براكاش لونغاني -
يركز الاقتصاد الكلي، حسب تعريفه، على الصورة الكبيرة؛ ويتجاهل التطورات الجزئية الأصغر على مستوى الشركات أو القطاعات، وفي عام 2007، أشار إدوارد ليمر، أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، إلى التكلفة الباهظة لهذا التجاهل، موضحا عدم جدوى السعي لفهم الدورات الاقتصادية دون الالتفات إلى قطاع العقارات.
وحسبما أشار في دراسته التي اشتهرت حاليا “Housing IS the Business Cycle”، فإن سوق الإسكان ذات أهمية بالغة لفهم أسباب حالات الانتعاش والكساد التي تشهدها الاقتصادات. كما أشار إلى أن جميع حالات الركود تقريبا في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية سبقتها مشكلات في قطاع الإسكان. وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أنه من الأفضل للاقتصاد الكلي أن يبني روابط مع اقتصاد الإسكان بدلا من الانفصال عنه بجدار عازل.
وعلى كلٍ، يتضح تأثير الإسكان على الاقتصاد الكلي في كل مكان. فالمدن من أكثر الأماكن إنتاجية في العالم، وتزخر بالإبداع والأفكار المبتكرة، وهي محرك التوسع الاقتصادي. غير أن تكلفة السكن في العديد من المدن باهظة على نحوٍ مُعجِز، حتى بالنسبة لأصحاب المهن مرتفعة الأجر نسبيا، ناهيك عن العمالة الأساسية منخفضة الأجر التي تحافظ على أمان المدن ونظافتها وسلاسة العمليات اللازمة لتسيير شؤونها. والعديد من هؤلاء العاملين – مثل رجال الشرطة والمعلمين والممرضين وسائقي خدمات توصيل الطلبات – يتعين عليهم الذهاب إلى العمل، ولا يمكنهم الاستفادة من التحول إلى نموذج العمل من بُعد للعثور على أماكن أقل تكلفة للعيش وتكوين أسرة.
وفي بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، ومعظمها من البلدان الغنية، ارتفعت أسعار المساكن بحوالي 40% بالقيمة الحقيقية خلال العقد السابق، في حين ارتفعت تكلفة المنازل في الولايات المتحدة بنحو 50%. وكان الطلب على الإسكان قويا للغاية في السنوات الأخيرة، مدفوعا بزيادة السكان والدخل. وفي الوقت نفسه، لم يواكب عرض المساكن مستويات الطلب، وهو ما يُعزى جزئيا إلى القوانين المنظمة لاستخدام الأراضي (مثل منع الأحياء ذات المنازل المستقلة التي تسكنها أسرة واحدة من السماح ببناء المساكن متعددة الأسر) التي تضع شروطا لعدد الوحدات السكنية التي يمكن بناؤها على أرض ما. ويهدد ذلك بتفاقم عدم المساواة بين الأجيال، إلى جانب تداعيات أخرى: 60% من الأفراد في الفئة العمرية 18-29 أعربوا عن قلق طفيف أو بالغ حيال إمكانية الحصول على مسكن يلبي احتياجاتهم. والقدرة على تحمل تكلفة السكن من المخاوف المتنامية لدى الشركات أيضا، حيث تضطرها على حد قولها إلى رفع الأجور وكذلك رفع تكلفة العمالة في ميزانياتها.
والمشكلة لا تقتصر على العالم الغني فقط. فهناك ندرة في الإسكان الاقتصادي في أكثر البلدان فقرا على وجه الخصوص. ففي كولومبيا على سبيل المثال، يدفع 82% من المستأجرين في شريحة الدخل الخُميسية الدنيا ما يزيد على 40% من دخولهم للملاك، وفقا لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي.
وارتفاع أسعار المساكن والإيجارات يضطر الأفراد إلى تحمُّل ديون ضخمة. ومن شأن اقتراض الأسر أن يعزز النمو الاقتصادي في الأجل القصير، ولكنه يفرض تكلفة بالغة لاحقا، حيث يتراجع إنفاق المستهلكين لسداد أقساطهم، ويتباطأ الاقتصاد، وترتفع البطالة، كما أوضح صندوق النقد الدولي. وفي الصين على سبيل المثال، كان لهبوط قطاع الإسكان تداعيات هائلة على الاستهلاك. ويتفاقم الأمر مع وقوع صدمة اقتصادية مفاجئة – مثل انهيار أسعار المساكن- يمكن أن تؤدي إلى دوامة من حالات التعثر الائتماني التي تزعزع استقرار النظام المالي.
