لا أريد تكرار عبارة أننا أصبحنا على أعتاب مرحلة جديدة، فقد أصبحت عبارة مملة بالنسبة لي، وتكرارها أصبح أسلوبا غير محمود، بيد أن قراءة الواقع وتطوراته تتطلب التنبيه في كل منعطف، إذ أن الغالب أن السياسي مع كثر الملفات التي بين يديه يكون في غفلة عنها، ولذلك تكون العلاقة بين السياسي والمثقف علاقة جدلية فالسياسي علاقته بما يكتبه المثقف هي علاقة ضرورة حتى يدرك تفاصيل المراحل، أما علاقة المثقف بالسياسي فهي علاقة احتياج، وهذه العلاقة تدخل في تفاصيلها عدة عوامل لعل أبرزها التناغم في المشروع، والتوجه، ومدى تقدير السياسي للرأي، وقد تنشأ في البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية كائنات تدعي العلم والمعرفة فتكون وظائفها التبرير، وقد تلجأ إلى المغالطات المنطقية التي تتناغم مع السياسي دون أن تصدمه بحقائق الواقع، ونحن اليوم نعيش واقعا ضبابيا وغائما تبرز فيه فئة التافهين وتنال من الشهرة والتأثير مالا يناله أصحاب الرأي والفكر الرصين، وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الانحدار الذي وصل إلى القاع .
فالمجتمع الذي يحيط بنا اليوم غير المجتمع الذي كان بالأمس، ففي الأمس القريب كانت الأنظمة العربية تلجأ إلى فكرة الإعلام الموازي، وهو إعلام يستوعب أصحاب الفكر والرأي الذين يكون لهم موقف من السلطة، ويفسح هذا الإعلام مساحة لحرية الرأي، فتقوم مراكز التحليل في سلطات الدولة العليا بتحليل ما يرد في المقالات الناقدة، ويستوعب الآراء الواردة فيها، ثم تتحول إلى خطوات إجرائية صامتة تخفف من عوامل الاحتقان والتذمر عند الجماهير العريضة، وهي بدورها – أي الخطوات – قد تعزز من قيم الانتماء الوطني، وتساهم في تعزيز الوحدة الوطنية، أما اليوم في زمن شعبوية الإعلام فقد توارى دور المثقف وتراجع إلى مراتب متدنية وغير فاعلة من حيث عدم التأثير، وغياب الفاعلية، حتى أصبح غريبا في دياره ومكانه، وقد ينظر إليه السياسي بنظرة غير سوية، وقد يراه عدوا ممقوتا، وينساق مع حركة الواقع في إرسال التهم وإلباسه بها جزافا ودون تمعن، أو قراءة فاحصة لما قال أو يقول، ويراه منظرا لا تتحمله المرحلة، فيحاصره في حياته ومعاشه، ومثل ذلك التوجه نجده عند غالب الأنظمة العربية التي تستهدفها الصهيونية العالمية بالحرب الباردة والحرب الناعمة، ولعل أقرب مثال قريب لنا هو ما حدث في سوريا خلال ما سلف من أشهر، فقد امتدت يد الغدر والخيانة والاغتيالات إلى أبرز رموز الفكر والرأي وأبرز العلماء في العلوم المختلفة، وأصحاب المواقف والمبادئ والقيم، وحدث نفس السيناريو في بغداد بعد سقوطها بيد أمريكا عام 2003م، ولا تخفي الصهيونية العالمية خوفها من أرباب الفكر، وقد سمعنا خلال سوالف الأيام والأشهر تصريحات سياسية تقول، بضرورة التخلص من الفاعلين والمؤثرين الذين يعيقون تمدد الحركة الصهيونية في المنطقة .
تسطيح الوعي وترميز التافهين للوصول إلى مجتمع التفاهة استراتيجية غربية واضحة وقد صدرت الكثير من المؤلفات المناهضة لها في الغرب نفسه، لكننا في الواقع العربي نساهم في تعزيزها وتنميتها بوعي منا، وفي أحيان كثيرة بغباء مفرط وغير مبرر، إذ تركنا المجال مفتوحا للتافهين، والحمقى، كي يعيدوا صياغة الوجدان العام بنظم التفاهة والانحدار الأخلاقي، وحاولت الأنظمة السياسية على تكريس هذا الواقع من خلال الاعتراف بالترميز والاهتمام بفئة التافهين وإغراقهم بالمال من قبل شركات عالمية في حين يظل المثقف الحقيقي خارج دائرة الاهتمام تتناوشه رماح الحاجة وتقطع أوصاله سيوف المذلة والهوان دون رعاية أو اهتمام وبحجج شتى .
