المُعلِّم العُماني.. صانع الأجيال وركيزة النهضة
تاريخ النشر: 22nd, February 2025 GMT
د. حامد بن عبدالله البلوشي
منذ فجر التاريخ، كان المُعلِّم شُعلة مُتقدة تنير دروب الإنسانية، وحاملًا لمشاعل الحكمة والمعرفة في أروقة الحياة. لم يكن المُعلِّم مجرد ناقل للعلوم، أو شارحًا للدروس، بل كان بانيًا للعقول، وصانعًا للأجيال، ومرشدًا للإنسان في رحلة البحث عن الحقيقة.
وعلى مر العصور، تواترت الثقافات والحضارات على تعظيم شأن المُعلِّم؛ إذ أدركت الأمم المتعاقبة أن التقدُّم لا يبنى إلّا على أساس متين من العلم والمعرفة، وركائز راسخة من الثقافة والفكر، وأن المُعلِّم هو الأساس الذي تستند إليه دعائم التقدم والرقي.
في مختلف بقاع الأرض، وعلى مدار التاريخ، كان المُعلِّم موضع إجلال وتقدير، فاليونانيون القدماء رأوا فيه فيلسوفًا يُنير العقول، والصينيون وضعوه في مصاف الحكماء، أما العرب، فقد جعلوه حامل راية العلم، وسفير الفضيلة، ولا تزال الدول المُتقدِّمة تكرم المُعلِّم، وتقيم له أيامًا تُخلِّد فيها إنجازاته، وترفع مكانته بين أفراد المجتمع.
لقد أتى الإسلام مُعليًا شأن العلم، ومُجلًّا لمكانة المُعلِّم؛ إذ كان أول ما نزل من الوحي قول الله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: 1)، إعلانًا صريحًا بأن المعرفة هي المدخل الأول لنور الهداية. وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11). وقد كان الرسول ﷺ نفسه مُعلِّما للبشرية، هاديا ودليلا، يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ حيث قال ﷺ: "إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا ولكن بعثني مُعلِّما وميسرًا". وهو القائل: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على مُعلِّم الناس الخير".
لقد حفلت صفحات التاريخ بأعلام كانوا منارات علم تهدي الحائرين، ومُعلِّمين صنعوا أجيالًا من العلماء، وأصحاب فكر بنوا عقولًا وشيدوا حضارات، ومن أمثال هؤلاء ابن سينا الذي مزج الطب بالحكمة، ولم يكتف بأن يكون طبيبًا حاذقًا، وعالمًا نابغًا، بل أضاف إلى ذلك كونه مُعلِّمًا رائدًا، ينقل علمه لطلابه ومريديه، ويترك بصمات خالدة ظلَّ أثرها على مدار التاريخ، والخليل بن أحمد الفراهيدي المولود في أرض عُمان المباركة، والذي وضع أُسس علم العَروض. كما وضع أسس التفكير المنهجي لطلابه الذين كان على رأسهم سِيبَوِيه إمام النحو، وباني أصوله، وأحد أعظم النُحاة المسلمين. كما لا ننسى العديد من الأئمة العُمانيين الذين حملوا لواء التعليم، وأثروا الحضارة الإسلامية بفكرهم النير، ونقلوا العلم إلى أجيال متتابعة، فكانوا مثالًا للمُعلِّم الذي يُسخِّر علمه لخدمة البشرية؛ كالإمام الفقيه جابر بن زيد، والإمام العلّامة والشاعر والمؤرخ الموسوعي نور الدين السالمي، والأصولي المحقق الإمام سعيد بن خلفان بن أحمد الخليلي، وغيرهم الكثير.
ولقد أدركت سلطنة عُمان، منذ انطلاقة نهضتها الحديثة، أن بناء الإنسان هو اللبنة الأساسية في بناء الوطن، وكان التعليم هو المحور الأول لهذا البناء، والمُعلِّم هو حجر الأساس. ولذا، لم تبخل السلطنة في دعم المُعلِّم، تأهيلا، وتدريبا، وتمكينا، ليكون على قدر المسؤولية في صناعة الأجيال الواعدة.