ولو كانت هناك روابط بين الاقتصاد الكلي والاقتصاد العقاري، لربما استطعنا التوصل إلى توقعات أكثر دقة بشأن تطورات الأزمة المالية العالمية خلال 2008-2009. ولربما استطعنا أيضا أن نفهم عن قرب معضلات السياسات في الآونة الأخيرة، كما توضح المقالات التي يعرضها غلاف هذا العدد.
وخلال العام الجاري، واجه خبراء الاقتصاد الكلي تحديين أساسيين. الأول، فهم مصادر ارتفاع التضخم خلال الفترة 2021-2022 ومدته المحتملة. والثاني، النظر في كيفية تحقيق «هبوط هادئ» من خلال إبطاء الاقتصاد لكبح التضخم دون التسبب في حالة من الركود. وكان بمقدور خبراء الاقتصاد الكلي التعامل بشكل أفضل مع هاتين القضيتين الأساسيتين على جانب السياسات لو كانوا على دراية أكبر بتطورات أسواق العقارات.
والارتفاع المزمن في معدلات التضخم في الولايات المتحدة كان انعكاسا لمزيج معقد ومتغير من عوامل العرض والطلب. غير أن دور الإسكان كان مفاجئا، واندفع كبار خبراء الاقتصاد الكلي من فورهم لفهم تأثير أسعار وإيجارات المساكن على مقاييس تكلفة المعيشة عن قرب. وقد ساهم ارتفاع تكلفة قروض الإسكان بالفعل في حالة التشاؤم المربكة التي تتضح في شعور المستهلكين حيال الأوضاع الاقتصادية، وأدى إلى مخاوف عديدة في دوائر الاقتصاديين الذين عزموا على تفسير حالة الانفصال عن مؤشر أسعار المستهلكين.
وقد واجهت البنوك المركزية تحديات في فهم تأثير زيادات أسعار الفائدة التي عكفت على تصميمها لكبح التضخم على قطاع الإسكان والاقتصاد ككل. والمهمة ليست سهلة. فالقنوات التي تؤثر من خلالها أسعار الفائدة على أسواق الإسكان معقدة وتتغير مع الوقت – كما تتطلب دراسة أسواق الإسكان بناء على دراية عميقة يندر توافرها في كتب الاقتصاد الكلي، كما أشار ليمر منذ عشرين عاما تقريبا حينما أبدى أسفه على إخفاقه في العثور على كتاب واحد يولي قطاع العقارات «الأهمية التي يستحقها».
ومن القنوات التي نرى لها دورا في تأثير أسعار الفائدة على قطاع الإسكان هي انتشار القروض العقارية ذات الفائدة الثابتة، حيث تصل نسبتها إلى صفر تقريبا في جنوب إفريقيا وتتجاوز 95% في المكسيك والولايات المتحدة. ومن العوامل الأخرى المؤثرة على فعالية السياسة النقدية حجم ديون أصحاب المساكن، وقيود العرض، ومدى ارتفاع أسعار المساكن والمغالاة المحتملة في التقييم، وجميعها من المؤشرات التي ينطوي قياسها على صعوبة بالغة.
وعلاوة على هذه الأمور التي تجعل الصورة معقدة بالفعل، فإن قوة هذه القنوات تتغير مع الوقت. فعلى سبيل المثال، ارتفع مؤخرا نصيب القروض العقارية ذات الفائدة الثابتة في العديد من البلدان. وتتفاوت كذلك إمكانية إعادة التمويل عبر الاقتصادات ومع الوقت. ومن ثم فإن معايرة السياسة النقدية تتطلب فهما عميقا لخصوصية قطاع الإسكان وأسواق الإسكان في كل بلد على حدة.
ويعد الغذاء والملبس والمسكن من الاحتياجات البشرية الأساسية. وبالفعل، فقد أقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 وغيره من المعاهدات الدولية المماثلة الحق في الحصول على سكن ملائم. ويعد القضاء على الجوع من أهم ركائز أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة (هدف التنمية المستدامة الثاني هو القضاء التام على الجوع). وحينما ترتفع أسعار الغذاء، تسارع وكالات الأمم المتحدة مثل برنامج الأغذية العالمي بالتحرك، كما يطلق صندوق النقد الدولي بدوره برامج إقراضية جديدة لمساعدة الشعوب والبلدان على مواجهة آثار صدمات أسعار الغذاء. أما المأوى فهو الجانب المهمش، فالإسكان يذكر بالكاد ضمن أهداف التنمية المستدامة. وذلك رغم أن القدرة على تحمل تكلفة السكن من المشكلات الشائعة التي تؤثر على العديد من اقتصادات العالم الكبرى، إن لم يكن على معظمها. ولا عجب إذن أن الإسكان برز بوصفه من القضايا الرئيسية في عدد من السباقات الانتخابية القومية والمحلية.
