هل تلعب تركيا مع الطرفين في الحرب الأهلية السودانية ؟
تاريخ النشر: 16th, March 2025 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
كشف تقرير حديث نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عن تورط شركات تصنيع أسلحة تركية في بيع أسلحة لكل من القوات المسلحة السودانية، وربما لقوات الدعم السريع المتمردة التي تتهمها الولايات المتحدة بارتكاب إبادة جماعية وانتهاكات لحقوق الإنسان طوال الحرب الأهلية السودانية.
يقدم التقرير تفاصيل عن قيام شركة «بايكار» التركية الرائدة في تصنيع الأسلحة التي يملكها سلجوق بيرقدار صهر الرئيس رجب طيب أردوغان، ببيع أسلحة هجومية إلى نظام الصناعات الدفاعية السوداني، وهو وكالة المشتريات العسكرية السودانية.
بلغت قيمة الصفقة بين شركة بايكار والقوات المسلحة السودانية مائة وعشرين مليون دولار، ونتج عنها بيع ست طائرات مسيرة من طراز TB2، وثلاث محطات تحكم أرضية، وستمائة رأس حربي في عام 2023. ومن المثير للاهتمام أن عملية البيع تمت في السادس عشر من نوفمبر لعام 2023، أي بعد خمسة أشهر من فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على نظام الصناعات الدفاعية السوداني.
إضافة إلى ذلك، كشف تقرير صحيفة واشنطن بوست عن تورط شركة «أركا للدفاع»، وهي شركة تركية أخرى لتصنيع الأسلحة، في اتصالات مكثفة مع الغوني حمدان دقلو موسى، وهو شخصية بارزة في قوات الدعم السريع، ومسؤول المشتريات الرئيسي فيها، وشقيق قائدها. غير أنه ليس من الواضح بعد ما إذا كانت شركة أركا قد باعت أسلحة لقوات الدعم السريع، فقد نفت الشركة هذا الاحتمال.
حرب السودان الأهلية
اندلعت الحرب الأهلية السودانية في أبريل 2023 إثر تصاعد توترات بين فصيلين متنافسين هما القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي). كان الجنرالان الكبيران في البلاد حليفين أول الأمر في انقلاب عام 2021 الذي أطاح بالحكومة الانتقالية السودانية الناشئة المؤيدة للديمقراطية عقب الإطاحة بعمر البشير عام 2019. غير أنهما اختلفا حول كيفية دمج القوات شبه العسكرية في الجيش النظامي.
وتصاعدت الحرب في السودان وتحولت إلى كارثة إنسانية كبرى. وقد انتهت بعثة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة في سبتمبر 2024 إلى أن كلا الجانبين ارتكبا «مجموعة مروعة من انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الدولية»، منها الاغتصاب الجماعي والاعتقالات التعسفية والتعذيب. ويحتاج نصف الشعب السوداني إلى مساعدات إنسانية، إذ يواجه خمسة وعشرون مليون نسمة انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، في حين أن الولايات المتحدة تقدر أن الحرب أودت بحياة مائة وخمسين ألف شخص.
استمرت الحرب لمدة عامين، وذلك جزئيًا بسبب تدخل قوى خارجية. ففي حين أن مصر والمملكة العربية السعودية هما الداعمان الرئيسيان للقوات المسلحة السودانية، فإن الكثيرين يعزون النجاحات الأخيرة التي حققتها القوات المسلحة السودانية في ساحة المعركة إلى التزويد السري بالطائرات الإيرانية المسيرة. وفي الوقت نفسه، أصبحت الإمارات داعمًا رئيسيًا لقوات الدعم السريع، وهي خطوة بررتها باتهام القوات المسلحة السودانية بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين. وقد خلص تقرير لمرصد الصراع السوداني «بشكل شبه مؤكد» إلى أنه فيما بين يونيو 2023 ومايو 2024، انتقلت اثنتان وثلاثون رحلة جوية بشحنات من الإمارات إلى قوات الدعم السريع، التي اتهمتها إدارة بايدن بارتكاب إبادة جماعية.
