الإسلاميون بين الدولة والمجتمع.. حيرة المشروع وإشكال الهوية السياسية
تاريخ النشر: 3rd, May 2025 GMT
"الملك السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي، في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. "والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها" عبد الرحمان بن خلدون ـ المقدمة تواجه الحركة الإسلامية تحديات كثيرة تتجاوز مجرد الصمود قوة اجتماعية، أو الفوز في سباق انتخابي، أو ضمان التأثير في المشهد السياسي الداخلي أو الخارجي، إلى الحاجة للتوقف مع ذاتها ومع هويتها وطبيعتها.
والحقيقة أن هذه القضية ليست بالمسألة اليسيرة، وقد تحتاج لثقافة سياسية جديدة، و"انعطافة تاريخية"، كاستحقاق ذاتي ووطني ونهضوي. كما أنها إشكالية جديدة قديمة، طرحت في السابق وستطرح لاحقا وتتعلق بهذه الحيرة بين الدولة والمجتمع.
المؤكد أن مناهج التغيير وحتى التفكير في خيارات ورؤى الإسلاميين لم تستقر على رؤية واحدة ولا تصور واضح، ولذلك نرى جماعات وأطروحات متعددة بل ومتناقضة أحيانا، ينقض بعضها البعض، ليس فقط في العلاقة بمنهج التغيير وإنما بفلسفة التعاطي مع الدولة ومع العمل السياسي الحزبي.
ففكرة الحزب السياسي الإسلامي بقدر ما أُخذت بها القوى الإسلامية في غالبية الدول العربية والإسلامية، بقدر ما بقيت لديهم فكرة من جهة يتلبسها الكثير من الغموض، ومن جهة أخرى ظلت محل تحفظ لدى أوساط كثيرة من الإسلاميين، خاصة في الفكر الإسلامي التقليدي، لا سيما تلك الرؤى التي نشأت موازية للتجارب الإسلامية المعاصرة، والتي ترى في الأحزاب عامل فرقة وتفرقة وتقسيم من جهة، ومن جهة أخرى تنظر إلى هذه الأحزاب بشك، وبأنها ليست الإطار الأنسب في التعبير عن روح الأمة الإسلامية الواحدة، على اعتبار أن الإطار الحزبي يبدو في كثير من وجوهه رؤية انقسامية، وخاصة لسلبية مدلولاتها كما ينظر لها البعض في سياق النص القرآني عموما (1).
والحقيقة أن هذه التحفظات والمخاوف من الأحزاب السياسية والعمل الحزبي تعود إلى أطروحات رواد التيار الإسلامي الأوائل في ما عبر عنه جمال الدين الأفغاني، عندما دعا ودافع عن فكرة "الجامعة الإسلامية"، ثم الشيخ محمد عبده ورشيد رضا، ليعبر بأكثر وضوح عن هذه التحفظات الإمام المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، الذي تناول كثيرا هذا الموضوع في رسائله، وعرّف جماعة الاخوان بأنها أكبر وأوسع وأشمل من الحزب السياسي، محذرا من الروح الحزبية، التي تتناقض مع فكرة الجماعة، التي انبعثت أصلا مباشرة بعيد إلغاء الخلافة الإسلامية، لإعادة ما انفرط من حبل الأمة الإسلامية وما انفصم من عراها وما تشظي من وحدتها.
ولقد انتقد الشيخ الراحل محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "الجهاد في الإسلام"، عندما حمل بقوة على الحركات الإسلامية التي تحزبت وفق رأيه، معتبرا أنها انصرفت إلى أنشطة حركية خاصة بها، لا علاقة لها بالدعوة إلى الله وإنما هي دعوة إلى نصرة حزب يسعى إلى سدّة الحكم، فهو أبعد ما يكون عن الاهتمام بإصلاح القلوب وإقناع العقول وتهذيب النفوس. همه محصور في أن يقنع الناس بضرورة إبلاغه إلى سدة الحكم والقيادة.
البوطي أن "أن المتحرك سعيا إلى نصرة جماعته أو حزبه، فهو إنما يتجه بهم في حركة تكتيكية إلى مقاليد الحكم. ومن ثم فهو أبعد ما يكون عن الاهتمام بإصلاح القلوب وإقناع العقول وتهذيب النفوس. وإنما همه، بل كل همه، محصور في أن يقتنع الناس بضرورة إبلاغه إلى سدة الحكم والقيادة، ليريهم كيف يفجّر لهم من نظامه الذي ينادي به، جنة تزخر بأمواج السعادة للجميع" ثم يوضح البوطي ـ الذي رفض هو نفسه الانخراط في الشأن السياسي رغم أن النظام عرض عليه ذلك ـ كيف ان هذا النهج في الحركات الإسلامية المبتعثة للإصلاح أوقعها في التنافس على السلطة بدل أن تكون مظلة لكل القوى المتنافسة فيقول "وبوسعك أن تلاحظ، لتعلم أن أكثر الدعاة الإسلاميين، قد أصيبوا بعدوى هؤلاء الحزبيين من أصحاب المذاهب والأنظمة الدنيوية المختلفة. ومن ثم فهم ينهجون نهجهم. ويتكتكون على طريقتهم، ويصورون من أنفسهم، في أذهان الآخرين، واحدة من الجماعات أو الأحزاب التي تتزاحم سعيا وسبقا إلى مقاليد الحكم!" إنهم يتحولون إلى حزب مزاحم منافس في نظر هؤلاء الآخرين..ذلك لأنهم فرضوا من أنفسهم جماعة تزاحمهم وتسابقهم إلى كراسي الحكم، وليس إلا!
وهكذا يجعل الإسلاميون من أنفسهم خصوما وأندادا لتلك الأحزاب والفئات الأخرى، من أول يوم. فكيف وبأي دافع تتهيأ منهم النفوس للإصغاء إلى دعوة هؤلاء الإسلاميين الذين ينافسونهم ويسابقونهم إلى عواطف الجماهير سعيا منهم عن طريق ذلك إلى الحكم؟!..هذا إن وجد هؤلاء "الدعاة" وقتا لمحاورتهم ودعوتهم إلى الله، وأغلب الظن أن الوقت لديهم أضيق من أن يتسع لذلك"(2).
ويبيّن الشيخ البوطي كيف ينعكس هذا النهج الحزبي التنافسي على الحركة الإسلامية ويحجم دورها من حركة مجتمع إلى حركة لمجموعة تبتغي الوصول إلى السلطة وتخوض الصراعات من أجلها فيقول "لا أعتقد أن في المنطق ما يوح بأي استجابة لمثل هذه الدعوة من أناس اختاروا لأنفسهم هذا المناخ، بل لا أعتقد أن في المنطق ما يوحي بأي استعداد نفسي لدى الآخرين للثقة بإخلاص هذا الصنف من الدعاة..أجل فإن الذي أقبل مسرعا ينافسني الوصول إلى مغنم، لا يمكن أن أثق به في أي نصيحة يزعم أنه يتقدم بها إليّ، وأغلب الظن أن نصيحته لن تترجم في ذهني إلا إلى خديعة مقنّعة وتكتيك سياسي مبرمج".
"قيادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون ذات طابع روحي فكري توجيهي تربوي، توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ فكري روحي، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة إلى الله وتوجيه الراعي والرعية دون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد وتنشغل بالعاجل عن الآجل وبالجزئي عن الكلي "من محاضرة ألقاها الفقيد بتونس صائفة 1985 غير منشورة"..فهذه الرؤية تقوم على النظر إلى أن مهمة الحركة الإسلامية ليس استيعاب الصفوة من الناس إليها وإنما أن تضخ في المجتمع خريجيها ورجالاتها ممن يملكون ملكات في توجهات أخرى ولا تحبسهم في صفوفها. والحركة الإسلامية في هذا السياق "أشبه ما تكون بالمدرسة الحضارية التي تقوم بتخريج أجيال صالحة تنبت في سائر شرايين المجتمع وخلاياه لتقوم بمهمة النهوض الإسلامي، ويصبح الحزب السياسي في هذه الحالة كالمؤسسة الاقتصادية والقضائية والعسكرية جزءاً من جسم أمة الإسلام، منه بمثابة الروح والعقل والدم والأنفاس"(3).
