ترجمة: أحمد شافعي -

في البدء كان العذاب. في ظل الامبراطوريات القديمة، كان الأقوياء يفعلون ما يشاؤون والضعفاء يحتملون العناء مرغمين.

لكن بمرور القرون، أقام الناس دعائم الحضارة، فوضعوا الدساتير لكبح السلطة، وأقاموا التحالفات الدولية لتعزيز السلام، والأنظمة التشريعية لتسوية النزاعات سلميا، والمؤسسات العلمية لعلاج الأمراض، والمنابر الإخبارية لزيادة فهم الشعب، والمنظمات الخيرية لتخفيف المعاناة، والمشاريع التجارية لتحقيق الثروة وتعميم الرخاء، والجامعات من أجل الحفاظ على أمجاد أسلوبنا في الحياة ونقلها وتطويرها.

وهذه المؤسسات هي سر عذوبة حياتنا وما فيها من حب وإبداع، بدلا من أن تكون هذه الحياة قصيرة قاسية نكدة.

والترامبية تهدد هذا كله، فهي بالأساس تتعلق بطلب السلطة ـ السلطة من أجل السلطة، وهي عدوان متعدد الجبهات يهدف إلى أن يجعل الأرض ملعبا للقساة، ولذلك بطبيعة الحال لا بد من إضعاف أي مؤسسة قادرة على كبح السلطة أو لا بد من تدميرها. والترامبية تتعلق بالأنا، والشهوة، والرغبة في التملك، ودافعها هو المقت الجذري لكل العناصر الرفيعة في الروح الإنسانية، من قبيل التعلم والتعاطف والفضول العلمي والسعي إلى العدالة.

ونحن إلى الآن نتعامل مع هجمات الرئيس ترامب وأتباعه في إدارته باعتبارها سلسلة هجمات منفصلة. فهم في مسار يسعون وراء شركات القانون. وفي مسار آخر يهاجمون بشراسة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وفي آخر يهاجمون الجامعات. ثم في مسار آخر يقوضون حلف شمال الأطلسي، وفي غيره يفككون التجارة العالمية.

وهذه طريقة خاطئة في التفكير في الأمر، فهذه ليست بمعارك منفصلة، ولكنها سعي واحد للإجهاز على مكونات النظام الحضاري القادرة على كبح استحواذ ترامب على السلطة. ولا بد من تنسيق الجهود لإلحاق الهزيمة بذلك.

وحتى الآن، فإن كل قطاع تعرض لهجوم ترامب قد استجاب للهجوم منفردا، فشركات القانون تسعى إلى حماية نفسها، والجامعات، تحاول أن تفعل مثل ذلك منفردة. صحيح أن مجموعة شركات قد تجمعت لدعم شركة بيركنز كوي، ولكن في حالات أخرى تحاول شركات قانون منفردة أن تتوصل إلى سلام منفرد مع ترامب. وصحيح أن جامعة هارفرد تمكنت أخيرا من وضع حد للهجوم عليها، ولكن جامعة كولومبيا توصلت إلى صفقة. وهذه استراتيجية كارثية تضمن لترامب أن يسحق الضحية تلو الضحية، متبعا سياسة فرق تسد.

ببطء، يدرك الكثيرون منا أننا بحاجة إلى التكاتف. ولكن حتى هذه الجهود منعزلة ومتشرذمة.

ويعمل العديد من أعضاء مؤتمر العشرة الكبار على تشكيل تحالف للدفاع عن الحرية الأكاديمية. وهذا جيد. ولكنه لن يشمل غير ثماني عشرة مؤسسة تعليمية من قرابة أربعة آلاف كلية وجامعة أمريكية مانحة للشهادات العلمية.

وحتى الآن، فإن الشيء الحقيقي الوحيد الواعد بتحرك أكبر ـ أي بحركة مناهضة شعبية ـ هو المسيرات التي قادها بيرني صاندرز وألكسندريا أوكاسيو كورتيز. ولكن حتى هذه أيضا طريقة غير فعالة للرد على ترامب، لأن هذه المسيرات الحزبية تجعل النضال يبدو وكأنه منافسة طبيعية بين الديمقراطيين والجمهوريين.

