د. الهادي عبدالله أبوضفائر

في قريةٍ نائية يلفُّها الغبار وتمتلئ قلوب أهلها بالأمل، عاش الشابٌ عمار، أطلق عليه لقب البطل المنتظر. رأوا فيه قوةً لا تقهر، ورمزاً للصمود والنصر الذي طالما حلموا به في حلبة المصارعة ضد القرية المجاورة. كان عمار بالنسبة لهم صورةً مصغرة لطموحاتهم وآمالهم المدفونة في رمال الانتظار منذ أمد بعيد.

ولأن البطل لا يُترك للمصير وحده، قرروا أن يُحيطوه بكل أشكال الدعم. عزلوا عمار عن العالم في منزلٍ فخم، قدّموا له أفضل الطعام وأغنى الشراب، ووهبوه الراحة التي اعتقدوا أنها تُصنع منها الأسطورة. أربعون يوماً قضاها عمار، حاملاً أحلام قريته.

في اليوم الموعود، اكتست القرية حلة العيد، وارتفعت الزغاريد من كل بيت، بينما هتافات الشباب شقت عنان السماء، تحمل معها أصداء الفخر والترقب. كان كل شيء في ذلك الصباح ينضح بالحماس، وكأن القرية بأكملها تعيش لحظة ميلاد جديدة. عمار، الفارس المنتظر، دخل الحلبة وسط أمواج من التهليل والهتافات، مُحملاً بأثقال الأماني وأحلام النصر التي نسجها أهل قريته حوله. المشهد بدا وكأنه صفحة مقتبسة من ملحمة كروية عظيمة، أشبه بنهائي برشلونة وريال مدريد في دوري أبطال أوروبا، حيث كل الأنظار معلقة بالبطل الذي يجسد الخلاص ويرفع راية الكرامة. بدأ عمار بعروضه البهلوانية الساحرة، وكأن الريح صديقته، تدفعه بخفةٍ تعانق السماء. كان جسده لوحةً متحركة من الانسيابية والإبهار، أدهش بها كل من حضر، وأشعل في القلوب نار الحماس. في كل قفزةٍ، كان عمار يعزف سيمفونية من الشجاعة، أشبه برقصة انتصارٍ جاءت قبل أوانها، وكل حركة كانت شرارة فخر أشعلت الهتافات في أرجاء القرية، حتى خُيِّل للجميع أن النصر قد صار في قبضتهم. بينما تابع أهل القرية المنافسة المشهد بقلوبٍ وجلة، مرتعدة كأنهم أمام إعصارٍ قادم، يهدد باجتياح كل شيء. لقد كان عمار رمزًا للقوة المتجسدة، والبريق الذي غمر القلوب بأملٍ يتجاوز حدود الواقع، لكن الحلبة لم تكن بعد قد نطقت بحكمها الأخير.

على الطرف الآخر من الحلبة، وقف خصم عمار، هادئاً كجبلٍ شامخ، لا تهزه الحماسة ولا يزعزعه الصخب. عيناه تشعان بثباتٍ عميق، يراقب عمار بصمت، كصيادٍ محنك يعرف أن لحظة البداية هي الخط الفاصل بين الزهو والانتصار. كان الهدوء الذي يكتنفه يشبه صفحة ماء ساكنة تخفي في أعماقها تياراً جارفاً، ينتظر اللحظة المناسبة ليندفع بقوة لا تُرد. عند صافرة البداية، انطلق عمار كبرقٍ خاطف، قافزاً بحركة بهلوانية أذهلت الحضور وأثارت صيحات الفخر في قريته. ثم سدد ضربةً قويةً نحو خصمه، ارتفعت معها الهتافات وكأن النصر قد تحقق قبل أوانه. في تلك اللحظة، بدا وكأن الحكم على وشك إعلان انتصارٍ مستعجل لعمار، لكن الخصم، بثباتٍ لا يلين، تحمل الضربة الأولى، متحملاً نظرات الاستخفاف التي ألقتها عليه أعين المشاهدين.