من دوافع تورط القوى العربية والأفريقية في حرب السودان السعي إلى الوصول إلى البحر الأحمر الاستراتيجي والسيطرة عليه. ففي فبراير 2025، أعلن وزيرا الخارجية الروسي والسوداني التوصل إلى اتفاق يسمح لروسيا بإنشاء قاعدة بحرية في بورسودان.
لا يخفى على أحد أن أردوغان قد عمل على توسيع العلاقات العسكرية والدبلوماسية التركية في منطقة القرن الإفريقي. إذ تكمن المصلحة، بالنسبة لتركيا، في ترويج نفسها بوصفها قوة كبرى. وفي ديسمبر 2024، اتصل أردوغان بقائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وعرض عليه «التدخل لحل النزاعات بين السودان والإمارات».
كما أن تركيا قد عززت حضورها في القارة الإفريقية من خلال ترسيخ وجود عسكري في الصومال وتوقيع اتفاقية للتنقيب عن اليورانيوم مع حكومة النيجر. وفي حالة الصومال، استثمرت أنقرة استثمارًا كثيفًا، إذ عرضت التدريب والمساعدة على الجيش الصومالي، وحصلت على حقوق التنقيب عن الهيدروكربون، وأقامت علاقة ودية مع دولة لها موقع استراتيجي على ممرات الشحن الحيوية في القرن الإفريقي. وفي حالة النيجر، يبدو أن أنقرة تستكشف خيارات الحصول على اليورانيوم سعيًا إلى إنشاء قدرات نووية. فلطالما حلم الرئيس أردوغان بأن تصبح تركيا مستقلة عن الغرب من حيث التزاماتها بالتحالف ومن حيث احتياجاتها من المشتريات العسكرية.
يشير تورط أنقرة في السودان إلى أن سياستها الخارجية تفتقر إلى أي قيم، وعزمها على تجاهل العقوبات التي تستهدف ردع استمرار إراقة الدماء. ولا ينبغي أن يكون أي من هذا مدهشا. فأردوغان يلعب على كلا الجانبين في الصراع الأوكراني. إذ يتظاهر، من ناحية، بالوفاء بمسؤوليات تركيا بوصفها عضوًا في حلف الناتو، فيغلق المضائق التركية أمام السفن الروسية. ومن ناحية أخرى، سمح للنظام المصرفي التركي بتحويل الأموال الروسية غير المشروعة التابعة لرجال بوتين من الأثرياء، وسمح للشركات التركية ببيع سلع مزدوجة الاستخدام للجيش الروسي، موفرًا بذلك دعمًا حيويًا لجهود بوتين الحربية غير القانونية.
وفي عام 2012، أسست مجموعة من الجنرالات العسكريين الأتراك، بقيادة عدنان تانريفيردي، المطرودين من الجيش التركي بسبب ميولهم الإسلامية في عام 1997، أول شركة عسكرية خاصة في تركيا، وهي شركة (بي إم سي) سادات. وتانريفيردي هو أحد المقربين لإردوجان. ومنذ تأسيس (بي إم سي) سادات، قدمت الشركة الأمن والتدريب العسكريين للمنظمات ذات التوجهات الإسلامية في ليبيا وأذربيجان وغرب أفريقيا وسوريا والعراق. وتتضمن مهمتها المعلنة الرغبة في تشكيل تحالف من الدول الإسلامية يحتل مكانه بين القوى العظمى في العالم.
وينبغي أن تنتبه الولايات المتحدة وأوروبا لهذا الأمر. فهناك إجماع متزايد في الغرب على أنه من أجل مواجهة التهديدات الروسية التوسعية تجاه أوروبا، فلا بد من منح تركيا مقعدًا على الطاولة، على أن يتضمن ذلك إعادة إطلاق عملية انضمام أنقرة المتعثرة إلى الاتحاد الأوروبي. وثمة قناعة لدى رئيس وزراء بولندا والأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بأن أوروبا، التي تضم تركيا بقدراتها العسكرية الهائلة، هي وحدها القادرة على مواجهة التحديات الأمنية الوجودية التي يفرضها العدوان الروسي. لكن السؤال هو: ما الذي يجعلهما يعتقدان أن تركيا سوف تكون دعما لأوروبا ؟
سنان سيدي زميل أول غير مقيم في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD)، حيث يشارك في (برنامج تركيا) التابع لها وفي (مركز القوة العسكرية والسياسية) (CMPP).
