى التقليدية لم تتوانَ عن تقديم وعود بالإصلاح، لكنها عملياً عملت على استعادة السيطرة من خلال أطرها السياسية والاجتماعية التقليدية.
فشل القوى الثورية: خطاب خشبي وإقصاء الشارع الثوري
إحدى الإشكاليات الكبرى التي عانت منها القوى الثورية في السودان كانت جمود خطابها الفكري واللغة الخشبية التي سيطرت على طرحها السياسي. بالرغم من الطموح الكبير الذي حملته هذه القوى لإحداث تغيير جذري، إلا أن خطابها غالباً ما كان أسيرًا للتصورات الأيديولوجية الجامدة التي تسعى إلى فرض رؤية الجماعة الفكرية بدلاً من استلهام روح الشارع الثوري.
هذا الخطاب الخشبي، الذي يتسم بالإصرار على عمل الفكر الجماعي الخاص بالنخبة الثورية، أدى إلى عزل القوى الثورية عن الجماهير. في وقت كانت فيه الجماهير تبحث عن خطاب يعبر عن تطلعاتها اليومية واحتياجاتها المباشرة، ظل الخطاب الثوري محصورًا في نقاشات أيديولوجية مجردة لا تجد طريقها إلى الترجمة العملية.
عبد الله علي إبراهيم تناول هذا التناقض، مشيراً إلى أن الثورة ليست مجرد مشروع فكري للنخبة، بل يجب أن تكون فعلًا شعبيًا شاملاً يعبر عن طموحات الجماهير، وليس فقط عن الأطر النظرية للنخبة الثورية. إصرار القوى الثورية على فرض رؤيتها الفكرية الخاصة أدى إلى تجاهل المطالب الحقيقية للشارع، ما أضعف قدرتها على بناء قاعدة جماهيرية واسعة ومستدامة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الإصرار على الطرح الأيديولوجي أدى إلى أزمة ثقة بين القوى الثورية والجماهير، حيث أصبحت الحركة الثورية في كثير من الأحيان تعبر عن مصالح النخبة فقط، بعيدًا عن واقع الشعب. هذا الخلل في التواصل والتفاعل مع الشارع الثوري مكن القوى التقليدية من استغلال الثغرات لصالحها، حيث استطاعت تقديم نفسها كبديل عملي وأكثر ارتباطًا بواقع الناس.
الانعكاسات المستقبلية
اليوم، تواجه القوى الثورية تحديًا حقيقيًا يتمثل في إعادة صياغة خطابها ليكون أكثر تماسكًا مع تطلعات الشارع السوداني. يجب أن يتجاوز الخطاب الأيديولوجي الجامد ليصبح خطابًا شموليًا يعبر عن حاجات الشعب، ويطرح مشاريع نهضوية ملموسة تسهم في تحسين حياة الناس على الأرض.
النجاح في تحقيق هذا التحول يعتمد على قدرة القوى الثورية على التخلص من لغة الخطاب الخشبي، والانتقال إلى خطاب يجمع بين الفكر والعمل، ويعيد ربط الحراك الثوري بجذوره الشعبية. السودان، بتعقيداته الاجتماعية والسياسية، يحتاج إلى قوى ثورية تمتلك رؤية تستند إلى الشارع الثوري، وتتجاوز الانقسامات الفكرية نحو مشروع وطني جامع وشامل.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوى التقلیدیة القوى الثوریة بین القوى خطاب ا
إقرأ أيضاً:
خطان متوازيان ...ويلتقيان
من المرجّح أن يكون أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ التونسي -أو القارئ الأجنبي المطّلع على الشأن المحلي- عند قراءة عنوان هذا المقال؛ هو مرحلة "التوافق" بين حركتي النهضة ونداء تونس بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2014، فهذه المرحلة قد أعقبت حملتين انتخابيتين من لدن الحزبين قامتا على أساس التقابل والتضاد. وقد عبّر عن ذلك المرحوم قائد السبسي عندما قال قُبيل الانتخابات الرئاسي بأنّ "النداء والنهضة عبارة عن خطين متوازيين لا يلتقيان إلا بإذن الله، وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله". فالنهضة عنده ليست "حركة ديمقراطية"، بل هي مجرد "حزب مرخّص له لا غير"، ولكن من حقّها المشاركة في الحياة السياسية. ولذلك لم يكن مطروحا في حملته الانتخابية أي لقاء لاحق مع هذه الحركة.
