دمشق- لم تعد العاصمة السورية كما كانت؛ تغيّر إيقاعها، واختلفت تفاصيل يومياتها، وصارت الحياة فيها تتدفق بوتيرة جديدة. في شوارع دمشق المتشابكة وأزقتها العتيقة، يتداخل صوت محركات السيارات مع صخب الأسواق، وتمتزج رائحة المازوت بدخان المقاهي، بينما تتردد في الأرجاء نقاشات سياسية بلا تحفظ أو مواربة، فـ"الحيطان لم تعد لها آذان" كما كان يقول السوريون.

لم يعد شيء على حاله، فالاختناق المروري تضاعف بعد سقوط النظام، وأعداد السيارات في الشوارع زادت بشكل ملحوظ. الصرافون الجوالون صاروا جزءا من المشهد اليومي، يتنقلون بأوراق نقدية مكدسة، يعرضون خدماتهم علنا دون خوف من الملاحقة. أما الجدران التي لطالما حملت صور حافظ وبشار الأسد، فقد أضحت فارغة، إيذانا بدخول حقبة جديدة.

شوارع دمشق تعيش اختناقا مروريا

في قلب العاصمة السورية، لا تكاد السيارات تتحرك، لا سيما في مناطق وسط البلد. يشكو سكان دمشق من ازدحام غير مسبوق، وهو ما يؤكده سائقو التاكسي الذين يقضون ساعات في الطرقات. يقول أحدهم إنه بدأ يشكو من ألم في ركبتيه من كثرة التنقّل بين دواستي الوقود والدبرياج.

يرجع البعض السبب الرئيسي لهذه الأزمة إلى الانخفاض الحاد في أسعار السيارات، إذ باتت تلك التي كانت تُباع قبل أشهر بـ15 ألف دولار، تُعرض الآن بـ3 آلاف فقط. ومع هذا التراجع المفاجئ، اندفع كثيرون نحو الشراء، خشية أن تعاود الأسعار ارتفاعها في أي لحظة.

يتغيّر سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار بشكل متكرر يوميا (الجزيرة)

لكن ليس هذا العامل الوحيد لتفاقم المشكلة، فقد توافد إلى دمشق عدد كبير من السوريين القادمين من المحافظات الأخرى بسياراتهم الخاصة، وهو أمر لم يكن مألوفا في السابق حينما كانت البلاد مقطّعة الأوصال. كما اختار بعض المغتربين القدوم إلى سوريا بسياراتهم، ليضيفوا عبئا جديدا على الشوارع التي لم تكن مصممة لاستيعاب هذا العدد من المركبات.

إعلان

اللافت أن الاختناقات المرورية لم تعد مصحوبة بالتوتر المعتاد، بل اختفت الشتائم التي كانت تُطلق في أثناء الزحام -حسب سائق التاكسي المسن الحاج أبو طارق- الذي قال إن "الكفريات" (الألفاظ الكفرية) لم تعد تُسمع أيضا.

بورصة مفتوحة على الأرصفة

في ساحات المدينة وعلى أرصفتها، باتت تجارة العملات مشهدا مألوفا؛ عشرات الصرافين الجوالين ينتشرون في الشوارع، يحملون رزما ضخمة من الأوراق النقدية، ينادون على المارة، ويعرضون أسعار الصرف التي تتغير كل لحظة.

حتى وقت قريب، كان التعامل بالدولار في السوق السوداء جريمة قد تودي بصاحبها إلى غياهب السجون. أما اليوم، فقد أصبح الأمر علنيا تماما. بعض هؤلاء الصرافين يستخدمون عدادات نقدية لإضفاء طابع الاحترافية، بينما يعمد آخرون إلى استغلال الزحام والضجيج لخداع الزبائن، حيث يقومون بإنقاص ورقة أو اثنتين من المبلغ المتفق عليه من دون أن يلاحظوا ذلك.

أكشاك الصرافة تنتشر في معظم الشوارع الرئيسية بالعاصمة دمشق (الجزيرة)

المفارقة أن الأوراق النقدية القديمة من الدولار لم تعد تحظى بالقيمة نفسها، إذ يرفض الصرافون قبولها بالسعر نفسه الذي تُصرف به الأوراق الجديدة، بل يفرضون عليها خصما عند التصريف.

كما بات موضوع الصرافة أشبه بالبورصة، إذ يتغير سعر الصرف كل بضع دقائق، ويجد المواطنون أنفسهم مضطرين لمتابعة هذه التقلبات عن كثب، خشية أن تفقد أموالهم جزءا من قيمتها بين لحظة وأخرى.

حقيبة الأموال ضرورة يومية

في ظل غياب أنظمة الدفع الإلكتروني العالمي، بات حمل كميات كبيرة من النقود أمرا لا مفر منه، إذ لا وجود لبطاقات ائتمانية دولية، ولا مجال للتحويلات المصرفية، فالأموال تتنقل مباشرة من يد إلى يد في اقتصاد يعتمد على التعامل النقدي بالكامل.