براكاش لونغاني مدير برنامج الماجستير في الاقتصاد التطبيقي بجامعة جونز هوبكنز
المصدر: صندوق النقد الدولي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاقتصاد الکلی أسعار المساکن قطاع الإسکان
إقرأ أيضاً:
إعادة تعريف المساكن في العصر الحديث
فرانشيسكو سبانيدا / ماتيو كارمين فوسارو
ترجمة- أحمد القرملاوي
تُعَد المساكن من أهم العناصر المكونة للمُدن، إذ تحدد ملامح البيئة العمرانية الواسعة، وفي الوقت نفسه تُقسِّمها لفضاءات أصغر ذات أوجُه عديدة تُهيئ حياة الأسرة أو جماعة الأفراد. والواقع أن توظيف المساحات داخل المنزل يعكس الكيفية التي يتفاعل بها السكان فيما بينهم وكذلك مع العالم الخارجي. وعلى الرغم من التحولات الاجتماعية التي شهدتها العقود الأخيرة، فقد ظل توظيف المساحات محكومًا بالأنماط التي تأسست في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين تسببت الثورة الصناعية الثانية في تحولات كبرى في مناحي الحياة اليومية، من تنظيم العمل لتوزيع السكان والثروة، ومعايير الصحة وتقنيات البناء، وصولًا لعادات الأفراد.
وبدلًا من طرح أنماط جديدة، تقدِّم السوق العقارية تحسينات تقنية تُلبي حاجة المجتمع العصري، مثل الاستجابة للتخوفات البيئية بتوفير تقنيات منزلية موفرة للطاقة، أو للضغوط الاقتصادية بابتكار أنظمة بناء منخفضة التكاليف. لكن، مثلما أوجد التحول لعصر الصناعة طرقًا جديدة لتصوُّر الإسكان، فإن السؤال يطرح نفسه حول حاجتنا اليوم لتغييرات جذرية في طريقة توظيف المساحات لا تطوير التقنيات.
ينطلق هذا المقال من أطروحة كاستيلز التي تقول: إن كل التغيرات الاجتماعية الكبرى تتمثل في تحولات زمانية ومكانية في التجربة الإنسانية، كما يستكشف التحولات الواقعة والمحتمَلة في بِنية المنازل التي أشعل فتيلها التحول من نمط الإنتاج الصناعي لنمط الإنتاج المعرفي.
كما يستند إلى أطروحة وورك القائلة إن تغيُّر وسائل الإنتاج يدفع بطبقات اجتماعية جديدة، ما يجعلنا نتوقع أن الانتقال من النموذج النفطي للثورة الصناعية إلى النموذج الرقمي الراهن، لا بد وأن يؤثِّر على المجتمع المعاصر وعلى طبيعة المنازل، فتاريخ الإسكان يكشف كيف تطور التراتُب الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع أنماط الإسكان، ما أنتج طرائق متنوعة للعيش داخل المدن والمنازل.
ومثلما جاء الإسكان الحديث كاستجابةٍ لحاجات الطبقة العاملة الصناعية، فلا بد أن يتطور الإسكان المعاصر مع صعود فئات جديدة من العاملين في الاقتصاد الرقمي.
الإسكان في الثورة الصناعية الثانية
مع بداية الثورة الصناعية الثانية، بدأ التصميم المعماري في مواكبة أزمة الإسكان التي اجتاحت أوروبا، إذ نتج عن تغيُّر أساليب الإنتاج قطيعة مع الماضي، فتوافُر الوقود سمح بإنشاء المصانع بعيدًا عن مصبات المياه ومناطق الرياح، كما لم تعد أوقات العمل مرتبطة بالمواسم وتوافر الموارد الطبيعية. تحول الفلاحون لقوى عاملة بالصناعة، واضطروا لترك الريف والانتقال قريبًا من المصانع، ما نتج عنه تغيُّر في علاقة البشر بالأماكن مهَّد الطريق لتحوُّلات ثقافية وسلوكية عميقة.