ولذلك فإن "قيادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون ذات طابع روحي فكري توجيهي تربوي، توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ فكري روحي، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة إلى الله وتوجيه الراعي والرعية دون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد وتنشغل بالعاجل عن الآجل وبالجزئي عن الكلي "من محاضرة ألقاها الفقيد بتونس صائفة 1985 غير منشورة" (4)
ولقد ساهمت عوامل خارجية في مزيد تعقيد حيرة الإسلاميين بشأن هويتهم وطبيعتهم هيكلا ومشروعا. إذ وقع الإسلاميون لعقود طويلة تحت طائلة الاتهام بأنهم جماعة تخلط الدين بالسياسة، وتستعمل الدين لأغراض سياسية، بل وتستحوذ على ما يفترض أنه رأس مال قيمي وثقافي ورمزي وأخلاقي، وتنفيه بشكل أو بآخر عن البقية من المجتمع. ولقد وجدت هذه الاتهامات سبيلها للانتشار والتوسع من خلال استغلال بعض كتابات سيد قطب في محنته، لا سيما ما روج له من مقولات في "المجتمع الإسلامي" و"الظلال" وحتى "جاهلية القرن العشرين" وما تضمنته هذه الكتابات من دعوة للتعالى الايماني، تكوينا للصفوة، ومفارقة لجاهلية المجتمع. ولم توفر الأنظمة المخاصمة للتيار الإسلامي سببا أو دليلا لتثبيت تهم الخلط بين الدين والسياسة واستعمال الدين. وقد حرصت على فعل ذلك تارة تبريرا لإقصائها لهذا التيار وطورا في سعيها لاستئصاله تماما، مستفيدة من أطروحات خصوم الاسلاميين من بعض الأقلام المتخصصة في رفض هذا التيار وعدم السماح له بالنشاط بأي شكل من الأشكال.
والحقيقة أن هذه الضغوطات التي مورست على التيارات الإسلامية، وبأشكال مختلفة، إعلامي وفكري وثقافي وسياسي وأمني ووصلت حد الابتزاز والمساومة، نجحت أحيانا في تقويض وحدة هذه التيارات وحشر بعضها في الزاوية، لدفعها للقيام بمراجعات تحت الإكراه، وليس في سياق التطور الطبيعي والتفاعل مع الواقع وتطوراته. وحتى من وقع تحت هذه الطائلة المراجعات، استمر معزولا في سياق هرسلته والسعي للإجهاز عليه في عملية اغتيال فكري وسياسي وأخلاقي تعبر عن ثقافة إقصاء واستئصال ورفضا لأي تعايش مع المختلف. وهو نهج دأبت عليه أنظمة حكم مغلقة لعقود، مستفيدة من قوى ونخب ثقافية استئصالية وضعت نفسها في خدمة الاستبداد، بل واستحالت جهازا أيديولوجيا لهذه الأنظمة الدكتاتورية.
وفعلا واحدة من المآزق الكبرى التي واجهتها تجربة الإسلاميين بعد الثورة هي هذه الحيرة الفكرية والسياسية، التي عبرت عن نفسها بوضوح في المسلكية السياسية، بين الانصراف للدولة والانقطاع عن المجتمع، وبين تمثل التجربة الحزبية والتنصل من التجربة الحركية. ولعل هذه الحيرة جعلت التيار الإسلامي في تونس، وقبله الإسلاميون في السودان، لا هم قوة حزبية وطنية مفتوحة لكل مواطنيهم الراغبين في المشاركة والانخراط في العمل السياسي من خلال الحزب، سواء التزموا بما يلتزم به كل عضو من التيار الإسلامي أم لم يلتزموا لا سيما لجهة التدين، أواكتسبوا سمتا معينا، أم لم يكتسبوا. فقد ظلت الحركة الإسلامية وهي في السلطة بعيدة وغير قادرة على استيعاب كفاءات كثيرة وفئات كان ينتظر أن تستوعبها داخلها، لكنها بقيت في وضع لا هي بالمنفتحة على كل التونسيين ولا هي بالمنغلقة أمام استعدادهم للانضمام إليها.
حاول الإسلاميون في السودان في تجربتهم السياسية بعد الوصول للحكم حل هذه الإشكالية وذهبوا في ذلك إلى قرار بحل التنظيم، حتى لا يكون وعاء ضيقا غير قادر على احتضان "المشروع"، وحتى يتخففوا من أسر التنظيم، انفتاحا على المجتمع، أفرادا وهيئات، وبسطا لمشروعهم تمليكا له لعموم الناس، بعد أن انتقلت هذه التجربة من المعارضة إلى الحكم ومن المجتمع إلى السلطة. بيد أن تلك المحاولة في الانفتاح لم تحقق تماما هدفها في الانفتاح على جميع قوى المجتمع، بل وظلت إدارة الدولة في السودان خلال العقدين الماضيين في يد الإسلاميين تحديدا، وحصل أكثر من ذلك عندما عجزت التجربة السياسية للمؤتمر الوطني السوداني أن تستوعب الإسلاميين باختلافاتهم المعروفة، فأطاح شق بآخر، وانتهى الزعيم الراحل للحركة الإسلامية الدكتور حسن الترابي في السجن معتقلا، ثم في البلاد معارضا. ولقد كتب الدكتور الترابي رحمه الله حول هذه التجربة، وقيّم بعمق القصور والأخلال التي داخلت التجربة في هذا الصدد (5).
هذا القصور والحيرة والتردد في المضي بخيار تحويل "المشروع الإسلامي" إلى مشروع وطني، يحتضنه المجتمع، وتتولى تنزيله كل كفاءات المجتمع بغض النظر عن خلفياتها، بدا واضحا إلى حد كبير في التجربة التونسية أيضا. ولقد كان بينا أن الاستفادة من الكفاءات الوطنية وذوي الخبرة في إدارة الدولة ضئيلا في الكثير من الأحيان، لجهة المناصب الوزارية أو السامية في الدولة. واختارت النهضة في سياق محاولة الاستفادة من كفاءاتها الحزبية من جهة، وسعيا منها لتأمين الولاء وعدم الانقلاب عليها، أن تعطي الأولوية لأعضائها في شغل المناصب وتحمل المسؤوليات العليا، تمشيا لم تكن مخطئة فيه بالكامل، لا سيما في مرحلة حساسة تحتاج تأمين التجربة من ثورة مضادة متربصة، بيد أنه تمشي كانت له أيضا ضريبته، ولعلها كانت باهظة، لهشاشة الأوضاع في المراحل الانتقالية وصعوبة التحكم وضبط إيقاع أحداثها.
قيادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون ذات طابع روحي فكري توجيهي تربوي، توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ فكري روحي، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة إلى الله وتوجيه الراعي والرعية دون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد وتنشغل بالعاجل عن الآجل وبالجزئي عن الكلي "من محاضرة ألقاها الفقيد بتونس صائفة 1985 غير منشورةفقد كان لهذا التمشي تداعيات سلبية واضحة، لا سيما في ظل إعلام معاديا، صوّر استفادة حركة النهضة من أبنائها في إدارة الحكم بمثابة السيطرة على الدولة من جهة وسيادة منطق الغنيمة على منطق الكفاءة، ومن جهة ثانية أشاع نوعا من الشعور بأن النهضة تبدو غير مستعدة للانفتاح على الكفاءات الوطنية والمجتمع والاستفادة من كفاءاته في تنفيذ البرامج. وحرصت أطراف لم تسعفها الانتخابات بنتائج جدية على أن تصور النهضة وكأنها بصدد الاستيلاء على الدولة، والاستغناء عن كفاءات المجتمع لصالح محازبيها في التوظيف وإدارة شؤون البلاد (6). ولقد ساهم هذا الوضع في التشويش على صورة النهضة ومشروعها، الذي تحول بسبب حملات الإعلام منه مشروعا للانفتاح والنهوض بالبلاد، إليه مشروعا للاستيلاء على مؤسسات الدولة ومقدراتها، وهو تقريبا تماما ما حصل أيضا في مصر في سياق شيطنة الاخوان وتبرير الانقلاب على الحكم الذي كانوا يقودوه.