حجم الرزم المالية اللازمة لدفع حساب عشاء 4 أشخاص في أحد مطاعم دمشق (الجزيرة)

ومع تضخم الأسعار، أصبحت المبالغ المطلوبة للمعاملات اليومية ضخمة إلى الحد الذي لم تعد معه المحافظ التقليدية أو الجيوب كافية لرزم النقود السميكة، وهو ما يضطر كثيرين إلى حمل حقائب صغيرة مخصصة للنقود.

إعلان بائعو البنزين المتجولون

لم تعد العملات وحدها السلعة الغريبة التي تباع على الأرصفة، فالبنزين أيضا أصبح سلعة متاحة على قارعة الطريق، حيث تصطف عبوات الوقود بانتظار الزبائن الذين بات بعضهم يعتمدون على المهربين بدلا من محطات الوقود.

بعض الباعة المتجولين يبيعون البنزين على قارعة الطرقات في العاصمة السورية (الجزيرة)

يزعم البعض أن هذا البنزين مصدره لبنان، حيث يُشترى من هناك بأسعار أقل، ثم يُهرب إلى دمشق ليباع مقابل هامش ربح جيد. أما آخرون، فيقولون إن جودته (95) أفضل من ذاك المتاح في محطات الوقود (91).

الجدران بلا صور آل الأسد

وفي شوارع العاصمة السورية، لم يعد هناك أثر للصور الضخمة التي لطالما غطت الجدران لعقود، فاختفت صور الرئيس السابق حافظ الأسد وابنه المخلوع بشار تماما، من دون أن تحل محلها صور للرئيس الجديد أحمد الشرع، كما اختفت الأقوال "المأثورة للقائد الخالد" حسبما يطلق عليه محبوه.

وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي إقدام البعض على طباعة أعلام تحمل صورة الرئيس الشرع، سرعان ما صدرت تعليمات رسمية بإزالتها ومنع طباعتها مجددا.

بقايا العلم السوري القديم لا تزال موجودة على أبواب بعض المحال التجارية في العاصمة السورية (الجزيرة)

في المقابل، لا تزال بقايا العلم السوري القديم موجودة وإن بخجل، خصوصا على الأبواب الحديدية لبعض المحال التجارية.

أما في محلات التحف والمقتنيات القريبة من الجامع الأموي، فلا تزال بعض التذكارات تحمل رموز العهد السابق، لكن كثيرا منها خضع لتعديلات سريعة، كما قال أحد التجار مبتسما، "في يوم سقوط النظام، أمسكت القلم وبدأت أعدل على بعضها. أجريت عملية ’تكويع‘ سريعة لبعض التحف والتذكارات".

إحدى المقتنيات التي تعرضت لعملية "تكويع" بعد يوم من سقوط نظام الأسد (الجزيرة) المقاهي "تتنفس" سياسة

في مقاهي العاصمة السورية، لم تعد السياسة موضوعا محظورا، بل باتت هي الموضوع الأكثر تداولا بين الجالسين. بعد أن كانت هذه النقاشات تتم في الماضي همسا وبصوت منخفض -هذا إن تجرأ أحدهم على خوضها- أصبح الجميع يتحدثون اليوم بلا قيود، يذكرون أسماء السياسيين الجدد ويناقشون مستقبل البلاد بصوت مرتفع وبلا خوف.

يكسو الظلام معظم شوارع دمشق في الليل بسبب انقطاع التيار الكهربائي (الجزيرة)

الأمر اللافت أن بعض المقاهي، مثل مقهى الروضة الشهير، لم تكتفِ بذلك، بل بثت أغاني ساخرة عن النظام السابق، وسط تفاعل كبير من رواد المكان، الذين لم يعتادوا مثل هذا الانفتاح من قبل.

إعلان

دمشق التي تغيرت ملامحها، بات فيها كل شيء مختلفا، من حركة المرور إلى التداول العلني للعملات الصعبة، وصولا إلى خوض الناس في السياسة بلا خوف. ومع ذلك، تحتفظ هذه المدينة العريقة بروحها الفريدة، حيث يمتزج القديم بالجديد في مشهد لا تراه في كثير من المدن.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات العاصمة السوریة لم تعد

إقرأ أيضاً:

مدينة دمشق وسر خلودها… ندوة للجمعية الجغرافية السورية

دمشق-سانا

تناولت الندوة التي نظمتها الجمعية الجغرافية السورية تحت عنوان”دمشق وسرّ خلودها” للباحث محمد حسين السيوفي، المكونات الغنية بهذه المدينة وأسرار بقائها، كغوطتها ونبع الفيجة، مع عرض تاريخي وجيولوجي وجغرافي.

– دمشق… المدينة المباركة

السيوفي الذي أمضى 25 سنة من حياته في دراسة مدينة دمشق تحدث عن مكانتها من الناحية الدينية والتي وُصفت بالمدينة المباركة بموقعها، ولاسيما جبل قاسيون الذي شهدت جنباته تشييد المراصد لمراقبة النجوم والأفلاك، ومحطات البث وتوليد الكهرباء ووضع خزانات المياه القادمة من نبع الفيجة، وكأن الجبل عقابٌ يفتح جناحيه لحماية دمشق.