صوفيا إيبلي متدربة في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وطالبة في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون.
عن ذي ناشونال إنتريست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القوات المسلحة السودانیة الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
ليبيا بعد القذافي.. من أحلام الثورة إلى الحرب الأهلية.. قراءة في كتاب (1)
الكتاب: ثلاث سنوات إنتقالية داميةالكاتب: الدكتور يوسف شاكير
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 2015
(عدد الصفحات 447 من القطع الكبير).
هذا الكتاب "ثلاث سنوات انتقالية دامية" لمؤلفه الدكتور يوسف أمين شاكير الأرناؤوطي: (وهو معارض ليبي سابق، أحد مستشاري العقيد القذافي والمحيطين به أثناء ثورة 17 فبراير 2011، اختفى من الظهور بعد دخول قوات المجلس الوطني إلى طرابلس في أغسطس 2011، ثم ظهر على قناة الرأي السورية ثم قتاة الدنيا، واستمر فيهما على تأييده لنظام القذافي (يتحدث فيها الكاتب عن المأزق الليبي خلال أربع سنوات كاملة مضت على عملية التغيير السياسي الحادة داخل ليبيا بكل ما لها وما عليها. والقضية اليوم لم تعد في توصيف اللحظة التاريخية التي احتواها شهر فبراير عام 2011، هل هي "ثورة" أم كانت مؤامرة سياسية شارك فيها الجميع دون استثناء؟ أم حالة وسط بين هذين الحدَّين السياسيين عبرت عن نفسها في لحظة ارتباك سياسي تاريخي..؟
يتألف الكتاب من مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة. المقدمة بعنوان: إخفاق نخبة ومجتمع بسبب سوء إدراك الفعل الثوري، يتبع الفصل الأول أو جاء بعنوان: فشل النخبة الليبية الجديدة وافتقادها الشعور بالمسؤولية التاريخية، بينما جاء الفصل الثاني بعنوان: ليبيا الحائرة بين الموروث القبلي والحاضر المسكون بالصراع والتوتر، وحمل الفصل الثالث عنوان: ليبيا بين نموذج الدولة الرخوة والدولة الفاشلة، وأما الفصل الرابع فجاء بعنوان: برقة وعدوى الفيدرالية، خطوة للماضي أم استباق للمستقبل، وأخيرا الخاتمة: نحو رؤية مستقبلية لكيفية الخلاص السياسي من الواقع المأزوم.
ليبيا من الجماهيرية إلى انتفاضة 17 فبراير والتدخل الأطلسي
بعد سقوط النظامين في كل من تونس ومصر، انطلقت يوم 17 فبراير 2011 حركة احتجاجات في ليبيا المجاورة، وتحديداً من مدينة بنغازي. وكان ظاهرا أن المجتمع الدولي سيُدِين القمع ضد المدنيين ويلجأ إلى خطوات عملية. والوضع أصبح أكثر وضوحاً عندما وجهت الدول الخليجية المؤثرة "بطاقات حمراً" لنظام العقيد القذافي. وهي الخطوة التي اعتبرت مؤشرا على وجود قرار لاستبدال النظام وتغييره.
كان العقيد القذافي كسب دعم العواصم الرئيسية في الغرب لتأمين استمراره في الحكم بعد التنازلات التي قدمها له عقب الغزو الأمريكي للعراق في 19 مارس 2003، فأرجأ قائد ليبيا الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي كان قد أعلن عنها، وكلّف ابنه سيف الإسلام بقيادة العملية الإصلاحية التي أعلنها.
لقد اختار المعارضون الليبيون إطلاق انتفاضتهم في السابع عشر من فبراير2011، بما يمثله هذا التاريخ من ذكريات أليمة للشعب الليبي، حيث يصادف ذكرى اشتباكات وقعت في بنغازي في العام 2006، حين قتلت قوات الأمن العديد من المحتجين الذين كانوا يحاولون اقتحام القنصلية الإيطالية، وذكرى تنفيذ أحكام الإعدام بعدد من المعارضين لنظام القائد الليبي في بنغازي أيضاً العام 1987.
