أحدث سقوط نظام بشار الأسد في سوريا نوعًا من الصدمة في العديد من دول الشرق الأوسط، إذ سقط النظام سريعًا، كما أحدث هذا السقوط للقوى السورية التي حكمت البلاد لأكثر من نصف قرن، وأحكمت قبضتها الحديدية عليها، نوعًا من التحول الكبير وزلزالًا في التوازن الذي كانت تعيشه من تدعي امتلاك القوى العظمى في المنطقة.

هذا السقوط المفاجئ والسريع له تبعات مهمة تتجاوز الحدود السورية والعربية إلى أبعد من ذلك، وتُعد روسيا واحدة من القوى الكبيرة الأكثر تضررًا من هذه الأحداث. ففي عام 2015 أوشك نظام بشار الأسد على الانهيار، لولا أن أنقذته القوى الروسية بتدخلاتها العسكرية، بدعم من إيران وذراعها حزب الله، وكانت المعارضة السورية متعددة، ومن الأطراف قوى ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية التي كانت تُشكل تهديدًا كبيرًا على نظام الأسد، هذا النظام الذي مكنته روسيا لصد أي مقاومة مسلحة تصدر منه، ومن أي أطراف أخرى معارضة. الانتفاضة الأولى التي صدها نظام الأسد استمرت لعدة سنوات حظيت بدعم من الروس، لذلك زادت ثقة نظام الأسد في تلك الأثناء ليبسط سيطرته على العاصمة السورية والمدن الرئيسية الأخرى، وبشكل خاص المناطق المطلة على السواحل، حيث تمتلك روسيا قاعدتين عسكريتين.

أما الآن، فمن غير المعروف ما هو مستقبل تلك القاعدتين، وقد كانت كل من القاعدة البحرية الروسية في «طرطوس»، ويرجع تاريخ نشأتها إلى الفترة السوفييتية، والقاعدة الجوية في البلدة السورية «حميميم» التي تم إنشاؤها في جنوب شرق اللاذقية خلال عام 2015، بمثابة قوى عسكرية أصيلة روسية تهدف إلى إظهار مدى القوة الروسية العسكرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى أن القاعدتين تهدفان إلى تعزيز مطالبات الكرملين بخصوص وضع القوى العظمى الروسية.

ورغم أهمية القاعدتين الروسيتين في سوريا من دعم النظام، إلا أن سقوط النظام يُعد بمثابة نكسة قوية للقوى الروسية، التي دعمت النظام السوري لعدة سنوات واستثمرت الكثير من الأموال في سبيل تحقيق استمرارية الأسد، واليوم يسقط نظام الأسد الذي يُشكل المستوى السيئ بشكل كبير للقدرات الروسية في مسألة فرض النفوذ وقدرتها على إثبات قوتها أمام العالم. ولو تمكنت روسيا اليوم من التوصل إلى طريق للمفاوضات مع القوى الجديدة التي تحكم سوريا، لتقرر مصير قواعدها العسكرية، لكن ذلك لن يلغي الحقيقة المتمثلة في عدم قدرة موسكو على الانتصار لحليفها بشار الأسد، وهذا ما يكشف بشكل واضح نقاط الضعف المحرجة للقوى الروسية وقدرتها على التصرف في إنقاذ حلفائها، ولن يفيد روسيا مجرد الكلام والادعاء بأنها لا زالت تمثل القوى العظمى. وقد يكون تراجع التأثير الروسي في حماية بشار له عوامل أخرى، مثل غفلة نظام الأسد عن دور الداعمين للقوى المناهضة له، أو الدعم المتوقع من تركيا لهذا الحشد، إلى جانب ذلك واجهت روسيا صعوبات في تعزيز قواعدها في سوريا بالأصول العسكرية، وهذا الأمر يرجع بطبيعة الحال إلى الحرب التي تعيشها روسيا ضد أوكرانيا. كما تم استنزاف القدرات العسكرية لاثنين من أقوى حلفاء بشار، إيران وحزب الله، بسبب موقفهما ضد إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين، كل ذلك فاقم الصعوبات على التأثير الروسي في سوريا، وهذا الأمر يدعو إلى التساؤل «هل أساءت روسيا تقدير الوضع الراهن في سوريا، ولم تنتبه لنقاط الضعف تلك؟».

إلا أن الأمر الأكثر أهمية هو أن ما حل في سوريا يُسلط الضوء على اعتماد روسيا على حلفاء لا يمكنهم رد طلبات موسكو، مثل موقف بشار الأسد، منها مطالبة موسكو بمواقع تُنشئ عليها قواعد عسكرية، فقد منح بشار لروسيا قواعد عسكرية، كما منح إيران وحزب الله العديد من المزايا لتحقيق مزاعمهما في عام 2015.