وكان السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- قائدًا مُستنيرًا، أدرك أن نهضة عُمان لن تتحقق إلا بالعِلم، فوجَّه جهوده لبناء منظومة تعليمية متكاملة، وأولى المُعلِّم اهتمامًا خاصًا. ومن أقواله التي خلدها التاريخ: "إننا نعيش عصر العلم ونشهد تقدمه المتلاحق في جميع المجالات، وإن ذلك ليزيدنا يقينا بأنَّ العلم والعمل الجادَ هما معا وسيلتنا لمواجهة تحديات هذا العصر وبناء نهضة قوية ومزدهرة على أساس من قيمنا الإسلامية والحضارية"، وهذا تأكيد على أن العلم هو أساس النهضة، والمُعلِّم هو الركن المتين لها.
وعلى خطى السلطان قابوس -رحمه الله- جاء حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- ليؤكد أن التعليم سيظل الركيزة الأولى للنهوض بالوطن. وقد أولى جلالته -أبقاه الله- التعليم اهتمامًا كبيرًا، إيمانًا منه بأن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الحقيقي. ومن أقواله: "وإن الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية، وسنمده بكافة أسباب التمكين باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المقبلة".
إنَّ المُعلِّم ليس مجرد ناقل للمعرفة؛ بل هو مهندس العقول، ومؤسس القيم، وصانع الحضارات. فبكلماته تتفتح الأذهان، وبحكمته تتغير المسارات، وبصبره يبني جيلا قادرا على النهوض بالمجتمع، وهو الذي يزرع بذور الطموح في نفوس طلابه، ويرويها بحب العلم، ويصقلها بالتجربة، حتى تثمر علماء ومفكرين يرفعون راية أوطانهم عاليا.
وأقل ما يمكن أن نقدمه للمُعلِّم هو الاحترام والتقدير، وأن نُوَفِّر له بيئة تمكنه من أداء رسالته السامية. ومن الواجب علينا أن نكرم المُعلِّم معنويا وماديّا، وأن نمنحه المكانة التي يستحقها في المجتمع، حتى يؤدي رسالته النبيلة بكل حب وإخلاص.
وعلى الرغم من مكانته الرفيعة، إلّا أن المُعلِّم يواجه العديد من التحديات، منها التطور السريع في أساليب التعليم، وضغوط العمل، ومتطلبات العصر الرقمي. والتي تحاول وزارة التربية والتعليم جاهدة وفق إمكانياتها المتاحة، وعبر مؤسساتها التعليمية، إلى دعمه بالتدريب والتطوير المستمر، واللحاق بركب التقدم، وتوفير بيئة تعليمية تحفّزه على الإبداع، وتضمن له حياة كريمة.
إنَّ المُعلِّم هو النبراس الذي يُضيء لنا دروب المعرفة، وهو الباني الذي يُشيّد صروح الأمل، وهو الجسر الذي نعبُر عليه إلى المستقبل.
وفي يوم المُعلِّم العُماني، نقف جميعًا إجلالًا وتقديرًا له، شاكرين جهوده، سائلين الله -عز وجل- له التوفيق والسداد ليواصل رسالته السامية في بناء الأجيال والمساهمة في بناء نهضة عُمان المتجددة نحو غدٍ أكثر إشراقًا.
** مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية المجتمعية
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مفارقة الشفافية.. هل تزيد ثقة الناس في العلم عبر الكذب؟
لطالما كانت الشفافية حجر الزاوية في بناء الثقة بين العلماء والجمهور، فقد اعتقد فريق من الفلاسفة والعلماء أن كلما كانت المؤسسات البحثية أكثر شفافية في تقاريرها، زادت ثقة الناس في العلوم.