تحمل الخصم الضربة القوية، ثابتاً كجدارٍ عتيق، هامساً في هدوء: (الضربة الما كتلتك تقويك). وفي لحظةٍ استدار الخصم بخفةٍ مفاجئة، ليباغت عمار بضربةٍ قاضية. كانت أشبه بقدرٍ لا يُخطئ، أسقطه أرضاً، ودفنت وجهه في الرمال. ساد المكان هدوءٌ ثقيل، اختلط فيه الذهول بالحيرة، وكأن الزمن توقف ليرسم لوحة سقوط البطل. لكن سرعان ما انكسر هذا الصمت بصيحات الجماهير التي انفجرت من كل زاوية: يا عمار، قُم! ارفع رأسنا يا عمار، قُم! ارفع رأسنا!” ارتج جسد عمار بندائهم المُلح، وكأنه ينفض عن نفسه غبار السقوط. نهض مرة أخرى، متشبثاً بما تبقى له من قوة، وعاد إلى استعراض حركاته البهلوانية، وكأنها كانت وسيلته الوحيدة ليبقي شعلة الأمل متقدة. لكن خصمه، ظلٍ لا يخطئ طريقه، باغته بضربةٍ أخرى، أسقطه مجدداً، ليغوص رأسه عميقاً في الرمال. ومع ذلك، لم تسكت الهتافات: “يا عمار، قُم! ارفع رأسنا!” رفع عمار رأسه بخلسة، عيناه مثقلتان بالحقيقة. تمتم بصوتٍ خافت: (هو أنا قادر نرفع رأسي عشان نرفع رأسكم؟ بحزن وحسرة أنتم من جعلتم مني بطلاً من الرمال، ولكن الرمال لا تُبني عليها القلاع). وعندها، انهارت الأوهام تحت ثقل الواقع. كانت أشبه بانكشاف الحقيقة بعد طول خداع، حين يتلاشى البريق الزائف أمام صلابة الواقع، ويترك خلفه خيبةً تتردد أصداؤها في أعماق القلوب.المعركة الحقيقية لا تكسبها الشعارات والهتافات. كذلك الحركات البهلوانية لا تكسر خصماً عنيداً، فالمليشيات، مهما تزينت باستعراضات القوة، لا تستطيع أن تهزم جيشاً متماسكًا، ينبض بروح الوطن، ويستمد قوته من إرادة الشعب وصلابة إيمانه بالمصير.

هذه الأيام، تُشرق في أذهاننا صور الأبطال الخالدين، الذين جعلوا من أرواحهم جسوراً تعبر عليها الأجيال نحو وطنٍ حرٍ، آمنوا به حد الفداء، وأحبوه حتى أصبح عشقهم له جزءاً لا يتجزأ من نبضهم. نستحضرهم اليوم كنجومٍ لا تنطفئ، وكأعمدةٍ شامخة تتحدى الزمن وتتصدى لأعتى العواصف. لقد رسموا بدمائهم الطاهرة حدود الكرامة، وكتبوا ببطولاتهم فصولاً خالدة عن الحرية التي لا تُشترى، والسيادة التي لا تُساوم. كانت كل قطرةٍ دمٍ تسيل منهم تُنبت زهرة أمل في تربة الوطن، وكل خطوةٍ خطوها نحو التضحية كانت حجر أساسٍ يُضاف إلى بنيان الشموخ والعزة. زرعوا في الأرض معاني الصمود والإباء، لتبقى تضحياتهم شهادةً خالدة على إرادتهم الراسخة، وحبهم العميق الذي لا يعرف حدوداً ولا يهاب العواصف. لقد أثبتوا أن حب الوطن هو البذرة التي تُزهر في قلب الخراب، وتُعيد للوطن ملامحه النبيلة حتى في أقسى الظروف. أما الخونة، مهما تسللوا بين الصفوف، فإن زيفهم لا يطول. سرعان ما ينكشفون كظلالٍ باهتة لا حياة فيها. فالتاريخ لا يحتفي إلا بمن صدقوا حبهم لوطنهم، ومن بقيت أقدامهم ثابتة رغم الزلازل. هؤلاء فقط هم من يبقون، واقفين كحراسٍ للكرامة، رافعين راية الحياة رغم اشتداد الظلمة، لأنهم آمنوا بأن الوطن يستحق كل شيء، وأن الحب الصادق هو الذي يُخلد في ذاكرة الشعوب.

أيها الأبطال، يا من اختزلتم الحياة في لحظة صدقٍ أبدية، وأبحرتم نحو الموت وكأنكم تعانقون الخلود ذاته، تحملون على أكتافكم أثقال الأحلام، وتسيرون إلى نهايتكم كما يسير العاشق نحو فجرٍ لا غروب له. لم تكن أرواحكم مجرّد أنفاسٍ عابرة، بل كانت مشاعل تضيء دروب الحرية، تشتعل لتبدد عتمة الخضوع، وتجعل من دمائكم الغالية مداداً يكتب به التاريخ أعظم صفحات الكرامة. قدمتم شبابكم قرباناً لحلمٍ يسكن أعماقكم، حلم وطنٍ ينبض بالكرامة والعزة. دماؤكم لم تكن مجرد قطراتٍ تُراق، بل كانت نهراً طاهراً اجتاح كل زيفٍ وخيانة، طهّر الأرض من شوائب الخنوع، وغرس بذور العزة التي ستنمو أبد الدهر. أنتم من علمتم العالم أن الخلود لا يُمنح للعابرين، بل يُكتب باسم من جعلوا من أرواحهم جسوراً تمضي عليها الأوطان نحو العلا. أرواحكم لم تذهب سُدى، فهي تسكن السماء نجوماً، تشهد على عظمة العطاء، وتبقى نبراساً لكل من سار على دربكم، وكل من آمن أن الأوطان تُبنى بالحب والتضحية، وأن الخلود ميراث الأوفياء، أولئك الذين آمنوا أن الوطن يستحق كل شيء.

