الدبلوماسية أم الحرب.. بين العقل الطبيعي والذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 24th, August 2023 GMT
بينما كنت أحلل نص قصة قصيرة بالإنجليزية، شعرت بالحاجة إلى التأكيد على معنى كلمة "lament"، فتذكرت المرادف العربي لها وهو "رثاء"، لكنني تفاجأت حين أدركت أن معظم الطلاب لا يعرفون معنى هذه الكلمة بالعربية. فقد سألتهم إذا كانوا قد سمعوا عن الشاعرة الخنساء التي أمضت حياتها في رثاء أخيها صخر، فعمّ الصمت المُدرَّج وكأنّ على رأسهم الطير.
عندما عدت إلى التدريس بعد فترة من الانقطاع، لاحظت كم تغير الزمن وتبدل. وجدت نفسي أمام أجيال جديدة ليس لدينا المرجعيات نفسها، وكأن كلًا منا ينتمي إلى تاريخ مختلف. ورغم أننا نعيش في الزمان نفسه، فإن عوالمنا تختلف. ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد فقط، فقد لاحظت أن الاختلاف بين أفراد الجيل نفسه أصبح أكبر مما كان في الماضي، فما يعرفه البعض لا يعرفه البعض الآخر.
خلال المباراة التي جمعت بين الروبوت المعتمد على الذكاء الاصطناعي وبطل الشطرنج العالمي كاسباروف، فوجئ اللاعب عندما قامت الآلة بحركة غير تقليدية في بداية المباراة، فخلافا لجميع الأعراف التي يتبعها لاعبو الشطرنج، ضحّت الآلة بالوزير مبكرًا
عندما ننظر إلى الجيل الجديد، هل نجد سببًا يدعونا إلى استحقاره أو وصفه بخفة العقل أو التقاعس عن طلب المعرفة؟ أم أن الظروف التي يعيشها هذا الجيل تحثنا على التفكير بعمق في تأثير الهيمنة التكنولوجية على المجال التربوي وطرق تمرير المعرفة. ونتساءل هل هؤلاء الشبان والشابات هم "الضحلاء" كما وصفهم نيكولاس كار في كتابه؟ حتى وإن اختلفنا حول هذا الوصف، يجب أن نتفق على أمر واحد: أن التكنولوجيا قد أدخلتنا إلى عصر جديد غيرت فيه طرق القراءة والفهم والتذكر وتصوير الأشياء والتفاعل مع الواقع. وقد يكون من الأصح وصف من لا يدرك هذه التغيرات بأنه هو الذي يعاني خفة العقل.
في الماضي، كان عقل الإنسان يتعامل مع كم محدود من المعلومات ليشكّل معرفته ويكونها. ولكن في زمننا الحالي، أصبح العقل يواجه جريانًا مستمرًا من المعلومات، تُقدمها التكنولوجيا على مقربة من أيدينا. وعندما نقول "على مقربة من اليد"، فإننا نعني ذلك بالمعنى الحرفي وليس المجازي. فالمعلومات لم تعد مجرد بيانات نحفظها في ذاكرتنا، بل أصبحت مادة يمكننا مسارعتها واستعراضها بأطراف أناملنا. فما عليك إلا أن تستعرض شاشة هاتفك الذكي بأناملك لتحصل على المعلومة التي تحتاجها لملء الفراغ في معرفتك.
هل نحن أمام تطورات إيجابية؟ أو نواجه ظواهر تستدعي القلق؟ في كلتا الحالتين، يجب علينا الاعتراف بأن التقدم التكنولوجي الذي نشهده في عصرنا يمثل تحديًا هائلًا للمعنيين بالأنظمة التعليمية الحالية. في حين كان يُطلب من الطالب في الماضي تكوين إجابة استنادًا إلى تفاعله مع كمية محدودة من المعلومات التي يحصل عليها داخل الفصل الدراسي أو من مصادر محددة، أصبح الآن بإمكانه الوصول إلى إجابات مُعدة مسبقًا، مبنية على معلومات لا يعرفها هو أو أستاذه، ببساطة عبر الضغط على زر في تطبيق تكنولوجي. من هنا، فإن التساؤل الأبرز هو كيف يمكننا التفكير في مستقبل العملية التعليمية والتربوية في ظل هذا التطور التكنولوجي السريع.