ورغم أن "التوافق" بين الحركتين بعد الانتخابات قد مثّل لحظة استثنائية في إدارة العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين خارج منطق التنافي والحرب الوجودية، فإن ذلك الالتقاء "التكتيكي" و"المؤقت" ليس هو موضوع مقالنا. فنحن هنا سنحاول الاشتغال على "التقاء استراتيجي" أعمق وأعظم تأثيرا في مسارات "الثورات العربية" ومآلاتها المعلومة، ألا وهو التقاطع الموضوعي بين أغلب النخب "الديمقراطية" وبين التيار الوهابي -بنسختيه "العلمية" و"الجهادية"- في استهداف أي مشروع لبناء مشترك مواطني بعيدا عن وصاية النخب الوظيفية الدينية والعلمانية، ومن يسندها في منظومات الاستعمار الداخلي التي أعقبت الاستقلال الصوري عن القوى الاستعمارية الغربية.
إذا افترضنا وجود خطين متوازيين في عالم الأفكار فإننا سنجد الصورة الصافية لهما في الخطابين الوهابي واللائكي، أي الخطاب العلماني على النمط الفرنسي. فالوهابية تقوم على رفض الديمقراطية والفلسفة السياسية للدولة الحديثة باعتبارها منظومة "كُفرية"، وهي باختزال شديد السردية الأكثر تعبيرا عن الوعي السياسي "ما قبل المواطني"، أو التعبيرة الفكرية الأهم عن "الاستعارة الرعوية" والفقه السلطاني. أمّا الخطابات اللائكية -بصرف النظر عن اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية- فإنها تشترك في مشروع العلمنة الشاملة، على حد تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري، وفي القول "بالاستثناء الإسلامي"، وهي مقولة استشراقية معقّدة لا يهمنا منها في هذا المقام إلا استحالة أن يكون "الإسلامي" ديمقراطيا بحكم مرجعيته الدينية، أي استحالة أن يكون مكونا بنيويا من مكونات ما يُسمى بـ"العائلة الديمقراطية".
بناء على ما تقدم، فإن المنطق يقول بأنّ تقابل التضاد في المستوى النظري بين السرديتين اللائكية والوهابية سيجعل منهما خطين متوازيين في مستوى الواقع، كما أن المنطق ذاته يقول بأن أي سردية إسلامية تكسر النسق الوهابي، وتقبل بالخروج من منطق البديل المطلق للنخب العلمانية والرفض "العقائدي" لفلسفة الدولة الحديثة؛ إلى منطق الشريك للنخب العلمانية والفاعل السياسي "القانوني" تحت سقف الدستور، ستكون محلّ ترحيب -وإن بصورة حذرة- من لدن "الديمقراطيين". فلماذا أنبأنا الواقع بخلاف ذلك؟ أي لماذا كان الالتقاء بين النخب الحداثية و"الإخوان" -باعتبارهم الفاعل الأبرز والأكثر تمثيلا للفئات المتدينة والمحافظة- بعد "الثورات العربية" مؤقتا وهشا، وكان الالتقاء بين "الخطين المتوازيين" -أي الخط العلماني والخط الوهابي- استراتيجيا وصلبا؟
تُمثّل مقولة "الاستثناء الإسلامي" أهم فرضية سردية في كل الخطابات "الحداثية" بمختلف مرجعياتها اليسارية والقومية و"الوطنية". وهي فرضية/مصادرة حكمت تعاطي الأنظمة العربية ونخبها الوظيفية العلمانية مع الحركات الإسلامية منذ نشأتها . فـ"الإسلامي" عموما و"الإخواني" خصوصا هو عند الأغلب الأعم من "الحداثيين" نقيضٌ فكري وموضوعيٌ للفلسفة السياسية للدولة الحديثة، وهو عند النخب الدينية الوظيفية -أي النخب المدجّنة في المؤسسات الرسمية- مرادف للخوارج من دعاة الفتنة وفاسدي العقيدة.
