العقد الاجتماعي العُماني.. نموذج الالتزام الأخلاقي
تاريخ النشر: 1st, February 2025 GMT
د. محمد بن خلفان العاصمي
تتفق نظريات نشأة المُجتمعات حول مبدأ التكامل كأساس لظهور المجتمع ورغبة البشر في التكتل الاجتماعي والعيش في نمط متوافق يقوم على التعاون والتآزر والتكامل والتكافل، وتسود فيه قيم العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والاحترام والحقوق والواجبات، وهذه الحاجة لهذا النمط إنما هي فطرة سلوكية نتجت عن ازدياد الجنس البشري وتكاثره وتطوره الطبيعي خلال آلاف السنين، ومعه نشأت المجتمعات بشكلها البدائي وصولًا إلى الشكل الذي نراه اليوم، والذي استغرق سنين وأزمنة طويلة كانت تغذي كل ذلك الحالة الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية للبشر.
وعندما أطلق جان جاك روسو نظريته الشهيرة "العقد الاجتماعي" التي غيَّرت الحضارة البشرية في العصر الحديث في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان المجتمع الأوروبي في تلك الفترة يعاني من العديد من المشكلات التي شوَّهت الحياة البشرية وفقدت معها خصائصها كمجتمعات قابلة للحياة؛ بل إنِّها وصلت لمرحلة تشبه حياة الغابة؛ حيث يأكل القوي الضعيف وسيطرت المادية على جميع مفاصل الحضارة البشرية وحولت المجتمعات إلى ما يشبه المفارز التي تضم أشكالاً لتناغم مع الطبيعة من البشر، وخلال هذه المرحلة انتشرت صنوف التجاوزات وبلغت الاستهانة بالبشر منتهاها وزادت الكنيسة الطين بلة عندما كرست هذه الحياة اللامتوازنة كمرجعيّة لاستمرار سيطرتها ونفوذها.
وإذا رجعنا إلى الماضي وقبل نظرية العقد الاجتماعي وقبل أفكار جان لوك وهوبز وڤولتير ونيتشه وهيجل، فقد كان الرسول الكريم صلى عليه وسلم، أول من أطلق مبادئ العقد الاجتماعي الإسلامي؛ حيث جاء الدين الإسلامي الحنيف بمنظومة متكاملة من القيم والمبادئ والأخلاق التي نظمت علاقة البشر في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وأسست لقيام منظومة متكاملة من العلاقات القائمة على أسس الدين الحنيف، وقد حفظت هذه القيم الإسلامية حقوق الإنسان وأقرت واجباته ونظمت علاقاته مع الآخرين حتى مع من هم من غير ملة الإسلام، بل إنها رعت الحريات رعاية مطلقة وانتقلت بها إلى مرحلة متقدمة نرى الغرب يحاول الوصول إليها اليوم عبثًا دون إدراك أنَّ هذه الحريات هي نتاج تأسيس عميق للمجتمع على قيم ومبادئ عُليا.
ولأن مجتمعنا العُماني هو نتاج هذا التأسيس السليم من القيم والمبادئ والأخلاق والاحترام والتقدير التي جاء بها الدين الحنيف وتوافقت مع طبيعة الإنسان العُماني الذي سكن هذه الأرض على مر التاريخ، كان العُماني مثالًا على هذه السلوكيات دائمًا، وحافظ المجتمع العُماني على كل ذلك الإرث القيمي الديني ونشأت الأجيال الواحد تلو الآخر على ذلك، وتطورت حياة الناس في هذه الأرض وفق هذا النموذج الحضاري وأصبح كل ذلك من خصال الإنسان، فعرف العُماني بالكرم والشجاعة والكرامة وحسن التعامل في معاملاته جميعها، ولذلك نشر التجار والبحارة العُمانيون الإسلام في أنحاء العالم ليس بالسيف والغزو والحروب وإنما بحسن الخلق والمُعاملة الحسنة.
وخلال فترات التاريخ المتعاقبة، حافظ العُماني على هذه السمات والخصائص المميزة، وظهر السمت العُماني أنموذجا متفردًا تتربى عليه الأجيال، وفي مثل هذه المجتمعات تصبح عملية التمييز بين الجيد المقبول والسيئ المنبوذ سهلة للغاية؛ فالمجتمع أصبح تلقائيًا في تقييم السلوك البشري وتفنيد ما يتوافق منه مع المجتمع وطبيعته وما يختلف عنه، لقد نشأ عقد اجتماعي عُماني خاص أعاد تعريف المفاهيم بسياق مختلف فمن الحرية الشخصية إلى الحرية العامة ومن حقوق الفرد إلى حقوق العامة تأسست منظومة القيم ووضعت القوانين التي تنظم العلاقة بين الأفراد على هذا الأساس، ولذلك ما شذَّ عن هذا وجد المجتمع أول من يتصدى له ويردعه ويوقفه عند حدوده.