في الواقع، التطور التكنولوجي أصبح يشكل تحديًا لكل فرد بغض النظر عن مجاله، سواء كان سياسيًا يؤثر في الناس، أو تاجرًا يروج لسلعه، أو مربيًا يهتم بتربية الأجيال، أو حتى طباخًا في مطبخه، أو إمامًا على منبره. ببساطة، لا يوجد مجال في حياتنا اليوم خارج نطاق تأثير هذا التطور التكنولوجي.
الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشريةاستوقفني كتاب "عصر الذكاء الاصطناعي" (The Age of AI) للمؤلفين هنري كيسنجر، وإيريك شميت، ودانييل هاتنلوكر. يعد هذا العمل نافذة جديدة تفتح أفاق التفكير بشأن مستقبلنا الإنساني، كما يشير عنوانه الفرعي. بعد قراءتي له، أدركت أنه يتيح فرصة لإعادة صياغة الأسئلة التي ورثناها ويضع نهاية لجدل استمر على مدى قرون وشغل الفكر الفلسفي والديني على حد سواء.
يتناول الكتاب أبرز التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على برنامج "ألفا زيرو" الذي تم تصميمه خصيصًا للعبة الشطرنج. الأمر المدهش ليس فقط في قدرة البرنامج على التعلم بشكل مستقل عن طريق اللعب مع نفسه وثم هزم الإنسان، ولكن الجدير بالانتباه هو ما حدث خلال المباراة التي جمعت بين الروبوت المعتمد على هذا البرنامج وبطل الشطرنج العالمي كاسباروف.
فوجئ كاسباروف عندما قامت الآلة بحركة غير تقليدية في بداية المباراة؛ حركة يمكن وصفها بأنها جريئة أو بالأحرى "هوجاء"، فخلافًا لجميع الأعراف التي يتبعها لاعبو الشطرنج، ضحّت الآلة بالملكة (أو الوزير) مبكرًا، وهي خطوة لا يقوم بها لاعب محترف في الشطرنج بسبب المخاطرة العالية التي قد تؤدي إلى تقليل فرص الفوز. التضحية بهذه الطريقة، كما يراها كاسباروف وغيره من محترفي الشطرنج، تعتبر خطأ كبيرًا يؤدي إلى خسران مبين.
غير أن هذه الحركة لم تمنع الآلة من التفوق على كاسباروف وهزمه، وهو ما جعله يعترف بأن الآلة لم تعد مجرد شريك للإنسان، بل أصبحت معلمًا يوسع مداركه ويرسم لحركاته العقلية أفقًا جديدًا لم يكن قد فكر فيه من قبل. ما كان يظهر للإنسان، في أرقى مراتب تفكيره، كأمر سلبي، تحول بفضل الآلة إلى أمر إيجابي محمود العواقب.
حينما ننتقل من عالم اللعب إلى عالم الحرب، حيث تكون المسألة بين موت وحياة، وعندما تُجهز الطائرات الحربية بذلك البرنامج، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا. فالآلة قد تجمّل للإنسان ما يراه قبيحًا وشرًا، مثل أن تملي عليه التضحية بأمور لا يقبلها بحدسه الطبيعي، مؤكدة له الانتصار الحتمي في النهاية. وفي ظل هذا الواقع، يتساءل كيسنجر عن دور الدبلوماسية في هذه الأيام، عندما يوجد برنامج يُبرمج الانتصار في الحرب، فالدبلوماسي ليس معنيًا بتحقيق الانتصار قدر ما هو معني بإيجاد سبل لتجنب الوقوع فيها.
إذا كان كيسنجر يتساءل عن دور الدبلوماسية في عصر ذكاء اصطناعي يرى خيرًا في ما قد يعتبره الإنسان شرًا، ويرى شرًا في ما قد يعتبره الإنسان خيرًا، فيُمكن لنا أن نتساءل أيضًا عن علاقة هذا الذكاء بالعقل الإنساني، هذه الأداة التي لطالما اعتمدت على أسس يقوم عليها الخطاب والتوجه العقلاني.