وليس يعنينا هنا أن نتوسع في دور "الأقليات الدينية" المُتعلمنة في ترسيخ هذه الصورة للإسلامي في المشرق، بل يعنينا أن ننبّه إلى دور "الأقليات الأيديولوجية" ومن يقف خلفها في المنظومة "الكلبتوقراطية" (أي منظومة حكم اللصوص الجهوية-الريعية التابعة بنيويا للغرب) في ترسيخ صورة "الخارج المطلق" للإسلامي، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، أي تلك الهوية المرادفة للغيرية الكلية وللخطر الوجودي على الأنا الجمعي كما أعادت هندسته الدولة-الأمة ونخبها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
بصرف النظر عن علاقاتها المشبوهة بالمخابرات الإقليمية والدولية، وبصرف النظر عن كونها قد مثّلت "قاعدة متقدمة" للنظام السعودي وطابورا خامسا قابلا للتوظيف الاستخباراتي قبل الثورات العربية وبعدها، فإن المجاميع الوهابية التي عملت على "توهيب" الثورة التونسية وغيرها عبر خطاباتها/ممارساتها العنيفة قد قدّمت خدمة كبيرة للنخب الوظيفية اللائكية. فالخطاب الرافض للديمقراطية والمضيّق على الحريات الفردية والجماعية والمهدد لحقوق المرأة -رغم تكفيره لحركة النهضة ذاتها- كان ذا فائدة استراتيجية في عملية "تثبيت" جميع الإسلاميين في الصورة النمطية الاستشراقية، وفي "التشكيك" الممنهج في تحول حركة النهضة إلى شريك موثوق في إدارة الانتقال الديمقراطي بعيدا عن مشاريع "أسلمة الدولة" أو أخونتها.
وإذا كان "تكفير" النهضة من لدن المجاميع الوهابية ومهاجمتها من على المنابر -مع ما صاحب ذلك من سوء إدارة نهضوية لملف الإرهاب- قد جعلها تخسر جزءا من قاعدتها الانتخابية المتدينة، فإن ذلك الاستضعاف في المجال الديني قد مهّد الطريق لاستضعاف مواز في المجالات السياسية والمدنية والنقابية وغيرها. وهو أمر يخدم "الخطين المتوازيين" ورعاتهما الإقليميين والدوليين على حد سواء، ذلك أن "التكفير الديني" هو شرط وجود "التكفير المعلمن" وعلة فاعليته السياسية وسبب قدرته على بناء سرديات عنيفة رمزيا وماديا، وهي سرديات تراوحت بين الاستئصال الناعم والاستئصال الصلب، وكان مستقرها إفشال الانتقال الديمقراطي وتفعيل إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021.
إن توظيف القوى اللائكية لمقولة الاستثناء الإسلامي -بصورة ضمنية ولكن ثابتة- في الصراع الهوياتي الذي طبع الانتقال الديمقراطي التونسي؛ لم يكن لينجح إلا بوجود خطاب وهابي يتبنى المقولة ذاتها لكن بمرجعية إسلامية تراثية. فالوهابي يواطئ اللائكي في القول بالاستثناء الإسلامي، أي في استحالة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية. وإذا كان "الحداثي" يحاول احتكار الديمقراطية والوطنية وغيرها من مفردات المعجم السياسي الحديث، فإن الوهابي يحاول احتكار "الإسلام الصحيح" عقيدةً وسلوكا، وهو ما يجعلهما معا عدويين وجوديين لأي خطاب إسلامي متصالح مع الديمقراطية. فهذه المصالحة تهدد هيمنة الوهابية على المجال السني وتجعل من "الإخوان" بديلا مقبولا لدى طائفة واسعة من المتدينين. كما أن هذه المصالحة ستكسر التجانس الأيديولوجي داخل الحقل السياسي وستُشرعن -عبر الإرادة الشعبية- وجود فاعل قوي يهدد امتيازات النخب "الحداثية" وأدوارها داخل أجهزة الدولة وهوامشها الوظيفية.