–  سرّ خلود مدينة دمشق

وأشار السيوفي إلى أن دمشق التي آوت المسيح عليه السلام وأمه مريم العذراء، كما ورد في القرآن الكريم، هي المدينة التي سينزل فيها المسيح حسب الحديث الصحيح، حين تقترب أشراط الساعة إلى المنارة البيضاء شرقي دمشق.

وعرض المحاضر الأحاديث النبوية التي تحدثت عن دمشق، من أنها أرض عمود النار، والملائكة التي بسطت أجنحتها عليها، وأنها مسكن خيرة الله في أرضه، ليستنتج أن دمشق معقل الإسلام والمسيحيين، ولا توجد مدينة جمعت ذلك سواها.

–  حلول لمعالجة مشكلة المياه

وفي سياق ذي صلة، تناول السيوفي مشكلة المياه في دمشق، مقترحاً زراعة أشجار الزيتون والتين التي تتحمل العطش ولا تحتاج لاستهلاك كبير للمياه، بالتالي ستعود الكمية لصالح مياه الشرب في دمشق، وهو ما يتطلب ضرورة العمل من أجلها.

–  دعوات لمشروع إعادة إعمار دمشق

وفي مداخلاتهما، دعا الدكتور بهجت قبيسي لحماية المدينة والمحافظة عليها، فيما طالب الإعلامي جمال الجيش بتعزيز المعلومات القيّمة لهذه المحاضرة مع بعض الاستكمالات البسيطة، ليوضع في النهاية مشروع متكامل، يرتبط بإعادة الحياة للمدينة بعد كل التخريب المتعمد الذي تعرضت له في الحقبة السابقة.

دمشق وسرّ خلودها ندوة 2025-07-31mohamadسابق الرقابة والتفتيش والبنك الدولي يبحثان تطبيق مشروع تدعيم وإدارة القدرات المالية العامة في سورياالتالي اليوم العلمي للجراحة العصبية يضيء مسيرة حملة “شفاء 2” بحلب انظر ايضاً ندوة في مصياف بعنوان “العدالة الانتقالية علاج لانتهاكات النظام البائد”

حماة-سانا تحت عنوان “العدالة الانتقالية علاج لانتهاكات النظام البائد: مجزرة الحولة أنموذجاً”، أُقيمت في صالة …

آخر الأخبار 2025-08-01قمة سيلكون للتكنولوجيا والتحول الرقمي تُطلق شرارة المستقبل الرقمي في سوريا 2025-07-31اليوم العلمي للجراحة العصبية يضيء مسيرة حملة “شفاء 2” بحلب 2025-07-31الرقابة والتفتيش والبنك الدولي يبحثان تطبيق مشروع تدعيم وإدارة القدرات المالية العامة في سوريا 2025-07-31هيئة التخطيط والإحصاء تناقش خطة تطوير معهد التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في سوريا 2025-07-31رئيس البرلمان العربي يطالب بإطلاق نداء برلماني عالمي للاعتراف بالدولة الفلسطينية 2025-07-31غرف الزراعة السورية: تشكيل لجنة لتحديد أسعار الفروج الحي من أرض المزرعة 2025-07-31تحذيرات أممية: تدهور الوضع الغذائي في قطاع غزة يتفاقم إلى حد المجاعة 2025-07-31مارسيليا الفرنسي يعلن عودة المهاجم أوباميانغ إلى صفوفه 2025-07-31الخارجية السورية: اللقاء التاريخي بين بوتين والشيباني أكد انطلاق مرحلة جديدة من التفاهم السياسي والعسكري بين سوريا وروسيا 2025-07-31الأردن يعين سفيراً فوق العادة ومفوضاً لدى سوريا

صور من سورية منوعات بحيرة في البرازيل تتحوّل إلى اللون الأزرق في مشهد غريب 2025-07-31 اكتشاف فصيلة دم غير معروفة عالمياً لدى امرأة هندية 2025-07-31
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • «طيران ناس» يستضيف حفل عشاء في موسكو احتفالاً بربط العاصمة الروسية مع الرياض برحلات مباشرة للمرة الأولى
  • وفد سوري في موسكو.. لماذا؟
  • ياسر العطا يتحرك.. تطورات إقليمية لافتة في منطقة المثلث
  • ماناج وفيتاي.. «ثنائي ألباني» للمرة الأولى في ملاعبنا
  • مدينة دمشق وسر خلودها… ندوة للجمعية الجغرافية السورية
  • المفاوضات السورية-الإسرائيلية: تاريخ من الأخطاء والدروس
  • غرف الزراعة السورية: تشكيل لجنة لتحديد أسعار الفروج الحي من أرض المزرعة
  • قيمة مايكروسوفت السوقية تتجاوز 4 تريليونات دولار للمرة الأولى
  • الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعود إلى إيران للمرة الأولى منذ حرب الأيام الـ12
  • محمد أبو العينين يكشف أسرار النجاح في حياته للمرة الأولى مع معتز الدمرداش