العقل الطبيعي والذكاء الاصطناعيهل يمكننا اعتبار الذكاء الاصطناعي امتدادًا لذكاء العقل الإنساني الطبيعي؟ أم أن هناك فارقًا بين الذكاءين؟ تظهر لنا حالة كاسباروف مع "ألفا زيرو" أن العقل الطبيعي خرج من دائرة الثقة والتمكن والتحكم في الأمور، وأنه أصبح مدعوًا للإيمان بقدرة عقل يفوقه في الذكاء والسرعة، يسلم له أمره، وهو يأمل أن تكون النتيجة للخير. ولا يختلف صاحب هذا العقل الذي يسلم أمره لعقل أكبر منه، عن العقل الديني الذي يجعل خواتم الأمور مناط رجاء ودعاء.
مع التطور التكنولوجي الحاصل اليوم، يصل الخطاب العقلاني إلى المنتهى الذي يقف عنده حائرًا بين خيارين: أولاهما: التمادي في تمجيد العقل والتسليم للذكاء الاصطناعي بوصفه امتدادًا لهذا العقل، مع ما يقتضيه هذا التسليم من إقرار بالعجز عن التحكم في الأمور، وهو ما ينسف الخطاب العقلاني من الأساس ويورث القلق والاضطراب والخوف من إمكانية انفلات الأمور من يد الإنسان. والخيار الثاني هو الإقرار بوجود فارق بين العقل الطبيعي والذكاء الاصطناعي، ثم الشروع في البحث عن الحدود التي يقف عندها العقل كأداة للتفاعل مع الواقع الملموس، مع ما يقتضيه هذا من التباعد عن خطاب العقلانية المطلقة والانصياع للحكمة الداعية إلى التوفيق بين مقتضيات "المغلق العقلي" و"المطلق الطبيعي" أو "الديني".
صحيح أن صياغة إشكالية العلاقة بين عقل الإنسان الطبيعي والذكاء الاصطناعي بهذا الشكل قد تبدو فلسفيةً بزيادة، ولكن حاجة الجميع، من كل تخصص، إلى الوعي بجوهر هذه الإشكالية أصبحت ملحةً، إذ يتوقف عليها مستقبل الإنسانية في مواجهة عقل آلي يدعونا إلى الإيمان به والتسليم له. فليس المدرس أمام طلبته معنيًا أكثر من غيره بتمثل حقيقة العصر التكنولوجي، بل الجميع بحاجة لفهم تأثير التكنولوجيا في حياتهم الخاصة والعامة، في الشارع وفي البيت، وفي المدرسة والملعب، وما إلى ذلك.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: التطور التکنولوجی الذکاء الاصطناعی ت الآلة
إقرأ أيضاً:
اليمن.. عقدة الجغرافيا التي قصمت ظهر الهيمنة: تفكيك خيوط المؤامرة الكبرى
مثّلت الحرب الشاملة التي شُنّت على اليمن في مارس 2015، التدشين العملي والأخطر لمؤامرة دولية مركبة، حيكت خيوطها بعناية فائقة في الغرف المظلمة بين واشنطن وتل أبيب؛ فالموقع الجيوسياسي لليمن، الحاكم على رئة العالم في باب المندب، جعل منه هدفاً دائماً لأطماع قوى الاستكبار التي ترى في استقلال هذا البلد تهديداً وجودياً لمشاريعها في المنطقة، ولعل المتأمل في مسار الأحداث يدرك بيقين أن ما يجري هو عقاب جماعي لشعب قرر الخروج من عباءة الوصاية.
إن القراءة المتأنية للرؤية الأمريكية والإسرائيلية تجاه اليمن تكشف تحولاً جذرياً في التعامل مع هذا الملف، فمنذ نجاح الثورة الشعبية في الحادي والعشرين من سبتمبر 2014، أدرك العقل الاستراتيجي في البيت الأبيض والكيان الصهيوني أن اليمن قد غادر مربع التبعية التي كرسها “سفراء الدول العشر” لسنوات طويلة، وأن القرار اليمني لم يعد يصاغ في السفارات الأجنبية. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة زلزال سياسي دفع بنيامين نتنياهو مبكراً للتحذير من أن سيطرة القوى الثورية الوطنية على باب المندب تشكل خطراً يفوق الخطر النووي، وهو ما يفسر الجنون الهستيري الذي طبع العدوان لاحقاً. وقد تجلت هذه الرؤية بوضوح صارخ في المرحلة الحالية، وتحديداً مع انخراط اليمن في معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس”، حيث سقطت الأقنعة تماماً، وانتقلت أمريكا من إدارة الحرب عبر وكلائها الإقليميين إلى المواجهة المباشرة بالأساطيل وحاملات الطائرات، بعد أن أدركت أن أدواتها في المنطقة عجزت عن كبح جماح المارد اليمني الذي بات يهدد شريان الحياة للاقتصاد الصهيوني.