كان العقيد القذافي كسب دعم العواصم الرئيسية في الغرب لتأمين استمراره في الحكم بعد التنازلات التي قدمها له عقب الغزو الأمريكي للعراق في 19 مارس 2003، فأرجأ قائد ليبيا الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي كان قد أعلن عنها، وكلّف ابنه سيف الإسلام بقيادة العملية الإصلاحية التي أعلنها.وتعتبر المنطقة الشرقية، وعاصمتها بنغازي، معقل المعارضة الليبية تاريخياً. فبنغازي تعتبر مدينة مصرية أكثر منها ليبية، وهواها هوى مصري، ومعظم طلابها يدرسون الحقوق والطب في جامعات الإسكندرية والقاهرة. ونظراً لعملية التهميش التي كانت تعاني منها المدينة وسكانها من قبل نظام القذافي لم تعترف هذه المدينة بسطوة نظام القذافي العسكرية والأمنية، ولا بهيمنة طرابلس كعاصمة سياسية لليبيا. وهذا ما دفع شبابها المتأثرين بالثورة الشبابية في كل من مصر وتونس، إلى الدعوة للتظاهر على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لحق بهم شباب طرابلس، ومصراتة، وغيرها من المدن الليبية الأخرى.
بعد أكثر من ستّة أشهر من الحرب الأهلية، وثمانية آلاف عملية قصف نفّذها حلف شمال الأطلسي، لم تسجّل جبهتا البريقة ومصراته سوى تطوّراً ضئيلاً. والتحرّكات الحاسمة على الصعيد العسكري التي أدّت إلى سقوط طرابلس الغرب خلال بضعة أيام من نهاية أغسطس 2011، لم تأت من سكّان الشرق، بل بشكل أساسي من سكّان بعض المدن الغربية بقيادة قبيلة عربية كبيرة من جبال الغرب (جبل نفوسة): هي الزنتان.
مع دخول الثوار الليبيين طرابلس والسيطرة عليهافي نهاية شهر أغسطس 2011، سقط نظام العقيد القذافي الذي حكم ليبيا ما يقارب إثنين وإربعين عاما، فتشتت شمل العائلة وافترق سيف الإسلام عن أبيه الذي غادر إلى سرت بصحبة المعتصم لمواصلة المقاومة، فيما فرّ من بقي من أفراد العائلة إلى الخارج. ووقع سيف الإسلام القذافي في قبضة ثوار الزنتان. لكن مصيره بقي في كل الأحوال، أفضل من مصير أبيه وشقيقه المعتصم اللذين لقيا حتفهما في ملابسات لا تزال تفاصيلها غامضة يوم 20 أكتوبر 2011 إثر تعرض موكبه لضربة جوية، قبل أن يعثر عليه الثوار، ويُغْتَال برصاصة في الرأس (أطلقها عليه أحدهم)، لدى نقله إلى مصراتة بهدف احتجازه والاقتصاص منه.
تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا لبقائها ضمن سيطرة الغرب
منذ انطلاقتها كانت الأزمة الليبية موضوع انقسام شديد بين القوى السياسية علي اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية في العالم العربي، بين من يؤيد الحراك الشعبي ذو الطابع السلمي، وبين من يعتبر التدخل العسكري لحلف الأطلسي لنصرة الثورة وإسقاط نظام العقيد القذافي، يتناقض مع مصالح الشعوب العربية. وكانت القوى الوطنية والديمقراطية العربية، استبشرت خيراً ،عندما بدأ الربيع العربي مطلع العام 2011، لا سيما بعد أن أطاحت حركة شعبية نظامين ديكتاتوريين تعاونا على مدى عقود مع الولايات المتحدة الأمريكية، واضطهدا شعبيهما، تحت لواء محاربة التطرف الإسلامي .