لكن دراسة جديدة نشرتها جامعة بانغور في ويلز تكشف عن ظاهرة غير متوقعة، حيث تقول الدراسة إن الشفافية قد تؤدي إلى تقليص الثقة في العلوم بدلا من تعزيزها.
ووفقا للدراسة التي نشرها بايرون هايد، فيلسوف العلوم في الجامعة، في دورية "ساينس آند سوسايتي" تحت عنوان "الكذب يزيد الثقة في العلم"، لا يمكن النظر إلى الشفافية كعامل واحد يؤدي إلى زيادة الثقة بشكل دائم.
في الواقع، بينما تعتبر الشفافية أداة لتعزيز الثقة في العلوم حينما تنشر الجامعات أخبارا عن كشف أو ابتكار أو إنجاز علمي جديد، قد يؤدي الإفصاح عن الأخبار السيئة مثل الفشل في التجارب العلمية أو وجود تضارب في المصالح أو إعادة النظر في نموذج أو نظرية راسخة، إلى تقليص هذه الثقة.
يطلق هايد اصطلاح "مفارقة الشفافية" على هذا الأمر، وهو الظاهرة التي تشير إلى أن الشفافية تؤدي إلى زيادة الثقة وفقدانها كذلك، بحسب طبيعة نتائج العملية.
وبحسب الدراسة، تُظهر بعض الحالات الواقعية كيف يمكن أن يعمل التناقض الشفاف. فعلى سبيل المثال، في فضيحة "كلايمت جيت"، تم تسريب رسائل إلكترونية من علماء المناخ في جامعة "إيست أنغليا" في نورويتش في بريطانيا، مما أدى إلى اتهامات بالتلاعب بالبيانات.
ورغم أن التحقيقات أظهرت أنه لا يوجد خطأ في العمل العلمي، فإن الكثير من الجمهور فقدوا الثقة في علم المناخ، لأنهم كانوا يحملون صورة مثالية للعلم وعندما تبينت لهم "فوضى" العملية العلمية، تزعزعت ثقتهم.
أحد الأمثلة على ذلك أيضا، عندما يعيد العلماء النظر في نموذج بحثي قائم أو كان راسخا على مدى عقود، وليكن مثلا التصورات عن "المادة المظلمة" أو "الطاقة المظلمة" في الفيزياء ضمن نموذج علم الكونيات القياسي الحالي (لامبدا-سي دي إم)، هنا يتصور الناس أن العلماء يمشون خطى للأمام ثم يعودون فيها، وكأن تلك هي طبيعة العلوم.
إعلانويطرح ما سبق تساؤلا محوريا وهو: هل يجب أن تتجنب المؤسسات العلمية الإفصاح عن الأخبار السيئة لتحافظ على الثقة في المؤسسات العلمية؟ هذا ببساطة نوع من الكذب، مهما كان السياق.
ويشير هايد إلى أن الحل القائل بإخفاء النتائج السلبية غير مستدام وغير أخلاقي، ومن ثم يقترح أن الحل يكمن في معالجة سبب المشكلة من جذوره. فوفقا لهايد، تكمن المشكلة في أن الجمهور يبالغ في تقدير العملية العلمية، بسبب الإنجازات العظيمة للعلوم على مدى عقود.
ومن ثم يرجع فقدان الثقة في العلوم، وفقا للباحث، إلى أن الناس لديهم تصور مغلوط عن العلماء، فهم لا يرون العلماء كأشخاص معرضين للأخطاء أو التأثر بالتحيزات، بل يعتقدون أنهم أشخاص عظماء بطبيعة الحال، يملكون الإجابات الحاسمة دائما.
هذه الصورة المثالية التي يمكن أن يطلق عليها "صورة الكتب الخيالية"، تجعل الجمهور يفقد الثقة عندما لا تتماشى نتائج العلم مع توقعاتهم.
ويشرح هايد في دراسته أنه يجب على العلماء والمؤسسات التعليمية أن يعيدوا تعريف العلاقة بين الجمهور والعلم، فمن المهم أن يعي الناس أن العلم يعتمد على فرضيات وتحليلات دقيقة ولكنه لا يقدم إجابات مطلقة، كما أن العلماء هم بشر، وهم معرضون للأخطاء والتأثيرات الخارجية، مثل أي شخص آخر.