لقد انعكست هذه "الحيرة" واضحة في الخطاب السياسي المنزلق أحيانا باتجاه التماهي بين الإسلام والحزب، واعتبار أن انتصار الحزب هو انتصار للإسلام، وحينا آخر بالانزياح باتجاه سياسة مقتضاها أن الحزب الإسلامي لا يتصرف كحزب سياسي عصري، معيار فاعليته ونجاحه هو الفوز في الانتخابات والوصول إلى السلطة والحفاظ على مواقعه، بل التصرف كحركة شمولية فوق الأحزاب، بل وحاضنة لها وليست منافسا لها لا في الانتخابات ولا على الحكم (8). وهو وضع أربك أنصار الحزب وأدخل الحيرة في نفوس ناخبيه، الذين انتخبوه ليحكم، فلم يفعل.
ولن نبالغ إذا قلنا إن بعض مما يفسر خروج النهضة من السلطة في نهاية 2014 هو هذه الحيرة والثنائية بين التصرف تارة كحزب سياسي وتارة أخرى كحركة شاملة تنزع إلى أن تكون فوق الأحزاب ومستوعبة لها، وليست منافسة ومزاحمة لها. ففي بداية العام 2014 علق زعيم النهضة الشيخ راشد الغنوشي، مبررا استقالة حكومة الائتلاف الوطني بقيادة النهضة، بأن الحركة تقدم مصلحة البلاد على المصلحة الحزبية، وهو خطاب يستبطن جزئيا فكرة أن "النهضة" فوق الجميع، وهي تشكل مظلة للجميع، وبالتالي لا يمكنها أن تكون في صراع مع الأحزاب السياسية الأخرى على السلط.
ولئن حسمت حركات وتيارات إسلامية في بلدان عديدة هذه الإشكالية على المستوى الهيكلي من خلال محاولة البقاء كحركة شمولية تهتم بالشأن العام، بعيدا عن الصراع الحزبي، وتشكيل أو الدفع لظهور قوى حزبية قريبة منها، على غرار ما حصل في مصر وليبيا وقبلهما في المغرب والأردن، فإن النهضة بحكم تسارع الأحداث ونسقها الضاغط لم تتمكن من معالجة هذه الحيرة، وبقيت قضية كثيرا ما تعيد طرح نفسها خاصة مع المسار التقييمي لتجربتها الذي انخرطت فيه استعدادا لمؤتمرها العاشر.
بيد أنه تجب الاشارة إلى أنه حتى القوى الإسلامية في البلدان الأخرى، والتي حسمت هيكليا في هذا الأمر، لا تزال غير قادرة على إدارة علاقة سليمة وسلسلة تماما بين الحركة كمشروع عام، والحزب كرافعة سياسية. ولعل جزء من هذا المشكل يحتاج لخبرة عملية تنضجه وتساعد على إدراك السبل والآليات الأنجع في ترتيبه. فهذه الإشكالية ليست فقط نظرية وإنما هي عملية، وبالتالي لا يمكن أن نزعم أن هناك قول فصل ونهائي بشأنها.
وحتى نكون منصفين يجب التنويه بأن أحد رموز حركة النهضة وهو القيادي صالح كركر كان قد دعا منذ العقدين إلى ضرورة حسم هذه الإشكالية، وطرح الفكرة على صفحات جريدة "الحياة" اللندنية، ثم بلورها بأكثر وضوح في كتاب أصدره تحت عنوان "الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة"( 9).
وتجدر الإشارة هنا إلى مسـألة أساسية يجب الوعي بها وهي أن "الخطاب الإسلامي" المعاصر في عمومه لم يولي مسألتي "الدولة" والحكم الكثير من الاهتمام، وهو خطاب كثيرا ما ينصرف للمجتمع ولعلاقاته، أكثر مما ينصرف للدولة، التي تبدو في كثير من الأحيان هامشية في الفكر وفي الثقافة السياسية للإسلاميين.
وفعلا سيبقى هذا المشكل النظري العملي يؤرق نخبة القوى الإسلامية العاملة، ويتعمق هذا الإشكال في ظل الحجم الشعبي المعتبر لهذه القوى، التي عليها أن تحرص على معالجة هذا الإشكال، لما فيه من تداعيات وانعكاسات ليس فقط على مستقبل هذه القوى في المشهد السياسي والاجتماعي، وإنما على الإسلام نفسه، في ظل الخلط وإقحام الدين أحيانا في صراعات سياسية، تحوله من حل إلى مشكل، ومن موضوع توافق بين القوى السياسية المتنافسة والمتصارعة، إلى موضوع نزاع وتنازع. ويقتضي تحرير هذا المشكل أن يتوضح الإسلاميون في رؤيتهم، لجهة موقعهم في المشهد العام، وفي علاقتهم بالمجتمع، وفي علاقتهم بالدولة، وإعادة تعريف أدوارهم، وتوضيحها وترشيدها، ليس فقط على المستوى الطبيعة أو الأهداف وإنما أيضا على مستوى المنهج وسبل التنزيل. فالمنهج وسبل التنزيل من صميم المشروع ومعالمه، لذلك يجب أن يكونا بنفس الوضوح تماما كالأهداف والغايات. توضح سيزيل بلا شك الكثير من الالتباس والغموض، التي لا تقلق أهل هذا المشروع فقط، وإنما هي قضية محل متابعة وانشغال الكثير من النخب والقوى الأخرى، حتى تلك التي ليس لها مشكلات مع التيارات الإسلامية من حيث المبدأ، وهي تخوفات وإن كان الكثير منها في إطار الصراع السياسي، فإن بعضه مشروعا ومبررا.
والحقيقة أن تدبير العلاقة بين الديني والسياسي أو بين الدعوي والحزبي، لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياقات الواقعية للتجربة السياسية. ولا يمكن إغفال عناصر الواقع المعقدة والمركبة التي تبدو ضاغطة حينا باتجاه الاهتمام بالمجتمع وتمتين حصونه والعمل من خلاله على الانتشار بالرؤية النهضوية المرجوة، في وضع تنزع فيه الدولة للاستيلاء على كل بقعة في الفضاء العام. وبين الحاجة الملحة للعمل الحزبي وبالتالي السعي من خلال الدولة لا باعتبارها فقط ك"دينامو" في العملية النهضوية وإنما أيضا لتعديل دورها في العلاقة بالفضاء العام.
(1) ـ عندما تحدثنا للفاعلين السياسيين الليبين ثلاث سنوات بعد الثورة والإطاحة بنظام القذافي، تسود قناعة لدى معظم الليبيين أن الأحزاب السياسية هي عوامل تفرقة وانقسام للمجتمع.
(2) ـ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ دار الفكر 1993 ص 65
(3) ـ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: المصدر السابق.
(4) ـ الشيخ راشد الغنوشي: الحركة الإسلامية ومسالة التغيير، المركز المغاربي للبحثوث والترجمة 1999.
(5) الشيخ الدكتور حسن الترابي: حركة الإسلام..عبرة المسير لإثني عشر السنين، يونيو 2001.
(6) ـ لعب الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض منظمات المجتمع المدني خاصة تلك المحسوبة على اليسار دورا محوريا في هذا الصدد.
