عمال السودان: بين أزمات الحرب والسلم ومآلات العمل النقابي
تاريخ النشر: 3rd, May 2025 GMT
(نشرت في موقع صفر يوم 1 مايو 2024)
رفض الزبير يوسف عبدالعزيز، المهندس الكهربائي السوداني الذي يعمل في شركة بتروإنرجي الصينية السودانية للبترول، مغادرة منزله بعد اندلاع الحرب في نيسان/أبريل 2023. واستجابةً لطلبٍ من إدارة شركته، قام بصيانة عددٍ من أنابيب النفط المتسربة في مناطق خاضعةٍ لسيطرة مليشيا الدعم السريع.
برر الزبير تصرفه بأن ما قام به يدخل ضمن نطاق عمله الذي يتقاضى عليه راتباً شهرياً، ولم يرَ في الأمر مبرراً لتحصيل أي مبالغ إضافيةٍ.
لاحقاً، قام الزبير بدفن كمياتٍ من مخلفات النفط المتدفقة غرب مدينة أم درمان، دون أن يطلب مقابلاً مادياً. وعندما ناقشه بعض أصدقائه في قراره، أوضح لهم أن استمرار تدفق النفط قد يؤدي إلى نفوق الماشية، ويلحق أضراراً جسيمة ًبالأراضي الزراعية، مما قد يتسبب بكارثةٍ بيئيةٍ خطيرةٍ.
وفي أواخر آذار/مارس الماضي، بادر الزبير بصيانة مولد مياهٍ في منطقته السكنية، مما مكن الأهالي من الحصول على الماء بعد انقطاعٍ استمر عدة أشهرٍ. وبعد يومين فقط من هذا العمل الإنساني، استشهد الزبير بعد أن أطلقت عليه قوةٌ مسلحةٌ من مليشيا الدعم السريع النار أمام أطفاله، إثر رفضه تسليم سيارته وممتلكاته لهم بالقوة، في ثاني أيام عيد الفطر.
بطولة الشهيد الزبير ليست حالةً استثنائيةً في سِيَر عمال السودان وعامليه خلال حروب السودان المتطاولة، وإن كانت تصلح مثالاً على ما تعيشه الطبقة العاملة السودانية اليوم في واحدةٍ من أكثر الفترات قسوةً في تاريخها الطويل من المعاناة والنضال.
فمنذ استقلال السودان في كانون الثاني/يناير 1956، ظل العمال في طليعة الفئات المتضررة من إخفاقات الحكومات المتعاقبة في القيام بواجباتها الأساسية تجاه الشعب السوداني، وهي تعجز عن توفير الخدمات الأساسية لقطاعاتٍ واسعةٍ من المواطنين، وتفشل في احتكار العنف المشروع، أو في بسط سلطتها على كامل التراب الوطني. وقد عانى العمال من غياب العدالة والتنمية والخدمات في أوقات السلم، وتحت حكوماتٍ موسومةٍ بالديمقراطية، كما تحملواعبء النضال وتعرضوا للقهر والقمع والاستغلال في أزمنة الحرب، وتحت الأنظمة العسكرية الدكتاتورية.
سوق العمل السوداني
يبلغ عدد السكان في السودان حوالي 50 مليون نسمةٍ، تبلغ القوة العاملة منهم (السكان في سن العمل) نحو 25 مليون شخصٍ. وبحسب صندوق النقد الدولي، فقد ارتفع معدل البطالة عام 2024 إلى 62% كنتيجةٍ مباشرةٍ للحرب، وتوقف عجلة الإنتاج، وانهيار المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة. وكانت نسبة الفقر قبل الحرب تبلغ 65%، ولا شك أن الحرب قد فاقمتها سوءاً.
وتظهر تقديرات دراسةٍ نشرها منتدى البحوث الاقتصادية في آب/أغسطس 2023 عن سوق العمل في السودان قبل اندلاع الحرب بعض مظاهر هشاشة هذا السوق. فنسبة العاملين في القطاع غير الرسمي أو غير المنظم (أي العاملين بدون أي ضمانٍ اجتماعيٍّ) تبلغ حوالي 79% من مجموع العاملين السودانيين، يعمل 40% منهم بأجرٍ، ويعمل 29% منهم لحسابهم الخاص، ويعمل 10% منهم مع أسرهم بدون أجرٍ. وبحسب نفس الدراسة فإن 60% من العاملين يعملون خارج أي مؤسسةٍ (أي أنهم ليسوا تابعين لأي شركةٍ أو عملٍ أو منشأةٍ)، و37% من مجموع العاملين هم عمالةٌ غير منتظمةٍ (أي عمالةٌ موسميةٌ أو متقطعةٌ). ويستوعب القطاع الزراعي حوالي 39% من مجمل العاملين السودانيين.