غير أن الانقسام الشديد برز داخل صفوف المعارضات العربية، عندما أخذت الأمور منحى معقداً في ليبيا، مع تدخل قوات حلف شمال الأطلسي لإسقاط النظام. فقد أطلق تدخل حلف شمال الأطلسي العنان لنقاش داخل المعارضة اليسارية والقومية العربية التي كانت معارضة للغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية مبرراتها للحرب ضد نظام صدام حسين قضية أسلحة الدمار الشامل التي ادعت أنَّه يمتلكها وعلاقاته المزعومة مع تنظيم "القاعدة". وقد اتضح أن هاتين الحجتين عاريتان من الصحة، وتبيّن أن المسألة كلها كانت تستهدف السيطرة على ثروات النفط العراقي دون سواه، لا إحلال الديمقراطية!
هكذا أظهرت عوارض التمزّق في النقاشات السياسية التي قسّمت على الصعيدين الاستراتيجي والأيديولوجي معاً، المعارضة اليسارية والقومية في العالم العربي.إذ استمرّ بعضها في دعم النظام الليبي، باسم ماضيه المناهض للإمبريالية الغربية، بينما وقف آخرون بحزمٍ إلى جانب الانتفاضة دعماً للمنطق "الثوريّ" ودفاعاً عن "الحقوق الديموقراطية". وبقى فريقٌ ثالث انتهج خطّاً وسطيّاً، ما بين التضامن باحتراز مع مطالب المتظاهرين بالحريّة ورفض التدخل الأطلسي ، ودعا إلى شكلٍ من أشكال "المصالحة الوطنية". وسواءً أكانت الأطراف اليسارية العربيّة من أصولٍ شيوعيّة أو ماركسية بكلّ معنى الكلمة، أم كانت تدور في فلكٍ يسار قوميّ ما، أم كانت راديكالية أم معتدلة، فإنّها قد أخذت في الأزمة طابع الفسيفساء المتشظّية.
هناك قسم من التيارات اليسارية، ندّدت بالنظام الليبي ودعت إلى إسقاطه، لكنها لم تقلّل حذرها في موضوع الدعم الذي قدمته دول الخليج إلى الثوار الليبيين، كما أنّها لم تلتحق كلّياً بالخطاب المناهض للزعيم الليبي الصادر عن قسمٍ من "المجتمع الدولي"، وعلى رأسه الولايات المتحدة. إلاّ أنّ ردّ الفعل هذا المناهض للإمبريالية لم يتقدّم هنا على دعم الثورة.إذ أعطى الأولوية للوضع الداخلي الليبي، ومنطق ثورة الشعب على نظامه هو الذي أُخِذَ بعين الاعتبار قبل أيّ شيءٍ آخر، كما في المسارات التي اعتُمِدت في تونس أو في مصر.
في المقابل، هناك مسافة حذرة اتخذت من "الثورة الليبية"ميزت بها غالبية القوى الواقعة على يسار القوس السياسي في العالم العربي. إذ استنكرت هذه الغالبية أوّلاً عسكرة الانتفاضة المدعومة من الدول الخليجية وحلف شمال الطلسي ،لأنَّها كانت تخدم مصلحة المجموعات الاسلامية.كما ركزت على الخوف من تحوّل النزاع إلى صراعٍ قبلي ومناطقي يُهَدِّدُ وحدة ليبيا ، ورأت في ذلك خطر حربٍ أهلية لا نهاية لها.
لكن الإنقلاب في المواقف حصل بصورة أكثر جذرية عندما وصلت حركات الإسلام السياسي المتحدرة من الإخوان المسلمين إلى السلطة في كل من تونس،ومصر، والمغرب، فقد باتت هناك خشية من أن تفضي"ثورات الربيع العربي" إلى هيمنة إسلامية في العالم العربي.. وهكذا اندرج موقف قسمٍ كبير من اليسار العربي حول الملفّ الليبي ضمن مواجهته الخاصّة مع قوى الإسلام السياسي. وازداد هذا الموقف وضوحاً عندما بدأت الدول الخليجية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية وقطر، تدعمان بقوة المعارضة المسلحة الليبية بالمال والسلاح، والإعلام.