انعكست هذه التحولات مباشرة على العمارة والتخطيط العمراني، فظهرت «المتروبوليس» الحديثة بدلًا من مدن القرن التاسع عشر، وأهم خصائصها هو الفصل بين العمل والحياة، بالمقارنة بالنموذج الأسبق حيث كان المسكن يضم مساحات مخصصة للعمل والحياة العائلية دون فصل واضح بين هذه المساحات، كما هو الحال في الورش والمزارع.
قطع ظهور المصانع ذلك الاتصال العضوي، فلم يعُد العمل جزءًا من أنشطة البيت، بل خُصص له مساحات ملائمة في المصانع والمكاتب، وكذلك أوقات منفصلة وفقًا لما يتطلَّبه تنظيم جهود العمال الذين يعيشون في أماكن مختلفة. صار المسكن جزءًا من البنية التحتية الحضرية، لا رمزًا للروابط العائلية، فاحتلَّ مكانةً شبيهة بالآلة الإنتاجية، وبرزت ضرورة تحديد مواصفات هذا المنتج وإنتاجه على نطاق واسع.
من هنا برزت استراتيجيتان معماريتان: الأولى متأثرة بـ«التايلورية»، وتسعى لتنظيم المسكن بالمنطق نفسه الذي تُنظَّم به خطوط الإنتاج: ترتيب المساحات في خطوط مستقيمة والفصل بينها وِفقًا لوظائفها، واختزال الممرات للحد الأدنى. أما الثانية فدعت إلى المرونة عبر إنتاج مساحات مستقلة قابلة للتشكيل، وتحويل المسكن -وبالتالي المدينة- لامتداد لفكرة المصنع ذاتها.
وبما أن المسكن بطبيعته فضاءٌ مفتوح على العالم الخارجي، يُطل على الفضاء الخارجي ويختزن الذكريات ويستضيف الأصدقاء وحتى الغرباء، فإن هذه الإمكانات تعود إلى الصدارة في العصر الرقمي، حيث يتحول المسكن لمركز في شبكة الحياة الحديثة المعقدة.
العودة إلى المنزل
في تسعينيات القرن العشرين، بدأت تكنولوجيا المعلومات في المساهمة على نحو واسع في زيادة إنتاجية الصناعة. ومنذ ذلك الحين أخذ «اقتصاد المعرفة» يؤسس لقطيعة نهائية مع التقاليد الصناعية السابقة. تحول إنتاج القيمة من السلع المادية إلى أنشطة مجردة، مثل جمع البيانات وتنظيم المعلومات واتخاذ القرارات والتحكم.
ورغم أن معالجة المعرفة وجمع البيانات رافقت الرأسمالية الصناعية منذ بدايتها، فإن عاملَين رئيسيَّين دفعا لهذا التحول، الأول هو انتشار الحواسيب وتقنيات الاتصال واندماجها السريع في عملية الإنتاج، أما الثاني فهو انتشار التعليم وارتفاع مستوى التدريب والتأهيل. في الوقت ذاته، بدأت المصانع تُغلق أبوابها في أوروبا وأمريكا منذ أواخر الستينيات، كاشفة عن تراجع القوة الاقتصادية للرأسمالية الصناعية، وتبلوُر شكل جديد للإنتاج وثيق الصلة بالتطور التكنولوجي، هو «الصناعات الابتكارية».
ومع إزالة الطابع المادي عن الإنتاج، تراجعتْ أهمية رأس المال المادي من مصانع ومبانٍ ومُعِدَّات ضخمة، مقابل القيمة المتصاعدة لرأس المال المعرفي المتمثل في البشر وما يمتلكونه من علاقات وقدرات معرفية وعاطفية.
كما ضاعفَتْ تكنولوجيا الاتصال ما يُعرَف بـ«انضغاط الزمان والمكان»، وهي حالة ما بعد حداثية تتمثل في اختزال المسافات المكانية والزمنية. هذا الانضغاط الزمني-المكاني يزيل الحدود بين العمل والحياة والترفيه في المدن والمساكن الحديثة، فيُعيد تشكيل نمط حياة العاملين أنفسهم.
