بينما كنت أحلل نص قصة قصيرة بالإنجليزية، شعرت بالحاجة إلى التأكيد على معنى كلمة "lament"، فتذكرت المرادف العربي لها وهو "رثاء"، لكنني تفاجأت حين أدركت أن معظم الطلاب لا يعرفون معنى هذه الكلمة بالعربية. فقد سألتهم إذا كانوا قد سمعوا عن الشاعرة الخنساء التي أمضت حياتها في رثاء أخيها صخر، فعمّ الصمت المُدرَّج وكأنّ على رأسهم الطير.

وعندما استفسرت عن الشاعر المتنبي، أجابوني بالصمت. وكذلك حين طرحت اسم البحتري، فكان الصمت هو الجواب. وحتى عندما سألتهم عن شاعر أقرب إلينا، نزار قباني، ظل الصمت مهيمنًا.

عندما عدت إلى التدريس بعد فترة من الانقطاع، لاحظت كم تغير الزمن وتبدل. وجدت نفسي أمام أجيال جديدة ليس لدينا المرجعيات نفسها، وكأن كلًا منا ينتمي إلى تاريخ مختلف. ورغم أننا نعيش في الزمان نفسه، فإن عوالمنا تختلف. ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد فقط، فقد لاحظت أن الاختلاف بين أفراد الجيل نفسه أصبح أكبر مما كان في الماضي، فما يعرفه البعض لا يعرفه البعض الآخر.

خلال المباراة التي جمعت بين الروبوت المعتمد على الذكاء الاصطناعي وبطل الشطرنج العالمي كاسباروف، فوجئ اللاعب عندما قامت الآلة بحركة غير تقليدية في بداية المباراة، فخلافا لجميع الأعراف التي يتبعها لاعبو الشطرنج، ضحّت الآلة بالوزير مبكرًا

عندما ننظر إلى الجيل الجديد، هل نجد سببًا يدعونا إلى استحقاره أو وصفه بخفة العقل أو التقاعس عن طلب المعرفة؟ أم أن الظروف التي يعيشها هذا الجيل تحثنا على التفكير بعمق في تأثير الهيمنة التكنولوجية على المجال التربوي وطرق تمرير المعرفة. ونتساءل هل هؤلاء الشبان والشابات هم "الضحلاء" كما وصفهم نيكولاس كار في كتابه؟ حتى وإن اختلفنا حول هذا الوصف، يجب أن نتفق على أمر واحد: أن التكنولوجيا قد أدخلتنا إلى عصر جديد غيرت فيه طرق القراءة والفهم والتذكر وتصوير الأشياء والتفاعل مع الواقع. وقد يكون من الأصح وصف من لا يدرك هذه التغيرات بأنه هو الذي يعاني خفة العقل.

في الماضي، كان عقل الإنسان يتعامل مع كم محدود من المعلومات ليشكّل معرفته ويكونها. ولكن في زمننا الحالي، أصبح العقل يواجه جريانًا مستمرًا من المعلومات، تُقدمها التكنولوجيا على مقربة من أيدينا. وعندما نقول "على مقربة من اليد"، فإننا نعني ذلك بالمعنى الحرفي وليس المجازي. فالمعلومات لم تعد مجرد بيانات نحفظها في ذاكرتنا، بل أصبحت مادة يمكننا مسارعتها واستعراضها بأطراف أناملنا. فما عليك إلا أن تستعرض شاشة هاتفك الذكي بأناملك لتحصل على المعلومة التي تحتاجها لملء الفراغ في معرفتك.

هل نحن أمام تطورات إيجابية؟ أو نواجه ظواهر تستدعي القلق؟ في كلتا الحالتين، يجب علينا الاعتراف بأن التقدم التكنولوجي الذي نشهده في عصرنا يمثل تحديًا هائلًا للمعنيين بالأنظمة التعليمية الحالية. في حين كان يُطلب من الطالب في الماضي تكوين إجابة استنادًا إلى تفاعله مع كمية محدودة من المعلومات التي يحصل عليها داخل الفصل الدراسي أو من مصادر محددة، أصبح الآن بإمكانه الوصول إلى إجابات مُعدة مسبقًا، مبنية على معلومات لا يعرفها هو أو أستاذه، ببساطة عبر الضغط على زر في تطبيق تكنولوجي. من هنا، فإن التساؤل الأبرز هو كيف يمكننا التفكير في مستقبل العملية التعليمية والتربوية في ظل هذا التطور التكنولوجي السريع.