وعند النظر إلى الخارطة العملياتية للمؤامرة، نجد أن العدو اعتمد استراتيجية خبيثة تقوم على تقسيم الجغرافيا اليمنية وظيفياً، والتعامل مع كل جزء بأسلوب مختلف يحقق غاية واحدة هي “التدمير والإنهاك”. ففي المناطق والمحافظات الحرة التي رفضت الخضوع، لجأ التحالف الأمريكي إلى استراتيجية “الخنق والتجويع” كبديل عن الحسم العسكري المستحيل؛ فكان قرار نقل وظائف البنك المركزي في سبتمبر 2016 الضربة الاقتصادية الأخطر التي هدفت لضرب العملة الوطنية وتجفيف السيولة، مترافقة مع حصار مطبق على الموانئ والمطارات، في محاولة بائسة لكسر الإرادة الشعبية عبر لقمة العيش، ومؤخراً محاولة عزل البنوك اليمنية عن النظام المالي العالمي، وهي ورقة ضغط أخيرة تم إحراقها بفضل معادلات الردع الصارمة التي فرضتها صنعاء.
أما في الجانب الآخر من المشهد، وتحديداً في المحافظات الجنوبية والمناطق المحتلة، فتتجلى المؤامرة في أبشع صورها عبر استراتيجية “الفوضى والنهب”، حيث يعمل المحتل على هندسة واقع سياسي وعسكري ممزق يمنع قيام أي دولة قوية؛ فمن عسكرة الجزر الاستراتيجية وتحويل “سقطرى” إلى قاعدة استخباراتية متقدمة للموساد وأبو ظبي، وبناء المدارج العسكرية في جزيرة “ميون” للتحكم بمضيق باب المندب، إلى النهب الممنهج لثروات الشعب من النفط والغاز في شبوة وحضرموت، بينما يكتوي المواطن هناك بنار الغلاء وانعدام الخدمات. إنهم يريدون جنوباً مفككاً تتنازعه الميليشيات المتناحرة، ليبقى مسرحاً مفتوحاً للمطامع الاستعمارية دون أي سيادة وطنية.
وأمام هذا الطوفان من التآمر، لم يقف اليمن مكتوف الأيدي، بل اجترح معجزة الصمود وبناء القوة، مستنداً إلى استراتيجية “الحماية والمواجهة” التي رسمتها القيادة الثورية بحكمة واقتدار. لقد تحول اليمن في زمن قياسي من وضع الدفاع وتلقي الضربات إلى موقع الهجوم وصناعة المعادلات، عبر بناء ترسانة عسكرية رادعة من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية والطائرات المسيرة التي وصلت إلى عمق عواصم العدوان، بل وتجاوزتها لتدك “أم الرشراش” وتفرض حصاراً بحرياً تاريخياً على الكيان الصهيوني، مسقطة بذلك هيبة الردع الأمريكية في البحر الأحمر. هذا المسار العسكري وازاه مسار اقتصادي يرفع شعار الاكتفاء الذاتي والتوجه نحو الزراعة لكسر سلاح التجويع، ومسار تحصين الجبهة الداخلية عبر ترسيخ الهوية الإيمانية التي كانت السد المنيع أمام الحرب الناعمة.
خلاصة المشهد، أن اليمن اليوم، وبعد سنوات من العدوان والحصار، لم يعد ذلك “الحديقة الخلفية” لأحد، بل أصبح رقماً صعباً ولاعباً إقليمياً ودولياً يغير موازين القوى، وأن المؤامرة التي أرادت دفن هذا البلد تحت ركام الحرب، هي نفسها التي أحيت فيه روح المجد، ليصبح اليمن اليوم في طليعة محور الجهاد والمقاومة، شاهداً على أن إرادة الشعوب الحرة أقوى من ترسانات الإمبراطوريات.