وبحسب الدراسة، فبدلا من إخفاء الحقيقة عن الأخطاء، يرى هايد أن الحل يكمن في تعليم الناس عن العلم، فالتعليم الصحيح حول كيفية عمل العلوم وكيفية وصول العلماء إلى استنتاجاتهم قد يساعد على تقليل هذا التوقع غير الواقعي، وفي هذا السياق يجب أن نفهم أن العلم ليس عملية مثالية، بل هو عملية مستمرة من الاستكشاف والتجربة، بما في ذلك الأخطاء.
على سبيل المثال، للوهلة الأولى تظن أن العلم هو كيان منتظم في خط سيره، لكن هنا يمكن أن نتأمل قليلا قول بيتر مدوّر، العالم الجائزة نوبل في الطب لعام 1960 مناصفة مع الأسترالي السير فرانك بورنت لاكتشافهما التحمل المناعي المكتسب، إن الأبحاث العلمية هي "نوع من الغش"!
بالطبع لا يقصد مدوّر الغش الذي تفهمه، وإنما يقصد أنها تظهر لنا في صورة نهائية أنيقة ومرتبة (مقدمة، وآليات، ونتائج، ومناقشة، واستنتاج، ومراجع) لكن الطريقة الحقيقية التي يعمل بها العلماء تتعلق أكثر بالخيال والارتباك والخطأ والتصحيح المستمر وهي عملية عاطفية في جانب منها، ومن ثم فالورقة العلمية تدفعنا للظن أن العملية العلمية باردة تماما، خالية من الخطأ.
في الواقع فإن ما يعطي العلم قوته لا علاقة له بورقة بحثية محددة أو خطأ محدد، بل بطبيعة العملية العلمية ككل، فهناك دائما قدرة على تصحيح الخطأ، وهنا يمكن أن نتأمل مفهوم ابتكره عالم الاجتماع الأميركي روبرت ميرتون وهو "التشكك المنظم".
حينما أقول لك إنني قد حللت مشكلة مفارقة المعلومات في الثقب الأسود فلن تصدقني حتى ترى تلك الأفكار مرفقة ببرهان أو دليل دامغ على صحة الادعاء. يحتاج العلماء دائما للتحقق من كل الحقائق، والاحتمالات المطروحة، والآليات المستخدمة، والأدوات التجريبية، كل شيء يجب أن يخضع للتحقق.
إعلانبناء على ما سبق، فإن العالم يمكن أن يخطئ أو يتحيز أو يكذب، لكن ليس العالم أو ورقته البحثية هما معيار تقدم العلم، بل الصورة الكلية التي يُمارس فيها التشكك المنظم بشكل مستمر، ومن ثم تنكسر "البارديغمات" العلمية، أو قل النماذج الإرشادية التي بنيت عليها العملية العلمية خلال فترة زمنية، مهما طال بها الزمن، وهنا يتقدم العلم للأمام.
ويقول هايد في تصريح رسمي حصلت الجزيرة نت على نسخة منه "يدرك العلماء وقادة الحكومات أهمية ثقة الجمهور بالعلم لأنه يمكن من اتخاذ قرارات مستنيرة، ويوجه السياسات العامة، ويدعم العمل الجماعي في قضايا حرجة مثل الصحة والمناخ والتكنولوجيا. إذا لم يمنح العلم الثقة، يصبح المجتمع أكثر عرضة للتضليل وأقل قدرة على الاستجابة بفعالية للتحديات المعقدة مثل الأوبئة"
ويضيف: "إذا أردنا أن يثق الجمهور بالعلم إلى الحد الذي يجعله جديرا بالثقة، فعلينا التأكد من فهمهم له أولا".