ولا شك في أن هذه الفرضية (أي نجاح فاعل إسلامي في الاندماج داخل الحقل السياسي القانوني والحكم "مع" العلمانيين بعيدا عن منطق النفي المتبادل ومنطق الانقلاب على الإرادة الشعبية بقيادة الدولة العميقة) هي فرضية خطرة على منظومات الاستعمار الداخلي وورثة سايكس-بيكو، سواء أكانوا من أدعياء "الحداثة" أم كانوا من "ولاة الأمور" الرافضين لأي اشتغال طبيعي للحقل السياسي؛ وما يعنيه من إعادة تفاوض على آليات اشتغال السلطة وتوزيع الثروة.
بعيدا عن البنية الدينية العميقة لقولة المرحوم الباجي قائد السبسي، فإن التقاء الخطين المتوازيين سياسيا -بما في ذلك الالتقاء المؤقت بين النداء وحركة النهضة- ليس معجزة تكسر قوانين علم الاجتماع السياسي، بل هو استراتيجية إقليمية أو دولية يكون الفاعل المحلي فيها مجرد "وكيل" لإرادات تتجاوزه ولكنها ليست إرادات متعالية أو ميتافيزيقية. فـ"التوافق" الذي أعقب إسقاط حكومة الترويكا وتنصيب "حكومة الكفاءات" لم يكن حدثا معجزا، بل كان ضرورة اقتضتها استراتيجية الانقلاب المُمنهج على مهد الربيع العربي. وكذلك شأن الالتقاء بين أغلب اللائكيين التونسيين ومحور الثورات المضادة بقيادة السعودية الوهابية، فهذا الالتقاء الموضوعي هو ضرورة اقتضتها مصالح الإمبريالية في لحظتها المتصهينة.
فنجاح "الإخوان" في بناء تجربة ديمقراطية مع القوى العلمانية سيكون نموذجا ملهما وقابلا للتصدير، بالإضافة إلى أن مشكلة الإمبريالية المتصهينة ليست مع "الإخوان" باعتبارهم تهديدا للكيانات الوظيفية التي تسمى دولا وطنية فقط، بل مشكلتهم أساسا هي أن "الإخوان" يُمثلون تهديدا وجوديا للكيان الصهيوني، سواء أكانوا المكوّن الأساسي في المقاومة الفلسطينية أم كانوا قاعدة شعبية واسعة يمكن تحريكها، أو على الأقل الاستقواء بها أمام الغرب لنصرة المطالب المشروعة للمقاومة. وهو أمر لا يمكن أن تقبل به القوى الإمبريالية، فسارعت إلى الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي ثم إلى تقسيم ليبيا، لتنتهي أخيرا بإنهاء "الفاصلة الديمقراطية" في تونس.
ولكنّ قوة الإمبريالية لم تكن في التدخل في الشؤون المحلية لدول "الربيع العربي"، بل كان أساسا في توظيف "قابلية" الكيانات الوظيفية العربية لذلك التدخل، وعدم وجود أي حصانة فكرية وموضوعية -أي عدم وجود مقومات سيادة حقيقية - تجعل من المحال التقاء الخطين المتوازيين لضرب أي مشروع جماعي هدفه الخروج من وضعية التبعية والتخلف.
x.com/adel_arabi21