وفي سياق الشذوذ عن القاعدة؛ فهناك بعض الأمثلة حول هذا الأمر، وقد يغني المقال عن سردها، وإذا ما كانت هناك حالة ماثلة في الأذهان فسوف نجد أن أفراد المجتمع هم الحصن الحصين الذي تصدى لكل خارج عن منظومة هذا العقد الفريد، وحتى عندما تظهر بعض النعرات كحال أي مجتمع متفاعل نجد أنها لا تلبث أن تختفي بلمح البصر وعن طريق المجتمع نفسه الذي أطر كل السلوكيات في سياق منظم من الحدود والحقوق والواجبات، وهذا أمر معتاد في مجتمع اعتاد أفراده على حسن الخلق وجبلوا على التقدير والتوقير وتربوا على كريم الخصال والسجايا والأخلاق الحسنة.
وإنَّ مما يندى له الجبين أن نجد فردًا تربّى ونشأ وترعرع في حياض هذا الوطن، وعاش فيه وتعلم في مدارسه واستظل بأمنه، وطابت له الحياة في خير هذا البلد الطيب، ثم ما يلبث أن ينقلب على عقبيه عندما ضاق به الحال، متناسيًا أن حال الإنسان بين يسر وعسر، موجهًا أسوأ عبارات الإساءة للوطن وقيادته وأبنائه، جاحدًا خيرهم عليه وناكرًا فضل الله تعالى الذي منّ عليه بنعم يتمناها غيره في كل مكان، وهذا الفعل الذي يتصوره البعض من باب حرية التعبير ما هو إلا انسلاخ أخلاقي وقيمي وديني يصل له الإنسان الجاحد المنكر لفضل الله عليه؛ فالمولى جلت قدرته يقول "وجادلهم بالتي هي أحسن"، ويقول "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" ويقول الرسول الكريم: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"، وهذا هو العقد الاجتماعي العُماني الذي حفظ حق الفرد في إبداء رأيه دون سب وشتم وقذف وتطاول وفتنة، وهو ما اعتدنا عليه، أما ما سلكه البعض من مسلك فلا يمت لأبناء هذا المجتمع بصلة؛ بل هو سلوك دخيل مرفوض.
لقد اعتاد العُماني على الحلم والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان، وغض الطرف عما يقود للفتنة والفرقة، ولا غرابة أن نجد بلادنا محطة للسلام ومنبرًا للأمان، تجمع الخصوم المتفرقين فتقيم بينهم كلمة سواء، وتتوسط بين الفرقاء المتناحرين فتحل السلام بينهم وتحقن دماء الأبرياء، فهذا نهج مُستمد من إرث ممتد ضارب في جذور هذه الأمة، وترسخ في الأجيال جيلا بعد جيل يُغذيه قادة عظام وعلماء أجلاء وحكماء كانوا ومازالوا يأمرون بالعدل والإحسان وينهون عن الفحش في القول والعمل، هكذا هو العقد الاجتماعي العُماني الذي نظم حياة هذه الأمة وفق منظومة قيمية شاملة مستمدة من دين الله الحنيف وشرعه القويم لتتلاقى مع طبيعة الإنسان العُماني.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الفصل فى دعوى عدم دستورية قانون الإيجار القديم بشأن شروط الطرد السبت المقبل
تفصل المحكمة الدستورية العليا، برئاسة المستشار بولس فهمى، السبت المقبل الموافق 2 أغسطس، في الدعوى رقم 90 لسنة 30 دستورية، والتي تطالب بعدم دستورية المادة 17 والفقرة الأولى من المادة 18 من القانون رقم 136 لسنة 1981 من قانون الايجار القديم الخاصة بحالات طرد المصريين وغير المصريين المستأجرين بنظام الايجار القديم بعد انتهاء مدة العقد، وكذا عدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977.
المادة 17 من القانون رقم 136 لسنة 1981
تنص مادة 17 - تنتهى بقوة القانون عقود التأجير لغير المصريين بانتهاء المدد المحددة قانونا لإقامتهم بالبلاد.