(7) ـ أدلى الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية بالعديد من التصريحات في هذا السياق.
(8) ـ صالح كركر، الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة، نوفمبر 1998
*كاتب وباحث
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير رأيه سياسة سياسة رأي تجارب اسلاميون أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرکة الإسلامیة الدعوة إلى الله الحزب السیاسی حرکة الإسلام هذه الحیرة من الأحزاب فی المشهد الکثیر من لا یمکن إلى حزب أن تکون من خلال لا سیما فی سیاق إلى أن ذلک عن من جهة فی هذا
إقرأ أيضاً:
رفاعة الطهطاوي (1801-1873): مُعلّم الأمة وعميد النهضة
سيظل الرائد الكبير الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رمزا حضاريا شامخا، يقف كتفا بكتف مع مؤسسي النهضة، وبناة المجتمعات، وفلاسفة المجتمع الكبار، من أمثال الفارابي، وابن خلدون، وجان جاك روسو، ومونتسكيو. وهو رجل النهضة الذي يقف أمام الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا، وسائر المؤسسين والمصلحين. وسيبقى أسبق عين معاصرة للشرق على الغرب، وطليعة للحوار الحضاري في العصر الحديث.
ذهب زعيم النهضة العلمية الحديثة إلى فرنسا إماما لأول بعثة مصرية كبيرة إلى أوروبا سنة 1826م، لدراسة العلوم الحديثة، وكانت مكونة من 44 طالبا، نصفهم من أصل مصري، يتقدمهم إمامهم الشاب، العالم الأزهري المتوثب، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الأنثروبولجية مايا ويند: هكذا تتواطأ "الجامعات الاستيطانية" مع الحركة الاستعمارية الإسرائيليةlist 2 of 2فلسطين كمختبر عالمي لتقنيات القمع ومكافحة التمردend of listوحسبما أوضح محمد علي باشا سبب هذه البعثات، في حديثه إلى الدكتور بورينغ (Bowring)، مندوب الحكومة الإنجليزية، حيث قال له الباشا بشأن الغرض من ابتعاث هؤلاء الطلائع الرواد:
"ينظرون إلى الأشياء بعيونهم، ويتمرنون على العمل بأيديهم، وعليهم أن يختبروا مصنوعاتكم جيدا، وأن يكتشفوا كيف ولم تفوقتم علينا، حتى إذا ما قضوا وقتا كافيا بين شعوبكم، عادوا إلى وطنهم وعلموا شعبي، فإن أمامي الشيء الكثير لأتعلمه أنا وشعبي".
ولعل هذا ما دعا كارل ماركس — وكان معاصرا — إلى أن يقول: "إنه صاحب العمامة الوحيدة في الدولة العثمانية، التي تحتها رأس يفكر". حيث شاءت إرادة الله، وعزم رفاعة، أن يكون إمام الصلاة.. إماما للنهضة العلمية المعاصرة.
وقد أرسلت في عهد محمد علي سبع بعثات، كانت أولاها إلى إيطاليا عام 1809م، ثم تنوعت بعد ذلك إلى فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وإنجلترا، لدراسة الهندسة، والبحرية، والطب، والحقوق، والإدارة، والكيمياء، والترجمة، والزراعة، والفيزياء، والعلوم الرياضية، والطباعة، والفنون. وكانت آخرها عام 1848م، قبل رحيل محمد علي في 12 أغسطس/آب 1849م، الذي لم يكن متطرفا في النقل عن الغرب، ولا تابعا له بالكلية كما يردد البعض، وإلا لترك الأجانب في بلادنا، ولم يوفد أبناءنا إلى أوروبا.
لكنه حاول سد هذه الفجوة العلمية الهائلة إلى حين، ليحل أبناء هذه الفرق العلمية محل الأساتذة، والضباط، والمهندسين الأجانب. وبذلك احتفظت مصر بهويتها وشخصيتها، بعدما ثبتت أقدامها في تاريخها وتراثها، ثم ملأت رأسها بعلوم أوروبا.
إعلانوكان عثمان نور الدين باشا أول مبعوث مصري إلى أوروبا، حيث عاد من بعثته لترجمة الكتب والمراجع، والفنون الحربية المختلفة، وسائر الصنائع المتعلقة بها. كما أن عبد الرحيم أفندي قد عاد لترجمة كتب معامل الأقطان، وصناعتها، وآلاتها.
ولعل تلك الخصوصية التي وعاها محمد علي، تبرز من قصة أدهم بك، رئيس المدفعية بورش المهمات الحربية، الذي أرسل إلى إنجلترا، فتزيا بزيهم، وحاكاهم في أقوالهم وعاداتهم. فلما علم الباشا محمد علي بذلك، غضب غضبا شديدا، وأرجعه فورا مغضوبا عليه، وقال: "إنني ابتعثته ليعاين الفبريقات، ويقف على صناعتها، وليعود بها إلى مصر، لا ليقلدهم في ملابسهم وعاداتهم".
كان الأزهر الشريف حينئذ يفرك عينيه في أعقاب رحيل الفرنسيين، حيث اطلعت طلائعه على ما يملكه الفرنسيون من العلوم الحديثة والأسلحة المتطورة، وأيقنوا أن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في علوم الدنيا، وعلى رأسهم العلامة الشيخ حسن العطار، الذي تولى مشيخة الأزهر حينئذ.
إذ رأى نفسه مطالبا بالإجابة الواقعية على سؤال الحضارة الواقعي الملزم، وصدمتها التي حلت بالمحروسة، بوجوب الاطلاع على علوم العصر، وحتمية استكمال الحصانة الحضارية، بدراسة الرياضيات والكيمياء وسائر علوم العصر. فحصلها حتى صار حجة فيها، وخطا بكل همة وعزيمة إلى تبني صفوة من شباب النخبة، لقراءة شريعتهم بعيون المصلحين الأحياء.
وكان من يمن طالع الشيخ رفاعة، أن كان من أوائل هذا الفريق الذي تتلمذ مباشرة على يد العطار. بل إن الشيخ العطار هو الذي قرأ فيه الأهلية، لاختياره إماما بالجيش، ثم اختياره إماما للبعثة المصرية الكبرى إلى باريس، حيث كان قد وضع يده على طاقته في البحث، ورغبته في الطموح، وعزيمته في التفوق، فاختاره إماما للصلاة، فصار إمام الصلاة، إماما للحركة العلمية في مصر في العصر الحديث. شأنه في ذلك شأن نظيره الشيخ محمد عياد الطنطاوي، الذي شرق إلى روسيا، بينما غرب الشيخ رفاعة إلى فرنسا.
ثم عاد رفاعة إلى وطنه، خيرا مما غادره، فكان: الشيخ، الإمام، الفقيه، المترجم، المؤسس، الرائد، الأميرالاي، الشاعر، المفكر.
عِصاميٌّ طريفُ المجدِ سعيًا
عِظاميٌّ شريفٌ بالتِّلادِ
سِوى نَسَبِ العلومِ لي انتسابٌ
إلى خيرِ الحواضرِ والبوادي
وحسبي أنني أبرَزتُ كتبًا
تُبيدُ كَتائبًا يومَ الطِّرادِ
فمِنها منبعُ العِرفانِ يجري
وكم طِرْسٍ تُحُبِّرُ بالمدادِ
على عددِ التواترِ مُعْرَبَاتي
تَفِي بفُنونِ سِلمٍ أو جِهادِ
ولقد كان من بين الإلهامات العجيبة أن يتفرس الشيخ الصوفي الشريف، الشيخ السادات، في وجه هذا الشيخ الشاب، رفاعة الطهطاوي، ثم يهتف به، مانحا إياه هذا اللقب: "اذهب فأنت أبو العزم"، وسط ما كان الشيخ السادات يخلعه من ألقاب ومنح على من لديه من الطلاب، والعلماء، والأولياء، والتجار، والوجهاء المترددين على مجلسه الوقور، ببيته بـ "بركة الفيل".