يبدو أن العنصر الغائب في هذه المعادلة هو الصين، فعلى الرغم من أن بكين ساندت نظام الأسد بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2011، فإن هذا الدعم كان في الغالب دعمًا خطابيًا الهدف الأساسي منه هو منع أي تدخل غربي مدعوم من الأمم المتحدة شبيه بما حدث في ليبيا، والذي أدى إلى سقوط القذافي وإغراق البلاد في الفوضى منذ ذلك الحين. لقد أسفرت زيارة بشار الأسد رفيعة المستوى إلى الصين في سبتمبر 2023 عن اتفاقية شراكة استراتيجية، بدا ذلك كخطوة أخرى نحو إعادة تأهيل النظام السوري، على الأقل من وجهة نظر بكين، لكن عندما اشتدت الأزمة وواجه نظام الأسد تهديد مصيره، لم تحرك الصين ساكنًا لإنقاذه. هذا يثير تساؤلًا مهمًا حول تقدير الصين للنظام السوري والأزمة المتفاقمة هناك، لكن هناك نقطة أوسع تتعلق بالطموحات الروسية كقوة عظمى. رغم كل الحديث عن الشراكة «غير المحدودة» بين موسكو وبكين، لم تفعل الصين في نهاية المطاف شيئًا لإنقاذ روسيا من هزيمة محرجة في سوريا، حيث احتاجت روسيا إلى وجودها العسكري لتعزيز ادعاءاتها بمكانتها كقوة عظمى، وكانت المصالح الصينية في الشرق الأوسط تتركز بشكل أساسي على الفرص الاقتصادية والتهديد المتصور من الإرهاب.

إن موقف روسيا في الشرق الأوسط الآن في خطر، لقد فقدت موسكو حليفًا رئيسيًا وهو بشار الأسد. حلفاؤها الآخرون الرئيسيون، إيران وحزب الله، يعانون من ضعف كبير، أما تركيا، التي لم تكن علاقات الكرملين معها سهلة خلال السنوات الماضية، فقد أصبحت في وضع أقوى، وربما ينطبق ذلك على إسرائيل.

إن هذا الأمر يكشف عن هشاشة الادعاءات الروسية بامتلاك مكانة القوة العظمى. ومن المرجح أيضًا أن يؤدي ذلك إلى مزيد من تراجع هيبة روسيا ومكانتها في أعين شركائها الآخرين مثل الصين أو كوريا الشمالية، أو أعضاء مجموعة البريكس، أو دول الجنوب العالمي التي حاولت روسيا مؤخرًا التقرب منها.

أما بالنسبة لأوكرانيا - التي يمكن القول إنها المصدر الرئيسي لاستنزاف روسيا - فإن العواقب قد تكون متباينة. من ناحية، تُظهر سهولة الإطاحة بالأسد أن روسيا ليست قوة لا تقهر، وأن دعمها للأنظمة الديكتاتورية الوحشية له حدود، ومن ناحية أخرى، لا ينبغي توقع أي شيء سوى مضاعفة روسيا لجهودها في أوكرانيا.

من الواضح أن بوتين بحاجة إلى نجاح يُعيد الثقة به على الصعيدين الداخلي والدولي، ولا بد أن يحقق ذلك في وقت قريب، ففي النهاية فإن دونالد ترامب لا يحب الخاسرين!

ستيفان وولف أستاذ الأمن الدولي في جامعة برمنجهام

عن آسيا تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القوى العظمى نظام الأسد بشار الأسد فی سوریا

إقرأ أيضاً:

الحرب الروسية الأوكرانية: كتاب لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات يفوز بجائزة ثقافية لعام 2025

فاز كتاب “الحرب الروسية الأوكرانية: عودة الصراعات الكبرى بين القوى الدولية” الصادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة – أبوظبي، بجائزة الدولة التشجيعية في مصر لعام 2025، باعتباره من أفضل الأعمال الثقافية التي ترشحت للجائزة في فرع العلوم القانونية والاقتصادية.

وجائزة الدولة التشجيعية هي جائزة تمنحها وزارة الثقافة المصرية للمبدعين والباحثين في مجالات الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وتُعد واحدة من أرفع الجوائز المصرية لتشجيع الثقافة، من بين أربع جوائز مصرية لتشجيع الثقافة والفنون، تضم جائزة النيل، وجائزة الدولة التقديرية، وجائزة التفوق، وجائزة الدولة التشجيعية، وتمنح سنوياً لأفضل الأعمال في مجالات الآداب والثقافة، وتضم ثماني جوائز للآداب، ثماني جوائز للفنون، ثماني جوائز للعلوم الاجتماعية، ثماني جوائز للعلوم القانونية والاقتصادية، ويقام حفل سنوي لمنح الجوائز كتقليد لتعزيز الثقافة والفنون والآداب.