وبينما اعتبرت الرأسمالية الصناعية البيتَ ملاذًا آمنًا ونظيفًا تتوزَّع فيه الوظائف بوضوح عبر المكان والزمان، تأتي الرأسمالية المعرفية -بفضل ما تنطوي عليه من تجريد وسيولة- لتمنحنا تفسيرات متعددة للعلاقة بين السكن والعمل. وبدلًا من إنتاج أنماط جديدة، فإنها تبني على أنماط السكن الموروثة من الماضي وتُكيِّفها مع مقتضيات الرقمنة الآخذة في الانتشار، وأنماط العمل والحياة الجديدة.
ثمة مؤشرات يمكن البدء بها للوقوف على التأثير المعماري لهذا التحول الثقافي، فالأشكال المستحدثة في تنظيم الحياة تؤثر بالضرورة على المدن وفضاءاتها، وكل تحوُّل في العلاقة بين رأس المال والعمل يتسبب في أزمة حضرية تدفع بالمدينة للتكيُّف معه.
ومع اعتماد النمط الجديد للإنتاج على القدرات المعرفية للعاملين، تقل أهمية رأس المال المادي مثل المباني والمعدات، وتتراجع بالتالي أهمية موقع الشركة المكاني، وبذلك تتحول العلاقة بين العاملين وأماكن عملهم ومساكنهم. ثم تأتي الرقمنة المتزايدة فتقدِّم فرصًا جديدة، مثل إتاحة تأجير العقارات لعملاء في أي مكان بالعالم.
يتبدَّى هذا التحول في عدة اتجاهات رئيسة، مثل عودة الاندماج بين المسكن ومكان العمل، فيما يُعرَف اليوم بـ SoHo، أو المكتب المنزلي الصغير، وكذلك في استخدام المساكن كميزة لاجتذاب الموظفين، في محاكاةٍ لأبوية الرأسمالية الصناعية. هناك أيضًا تحوُّل المنازل لسلعة قابلة للتداول عالميًّا بفضل الاقتصاد الرقمي، وتبادل الأدوار بين فضاء المنزل الداخلي والخارجي، في صياغة جديدة لوظيفة المسكن.
غرف المعيشة/العمل
لعبت تكنولوجيا المعلومات والاتصال دورًا محوريًّا في تحوُّل أنماط الإنتاج، وبالتالي طبيعة العمل. فنمط الإنتاج الافتراضي والمجرد لا يتطلَّب القُرْبَ المكاني والزمني. لذلك بدأ الموظفون يتحولون تدريجيًّا لـ«رحَّالة رقميين» بإمكانهم العمل في أي وقت وأي مكان. هذه الفرصة ليست حِكرًا على المبدعين المستقلين، بل إنها متاحة لجمهور عريض من الموظفين أصحاب الياقات البيضاء الذين صار بإمكانهم العمل من المنزل بفضل الحضور الكثيف لتكنولوجيا الاتصال في بيئة السكن. أحدث «العمل عن بُعد» نقلة في أسلوب العمل التقليدي، خاصة للموظفين الذين يؤدون وظائفهم في أماكن منفصلة عن مقار الشركات التي توظفهم. هناك أيضًا أسلوب «العمل الذكي»، وهو بديل آخر للعمل المكتبي التقليدي يعتمد على تكنولوجيا الاتصال، ويتيح للموظف اختيار توقيت وكيفية إنجاز مهام عمله، بدءًا من المكان والزمان وصولًا للبرامج والأدوات.
يلائم هذا النمط احتياجات الأجيال الجديدة أبناء العصر الرقمي، حيث باستطاعتهم العمل في أي مكان تتوافر فيه خدمة الإنترنت، خاصة في الأماكن التي تتيح لهم التواصل وتبادل الخبرات. وبالتوازي، تحوَّل المنزل بالنسبة لبعض الفئات الاجتماعية لفضاءٍ مجهَّزٍ بالكامل بتقنيات الاتصال الحديثة.
ثمة فارق بين «العمل من المنزل» و«العمل في المنزل»، فقد أظهرت دراسة عن «العمل الذكي» قامت بها شركة «ريجاس» الرائدة في مساحات العمل المرنة، أن العاملين من المنزل يواجهون مشكلات عديدة، مثل اضطرارهم للاهتمام بأفراد العائلة أثناء العمل، أو تعطُّلهم بسبب بُطء وضَعف الإنترنت، أو صعوبة الاستفادة من إمكانات المكتب الرئيسي، فضلًا عن الضوضاء الناتجة عن وجود أطفال وحيوانات منزلية.