كان الانفتاح الأمريكي الجديد والكبير على حركات الإخوان المسلمين في زمن "ربيع الثورات العربية"، يدخل في سيرورة عملية استبدال النخب العربية في علاقات تبعيتها للغرب. في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت الحركات الوطنية الاستقلالية، والجيوش العربية التي استلمت السلطة، هي القوى التي انخرطت في عملية التبعية الكاملة للغرب، الآن استنفدت هذه الدول التسلطية العربية دورها بعد أن" ثارت" الشعوب العربية ضدها وأسقطتها في ثلاث دول عربية رئيسة، تونس وليبيا ومصر.
وقد اعتبر العديد من المحللين الغربيين أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد تفجر "ربيع الثورات العربية"، باتت مقتنعة بالتحالف مع الحركات الإسلامية "المعتدلة" لمواجهة تنظيم "القاعدة" وتوابعه ،رغم يقينها التام أنَّ الديمقراطية أضحت جسرًا يَعْبُرُ عليه الإسلاميون إلى الحكم في العالم العربي ،وهو ما وضع إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أمام خيارين لا ثالث لهما،إما الاستمرار في نشر الديمقراطية والقبول بنجاح الإسلاميين في الانتخابات، أودعم الأنظمة الديكتاتورية الموالية لها والمخاطرة بالتالي باحتمال اندلاع ثورة إسلامية ثانية ضد تلك الأنظمة.
لقد اختار المعارضون الليبيون إطلاق انتفاضتهم في السابع عشر من فبراير2011، بما يمثله هذا التاريخ من ذكريات أليمة للشعب الليبي، حيث يصادف ذكرى اشتباكات وقعت في بنغازي في العام 2006، حين قتلت قوات الأمن العديد من المحتجين الذين كانوا يحاولون اقتحام القنصلية الإيطالية، وذكرى تنفيذ أحكام الإعدام بعدد من المعارضين لنظام القائد الليبي في بنغازي أيضاً العام 1987.هناك حقيقية ثابتة في الاستراتيجية الغربية عامة ،والأمريكية خاصة ،تجاه العالم العربي، تتمثّل في أن الغرب لن يسمح للثورات العربية أن تخرج عن سيطرته.وقدأكدت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها ذلك من خلال محاولتها ترويض الإسلاميين الصاعدين إلى حكم الدول العربية على السياسة الأجنبية والاقتصادية، بدلاً من تفسيرات الشريعة.والأحزاب الإسلامية التي ستخضع لذلك سوف يتم اعتبارها "معتدلة" أما الباقي فسيظل من "المتعصبين".علماً أن الثورات العربية التي اشتعلت شرارتها الأولى في تونس في بداية عام 2011،وانطلقت لإسقاط الديكتاتوريات المدعومة من الغرب، شكلت تهديداً استراتيجياً للهيمنة الغربية، رغم أنها ركزت على القضايا الداخلية:الفساد والفقر وانعدام الحريات، وليس على الهيمنة الغربية أو الاحتلال الصهيوني لفلسطين وباقي الأراضي العربية الأخرى .
القذافي وتحذيره للغرب من سيطرة "القاعدة" في ليبيا
مع انتقال ليبيا من الثورة إلى مرحلة الحرب الأهلية في ظل الاستعصاء القائم لجهة الحسم العسكري من جانب "الثوار" الذي لا يزال يبدو بعيد المنال، كان العقيد القذافي يلوح بخطر سيطرة تنظيم "القاعدة" في حال سقوط نظامه، وتدفق آلاف المهاجرين الأفارقة إلى البلدان الأوروبية عبر ليبيا. فقد حذر الغرب وإسرائيل، من أنه "إذا نجحت القاعدة في الاستيلاء على ليبيا، فإن المنطقة بأسرها حتى إسرائيل ستقع فريسة للفوضى" لافتاً إلى أنّ "الأسرة الدولية بدأت تفهم الآن أننا نمنع أسامة بن لادن من السيطرة على ليبيا وإفريقيا".وأضاف أن "التفريط في استقرار ليبيا معناه انهيار السلام العالمي على البحر المتوسط.. والسلام العالمي كله سينهار بسبب انهياره في البحر المتوسط. وإذا انتقلت القاعدة لليبيا تكون كارثة". وتابع إن المهاجرين الأفارقة "سيغرقون إيطاليا وفرنسا وأوروبا.. وكلها ستصبح سوداء في أقل مدة. فنحن الذين نوقف الهجرة بالملايين. ونحن صمام الأمان. ونحن الذين نثبت الاستقرار في البحر المتوسط، ونحن الذين نمنع وجود القاعدة بشكل كبير".