إعلانفكان هذا المفتاح النفيس سرا فاتحا لمجمع عزائم الطهطاوي، من الأزهر، إلى باريس، إلى التعليم، إلى القانون، إلى الطب والهندسة، إلى العلوم العسكرية، واللغات، إلى التحرير والترجمة، إلى مصر وفرنسا والسودان، إلى كل موقع أو مهمة حل بها الطهطاوي وارتحل.
ولد الطهطاوي في طهطا عام 1216 ه / 1801 م، وإليها ينسب. وبها تفتحت عيونه على الدنيا، وصافحت أنظاره الناس والحروف والكلمات، وبها تأسس بالقرآن وعلومه، وتأهل لدخول الأزهر الشريف.
وفي عام 1232 هـ / 1817 م، وفد إلى القاهرة والتحق بالأزهر الشريف، ومكث به خمس سنوات، ختم بها درسه، وأكمل بحثه، متخصصا في المذهب الشافعي. ونبغ في كل علم كان يدرس بالأزهر، حتى بلغ منزلة التدريس فيه، وهو ابن الحادية والعشرين.
فكان كما قال تلميذه الفذ، الشاعر المؤرخ، صالح مجدي: "حسن الإلقاء، ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم من أحد إلا استفاد منه، وبرع في كل ما أخذ عنه".
وأضاف: "يقوم بتدريس البيان، والبديع، والعروض، والحديث، والمنطق، والنحو، والصرف، سهل التعبير، حسن الأسلوب، مدققا محققا، قادرا على الإفصاح عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، بحيث يفهم درسه الصغير والكبير، بلا مشقة ولا تعب، ولا كد ولا نصب".
رفاعة في باريسفي يوم الخميس من شهر رمضان 1241هـ / 24 أبريل/نيسان 1826م، أبحرت من الإسكندرية سفينة العلم والنور، تحمل الشيخ رفاعة وإخوانه. وفي التاسع من شهر شوال، وصلت بهم إلى مرسيليا، بعد أن رشحه أستاذه العلامة حسن العطار للعمل واعظا في العساكر الجهادية أولا، ثم إماما للبعثة العلمية إلى فرنسا ثانيا، صحبة "الأفندية" المبعوثين لتعلم العلوم والفنون الموجودة بفرنسا، والتي كشفت عنها صدمة الحملة الفرنسية الأثيمة على مصر عام 1798م، بهدف تحصيلها والعودة بها إلى بلادنا.
وقد أحسن العلامة العطار، في وعيه الحضاري، الذي نبه فيه تلميذه رفاعة، بأن "يدون كل ما تقع عليه عينه، وأن يسجل ما يصادفه من الأمور الغيرية، والأشياء العينية، وأن يقيده ليكون كاشفا في كشف القناع عن ماهية هذه البقاع، التي يقال لها (عروس المدائن)".
كما كان رفاعة واعيا أشد الوعي بما يصنع، حيث قال: "حسب ظني لم يظهر في اللغة العربية شيء في تاريخ باريس".
وكان صحبة الشيخ رفاعة في هذه البعثة: حضرة "عهدي أفندي المهردار"، الذي تخصص في الأمور الملكية، يليه حضرة "مصطفى أفندي الدويدار"، الذي تخصص في الأمور العسكرية، والثالث "حسن أفندي الإسكندراني"، الذي تخصص في القبطانية والبحرية.
يقول الشيخ رفاعة: "والحق أنني مدة إقامتي في هذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك، وخلو بلاد الممالك الإسلامية منه".
وقال: "ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نصوص الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية".
وقال: "وليست هذه الرحلة مختصرة على ذكر السفر ووقائعه، بل هي مشتملة على ثمرته وغرضه، وفيها إيجاز العلوم والصنائع المطلوبة، والتكلم عليها، وعلى طريقة تدوين الأفرنج لها، واعتقادهم فيها، وتأسيسهم لها".
كان هذا هو الاسم الأول لكتاب رفاعة الأشهر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، جريا على سجع عناوين كتب الوقائع المشهورة، مثل: "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغري بردي، و"التبر المسبوك في نصيحة الملوك" للغزالي، و"بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس، وغيرها من آلاف الكتب والمراجع التي يزخر بها إرثنا وتراثنا.
إعلانوتكلم الشيخ رفاعة في كتابه عن العلوم والفنون المطلوبة، والحرف والصنائع المرغوبة، وأوفى الحقوق الثلاثة قدرها (الطبيعية، والبشرية، والوضعية)، وتناول علوم تدبير العسكرية، والقبطانية، والبحرية، والعلاقات الدولية، والسفارات، وفنون المياه، وصناعات القناطر والجسور، والصناعات الفنية، والميكانيكا، والهندسة البحرية، والمدفعية (الطوبجية)، وصناعة المعادن، والكيمياء، والورق، والتحاليل، والطب، وصناعة البارود، والسكر، والأنسجة، والتشريح، والبيطرة، وعلوم الزراعة، والصرف، وعلوم النبات، والحيوان، وصناعة النقش والحفر، والترجمة، والجغرافيا، والفلك.
حيث بسط الحديث في مقدمة كتابه عن جغرافيا العالم، ثم تحدث بعد ذلك عن مدينة الإسكندرية وتاريخها منذ نشأتها على يد الإسكندر المقدوني، إلى اليوم الذي تركها فيه رفاعة. لكنه تورط في هذا السرد في خطأ تاريخي فاحش، حين ذكر ما نصه: "ومن عجائب ما فيها.. خزانات الكتب التي حرقها عمرو بن العاص رضي الله عنه، على ما كان فيها من الكتب، ما قدره 700,000 مجلد".
وهذا الخطأ مردود عليه بالأدلة التاريخية والشواهد الواقعية، ولعل أقوى الكتب التي تناولت هذه القضية بوضوح، تلك الدراسة الماتعة التي صدرت مؤخرا للعالم الباحث الدكتور المهندس ربيع الزواوي: "مكتبة الإسكندرية.. هل أحرقها عمرو بن العاص؟" (القاهرة، 2007م).
وفي الطريق إلى باريس، تكلم الشيخ رفاعة عن جزيرة كريت، التي وصل إليها في اليوم السابع من السفر، ثم جزيرة صقلية، ثم مسينا ببوغاز إيطاليا، ثم إلى نابولي، وهي إحدى البنادر الأربعة الأصلية في البلاد الإفرنجية، ثم إلى مرسيليا، ودخولهم إلى "الكرنتينة"، وما يذكره من طرائف التحليل والتحريم للحجر الصحي، بناء على فهم القضاء والقدر، وما دار بين العلامة الشيخ محمد المناعي التونسي المدرس بجامع الزيتونة، والشيخ محمد البيرم شيخ الحنفية. وما إن وصل إلى مرسيليا، حتى اشتغل مع المبتعثين بتعلم تهجي الحروف الفرنساوية، وهم ما زالوا في الكرنتينة.
ثم دخلوا باريس، فتكلم عن تخطيطها، ووصفها الجغرافي، وأهلها، وعاداتهم، وزروعها، وشوارعها، ومقاهيها، ودور العلم بها، وكل شيء فيها، حتى كأنك تراه رأي العين. وهنا انفتحت العين الناقدة، والبصيرة الشاهدة للشيخ رفاعة على اتساع محيطها، وامتداد قطرها، فقال:
لَئِنْ طلَّقْتُ باريسَ ثلاثًا،
فما هذا لغيرِ وصالِ مِصْرِ.
فكُلٌّ منهُمُ عندي عروسٌ،
ولكنْ مِصْرُ ليستْ بنتَ كُفْرِ.