في الواقع، التطور التكنولوجي أصبح يشكل تحديًا لكل فرد بغض النظر عن مجاله، سواء كان سياسيًا يؤثر في الناس، أو تاجرًا يروج لسلعه، أو مربيًا يهتم بتربية الأجيال، أو حتى طباخًا في مطبخه، أو إمامًا على منبره. ببساطة، لا يوجد مجال في حياتنا اليوم خارج نطاق تأثير هذا التطور التكنولوجي.

الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية

استوقفني كتاب "عصر الذكاء الاصطناعي" (The Age of AI) للمؤلفين هنري كيسنجر، وإيريك شميت، ودانييل هاتنلوكر. يعد هذا العمل نافذة جديدة تفتح أفاق التفكير بشأن مستقبلنا الإنساني، كما يشير عنوانه الفرعي. بعد قراءتي له، أدركت أنه يتيح فرصة لإعادة صياغة الأسئلة التي ورثناها ويضع نهاية لجدل استمر على مدى قرون وشغل الفكر الفلسفي والديني على حد سواء.

يتناول الكتاب أبرز التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على برنامج "ألفا زيرو" الذي تم تصميمه خصيصًا للعبة الشطرنج. الأمر المدهش ليس فقط في قدرة البرنامج على التعلم بشكل مستقل عن طريق اللعب مع نفسه وثم هزم الإنسان، ولكن الجدير بالانتباه هو ما حدث خلال المباراة التي جمعت بين الروبوت المعتمد على هذا البرنامج وبطل الشطرنج العالمي كاسباروف.

كاسباروف فوجئ عندما قامت الآلة بحركة غير تقليدية في بداية المباراة (غيتي)

فوجئ كاسباروف عندما قامت الآلة بحركة غير تقليدية في بداية المباراة؛ حركة يمكن وصفها بأنها جريئة أو بالأحرى "هوجاء"، فخلافًا لجميع الأعراف التي يتبعها لاعبو الشطرنج، ضحّت الآلة بالملكة (أو الوزير) مبكرًا، وهي خطوة لا يقوم بها لاعب محترف في الشطرنج بسبب المخاطرة العالية التي قد تؤدي إلى تقليل فرص الفوز. التضحية بهذه الطريقة، كما يراها كاسباروف وغيره من محترفي الشطرنج، تعتبر خطأ كبيرًا يؤدي إلى خسران مبين.

غير أن هذه الحركة لم تمنع الآلة من التفوق على كاسباروف وهزمه، وهو ما جعله يعترف بأن الآلة لم تعد مجرد شريك للإنسان، بل أصبحت معلمًا يوسع مداركه ويرسم لحركاته العقلية أفقًا جديدًا لم يكن قد فكر فيه من قبل. ما كان يظهر للإنسان، في أرقى مراتب تفكيره، كأمر سلبي، تحول بفضل الآلة إلى أمر إيجابي محمود العواقب.

حينما ننتقل من عالم اللعب إلى عالم الحرب، حيث تكون المسألة بين موت وحياة، وعندما تُجهز الطائرات الحربية بذلك البرنامج، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا. فالآلة قد تجمّل للإنسان ما يراه قبيحًا وشرًا، مثل أن تملي عليه التضحية بأمور لا يقبلها بحدسه الطبيعي، مؤكدة له الانتصار الحتمي في النهاية. وفي ظل هذا الواقع، يتساءل كيسنجر عن دور الدبلوماسية في هذه الأيام، عندما يوجد برنامج يُبرمج الانتصار في الحرب، فالدبلوماسي ليس معنيًا بتحقيق الانتصار قدر ما هو معني بإيجاد سبل لتجنب الوقوع فيها.

إذا كان كيسنجر يتساءل عن دور الدبلوماسية في عصر ذكاء اصطناعي يرى خيرًا في ما قد يعتبره الإنسان شرًا، ويرى شرًا في ما قد يعتبره الإنسان خيرًا، فيُمكن لنا أن نتساءل أيضًا عن علاقة هذا الذكاء بالعقل الإنساني، هذه الأداة التي لطالما اعتمدت على أسس يقوم عليها الخطاب والتوجه العقلاني.