abudafair@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: کل شیء

إقرأ أيضاً:

وضع شعار القرية العالمية الخاص بالموسم الـ 30 على التأشيرات الصادرة من إقامة دبي

أعلنت الإدارة العامة للهوية وشؤون الأجانب في دبي، بالتعاون مع القرية العالمية، عن وضع شعار القرية العالمية الخاص بالموسم الـ 30 على جميع التأشيرات الصادرة من إمارة دبي، إلى جانب اعتماد ختم خاص يحمل شعار القرية العالمية على جوازات القادمين إلى الدولة، احتفاءً بالذكرى الثلاثين لانطلاق القرية.

جاء ذلك خلال لقاء الفريق محمد أحمد المري، المدير العام للإدارة العامة للهوية وشؤون الأجانب بدبي، مع زينة داغر، نائب الرئيس الأول للعمليات في دبي القابضة للترفيه - القرية العالمية، وسارة المهيري، مدير إدارة التسويق والفعاليات.

كما أعلنت الجهتان أن الدخول إلى القرية العالمية سيكون مجانياً لحاملي جوازات السفر التي تحمل ختم القرية العالمية الخاص بالموسم الـ 30، وذلك لمدة عشرة أيام من تاريخ افتتاح القرية في 15 أكتوبر الحالي، على أن يكون الختم بجانب ختم الدخول ليستفيد حامله من هذه الميزة لمرة واحدة فقط.

وتُجسّد هذه الخطوة التكامل المؤسسي بين الجهات الحكومية وشركائها في القطاعين العام والخاص، بما يعكس حرص دبي على إبراز مبادراتها التي تحتفي بالتنوّع الثقافي وتُعزّز مكانتها كجسر للتواصل الحضاري بين شعوب العالم.

أخبار ذات صلة مكتوم بن محمد يعتمد استراتيجية القطاع المالي في دبي محمد بن راشد: شكراً مكتوم بن محمد.. معكم نطمئن على مستقبل اقتصادنا الوطني

وتهدف المبادرة إلى تعريف ملايين المسافرين القادمين إلى دبي بهذا المعلم الذي يجمع ثقافات العالم في تجربة واحدة، ويجسّد القيم التي تقوم عليها هوية الإمارة: الانفتاح، والتسامح، والإنسانية.

وتأتي المبادرة في إطار حرص إقامة دبي على دعم الفعاليات الوطنية والمشاريع التي تُبرز الوجه المشرق للإمارة، وتُعزّز تجربة الزوّار من لحظة وصولهم إلى منافذها، بما ينسجم مع مستهدفات رؤية دبي 2033 واستراتيجيتها في تعزيز مكانتها كوجهة عالمية نابضة بالحياة تجمع بين الثقافة والابتكار وجودة الحياة.

وتُعدّ القرية العالمية واحدة من أبرز الوجهات السياحية والثقافية في دبي، حيث تستقطب ملايين الزوّار سنوياً من مختلف أنحاء العالم، وتقدّم تجربة فريدة تجمع بين أجنحة الدول، والعروض الفنية، والأنشطة الترفيهية التي تحتفي بالتنوّع الثقافي في أبهى صوره.

المصدر: وام

مقالات مشابهة

  • الملك عبد الله الثاني صوت الحقيقة التي هزمت أكاذيب نتنياهو وحكومتة المتطرفة .
  • الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي..رجل الدولة الذي سبق عصره
  • إبراهيم رضا: من لم يشكر القيادة التي حفظت الوطن لم يشكر الله
  • «القرية العالمية» ترحّب بضيوفها من أنحاء العالم اعتباراً من غدٍ الأربعاء
  • المستشارة أمل عمار تلقى كلمة مصر في فعاليات القمة العالمية للمرأة 2025 في الصين
  • نقل عجمان تعيد تشغيل خط القرية العالمية
  • بوست خاص لمنسوبي الحركات المسلحة ⛔⛔
  • ماجستير عن توظيف التراث في بعض روايات عمار علي حسن
  • حين تصطدم مصالح أميركا بدولة الاحتلال: الأولوية للأولى
  • وضع شعار القرية العالمية الخاص بالموسم الـ 30 على التأشيرات الصادرة من إقامة دبي