ومثلما قال في قصيدته الطويلة، مادحا مصر أم الدنيا من قلب باريس، عروس أوروبا، حيث لم يتخل عن حبه لبلده ساعة من نهار، فقال:
زمنٌ عليّ به لمصرَ (فدَيتُها)
حقٌّ وثيقٌ عاطلُ النكرانِ
فلكَمْ بأزهرِها شموسٌ أشرقتْ
وأنارتِ الأكوانَ بالعرفانِ
فشذا عبيرِ علومِهم عَلَمُ الورى
وسرتْ مآثرُهم لكلِّ مكانِ
قد شبّهوها بالعروسِ وقد بدا
منها (العروسيُّ) بهجةَ الأكوانِ
قالوا تعطّرَ روضُها فأجبتُهم
(عطّارُها حَسَنٌ) شذاهُ معانِ
حبرٌ له شهدتْ أكابرُ عصرِه
بكمالِ فضلٍ لاحَ بالبرهانِ
ولئنْ حلفتُ بأنَّ مِصْرَ (لجنّةٌ)
وقطوفُها للفائزينَ دوانِ
والنيلُ كوثرُها الشهيُّ شرابُهُ
لأبرُّ كلَّ البرِّ في أيماني
ثم تحدث بعد ذلك عن أهل باريس، وتدبير الدولة الفرنساوية، واقتصادياتها، وما يتعلق بها من أمور المعاش، والصحة، والتعليم، والإدارة، والسياسة، والقانون، والعلوم. ثم قام بترجمة المنطق لأرسطو، وعلم الحساب.
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 1830م، تقدم للامتحان النهائي في ختام الدراسة، وقدم للجنة الامتحان 12 كتابا قام بترجمتها خلال السنوات الخمس، تشمل علوم الاجتماع، والهندسة، والقيادة العسكرية، والميثولوجيا، والصحة، وتقويم البلدان، والجغرافيا، والتعدين، والفلسفة، والقانون، وفنون الأدب، بالإضافة إلى مخطوطة كتابه "تخليص الإبريز"، الذي يقدم فيه اكتشافه للحضارة الغربية وإضاءتها من داخلها، ناقدا واعيا مستبصرا، وهو ما زال ذلك الطالب الذي منتهى غايته أن يرضي أساتذته، وأن ينظر إلى كل شيء بعيونهم، لا بعيونه!
لكنه كان غير ذلك تماما، حتى عاد إلى داره، ومداره، مصر المحروسة، عام 1831م، وقد تحول من إمام للدين والصلاة، إلى إمام للنهضة والحياة.
عاد الشيخ رفاعة عام 1246هـ ليعمل مترجما في مدرسة الطب بتزكية من أستاذه مسيو جومار، المشرف العلمي على البعثة. مكث بها سنتين، ثم نقل عام 1249ه مترجما في مدرسة الطوبجية. ثم انتقل أستاذا في مدرسة الإدارة الملكية، ثم عين عام 1250هـ ناظرا لمدرسة التاريخ والجغرافيا.
إعلانثم أخذ يقنع الباشا بإنشاء مدرسة للإدارة الملكية، حتى أقنعه بتلك الفكرة، فكانت النواة التي نشأت عنها بعد ذلك "مدرسة الألسن" عام 1835م، باسم "مدرسة الترجمة" أولا، ثم تطورت إلى "مدرسة الألسن"، ومقرها السراي المعروفة باسم "بيت الدفتردار" بحي الأزبكية، حيث كان يقوم فندق شبرد القديم. وقد أنشئت مدرسة الألسن – كما رفع الشيخ رفاعة إلى الجناب العالي – "لينتفع بها الوطن ويستغنى بها عن الدخيل".
وقد بدأت أولا بثمانين طالبا، ثم ازداد عددهم ليصل إلى 150، وقد تخرجت الدفعة الأولى منها عام 1255هـ / 1839م. وقام الشيخ رفاعة بوضع منهج المدرسة الدراسي، وكان على رأس إدارتها والتدريس فيها بكل حزم وإخلاص. وكان يدرس إلى جانب المقررات الدراسية الأدب، والفقه، والشريعة الإسلامية، ويقوم بالواجب القومي لترجمة مراجع النهضة العلمية المعاصرة من سائر العلوم والفنون.
وفي هذه الفترة، عهد إلى رفاعة إعادة تنظيم صحيفة الوقائع المصرية، والإشراف على تحريرها عام 1257هـ، فقام بذلك على خير وجه لمدة ثلاث سنوات.
وقد عاشت مدرسة الألسن نحو 15 عاما، وهي جوهرة النهضة وطليعة الحضارة، إلى أن أغلقها عباس الأول، الذي لم يكن على وفاق مع رجال جده محمد علي وعمه إبراهيم. فلم تمض أيام على ولاية عباس حتى ألغاها في المحرم 1266هـ / نوفمبر/تشرين الثاني 1849م.
رفاعة في السودانلما ولي عباس الأول الأمر بعد وفاة جده محمد علي في 12 رمضان 1265هـ / 12 أغسطس/آب 1849م، وكان شديد التحفظ والانغلاق، كما لم يكن مطمئنا إلى رجال جده محمد علي ولا عمه إبراهيم، وعلى رأسهم الشيخ رفاعة، فأمر بإرساله إلى السودان ناظرا لمدرسة الخرطوم الابتدائية، التي قضى بها ثلاثة أعوام، وعاد منها بعد وفاة عباس الأول وتربع سعيد على عرش مصر عام 1854م، فعين وكيلا للمدرسة الحربية، ثم ناظرا لها بعد إحالة ناظرها سليمان باشا الفرنساوي. ولكن حنينه للألسن ما زال يلح عليه في العودة إليها، كدار واسعة للتربية والإعداد والإصلاح والنهضة.
والذين نعوا على المصلح المجدد رفاعة الطهطاوي بعض قوله الشاكي في السودان، الذي أبعد إليه لجفوة بينه وبين عباس الأول، عليهم أن يعلموا أن رفاعة قد عانى الأمرين بالسودان، لا لمكرهة بينه وبين أهله، إنما لتعطل المشروع الإصلاحي الذي قضى حياته من أجله، وأن كل جهوده الإصلاحية قد داسها عربة عباس الأول دون ترو. ولكنه يلخص ذلك المشهد حيث يقول:
وما خِلْتُ العزيزَ يريدُ ذلِّي
ولا يُصغي لأخصامٍ لِدادِ
لديهِ سعَوْا بألسنةٍ حِدادِ
فكيف صغى لألسنةٍ حِدادِ؟
مهازيلُ الفضائلِ خادعوني
وهل في حربِهم يكبو جوادي؟
وزخرفُ قولِهم إذ موّهوهُ
على تزييفِهم نادى المنادي
فهل من صيرفيِّ المعنى بصيرٍ
صحيحِ الانتقادِ والاقتصادِ
قياسُ مدارسٍ قالوا عظيمٌ
بمصرَ، فما النتيجةُ في بِعادي؟
وما السودانُ قطُّ مقامَ مثلي
ولا سَلمايَ فيهِ، ولا سُعادي
بها ريحُ السَّمومِ يُشَمُّ منهُ
زفيرُ لظىً، فلا يُطفيهِ وادِ
رحلْتُ بصبغةِ المغبونِ عنها
وفضلي في سواها في المزادِ
يقول العلامة الدكتور أحمد أمين: "وكان الشيخ كما ترى، قد صاغ قصيدته على وزن وقافية القصيدة الشهيرة: لقد أسمعتَ إذ ناديتَ حيًّا / ولكن لا حياة لمن تنادي"، يقصد بذلك الغاية من الملاومة والتبكيت، بحيلته الأدبية البلاغية تلك.
وهكذا قضى الشيخ رفاعة في السودان نحو ثلاث سنوات، قاسى فيها شدائد الحرّ والإقصاء والتهوين، لا كرهًا في السودان، إنما رفضًا للمظلمة، وحزنًا على تعطيل مشروعه النهضوي الفريد.