إن ما يجري الآن ليس سياسة طبيعية. لأن ما نشهده هو هجوم على المؤسسات الجذرية في حياتنا المدنية، وعلى ما ينبغي أن نتعهد جميعا بالولاء له، ديمقراطيين أو مستقلين أو جمهوريين.

لقد حان الوقت لانتفاضة مدنية قومية شاملة. لقد حان الوقت للأمريكيين في الجامعات والقانون والاقتصاد والمنظمات غير الربحية ومجتمع البحث العلمي والخدمة المدنية وغيرها أن يشكلوا حركة شعبية واحدة منسقة. فما يسعى إليه ترامب هو السلطة. والطريقة الوحيدة التي يمكن إيقافه بها هي مواجهته بحركة تملك سلطة منافسة.

ولقد كان ذلك بالضبط هو دأب الشعوب على مدار التاريخ كلما واجهها هجوم استبدادي. ففي كتابهما «لماذا تفلح المقاومة المدنية» نظرت إيريكا تشينويث وماريا ج. ستيفان إلى مئات الانتفاضات غير العنيفة، وتبين أن هذه الحركات استعملت أدوات كثيرة في أيديها ـ منها رفع الدعاوى القضائية والمسيرات الشعبية والإضرابات وإبطاء العمل والمقاطعة وغيرها من أشكال عدم التعاون والمقاومة.

كان دأب هذه الحركات أن تبدأ صغيرة ثم تحتشد. وتوجه رسائل واضحة إلى جماعات مختلفة، وتغيّر السرديات بحيث لا يبقى المستبدون في مركز الهجوم الدائم. وكانت في بعض الأحيان تستعمل وسائل غير عنيفة لاستفزاز النظام ودفعه إلى عمل عنيف، فيهز ذلك الشعب، ويقوض سلطته، ويزيد من قوة الحركة. (وتذكروا حركة الحقوق المدنية في سيلما). والترامبية في الوقت الراهن تقسم المجتمع المدني، فإن قامت انتفاضة سلمية فبوسعها أن تبدأ بتقسيم قوى الترامبية.

تؤكد إيريكا تشينويث وماريا ج. ستيفان أن ذلك يقتضي تنسيقا. لا ينبغي أن يوجد دائما قائد واحد ذو كاريزما، ولكن ينبغي أن توجد منظمة تمثل ركيزة أساسية، وهيئة تنسيقية واحدة تعنى ببناء التحالفات.

في كتابه «الجَيَشان»، نظر جاريد دايموند إلى بلاد مرت بأزمات وتعافت منها. ويشير إلى أن الدول التي تتعافى لا تهول الأمور بأن تقول إن كل شيء فاسد ولا بد من هدمه. ولكنها تجري جردا دقيقا لما يجدي نفعا وما لا نفع فيه. والقادة يتحملون نصيبهم من المسؤولية عن مشاكل المجتمع.

ويبدو لي هذا نصيحة جوهرية للأمريكيين اليوم. فنحن نعيش في بلد فيه مستويات منخفضة انخفاضا كارثيا من الثقة في المؤسسات.

إذ يواجه رؤساء الجامعات، وشركات القانون الكبرى، والمنظمات الإعلامية، والمديرون التنفيذيون للشركات جدارا من الشك والسخرية. فإن كانوا سيشاركون في انتفاضة مدنية شعبية ضد ترامب، فيجب أن يظهروا لبقية البلد أنهم يفهمون خطايا المؤسسة التي أدت إلى صعود ترامب في المقام الأول. ولا بد أن يظهروا أنهم يسعون سعيا ديمقراطيا إلى إصلاح مؤسساتهم. ولبس هذا محض دفاع عن المؤسسة إنما هو حركة إلى مكان جديد.

ولننظر في أمر الجامعات. لقد شرفت بالتدريس في جامعات أمريكية على فترات متقطعة من السنوات الثلاثين الماضية وأزور العشرات منها كل عام. والجامعات هي جواهر تاج الحياة الأمريكية. فهي بوتقات الإبداع العلمي والابتكار في ريادة الأعمال. وبطرق لا حصر لها يساعدنا باحثو الجامعات في فهم أنفسنا وفهم عالمنا.