في هذا السياق، فإن هايد يشدد على ضرورة تغيير الطريقة التي يتم بها تدريس العلوم في المدارس والجامعات، وكذلك الطريقة التي يتم بها نقل المعلومات العلمية للجمهور، قائلا إن التعليم الذي يركز على القيم الأساسية للعلم مثل التجريب والاختبار المستمر والتفاعل مع الأخطاء قد يكون هو المفتاح لتعزيز الثقة.
ليست هذه المرة الأولى التي يشير فيها فلاسفة علم وعلماء إلى العلاقة المضطربة بين العلم والجمهور، على الرغم من كل الجهود الحثيثة لنقله. فمثلا في كتابه "طبيعة العلم غير الطبيعية"، يشير لويس ولبرت، الأستاذ الفخري بقسم علم الأحياء الخلوي والنمائي في كلية لندن الجامعية، إلى نقطتين أساسيتين لا يتمكن الجمهور من فهمهما، الأولى هي قدر اختلاف العلم عما نتصور أنه بديهي، والثانية هي أن العلم لا يحل كل المشكلات، ولا يمكنه توقع المستقبل بدقة.
التصورات الخاطئة عن هاتين النقطتين هي ما يدفع الناس إلى اتخاذ مواقف متناقضة من العلم، تتضمن مخاوفنا من هذا الشيء الغريب غير المفهوم والقوي جدا، والمرتبط بكوارث قد حدثت بالفعل مثل هيروشيما وناجازاكي، أو أخرى متوقعة كهواجس سيطرة الآلة والذكاء الاصطناعي وخلق وحوش بشرية عبر التكنولوجيا الحيوية وتقنيات كريسبر لتحرير الحمض النووي.
ويمتزج هذا الموقف مع شعور بالهيبة والثقة الشديدة تجاه العلم، فأنت مثلا تثق بأن ما يصفه لك الطبيب هو الدواء المناسب لك، رغم علمك أن ذلك القرص يحتوي على مادة كيميائية قد تكون قاتلة.
ويتفق وولبرت وهايد على أن المحاولات الحثيثة لتقريب العلوم للجمهور، على الرغم من نجاحات كبيرة حققتها، فإن الأمر يجب أن يكون أعمق من ذلك، ويدخل بجرأة لتعليم الجمهور عن طبيعة العملية العلمية، وتوضيح أنه على الرغم من دقتها الشديدة، فإن لها سقطات، التجارب تفشل، وقد يتحيز العلماء فهم بشر لا شك، يأتي ذلك في سياق عصر تنتشر فيه الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة بشراسة، بشكل مضاد تماما للعلوم، يستغل "صورة الكتب الخيالية" لتمرير سرديته.
هذا النوع من التعليم ضروري، لأنه على الأقل يعلم الناس أن يفصلوا بين العلم والعلماء، وهي نقطة غاية في الأهمية، لأن الناس عادة ما يقعون في مغالطة شهيرة تسمى "التوسل بالمرجعية".
وتجري المغالطة كالتالي: شخص ما يقول إن الادعاء "س" صحيح، هذا الشخص يعد خبيرا في النطاق الذي يتخصص في دراسة "س"، بالتالي فإن الادعاء "س" صحيح لا شك!
لوهلة، تظن أن هذا الكلام خال من الخطأ، لكن في العلم فإن الحكم على ادعاء ما بالصدق يكون بناء على الحقائق وإجماع العلماء، وليس من خلال علم أو خبرة قائله.
إعلانالناس عادة ما يساوون بين "العالِم" و"العلم"، لكن العالِم هو إنسان مثلك، يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يتحيز لعشرات الأسباب التي قد تكون سياسية أو دينية أو حتى شخصية بحثا عن الشهرة الإعلامية.