إلى ما سبق، فإن الشيخ رفاعة قد فقد في تلك المبعدة معظم أصدقائه، خاصة بيومي أفندي، أستاذ الرياضيات في مدرسة المهندسخانة، والذي نعاه ضمن القصيدة السابقة بقوله: "وحسبي فتكها بنصيفِ صحبي / كأن وظيفتي لبسُ الحدادِ".
والشيخ رفاعة نفسه كان قطعة حية من الجسد المصري السوداني الحضاري العريق، فهو القائل على لسان مصر والسودان:
نحن غصنانِ ضمّنا عاطفُ الوجدِ
جميعًا في الحبِّ ضمنَ نطاقِ
في جبينِ الزمانِ منكَ ومنِّي
غُرّةٌ.. كوكبيةُ الإطلاقِ
ومع ذلك، فقد أثمر الشيخ رفاعة في منفاه في السودان خير ثمرة، بحسن إدارة مدرسة الخرطوم، والنجاح في تخريج جيل من المصريين والسودانيين على خير ما يرام، ثم بترجمة قصة "تليماك"، التي وضعها بعد ذلك تحت عنوان "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك".
ذهب الطهطاوي إلى فرنسا وهو مزود بالأصالة الأزهرية، ومفعم بالنصر الذي حققه الشعب المصري على الحملة الفرنسية التي قدمت إليه عام 1798م، والتي دنست خيلها الأزهر الشريف، ثم انجلت غمتها عام 1801م، بعد ثلاث سنوات من المقاومة والجهاد العام. وهو نفس عام مولد السيد الشريف، رفاعة رافع الطهطاوي، الذي تفتحت عيونه وإدراكه للحياة على هذا الثأر المبيت.
فدخل الطهطاوي فرنسا وهو محصن بأزهريته الأصيلة، وتربيته الواعية، وأصله الشريف، وعوده الصلب، ووعيه المسبق على يد شيخه الأثير، العلامة الشيخ حسن العطار، شيخ الأزهر الشريف، الذي سبقت له معرفة بالفرنسيس واحتكاك علمي وحضاري بهم، حال حلولهم بالمحروسة، والذي عزم على سد الفجوة بتربية جيل واع واثق متوثب مخلص من شباب الأزهريين النوابغ، من أمثال: إبراهيم الدسوقي، ومحمد عياد الطنطاوي، ومحمد عمر التونسي، والشيخ رفاعة وغيرهم، ليكونوا طليعة لبشائر النهضة.
فذهب الطهطاوي وهو الشيخ الأزهري المعبأ برغبة شعبه في النهضة، وتربية شيخه في الوعي، وصلابة أصله في التحمل، وتزكية خلقه في التصوف، وعلو محتده في الشرف، وعزيمة واليه في البناء، ورغبة الطهطاوي نفسه في التحدي، وقدرته الهائلة على الإنجاز والتحصيل.
يقول زميله في البعثة، ومنافسه في الزعامة، أبو التعليم المصري (علي مبارك): "ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده". (الخطط التوفيقية ج 13 ص 54)
تبدو الثقة بالنفس والشرع من كل ملاحظات الشيخ رفاعة، من أول يوم في بعثته إلى آخر يوم في حياته، حتى في ترويحاته واستملاحاته، وفي تسريته وتسليته، بغنائه وإنشاده، ومنظوماته ومقاماته، وهو ما زال بسفينة الذهاب. حيث تصادف دخولهم مع احتفال القوم ببعض أعيادهم، بالابتهاج وطرق النواقيس، فقال:
أصبو إلى كلِّ ذي جمالِ
ولستُ من صبوتي أخافُ
وليس بي في الهوى ارتيابٌ
وإنما شيمتي العفافُ
يعكس "تخليص الإبريز" إجادة الطهطاوي للفرنسية، وإلمامه بالعلوم العصرية الحديثة، كما يعكس كفاءة عقلية باهرة، حيث انخرط الطهطاوي حتى أذنيه في معاملة المستشرقين الكبار، من أمثال سيلفستر دي ساسي بالكوليج دي فرانس، وكوسان دي برسفال بمدرسة اللغات الشرقية، وجوزيف رينو بدار الكتب، ومسيو جومار، وجول سالدان، منذ الأيام الأولى للبعثة. ولكن تلك العلاقة الوثيقة تعكس خلاصتها ثقة تراثية، وموسوعية ثقافية عند رفاعة.
يقول أستاذه شوفالييه (وكان قد اتصل به أربعة أعوام كاملة): "إنما كان طلعة، يلتهم كل جديد في كل صوره المادية والمعنوية، ويتمثله التمثل الذي أقض مضاجع بعض أولي الأمر في مصر". فقد يأخذ ويعطي، ويؤثر ويتأثر، ويتعلم ويعلم، وما شابه أدنى اهتزاز أو تراجع، فضلا عن تبعية أو ذيلية قط. فهو القائل: "يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية، المشتملة على شيء من الفلسفة، أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يغتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه". (ص 179-180)
انتقاده الواضح لما تحويه الثقافة الفرنسية من "الحشوات الضلالية المخالفة للكتب السماوية"، حيث قال قوله الحاسم، المؤسس لفلسفة العقل والنقل: "إن تحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا أقره الشارع، والتكاليف الشرعية التي عليها نظام العالم مؤسسة على التكاليف العقلية الصحيحة، الخالية من الموانع والشبهات، لأن الشريعة والسياسة مبنيان على الحكمة المعقولة لنا، أو التعبدية التي حكمتها إلى المولى سبحانه وتعالى.. وليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه، إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه". (د. محمد عمارة: الأعمال الكاملة للطهطاوي، ج 2، ص 159). "والذي يرشد إلى تزكية النفس، هو سياسة الشرع". (المرجع السابق، ص 32).
عاش الطهطاوي سنواته الخمس معتزا بدينه، أمينا على علمه، واعيا برسالته. فهو يتتبع أخبار نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنسوية، خصوصا المماليك الجورجية والجركسية، وكذلك سعى إلى تتبع أخبار النساء اللواتي أخذهن الفرنسيس صغار السن.
يقول: "وقد وجدت امرأة عجوزا باقية على دينها.. وممن تنصر إنسان يقال له عبد العال، ويقال إنه كان قد ولاه الفرنسيون بمصر (أغا الإنكشارية) في أيامهم، ثم تبعهم وبقي على إسلامه خمس عشرة سنة، ثم بعد ذلك تنصر والعياذ بالله. ولقد رأيت له ولدين وبنتا، أتوا إلى مصر وهم على دين النصرانية، أحدهم معلم الآن في أبي زعبل". (ص 120-121).
ويصف الطهطاوي موقعا أسماه "البستان" يحتوي على عدد من المحنطات الحيوانية، وفي رواق يسمى "بستان التشريح"، يوجد بعض الشيء من جثة المرحوم الشيخ "سليمان الحلبي" الذي استشهد بقتله الجنرال "كليبر"، القائد الثاني للحملة الفرنسية. (ص 187).
ما أقدم رفاعة في بعثته على شيء، إلا وهو يعي هدفه من وراء ذلك بكل وضوح. وما ملاحظاته على لبس المرأة الفرنسية، وحقوقها وطريقتها في الحياة، وانبهاره ببعض الأمور والتدابير التي رآها لأول مرة في حياته، وكذلك وصفه للمقاهي والعاديات الحياتية والسلوكية عند الفرنسيس، إلا تطورا طبيعيا لمشواره في سبر أغوار الحياة والناس والعلوم، وتعرفه إلى كبار الأساتذة بالجامعات وغيرها، وهضم ذلك كله، وإعادة تمثله وعيا جديدا صالحا مفيدا.