ولقد رأيت مرارا وتكرارا فتاة صغيرة تدخل حرما جامعيا في سنتها الأولى بفضول كبير وعلم قليل. ثم لا يحل عليها العام الدراسي الأخير حتى يكون أمرا مثيرا للإعجاب قد حدث لها، فإذا بها استنارت وتثقفت وبات لها تفكير نقدي، فأعلم أن الجامعة مارست عليها سحرها مرى أخرى.

والناس يتوافدون من أرجاء العالم على جامعاتنا إعجابا بها.

لكن شأن جميع المؤسسات، فإن فيها عيوبا. فقد سمح الكثيرون لأنفسهم بأن يغرقوا في تقدمية خانقة تقول لنصف البلد: أصواتكم لا تهم. ومن خلال سياسات القبول في الجامعة بإيثارها أبناء الأثرياء، أسهمت جامعات النخبة في تعميق فجوة الشهادات. فلو أن العائلات الثرية نفسها تنتصر جيلا بعد جيل، فلا ينبغي لأحد أن يندهش حين يعمد الخاسرون إلى قلب الطاولة.

بعبارة أخرى، يجب أن تكون للانتفاضة المدنية رؤية قصيرة المدى ورؤية طويلة المدى. فعلى المدى القصير: إيقاف ترامب. إحباط جهوده. تكديس الدعاوى القضائية. تأليب بعض أتباعه عليه. أما الرؤية الثانية فرؤية طويلة المدى لمجتمع أكثر عدالة، لا يقتصر تشدده على ترامب فحسب، بل يشمل أيضا أسباب الترامبية، فهي رؤية إيجابية. وسواء أتعلق الأمر بالجامعات أم بنظام الهجرة أم بالاقتصاد العالمي، لا يمكننا العودة إلى الوضع الراهن الذي كان سائدا عندما صعد ترامب إلى السلطة للمرة الأولى.

الحق أنني لست بالشخص الحركي. فلا أشارك بطبيعتي في المظاهرات أو المسيرات التي لا أغطيها بوصفي صحفيا. ولكن هذا ما تحتاج إليه أمريكا الآن. فلو أن ترامب يغلل أعظم المؤسسات في الحياة الأمريكية، فليس لدينا ما نخسره إلا أغلالنا.

ديفيد بروكس روائي وأحد كتاب الرأي في نيويورك تايمز

خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا بد من

إقرأ أيضاً:

“كاليفورنيا”: هل هي بداية تفكك أمريكا من الداخل؟

 بدأ الحديث اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية عن “دكتاتورية” الحاكم وعن “سيادة” الولاية الأمريكية الواحدة المفصولة عن سيادة الدولة، وعن الاستعداد لـ”عدم دفع الضرائب للحكومة المركزية”، وعن “أياد خارجية”، و”تمويل خارجي”، بل وعن إمكانية “سجن” حاكم كاليفورنيا المنتخَب قبل اتهامه أو محاكمته! فهل هذه هي “الديمقراطية” الأمريكية التي صدَّعنا بها الأمريكان والغرب هذه عقود من الزمن وكانت المبرر الظاهر الذي قدموه للإطاحة بحكومات وإعدام رؤساء دول وبث الاضطراب في أكثر من مكان في العالم باسم الدفاع عن الحرية ونشر القيم الأمريكية؟

فكيف تنقلب أمريكا اليوم على مبادئها وعلى الأسس التي قامت عليها؟ أليست أمريكا بلد الهجرة والمهاجرين؟ ألا يُعَد الشعب الأمريكي الحالي هو تجميع لِمهاجرين من شتى بقاع العالم وبخاصة من أوروبا؟ هل يستطيع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أن يزعم أنه من الهنود الحمر السكان الأصليين حتى يعطي لنفسه حق اتخاذ قرار منع الهجرة لهذا البلد الذي صنعه ويصنع أمجاده المهاجرون بما في ذلك النخبة العالمية التي تقف على قمة هرم العلوم والتكنولوجيا والقادمة من جميع القارات؟

هل باتت أمريكا اليوم تُناقِض المبدأ الذي قامت عليه؟ ألا يعني هذا أنها تقوم بتخريب ذاتها من الداخل لتتحول بعد سنوات إلى ما كانت عليها قبل تشكيل الاتحاد؟ إلى قبائل وولايات مفككة ومتناحرة على شاكلة الحرب الأهلية الأمريكية التي ذهب ضحيتها أكثر من مليونين جنوبا وشمالا؟

إن ما يحدث اليوم في “كاليفورنيا” يدفع إلى أكثر من تساؤل حول واقع الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبل إدارتها للشأن العالمي.