وستجد ذلك واضحا في حالات مثل أندرو ويكفيلد مثلا، وهو طبيب وباحث بريطاني سابق في أمراض الجهاز الهضمي والذي قاد حملة اعتمدت على العلوم الزائفة ضد اللقاحات، ولينوس باولنغ، العالم الحاصل على نوبل لكنه روج لأفكار خاطئة تماما عن دور فيتامين سي في حياتنا، وغيرهم من العلماء الذين آمنوا بالخرافات، بل بعضهم روج للأبراج، والعلاجات بالطاقة، ووصولا إلى القناعات -غير المدعمة بالأدلة- بوجود كائنات فضائية تعيش بيننا.
بل إن بول نيرس، الحاصل على نوبل في الطب لعام 2001، يحذر رفاقه الحاصلين على نوبل من "مرض نوبل"، وهو أن الحاصل على نوبل -بسبب الثقة التي تعطى إليه- يكون مستعدا للتعبير عن آراء حول معظم القضايا بثقة كبيرة، من علوم المناخ حتى قضايا الطاقة ومشكلات اللاجئين، محميا بالسلطة التي تمنحها له جائزة نوبل.
الواقع يقف تماما على النقيض من ذلك، أو كما قال ريتشارد فاينمان، الفيزيائي واسع الشهرة والحاصل على نوبل ذات مرة: "إذا تحدث فيزيائي ما في غير شأن الفيزياء، فهو أحمق بنفس قدر الشخص الجالس بجانبه".
العلم فعال.. لكنه قد يكون بطيئايجري ذلك في سياق فهم خاطئ لقوة العلم، فمثلا حينما نحاول صناعة دواء جديد، فإننا بحاجة إلى فترة تمتد من 3 إلى 6 سنوات من البحث العلمي وتطويره حول اختيار المادة الفعّالة من بين آلاف أخرى يمكن أن تخدم الهدف نفسه.
ثم بعد ذلك، يتطلَّب الأمر تحديد أيّ من تلك المواد سوف نبدأ باستخدامه في التجارب الأولية، بعد ذلك نحتاج إلى مدة تقترب من العام من أجل عمل الاختبارات الكيميائية الأولية والتجريب على الحيوانات.
ويحتاج التجريب الحذر على البشر إلى نحو 7 سنوات، ونحتاج بعد إطلاق الدواء إلى سنتين من أجل رصد تطور استجابة البشر لهذا الدواء، مما يعني أن مادة فعّالة واحدة، كالباراسيتامول الموجود في قرصَيْ بنادول، تحتاج إلى ما يقترب من 10 سنوات لكي تصل إلى يديك.
كما أن المرض معقد ولا يمكن فهمه بسهولة، خذ السرطان على سبيل المثال، يسأل الناس: لم لا يعالج العلماء السرطان بعد عقود من البحث ومليارات الدولارات؟
في الواقع، فإن السرطان ليس مرضا واحدا بل 200 مرض مختلف، حيث يبدأ من خلية واحدة وقد يصيب أنواعا متعددة من الخلايا في الجسم، مما يجعله معقدا للغاية ويختص كل نوع من السرطان بنوع محدد من الخلايا.
أضف لذلك أن الخلايا السرطانية قد تكون غير متشابهة حتى داخل الورم نفسه، كما أن الخلايا السرطانية تتطور مع مرور الوقت وتكتسب قدرة على مقاومة العلاجات. لذلك، علاج السرطان ليس أمرا بسيطا، بل يتطلب تقنيات متعددة ومتنوعة لمكافحة مقاومة الخلايا للأدوية.
حينما يتعلم الناس عن هذا الأمر، فإنهم يخففون في كثير من الأحيان من تحفزهم ضد العلم، وهو تحفز عادة ما يكون مدعوما بأفكار مؤامراتية تقول إن شركات الأدوية تتلاعب بالنتائج "للتحكم في مرضى السرطان" وأن "العلاج موجود لكنهم يخفونه".
لكن على الجانب الآخر، حينما يتعلم الناس عن مدى تعقيد وصعوبة العملية العلمية، وإمكانية حدوث أخطاء وتحيزات، فإنهم يخففون من نظرتهم المؤامرتية للعلم، وقد تزيد ثقتهم به.