ثمة قواسم مشتركة تجمع السياسي بالمثقف لو أراد واقعا مزدهرا ومستقرا، تنحصر كلها في مفردة الاعتراف بالقيمة والمعنى وفي الرعاية المستمرة، فالتعالي الذي يفصل بين الطرفين تتخلله مساحات رخوة يمكننا تمتينها من خلال الحوار والتواصل والاقتراب، أما التبعيد والإقصاء فقد يزيد الهوة اتساعا، ونصبح حينها في دائرة مفرغة، تستغلها القوى المعادية من خلال احتلال اللغة وطمس معالمها وتغيير مفاهيمها، حتى نصل إلى حالة التيه، وقد وصلنا إليها اليوم على مدى أكثر من عقد ونصف من الزمان، فالحرية اليوم تعني الاستعباد والاستقلال أصبح احتلالا والوطني أصبح عميلا، والعميل أصبح وطنيا بامتياز، وقد نرضى بالدخيل ونرفض الأصيل الذي له انتماء للوطن والأرض .
الواقع يفرز نفسه وظواهره التي تحاصرنا بين الفينة والأخرى يفترض بنا قراءتها بوعي البصير لا بعاطفة الخاضع لشروطها، فالعاطفة إذا لم يعقلها منطق الأشياء وأنساقه ومعارفه وقيمه تصبح سلاحا مدمرا يفتك بمقدرات الأمم من حيث لا نحسب للأمر حسابا، فالعاطفة إن لم تقيد بشروط وقيم ومبادئ المجتمع تصبح عامل تدمير لا عامل بناء، ونحن اليوم على أعتاب مرحلة، ونخوض حربا ضروسا يرى البعض أنها قد أسلمت قيادها في حين أنه لا يدرك سعة معارف خصومه التي تطورت مع المستويات الحضارية الحديثة وبلغت مراتب متقدمة، في حين ظلت فكرة الثبات والتخشب كسمة لازمة للعقل العربي منذ قرون فهو ابن يومه ولا يفكر في غده فالمبدأ القديم ما يزال جديدا وهو الذي يرى أن نعيش سكرة اللحظة ونشوتها ولا نفكر في غدها، وتلك مشكلة لا بد أن نجتازها من خلال القراءة العلمية للتاريخ وجدليته، فالتاريخ العربي يظل تأريخا ظنيا، إذ أن أحداثه في غالبها تناقض العقل والمنطق، وكتبه فقهاء لغايات سياسية مؤقتة، أما التاريخ الحقيقي فلم يكتب كما ينبغي أن يكتب بعد .
أي حضارة في كل مراحل التاريخ تستفيد من نظائرها فتضيف وتبدع وتستفيد من التاريخ ففيه عظات وبصائر .
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
رواية مقعد أخير في الحافلة لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام مأسي الواقع
من الصعب على الكاتب أن يكشف عن جميع أوراقه في بداية الرواية، ومن الصعب أحيانا على المتلقي أن يتابع القراءة عندما يتبين له الحدث الأساس للرواية من الصفحة الأولى. حادث سير مروع لمجموعة من الموظفين قبيل عيد الأضحى. مات من مات وجرح من جرح، فماذا بعد في جعبة الكاتب ليقول؟
يبدو أن أسامة زيد في باكورة أعماله الروائية "مقعد أخير في الحافلة" والصادرة في العام 2025 عن دار الرواق للنشر في مصر، اتخذ الطريق الشائك، والأخطر إن صح القول.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أرشفة غزة في الحاضر: توثيق مشهد وهو يختفيlist 2 of 2الأدب الإريتري المكتوب بالعربية.. صوت منفي لاستعادة الوطن إبداعياend of listهل من نجاة بعد الحادث؟تبدأ الرواية الواقعة في 197 صفحة من القطع المتوسط بالحادث. مشهد سينمائي بكل التفاصيل ومشحون بالكثير من المشاعر المتضاربة لكل شخصية كانت جالسة في تلك الحافلة المنكوبة.
ثوان قليلة تفصل بين البقاء والفناء، بين العودة والغياب الأبدي، عن عائلة، عن أبناء، عن أقارب… وعن حياة اعتادوها لن تكون كما كانت من قبل. وهنا تطرح الرواية التساؤل الجوهري الأول: ما معنى النجاة؟ هل أن ينجو جسدك من حادث سير يعني بالضرورة نجاتك الحقيقية من تبعات ذلك الحادث؟
إن عالجوا رضوض جسدك وخدوشه، من يعالج كدمات روحك؟ من يزيل الحجارة الثقيلة الرابضة على مخيلتك وخوفك وتساؤلاتك غير المنتهية عن الحياة وفحواها بعد اكتشافك أن الفاصل بين حياتك وموتك قد لا يتعدى حادث سير وأنت في طريقك لاحتضان أمك العمياء، لشراء ملابس العيد لابنك، للاحتفال بزواج ابنتك، لتقبيل ابنتك الرضيعة، للنظر إلى زوجتك المشتاقة، للاطمئنان على أخواتك… أو فقط للخلود إلى النوم في سريرك، في بيتك، بين أهلك ومحبيك.
هكذا ببساطة قد تختفي، قد يزول أثرك، قد تمحى أحلامك وتتهدم أسقف بيتك، قد لا تصحو غدا، قد يحدث كل هذا وأنت في حافلة.