وحتى لو كان جزء من العمل قابلًا للإنجاز عبر تبادل البريد الإلكتروني، فإن الاجتماع عبر الفيديو وحضور المؤتمرات عن بُعد واستقبال العملاء يتصادم مع حميمية الفضاء المنزلي، الذي لا يزال يُصمَّم وفق منطق «الفصل الوظيفي» التي رسختها ثقافة التصميم في عصر الرأسمالية الصناعية.
ظهر اتجاهان متفاوتان في التصميم المعماري الذي يضع في الاعتبار هذه التحولات: في أقصى درجات الطيف حي Jian Wai Soho في بكين، من تصميم ريكين ياماموتو (2004)، وهو عبارة عن مجموعة أبراج سكنية صُمِّمَت شُقَقها بحيث تتضمن منطقة SoHo تقع بين الجزء الأكثر خصوصية في البيت والممرات الأقل خصوصية، حتى يصل الساكن إليها بيُسر، ما نتج عنه مزيج من تصميم مراكز التسوق -بسبب الممرات العمومية والواجهات ذات الشبابيك التي تُحيط بغرف الـSoHo- وتصميم الشقق التقليدية في الأبراج السكنية. في هذا النموذج لا تتداخل الحياة الأسرية مع العمل، بل يتعايشان جنبًا إلى جنب متجنِّبين التقاطع لأقصى حد.
على الطرف الآخر، نجد استوديو بِيت (Pitt Studio) من تصميم مكتب «غرافت» للتصميم المعماري (1998)، حيث يتصوَّر فضاءً واحدًا للسكن والعمل معًا، دون تقسيمات وظيفية، يتمحور حول «نواةٍ مركزية» عبارة عن جدار متحرك يفتح ويُطوى وينزلق فيتحول لطاولة ومقاعد وأرفف وإضاءات، بإمكان كل قطعة متحركة أو مزيج من القطع أن يُستخدَم في عدد من الأنشطة، كأن تُستخدَم الطاولة في العمل والطعام. هذا المنطق في التصميم يسمح بتعدد الأنشطة ويعكس سيولة ومرونة الطريقة الجديدة للإنتاج.
تلك النماذج المعمارية هي محاولات للجمع بين الحياة والعمل تحت سقف واحد، لكنها تخاطب احتياجات المستقلين والمبدعين، أي فصيل واحد فقط من العاملين في «اقتصاد المعرفة».
وقد شهد «العمل عن بُعد» طفرة هائلة بسبب القيود التي فرضتها جائحة كورونا. تحولت البيوت لمكاتب ومدارس ومراكز للتسوق، وانشغلت العائلات في المشاركة في الأنشطة عن بُعْد. ثم استمر الاتجاه الداعي إلى «العمل من المنزل» بعد الجائحة، لأسباب تتراوح بين إراحة الموظفين وتوفير تكاليف الانتقال.
المنزل كميزة وظيفية
لقد نتج عن فك الارتباط بين الإنتاج ومكان العمل عدد من النتائج التي تتجاوز إمكانية العمل من المنزل. ففي الرأسمالية الصناعية، كان موقع المصانع يحدد التوزيع الجغرافي للقوى العاملة. واليوم، تجتذب الشركات الابتكارية في الدول المتقدمة العمالة الماهرة للتمركز حولها. كما يسهل إعادة توطين الإنتاج اللامادي، إما في الأماكن التي تتركز فيها العمالة المبتكِرة والماهرة، أو في الأماكن التي توفر عمالة أرخص وظروفًا أكثر إغراءً لأصحاب الأعمال.
وهكذا يكتسب المسكن دورًا جديدًا بوصفه ميزة تجعل الوظيفة أكثر جاذبية، فبالإضافة لقيمة المنزل المادية، يكتسب قيمة كميزة وظيفية إضافية. ولا يقتصر ذلك على مستوى وظيفي محدد، فمثلما يكون المنزل والسيارة ميزة إضافية للمناصب العالية، يحصل العمال محدودي الدخل على سكن مشترك ضمن باقة توظيفهم.