تنظيم القاعدة الذي يخيف به العقيد القذافي الغرب، ليس سوى "الجماعة الإسلامية المقاتلة" الليبية التي تشكلت في مطلع تسعينيات القرن الماضي على يد "أفغان ليبيين" شاركوا في الجهاد الأفغاني.و خاضت اعتباراً من العام 1995 حرب عصابات لقلب نظام الحكم الليبي لكن أجهزة الأمن استطاعت خلال أقل من سنتين سحقها وتفكيك خلاياها واعتقال أو قتل معظم أفرادها، فاضطرت إلى الانكفاء إلى أفغانستان اعتباراً من العام 1999 حيث أيّدت علناً أمير حركة "طالبان" الملا محمد عمر ،ورفضت قيام "القاعدة" بعمليات ضد الأمريكيين انطلاقاً من أفغانستان.
وكانت ليبيا أفرجت في 23 مارس سنة 2010 عن أكثر من 200 سجين إسلامي، بينهم ثلاثة من أبرز قادة "الجماعة الإسلامية المقاتلة" كخطوة جديدة في اتجاه فتح صفحة جديدة مع التيار الإسلامي، الذي يصف نفسه بـ "الجهادي". وكان قادة "الجماعة المقاتلة" المسجونون، الذين أصدروا في صيف 2009" دراسات تصحيحية "نأوا بأنفسهم فيها عن استخدام العنف وسيلة لقلب الأنظمة العربية ـ بما فيها "جماهيرية" العقيد القذافي ـ ودانوا كثيراً من الممارسات التي تُنسب إلى تنظيم "القاعدة" وجماعات أخرى تستلهم أفكاره.
بيد أن المعارضة الليبية التي خاضت حرب إسقاط نظام العقيد القذافي لم تكن متكونة من التيار الإسلامي فقط، فهناك خمس قوى حقيقية شكلت المشهد السياسي الليبي في فترة إسقاط نظام القذافي هي: 1-القوى الملكية المنحدرة من الملك إدريس السنوسي، وهي قوى كانت متواجدة بقوة في منافي سويسرا وبريطانيا.2- القوى القومية العربية المتشكلة منذ السبعينيات من القرن الماضي، والتي خذلها القذافي عندما صادر الثورة لمصلحة بقاء حكمه ، وإثراء عائلته وقبيلته.3- كانت القوى الإسلامية منقسمة إلى تيارين: التيار الأول وتمثله قوى الإخوان المسلمين، والتيار الثاني، وتمثله الحركات الجهادية (الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، الحركة الإسلامية للشهداء، ومجموعة أنصار الله)، وهي متمركزة بصورة أساسية في منطقة الجبل الأخضر. 4-قوى التحالف الديمقراطي الذي أسسه الزعيم المعارض الليبي منصور الكيخيا الذي اختطفته المخابرات الليبية في فندق بالقاهرة سنة 1993، وأعدمه القذافي، وهو الوحيد الذي كان يمتلك مشروعاً ديمقراطياً حقيقياً لليبيا، ولدى التحالف الديمقراطي تواجد قوي في الولايات المتحدة. 5-أما القوة الأخيرة، فتمثلها الحركة الشبابية الليبية التي قامت بتفجير الثورة، إذ يشكل الشباب في ليبيا 60% من مجموع السكان.
القذافي من خلال تحذيره للغرب بموضوع "القاعدة"، كان يريد في حقيقية الأمر أن يقول للولايات المتحدة الأمريكية وللبلدان الأوروبية، وللكيان الصهيوني، إنه منخرط معهم جميعاً فيما يسمى"الحرب على الإرهاب". والحال هذه أراد القذافي أن يقول للغرب بما أنه يمثل الجبهة الدفاعية الأولى في الحرب ضد الحركات الإسلامية الجهادية، فلماذا يتم التخلي عنه في هذه الظروف العصيبة.