بالنسبة للأماكن التي يستأجرها غير المصريين في تاريخ العمل بأحكام هذا القانون يجوز للمؤمن أن يطلب إخلاءها إذا ما انتهت إقامة المستأجر غير المصرى في البلاد.
وتثبت إقامة غير المصرى بشهادة من الجهة الإدارية المختصة ويكون إعلان غير المصرى الذي انتهت إقامته قانونا عن طريق النيابة العامة.
ومع ذلك يستمر عقد الإيجار بقوة القانون في جميع الأحوال لصالح الزوجة المصرية ولأولادها منه الذين كانوا يقيمون بالعين المؤجرة مالم يثبت مغادرتهم البلاد نهائيا.
المادة 18 من القانون رقم 136 لسنة 1981
تنص المادة 18 - لا يجوز للمؤجر أن يطلب إخلاء المكان ولو انتهت المدة المتفق عليها فى العقد إلا لأحد الأسباب الآتية:
( أ ) الهدم الكلى أو الجزئى للمنشآت الآيلة للسقوط والإخلاء المؤقت لمقتضيات الترميم والصيانة وفقا للأحكام المنظمة لذلك بالقوانين السارية.
(ب) إذا لم يقم المستأجر بالوفاء بالأجرة المستحقة خلال خمسة عشر يوما من تاريخ تكليفه بذلك بكتاب موصى عليه مصحوب بعلم الوصول دون مظروف أو بإعلان على يد محضر ولا يحكم بالإخلاء إذا قام المستأجر قبل إقفال باب المرافعة فى الدعوى بأداء الأجرة وكافة ما تكبده المؤجر من مصاريف ونفقات فعلية، ولا ينفذ حكم القضاء المستعجل بطرد المستأجر من العين بسبب التأخير فى سداد الأجرة إعمالا للشرط الفاسخ الصريح إذا ما سدد المستأجر الاجرة والمصاريف والأتعاب عند تنفيذ الحكم وبشرط أن يتم التنفيذ فى مواجهة المستأجر.
فإذا تكرر امتناع المستأجر أو تأخره فى الوفاء بالأجرة المستحقة دون مبررات تقدرها المحكمة حكم عليه بالإخلاء أو الطرد بحسب الأحوال.
(جـ) إذا ثبت أن المستأجر قد تنازل عن المكان المؤجر, أو أجره من الباطن بغير إذن كتابى صريح من المالك للمستأجر الأصلى, أو تركه للغير بقصد الاستغناء عنه نهائيا وذلك دون إخلال بالحالات التى يجيز فيها القانون للمستأجر تأجير المكان مفروشا أو التنازل عنه أو تأجيره من الباطن أو تركه لذوى القربى وفقا لأحكام المادة 29 من القانون 49 لسنه 1977.
(د) إذا ثبت بحكم قضائى نهائى أن المستأجر استعمل المكان المؤجر أو سمح باستعماله بطريقة مقلقة للراحة أو ضارة بسلامة المبنى أو بالصحة العامة أو فى أغراض منافية للآداب العامة.
ومع عدم الإخلال بالأسباب المشار إليها لا تمتد بقوة القانون عقود إيجار الأماكن المفروشة.
المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977
مع عدم الإخلال بحكم المادة (8) من هذا القانون لا ينتهي عقد إيجار المسكن بوفاة المستأجر أو تركه العين إذا بقي فيها زوجه أو أولاده، أو أي من والديه الذين كانوا يقيمون معه حتى الوفاة أو الترك، وفيما عدا هؤلاء من أقارب المستأجر نسباً أو مصاهرةً حتى الدرجة الثالثة.
يشترط لاستمرار عقد الإيجار إقامتهم في المسكن مدة سنة على الأقل سابقة على وفاة المستأجر أو تركه العين أو مدة شغله للمسكن أيهما أقل.
فإذا كانت العين مؤجرة لمزاولة نشاط تجاري أو صناعي أو مهني أو حرفي، فلا ينتهي العقد بوفاة المستأجر أو تركه العين ويستمر لصالح ورقته وشركائه في استعمال العين بحسب الأحوال.
وفي جميع الأحوال يلتزم المؤجر بتحرير عقد إيجار لمن لهم حق في الاستمرار في شغل العين ويلتزم هؤلاء الشاغلون بطريق التضامن بكافة أحكام العقد.