“كاليفورنيا” هي ولاية أمريكية ولكنها تفوق حجم وقدرة اقتصادات كافة دول العالم باستثناء الصين وألمانيا (والولايات المتحدة ككل طبعا) بناتج محلي خام بلغ 4.10  ترليون دولار أمريكي سنة 2024 أي ما يساوي 14.1% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وحاكمها منتخب لعهدة ثانية بنسبة 55.9%  وإلي غاية2026 ، يقطن عاصمتها “لوس أنجلوس” التي تشهد احتجاجات هذه الأيام أكثر من 10 ملايين نسمة 48.6% منهم من “اللاتين” و”الإسبان” وثلث سكانها من المهاجرين…

فكيف يتحدث الرئيس الفدرالي الأمريكي “دونالد ترامب” عن سعادته لو يُسجَن الحاكم المنتخب لهذه الولاية ويصفه بأسوأ الصفات؟ كيف يتهمه بالفشل في التعامل مع المهاجرين؟ وكيف تَعتبر وزيرته للأمن الداخلي “أن ما يجري بهذه الولاية مُدبَّر باحترافية”، وأن المتظاهرين “يتقاضون أموالا” في إشارة إلى اليد الخارجية في الأحداث!؟ بل وكيف يأمر الرئيس “ترامب” قوات الحرس الوطني ثم قوات “المارينز” بالتدخل في الولاية دون استشارة حاكمها المنتَخَب؟

ألا يُبرر هذا وصف هذا الحاكم لـ”دونالد ترامب” بأنه “دكتاتور”؟ ألا يبرر هذا حديثه عن التدخل في “سيادة” ولايته؟ واضطراره إلى مقاضاة رئيسه، وهو يعلم أنه لا يحق لرئيس الولايات المتحدة الأمر بتدخل الجيش في أي ولاية إلا في ثلاث حالات هي غير متوفرة الآن أي الغزو، حدوث تمرد، أو خطر تمرد… مما يعني أن هناك تجاوزا لسيادته، أم أن خلف هذه الأزمة ما هو أعمق وأبعادها هي أكبر مما نتصور…

يبدو بالفعل أن ما يحدث اليوم في “كاليفورنيا” له علاقة اقتصادية ومالية واستراتيجية أعمق من صراع بين مهاجرين وسلطة ولاية مع الحكومة الفدرالية. على المستوى الاقتصادي والمالي، اتهمت “كاليفورنيا” “ترامب بأنه كان سببا في خسارتها ملايير الدولارات مع الصين منذ سنة 2018، وحاكمها اليوم يقول لـ”ترامب” أن سياستك المتسرعة تجاه التعريفة الجمركية مع الصين تسببت لولايته في خسارة ما لا يقل عن 40 مليار دولار وستؤدي إلى تسريح عشرات الآلاف من العمال…

أما على المستوى الاستراتيجي، فإن السؤال الكبير هو: هل سيؤدي “ترامب” بالولايات المتحدة الأمريكية إلى بداية التفكك؟!

الشروق الجزائرية

مقالات مشابهة

  • الهجوم الإسرائيلي على إيران.. 5 أسئلة لفهم ما يحدث
  • إبراهيم النجار يكتب: وجع في قلب أمريكا
  • تمرد كاليفورنيا.. ما الأدوات التي تملكها الولايات لكبح السلطة الفدرالية؟
  • لماذا يرفع المتظاهرون علم المكسيك في احتجاجات أمريكا؟
  • كوسوفو توافق على استضافة مهاجرين مرحلين من أمريكا
  • حركة المجاهدين مقاومة انطلقت مع انتفاضة الأقصى
  • “كاليفورنيا”: هل هي بداية تفكك أمريكا من الداخل؟
  • "عقاب" إسرائيلي فوري يهدد بشلل المؤسسات المالية الفلسطينية
  • ترامب: ما يحدث في لوس أنجلوس "اجتياح من قبل أعداء أجانب"
  • ترامب: لا يستطيع أحد تهديد أمريكا بفضل جيشها القوي