العقل الطبيعي والذكاء الاصطناعي

هل يمكننا اعتبار الذكاء الاصطناعي امتدادًا لذكاء العقل الإنساني الطبيعي؟ أم أن هناك فارقًا بين الذكاءين؟ تظهر لنا حالة كاسباروف مع "ألفا زيرو" أن العقل الطبيعي خرج من دائرة الثقة والتمكن والتحكم في الأمور، وأنه أصبح مدعوًا للإيمان بقدرة عقل يفوقه في الذكاء والسرعة، يسلم له أمره، وهو يأمل أن تكون النتيجة للخير. ولا يختلف صاحب هذا العقل الذي يسلم أمره لعقل أكبر منه، عن العقل الديني الذي يجعل خواتم الأمور مناط رجاء ودعاء.

مع التطور التكنولوجي الحاصل اليوم، يصل الخطاب العقلاني إلى المنتهى الذي يقف عنده حائرًا بين خيارين: أولاهما: التمادي في تمجيد العقل والتسليم للذكاء الاصطناعي بوصفه امتدادًا لهذا العقل، مع ما يقتضيه هذا التسليم من إقرار بالعجز عن التحكم في الأمور، وهو ما ينسف الخطاب العقلاني من الأساس ويورث القلق والاضطراب والخوف من إمكانية انفلات الأمور من يد الإنسان. والخيار الثاني هو الإقرار بوجود فارق بين العقل الطبيعي والذكاء الاصطناعي، ثم الشروع في البحث عن الحدود التي يقف عندها العقل كأداة للتفاعل مع الواقع الملموس، مع ما يقتضيه هذا من التباعد عن خطاب العقلانية المطلقة والانصياع للحكمة الداعية إلى التوفيق بين مقتضيات "المغلق العقلي" و"المطلق الطبيعي" أو "الديني".

صحيح أن صياغة إشكالية العلاقة بين عقل الإنسان الطبيعي والذكاء الاصطناعي بهذا الشكل قد تبدو فلسفيةً بزيادة، ولكن حاجة الجميع، من كل تخصص، إلى الوعي بجوهر هذه الإشكالية أصبحت ملحةً، إذ يتوقف عليها مستقبل الإنسانية في مواجهة عقل آلي يدعونا إلى الإيمان به والتسليم له. فليس المدرس أمام طلبته معنيًا أكثر من غيره بتمثل حقيقة العصر التكنولوجي، بل الجميع بحاجة لفهم تأثير التكنولوجيا في حياتهم الخاصة والعامة، في الشارع وفي البيت، وفي المدرسة والملعب، وما إلى ذلك.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: التطور التکنولوجی الذکاء الاصطناعی ت الآلة

إقرأ أيضاً:

أنماط طرائق التفكير السوداني (٢)

بقلم/ عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي

أنماط طرائق التفكير السوداني من منظور الفكرة الجمهورية: قراءة في كتابات الأستاذ محمود محمد طه والإخوان الجمهوريين

التفكير السوداني يتميز بتنوعه وعمقه، وهو نابع من تفاعلات تاريخية وثقافية ودينية معقدة. غير أن الواقع يشير إلى وجود تحديات في تطوير أنماط التفكير، أبرزها الكسل الفكري والتمسك بالعقل السلفي والفهم التقليدي للدين. جاءت الفكرة الجمهورية، بقيادة الأستاذ محمود محمد طه، لتطرح معالجة جذرية لهذه الإشكاليات عبر خطاب فكري مستنير يدعو إلى إعادة قراءة التراث الإسلامي والتفاعل الإيجابي مع قضايا العصر.

تأثير التفكير العقلي من منظور الفكرة الجمهورية على معالجة الكسل الفكري

الفكرة الجمهورية تسعى لتفعيل التفكير النقدي والعقلي بدلاً من الانسياق وراء الموروث دون تمحيص. الأستاذ محمود محمد طه ركز على أهمية “التفكير الحر”، حيث لا بد من تحرير العقل من قيود الجهل والعادات الجامدة. وفق الفكرة الجمهورية، الكسل الفكري ينشأ نتيجة هيمنة عقلية النقل على عقلية النقد. بالتالي، تحث الفكرة على اتخاذ العقل أداة لاستكشاف القيم الدينية العليا وتطبيقها عملياً، مما يحفز الإبداع والمسؤولية الفردية في التفكير.