تعود كل شخصية من شخصيات الرواية إلى منزلها بعد الحادث، بالكثير من الكسور والرضوض الجسدية والنفسية، باستثناء أبو المجد الذي لم تفتح له الحياة ذراعيها هذه المرة، شطب من سجلات الناجين وسرح إلى العالم الآخر، وسامر الغائص تحت ثقل التنفس الاصطناعي والكثير من الأسلاك الطبية التي تحاول جاهدة إنقاذ الجسد المتهالك.
الشخصية الرئيسية وعقدة الذنبرغم مرور الكاتب على الكثير من الشخوص في الرواية والحديث ببانورامية لافتة عن حيواتهم قبل وبعد الحادث، لكن تبقى شخصية آدم هي الشخصية الأساس في العمل، ليس فقط بسبب المساحة الكبيرة المفرودة لها في الرواية، ولكن أيضا بسبب تركيبها المعقد، والصراعات النفسية الداخلية التي تعصف بها، بداية من علاقته المتوترة بوالده الراحل وطريقة تربيته الصارمة والقاسية في كثير من الأحيان وعقدة الذنب التي رافقته طيلة حياته، إذ يعتقد أن والده مات كمدا بسببه عندما قرر السفر.
إعلانعقدة الذنب تلك التي استفحلت وانتكست بعد الحادث عندما أعطى مقعده في تلك الحافلة المشؤومة لأبي المجد، اعتقادا منه أنه يمنح أبو المجد المسن مقعدا مميزا إلى جانب النافذة بدلا من الانحشار بينه وبين زميلهما زياد في الوسط.
كان مقدرا أن ينجو كل من في الحافلة باستثناء أبي المجد، لتبدأ مأساة جديدة في حياة آدم الذي بات في عين نفسه قاتلا لوالده ولأبي المجد. عقدة الذنب تلك لم تقف عند الوالد وزميل العمل، بل أصبح آدم يلوم نفسه على أية حادثة سيئة تصيب من يعرف، فهو يعتقد أنه السبب في إصابة سامر في رأسه في أثناء الحادث، فلو كان قد صعد قبله إلى الحافلة لكان قد جلس في محله وما كان حل به ما حل، ولو كان قد اهتم بزيارة حسان (والد سامر) أكثر، لما كان توفى.
تبرير مريض عشعش في ذاته يجلده بسوط من جمر ملقيا اللائمة على نفسه بسبب أو من دون سبب.
لا يتحرر آدم من عقدته إلا بعد مشهد أقل ما يقال عنه إنه رائع، أجاد زيد رسم ملامحه بريشة فنان متمرس وليس روائي يكتب للمرة الأولى. المشهد هو في المستشفى عند تغسيل جثة حسان ومن بعدها مشهد الدفن. إذ تتجلى أوجه الضحايا، أبو المجد، الأب، وحسان، في وجه واحد وجسد واحد، كأنهم يمنحون آدم صك غفران لعله يتحرر من آفة الذنب الرازح تحت ثقل وجعها.
لفتني أن الكاتب متمكن من شخوص روايته، يحبكهم بتأن، يعتني بهم، كأب عطوف، يقسو أحيانا ويغفر أحيانا أخرى. والأجمل من ذلك أن أسامة زيد يرسم شخوصا غير موجودة بشكل فعلي في الرواية.
فوالد آدم لا يظهر في أي مشهد باستثناء كوابيس آدم، وسامر قابع في المستشفى، وأبو المجد يظهر في مشهد واحد قبل الحادث، ومع ذلك يرسمهم أسامة كشخوص من لحم ودم يبقى تأثيرهم الفعلي قوي في العمل، وهذا من وجهة نظري مصدر قوة في الكتابة ودليل على مقدرة متميزة يفتقدها الكثير من كتابنا المعاصرين الذي يفشلون في أحيان كثيرة في رسم ملامح شخوص موجودة بشكل عملي في القصة، فما بالك بشخوص غائبة؟
شخصيا لم يعجبني الانتقال الفجائي وغير المبرر من الرواي العليم إلى الراوي الأول بعد مرور أكثر من ثلثي الرواية عن لسان الراوي العليم لنجد أنفسنا فجأة نتابع السرد ولفصلين كاملين على لسان آدم.
من خلال جلسة حوارية مع الكاتب استمرت أكثر من 3 ساعات عبر زووم في نادي صناع الحرف اللبناني للقراءة، ذكر أسامة أن الحادثة التي رواها في روايته هي واقعة حقيقية وقعت له بالفعل، إذ في الحافلة كان هو آدم الذي قدم مقعده لأبي المجد. وهنا تطرح الرواية تساؤلا جديدا: هل يتطهر الكاتب من مأساته عندما يجبلها بأوجاعه ويحنطها في رواية؟
أسامة زيد روائي مصري يعيد لنا الأمل في الرواية المصرية من جديد بعد انحدار لافت بالنوعية التي باتت منتشرة وللأسف مؤخرا بسبب كثرة وسهولة النشر في مصر، إذ أصبحت الكتابة هناك مهنة من لا مهنة له. قد يكون أسامة زيد بدأ رحلته في الكتابة متأخرا، لكن أن تبدأ خير من ألا تبدأ مطلقا.
إعلان