 

ويُعد كتاب “الحرب الروسية الأوكرانية: عودة الصراعات الكبرى بين القوى الدولية” الصادر عن مركز المستقبل عملاً متميزاً استناداً إلى تقييم لجنة منح الجائزة، فالكتاب الذي شارك فيه عدد من الخبراء والباحثين، وصدر بعد اندلاع الحرب بفترة، ما زال رغم مرور ما يزيد على ثلاث سنوات من اندلاع الحرب يضم تحليلات وسيناريوهات كانت استباقية واستشرافية في توقع مسارات الحرب ومآلاتها.

 

أعد الكتاب مجموعة من المؤلفين، وقام بتحريره أحمد عاطف، رئيس التحرير التنفيذي للموقع الإلكتروني للمركز، وصدر ضمن سلسلة “كتب المستقبل”، ويُعد من أوائل الإصدارات في مراكز الفكر العربية التي تناقش وتحلل الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك بتسليط الضوء على الأبعاد المختلفة لهذه الحرب؛ من حيث رصد ومتابعة تطوراتها، وتفسير أدوار الأطراف الفاعلة فيها، واستعراض التأثيرات المتنوعة والممتدة لها.

ويتكون الكتاب من خمسة فصول رئيسية؛ حيث يأتي الفصل الأول بعنوان “كييف روس.. الجذور التاريخية للأزمة الراهنة”، ويسعى فيه عدنان موسى، المعيد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، لشرح جذور الأزمة الأوكرانية، وفي الفصل الثاني المعنون “اللعبة الكبرى.. الفاعلون الأساسيون في مسار الحرب الأوكرانية”، تناول حسام إبراهيم، المدير التنفيذي لمركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”، أسباب اندلاع الحرب، والمواقف الغربية تجاهها، واستراتيجية روسيا في هذه الحرب وردود فعلها على العقوبات المفروضة عليها، فضلاً عن متابعة وتقييم التطورات الميدانية والمسارات العسكرية في الحرب. وتحت عنوان “إعادة تشكل.. تأثيرات الحرب على توازنات القوى الدولية”، جاء الفصل الثالث الذي أعدته الدكتورة رغدة البهي، مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة. ويبدأ الفصل بإطار نظري عن نظرية “توازن القوى”، مروراً بتوضيح طبيعة توازن القوى الدولي قبل الحرب الأوكرانية، ثم تداعيات الحرب عليه، وصولاً إلى الحديث عن مستقبل توازن القوى الدولي في ضوء سيناريوهات الحرب الحالية ومحددات أخرى مثل الأزمة بين الصين وتايوان.

وجاء الفصل الرابع بعنوان “صراع جيواقتصادي.. ملامح تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد”، ويتطرق خلاله الدكتور مدحت نافع، الأكاديمي والخبير الاقتصادي، إلى اتجاهات الصراع الجيواقتصادي العالمي في ظل الحرب الأوكرانية، وذلك انطلاقاً من التطورات التي شهدها النظام الاقتصادي العالمي خلال السنوات الأخيرة. وأخيراً، يأتي الفصل الخامس المعنون “امتدادات إقليمية.. تداعيات الحرب الأوكرانية على الشرق الأوسط”؛ حيث يستعرض فيه محمود حسين قاسم، نائب رئيس تحرير دورية اتجاهات آسيوية في مركز المستقبل، تأثيرات الحرب على المنطقة؛ سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، وكيفية تعامل بعض الدول، لا سيما دول الخليج وتركيا وإيران وإسرائيل، مع هذه الحرب، سواء من حيث الفرص أم القيود.

وتُعد سلسلة “كتب المستقبل” من أبرز منتجات مركز المستقبل، وصدر من خلال هذه السلسلة العديد من الكتب التي تتناول القضايا والموضوعات الاستراتيجية في مختلف المجالات السياسية، والأمنية والعسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والمجتمعية، وغيرها.


مقالات مشابهة

  • لأول مرة منذ سقوط الأسد.. الشيباني إلى موسكو
  • الحرب الروسية الأوكرانية: كتاب لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات يفوز بجائزة ثقافية لعام 2025
  • ترامب يُمهل بوتين 12 يومًا لإنهاء الحرب .. فهل ترد روسيا العظمى بقصف واشنطن؟ مدفيديف: لسنا (إسرائيل أو إيران)
  • سوريا وإيران.. الكرملين يكشف تفاصيل مكالمة بوتين ونتنياهو
  • بعد إسقاط الحصانة: فرنسا تطلب مذكرة توقيف جديدة بحق بشار الأسد
  • أول دولة أوروبية تصدر مذكرة توقيف دولية جديدة بحق الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
  • لهجوم 2013 الكيميائي.. طلب إصدار مذكرة توقيف بحق بشار الأسد في فرنسا
  • النيابة العامة الفرنسية تطلب إصدار مذكرة توقيف جديدة بحق بشار الأسد
  • سوريا تستعد لأول انتخابات برلمانية منذ سقوط الأسد
  • سبتمبر.. موعد أول انتخابات برلمانية في سوريا منذ سقوط الأسد والشرع سيعيّن ثلث المقاعد