دور الفكرة الجمهورية في تأطير وتطوير طرائق التفكير لمستقبل السودان

الفكرة الجمهورية ترى أن مستقبل السودان يتطلب نهجاً فكرياً جديداً يربط بين الأصالة والمعاصرة. فهي تدعو إلى صياغة رؤية معرفية ترتكز على الحرية والعدالة والتنمية المستدامة. من خلال تشجيع التعليم المستنير وإعادة قراءة النصوص الدينية بفهم عصري، يمكن أن تؤسس الفكرة الجمهورية لطرائق تفكير تواكب التحولات العالمية، مما يدعم بناء مجتمع متماسك وقادر على تحقيق نهضته.

معالجة الفكرة الجمهورية للعقل السلفي والفهم الموروث الفطير للإسلام

النقد الموجه للعقل السلفي في الفكر الجمهوري يتركز على الجمود والاعتماد المفرط على الفقه التقليدي. الأستاذ محمود محمد طه دعا إلى العودة للقرآن باعتباره النص الأسمى والمصدر الأساسي للتشريع. وبدلاً من التركيز على الأحاديث والآراء الفقهية المتغيرة، طرح الفكرة الجمهورية مفهوم “التطوير التشريعي”، وهو إعادة النظر في تطبيق الشريعة بما يتناسب مع تطور الإنسان والمجتمع. هذا الفهم يحرر العقل المسلم من قيود الفهم السطحي ويعيد إحياء القيم الإنسانية في الإسلام.

التوفيق بين التفكير العقلي والكشف وعلم الذوق والعلم اللدني وفكرة الإطلاق

الفكرة الجمهورية تنظر إلى العقل والكشف كأدوات متكاملة للوصول إلى الحقيقة. الأستاذ محمود محمد طه يرى أن العقل هو أساس العلم التجريبي، بينما الكشف هو أداة للعلم الروحي والذوقي. العلم اللدني وفكرة الإطلاق، كما يشرحها الأستاذ، تتطلب توازنًا بين العمل العقلي والتجربة الروحية، حيث لا يكون أحدهما على حساب الآخر. بهذا الفهم، تستقيم طرائق التفكير مع وحدة العلم والدين، مما يفتح آفاقاً للإبداع الروحي والفكري.

الفكرة الجمهورية تقدم منهجاً فكرياً متكاملاً لمعالجة إشكاليات التفكير السوداني، من خلال تحرير العقل من الجمود والسعي لتأسيس مجتمع واعٍ. برؤيتها المستنيرة، يمكن أن تسهم في بناء مستقبل مشرق لسودان مزدهر فكرياً وروحياً.

مقالات مشابهة

  • رائحة الجثث.. إليكم الأسباب التي دفعت جنديا إسرائيليا للانتحار
  • كامل إدريس يوجه بتطوير الاتصالات وتجييرها لصالح التعليم والذكاء الاصطناعي
  • شيخ العقل التقى خلف.. وتواصل مع شيخ جرمانا
  • عاجل | معاريف عن اللواء احتياط إسحاق بريك: النجاحات التي يتحدث عنها جيشنا بغزة لا تتطابق مع الواقع المرير على الأرض
  • أنماط طرائق التفكير السوداني (٢)
  • إبداع طلاب هندسة سوهاج: 16 مشروع تخرج مبتكر في « العمارة والذكاء الاصطناعي»
  • اليزيدي بطل الشطرنج والحريري وصيفا:هامتراميك ولكوانا بافلو إلى نهائي بطولة كأس الجاليات اليمنية الأمريكية
  • مصر والسعودية.. استدعاء الماضي وتغييب العقل
  • عملية تبادل أسرى وروسيا تتحدث عن تعذر الدبلوماسية مع أوكرانيا
  • المقاصد بين النبوة والخلافة.. قراءة في العقل الاستراتيجي المؤسس.. كتاب جديد