على سبيل المثال، تنقل شركات خدمات العملاء مكاتبها لمناطق محددة من العالم، وتبحث بالتالي عن موظفين متوافقين مع معاييرها في هذه المناطق. والواقع يقول: إن الكثير من مراكز الاتصال بالعملاء لا تعمل من الدولة التي يتصل منها العميل، بل من مناطق أخرى في العالم تتركز فيها هذه الخدمات. في المقابل، وبسبب الحاجة لإتقان اللغة التي تُقدَّم بها الخدمة، تلجأ الشركات لتوظيف موظفي خدمة عملاء من الدولة ذاتها، وتقدِّم لهم عقودَ عملٍ تشمل ميزة السكن المشترك مع زملاء آخرين. وإلى اليوم، لم تحفل هذه المساكن باهتمام الباحثين المعماريين، رغم ما تنطوي عليه من إمكانات للبحث والاستكشاف، فهي تقع على الحد الفاصل بين التحول لـ«مجتمعات مسوَّرة»، أو أن تصبح نسخًا معاصرة لـ«سكن عمال المصنع». ودون اختزالٍ للفكرة في «بناء فقاعة مثالية لعمَّال المعرفة»، يمكن للتصميم المعماري أن يحاول الإجابة عن أسئلة جوهرية، مثل: هل يمكن تأسيس مجتمع حول بيئة عمل مزروعة بطريقة مصطنعة؟ وما الأنشطة المشتركة لو أردنا الربط بين الحياة والعمل؟ وكيف يمكن لهذه التجمعات أن ترتبط بمحيطها العمراني؟
مضيفون أم ضيوف؟
تأسست شركة Airbnb الأمريكية عام 2008 كمنصة إلكترونية لتأجير الغرف الشاغرة داخل البيوت. وكغيرها من قصص النجاح في «اقتصاد المشاركة»، طرحت Airbnb شكلًا جديدًا للعمل، إذ تحوَّل الكثير من مُلاك البيوت في المناطق السياحية لمُضيفين على المنصة، كبديل عن البطالة أو تحوُّل عن المهن الحرة.
وبعد نجاحها الساحق بهذا المنتج الرقمي، رفعت الشركة سقف طموحها في عام 2016، حين أعلنت عن تأسيس قسم «سامارا» (Samara) المختص بالتصميم المعماري والبناء. وكان مشروع سامارا الأول هو Backyard، الذي سعى لاستكشاف الطريقة المثلى لتصميم بيت مخصَّص للمشاركة، مع التركيز على طرق البناء الحديثة، واستخدام مواد صديقة للبيئة، وتقليص النفايات الإنشائية، وتبَنِّي تقنيات «المنزل الذكي»، والحاجة إلى التعايش. وكان أول تطبيق لهذا التوجه هو «بيت يوشينو» بالتعاون مع المعماري الياباني غو هاسيغاوا، الذي عُرض في معرض House Vision 2 بطوكيو. قدَّم المشروع نموذجًا سكنيًّا يعتمد على المواد المحلية، ويشتمل على فضاء جماعي في الطابق الأرضي، ويقوم على فكرة «الاستضافة التعاونية» من قِبَل مجموعة من السكان المحليين. ويتضح من التصاميم التي أنتجها المشروع الرغبة في استكشاف نماذج سكنية مرنة وديناميكية، تحاول الجمع بين معايير الاستضافة العالمية وروح المكان.
لكن أكثر ما يثير الاهتمام في تجربة «سامارا» ليس النماذج التي أنتجتها بل الدوافع التي وراءها، إذ لاحظت Airbnb أن الكثير من المضيفين شعروا بالحاجة لتعديل بيوتهم لكي تتوافق مع توقعات الضيوف، ما يعني أن الضغط الاقتصادي الناجم عن الإيجارات قصيرة الأمد أعمق مما كان يُتوقَّع. أولًا، تتغير الأدوار على نحو مفاجئ، فبمجرد مشاركة مساحتهم الخاصة يفقد أصحاب البيت مكانتهم كـ«مُلاك»، وتصبح لهم حقوق متساوية مع الضيوف كـ«زملاء سكن». ثانيًا، تؤدي هذه الإيجارات لتغيرات في أنماط استخدام المدن، وقيمة الأراضي، وتوافر الإيجارات طويلة الأمد وأسعارها، فضلًا عن الأنشطة الاقتصادية المجاورة. لذا تأسست «سامارا» حين امتد التغيير إلى المستوى المعماري، عبر عملية بطيئة -لكن متواصلة- لتكييف المنازل مع الأنشطة الجديدة.
وسواء كانت الاستضافة عبر Airbnb مجرد وسيلة لزيادة الدخل من ملكية العقار، أو سببًا لإثراء حياة المدينة وسُكانها عبر تخطِّي معادلة «الغريب = خطر»، فإن التحول الجاري في جسد المدن قد صار بالغ الأثر. ومن هنا تبرز أهمية إجراء مراجعة نقدية للتغييرات التي جاء بها «اقتصاد المشاركة» في توظيف مساحات المنزل والمدينة، وأن تُطرح لنقاشٍ عام لا يكون حِكرًا على اللاعب الاقتصادي الأكبر في هذه المعادلة.