يشهد له كل ذلك بقمة التيقظ، والقدرة على الفرز الحضاري الواثق، فهو القائل: "ومعلوم أن الشرع لا يحظر جلب المنافع، ولا درء المفاسد، ولا ينافي المتجددات المستحسنة، التي يخترعها من منحهم الله تعالى العقل وألهمهم الصناعة". (الأعمال الكاملة، ص 387). "فإن بحر الشريعة الغراء، على تفرع مشارعه، لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأحاطها بالسقي والري، ولم تخرج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية، لأنها أصل، وجميع مذاهب السياسة عنها بمنزلة الفرع". (ص 370). بل إنه اكتشف منذ الساعات الأولى في كتابة "تخليص الإبريز" أن القوانين التجارية الفرنساوية مأخوذة برمتها من الفقه المالكي، وهو الشيخ الأزهري الشافعي المذهب.
عمل رفاعة مع محمد علي سبعة عشر عاما، وعلى الرغم من جبروت محمد علي واستبداده بالأمر، إلا أن الشيخ رفاعة قد انتقده بقوله: "ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه.. لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور".
ما ذهب رفاعة إلى مكان، أو حل بموقع، إلا وحلت به الهمة، وارتفع صوت العمران. فكان مع التخطيط والتنفيذ والإنشاء، يضع المناهج ويقوم بالتدريس والتأسيس. فعل ذلك في كل مكان حل به، وفي كل مهمة كلف بها، وفي أي علم قام بتدريسه، أو معهد قام بتأسيسه. وعلى سبيل المثال، حين كلف بتدريس اللغة العربية بالمدارس الأميرية، ألف لهم منظومته "جمال الأجرومية" وكتابه "التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية"، وهو أول كتاب في النحو العربي ذي سمات تجديدية.
عاد الشيخ رفاعة من باريس عام 1246هـ، حيث كان على رأس مستقبليه إبراهيم باشا، ابن محمد علي، ذلك القائد العسكري التاريخي الجبار. ثم التقى بعده محمد علي، وانخرط بكليته في البناء والتأسيس، من موقع إلى موقع، ومن مكان إلى مكان، وهو "قليل النوم، كثير الانهماك على التأليف والترجمة"، كما يقول تلميذه صالح مجدي: "وذهب إلى باريس، وعاد خيرا مما ذهب".
وحين أنشأ علي مبارك مجلة "روضة المدارس" النصف شهرية عام 1870م، أسند رئاسة تحريرها إلى رفاعة الطهطاوي، فجعلها مجالا لرواد العمل الثقافي في مصر، من أمثال علي مبارك نفسه، وعبد الله فكري، وإسماعيل صبري، وقدري باشا القانوني، وإسماعيل باشا الفلكي، وصالح مجدي من تلاميذ الشيخ رفاعة، والشيخ حمزة فتح الله اللغوي الشهير.
وأصدر معها على عدة حلقات متتابعة كتابه "القول السديد في الاجتهاد والتقليد"، و"نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" الذي لم يقتصر فيه على السيرة، بل تناول تاريخ صدر الإسلام بأسلوب جديد تماما. وكان قد كتب من قبل في التاريخ المصري القديم كتابه "أنوار توفيق الجليل"، فأفاد فيه لأول مرة في اللغة العربية من الكشوف الأثرية الحديثة. (في فكرنا الحديث والمعاصر، الجزء الأول، د. حسن الشافعي، القاهرة، 2024، ص 98).
والذين يأخذون على رفاعة ترجمته للقانون التجاري الفرنسي الذي ترجمه عام 1868م، وتعريبه للقانون المدني الفرنسي الذي طبع في مجلدين عام 1868م، فما صنع الرجل ذلك من عندياته أولا، ولا صنعه ليحكم به محل الشريعة ثانيا. فقد كان الرجل من أساطين الفقه والشريعة المعدودين.
إنما ترجم القانون التجاري ليحل مشكلة المشاكل في التعاملات التجارية مع الأجانب، الذين أغرقوا البلاد بالديون لحساب قانونهم في بلادهم، فأراد الرجل التبصير بهذا الأمر الخطير "حتى لا يجهل أهل هذا الوطن أصول الممالك الأخرى، لاسيما وأن علاقات الاقتضاء، ومناسبات الأخذ والعطاء، تدعو إلى الإلمام بمثل تلك الأصول الوضعية، ليكون من يتعامل معهم في تسوية الأمور على بصيرة". (الأعمال الكاملة، ص 367).
وما ترجم القانون المدني رفقة طلابه –عبد الله السيد، وصالح مجدي، ومحمد قدري– إلا وقد اجتهد قدر الطاقة في سبر أغوار الفقه والشريعة الإسلامية، للإتيان بالمصطلح المناسب الذي يفي بقدرة الشريعة وكفايتها. وقد تنبه لذلك مبكرا حين أنشأ بمدرسة الألسن قسما لدراسة الشريعة الإسلامية والفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وهو المذهب الذي كان يتبناه العثمانيون طوال مدة حكمهم لأكثر من ستة قرون.
رحمة الله ورضوانه على الطهطاوي الشيخ، المسيو، الأميرالاي، الذي أوقف عن العمل، وتعرض للبطالة عدة مرات، استمر بعضها إلى سنوات، ولم ينل رتبة الباشوية، في حين نالها من هم دونه بكثير. الناثر، الشاعر، المترجم، ناظر ومؤسس مدرسة الألسن، ووكيل وناظر المدرسة الحربية، وناظر مدرستي الهندسة الملكية والعمارة. العالم المعلم، صاحب "مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية"، و"المرشد الأمين للبنات والبنين"، و"نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز".
وصاحب ريادات: تعليم المرأة، والحوار الحضاري، والصحافة العامة، والصحافة المدرسية، ودراسات الاستشراق، ودراسة اللغات، والثقافة الحضارية، وتأسيس النهضة، وتقنين الشريعة الإسلامية. الذي عاش في باريس خمس سنوات، تعدل في منتوجها خمسين عاما من العلم والوعي، واسترداد الثقة الحضارية، وتفعيل التراث، واستحضار العصر والدين معا. والذي لخص لنا رسالته بقوله: "لا تحصيل إلا بتعليم أحكام الدين، الواجب معرفتها على كل إنسان، وذلك بالاعتماد على الكتاب والسنة وبصائر العقول". و"إذ لا شك أن رسالة الرسل بالشرائع، هي أصل التمدن الحقيقي الذي يعتد به، وأن الذي جاء به الإسلام، من الأصول والأحكام، هو الذي مدن بلاد الدنيا على الإطلاق".
ورحمة الله على الرجل الذي نعى باريس وما قدمت من "حشوات ضلالية" في بهرجها الحضاري الفاتن، فقال:
أيوجدُ مثلَ باريسٍ ديارُ
شموسُ العلمِ فيها لا تغيبُ
وليلُ الكفرِ ليس له صباحٌ
أما هذا وحقكمُ عجيبُ
وقضى عمره كسن الرمح، حتى لقي ربه في غرة ربيع الآخر سنة 1290هـ / 27 مايو/أيار 1873م، وهو يناهز الخامسة والسبعين من عمره النافع الميمون. فاهتزت مصر كلها لموته، على حد قول العلامة الدكتور أحمد أمين: "واحتشد لجنازته الألوف المؤلفة من المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس، وازدحمت الشوارع بالناس يردّدون بعض جميله… يذكره الأزهريون على أنهم ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم، وكلهم يتوجع لفقده، ويشيد بذكره".
أجل، إنه رفاعة "أبو العزم"، والذي يصدق فيه تمامًا ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي، يوم رثاء الشاب النابغة (علي) ابن رفاعة، حين قال:
يا ابنَ الذي أيقظتْ مصرُ معارفَهُ
أبوكَ كان لأبناءِ البلادِ أبا
وسلام على الصادقين.