الخاص يصبح عامًّا
بين ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، نبَّه علماء الاجتماع إلى فقدان الفضاء العام لمعناه وأهميته، نتيجة التحولات الاجتماعية والثقافية وتغيُّر أنماط الحياة. ووفقًا للفيلسوف الألماني هابرماس، يتكون المجال العام من ثلاثة أبعاد: مجال عابر، وبُعد مادي ملموس، وبُعد مجرد يصوغه مزيج الإعلام الجماهيري والجمهور المتفاعل معه. أما عالم الاجتماع ريتشارد سينيت فيُحمِّل السياسات الاقتصادية مسؤولية تحوُّل مفهوم الفضاء العام. فبسبب هذه التحولات، فقَدَ الفضاء العام جاذبيته بشكل تدريجي، وانسحب الناس أكثر فأكثر لمساحاتهم الخاصة، التي شهدَتْ في الوقت نفسه تطورًا غير مسبوق مع تنامي دور تكنولوجيا الاتصال في إتاحة المحتوى الإعلامي، ما عزز البُعد المجرد وأثر في مناحٍ عديدة من الحياة اليومية.
كما نقلت الخدمات الرقمية قدرًا هائلًا من الخدمات التي كان يُتيحها الفضاء العام لغرف المعيشة وغرف النوم، مثل: المعاملات المصرفية، وجَلْب الطعام، والتسوق، ما جعل الفضاء العام أقل أهمية من ذي قبل. كما حوَّل التطور التكنولوجي غرفَ المعيشة لفضاءات للتفاعل والتلاقي والمواجهة، مُحاكيةً طابع المدينة على نحو لا مادي.
ثمة مثال دالٌّ على هذا التحول هو ظاهرة «الشاشة الثانية»، فبينما هم جلوسٌ في خصوصية بيوتهم، يكون الناس مجرد مشاهدين لما يجري خارج المنزل، لكن يظل باستطاعتهم التفاعل مع الأحداث عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لذا لم يعُد البيت فضاءً خاصًّا فحسب، بل «فضاء متكامل» يهدف إلى التوفيق بين عناصر الحياة المعاصرة كافة، القديمة منها والحديثة الناتجة عن تكنولوجيا الاتصال.
ولا يمكن التقليل من شأن التأثير الذي فرضه التحول من «الرأسمالية الصناعية» إلى «الرأسمالية المعرفية» على تصميم المنازل. فمع بزوغ «الاقتصاد المعرفي» تداعى المنطق التقليدي للصناعة، فقد زادت شبكات الاتصال والحوسبة الفورية من تعقيد الحياة اليومية، فاختل منطق التنظيم السكني وارتبكت الجداول الزمنية التي رسختها الرأسمالية الصناعية.
هذه الأنماط الجديدة في العمل والحياة، مثل: العمل من المنزل، والاستضافة قصيرة الأمد، والإنتاج باستخدام الوسائط التكنولوجية، فرضَتْ نفسها على الفضاءات التي صُمِّمَتْ على أساس الخصوصية والتقسيم الوظيفي. كما عاد السكن يُستخدَم كميزة وظيفية في عقود العمل، لكن من دون طموح كبير في إنتاج نماذج سكنية مستحدثة. ومثلما فقَدَ الفضاء الحضري جزءًا من طابعه العام، فَقَدَ المنزل دلالته على الخصوصية والحميمية بتحوُّله لفضاء مفتوح للقاءات والمواجهات الرقمية التي لا حصر لها. ما يطرح السؤال حول جدوى «النمط المعماري المعاصر» في ظل هذه التحولات، وهل تقضي البيئة الرقمية المتنامية على أي تصنيف قائم على التنظيم المكاني؟
إن مهمة العمارة المعاصرة في مواجهة تحديات الاقتصاد المعرفي واقتصاد المشاركة، هي أن توفر منطقًا جديدًا ينظم العلاقة بين أُطُر السكن والعمل والترفيه.
فرانشيسكو سبانيدا معماري إيطالي وأستاذ التصميم المعماري والتخطيط العمراني بجامعة ساساري.
ماتيو كارمينه فوزارو- باحث في قسم العمارة والتصميم والتخطيط العمراني بجامعة ساساري في ألغيرو، إيطاليا.