توضح الورقة التي أُعِدت بطلبٍ من الحكومة الانتقالية قبل انقلاب العسكر عليها في تشرين الأول/أكتوبر 2021، أن نسبة العاملين بأجرٍ تبلغ حوالي 55%، مقابل 45% يعملون بدون أجرٍ. وأن نسبة من يعملون بأجرٍ ويحصلون على تأمينٍ اجتماعيٍّ تبلغ 15%، غالبهم يعملون في القطاع العام ومؤسساته (14%) بينما يعمل 1% فقط في مؤسساتٍ في القطاع الخاص توفر لهم أجوراً وضماناً اجتماعياً. وتكشف الدراسة أن 63% من السكان تبلغ أعمارهم أقل من 25 عاماً تأكيداً للتركيبة الفتية للشعب السوداني. إلا أن نسبة مشاركة النساء في سوق العمل تتراوح بين 14% و29% بحسب تضييق أو توسعة تعريف سوق العمل، مقابل نسبة مشاركةٍ للرجال تتراوح بين 63% و77%.
هشاشةٌ مضاعفةٌ في زمن الحرب
حتى في ظل الظروف العادية، كان العمال السودانيون من أكثر فئات الشعب هشاشةً. فالغالبية العظمى منهم صاروا عرضةً للاستغلال والفقر بسبب الأجور المنخفضة، وغياب التأمين الاجتماعي والخدمات، والمشاكل الهيكلية للقطاع غير المنظم. ومع اندلاع هذه الحرب الطاحنة منذ ما يزيد قليلاً عن عامين، انهارت مؤسسات الدولة بسرعةٍ مفجعةٍ، وأصبح العمال والعاملات في السودان يواجهون مستوياتٍ غير مسبوقةٍ من الفقر والتهميش، ويخوضون معارك يوميةً من أجل البقاء، دون سندٍ قانونيٍّ أو حمايةٍ اجتماعيةٍ فعّالةٍ.
فقد توقفت الحكومة بمجرد اشتعال الحرب عن دفع رواتب العاملين لأشهرٍ عديدةٍ، وأغلقت معظم الشركات والمؤسسات والمصانع أبوابها، وسُرِّح عشرات الآلاف من العمال قسراً، أو أُجبروا على أخذ إجازاتٍ دون راتبٍ (بما يخالف قوانين العمل السارية)، وانهار نظام الضمان الاجتماعي بالكامل، مع غياب أي دعمٍ حكوميٍّ أو نقابيٍّ فعّالٍ.
وبذلك لم يعد العامل السوداني مجرد مهمشٍ اقتصاديٍّ، بل أصبح ضحيةً مباشرةً للحرب والانهيار المؤسسي للدولة السودانية.
وفي مقابل ذلك، ظهرت نماذج ملهمةٌ عديدةٌ لعمالٍ – مثل الشهيد عبدالعزيز - يقدمون الخدمات الأساسية للمواطنين، خصوصاً صيانة وتشغيل خدمات المياه والكهرباء والاتصالات، في ظروفٍ أمنيةٍ بالغة التعقيد، تطوعاً ودون أجرٍ، في موازاةٍ لما قام به متطوعون كثرٌ، من تأسيس غرف الطوارئ والمطابخ والتكايا (دور الضيافة) التي تقدم الطعام للمحتاجين والجوعى، وتؤمن سبل البقاء أو الخروج من مناطق القتال، وتقدم خدمات الإعاشة والمأوى للنازحين، والخدمات الصحية والطبية والتعليمية للسكان في مناطق النزاع أو النزوح.
وهذه النماذج تَتَمثّل أحد أهم ما قدمته ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 السودانية للعالم من استلهام ممارسة النفير الضاربة في تقاليد المجتمعات السودانية (وهي حملاتٌ يتجمع فيها المواطنون بصورةٍ طوعيةٍ لتقديم العون الذاتي لا سيما في حالات الطوارئ)، لتطوير أشكال تنظيم العمل القاعدي كلجان المقاومة والأحياء التي لعبت أدواراً كبرى في إسقاط نظام البشير أوائل عام 2019، وفي مقاومة انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021، ثم تطورت بعد اندلاع الحرب لتكون أحد أهم دعائم صمود الشعب السوداني.
مأساة العمال في القطاع غير المنظم
يشكل القطاع غير المنظم العمود الفقري لسوق العمل السوداني. هؤلاء العمال – من عمال البناء، وعمال الورش والمهن اليدوية، وعمال التعدين الأهلي، وبائعات "ستات" الشاي والأطعمة، والباعة المتجولين، وعاملات الخدمات المنزلية، والحرفيين، وصغار المزارعين – يعتمدون بالكامل على ما يتحصلون عليه من رزق اليوم باليوم. لا عقود عملٍ تحميهم، ولا تأميناً اجتماعياً يؤمِّن لهم دخلاً في حالات المرض أو فقدان العمل.
ومع اشتداد الحرب فقد انهارت الأسواق التي كانت توفر لهم مصادر قوتهم اليومي، وتقطعت سبل المواصلات داخل المدن وخارجها بفعل الحصار والاشتباكات، مما جعل التنقل للعمل شبه مستحيلٍ، وفُقد الأمن الشخصي، وأصبح العمل في الأسواق أو الورش محفوفاً بالمخاطر المباشرة من القصف أو الاعتداءات، وتدمرت أحياءٌ بأكملها كانوا يعيشون فيها، مما أدى إلى نزوحهم جماعياً وانفصالهم عن سبل عيشهم.
ولأن خيارات النجاة محدودةٌ، فقد اضطُر العديد منهم إلى الانخراط في اقتصاد الحرب، مثل الانضمام لأيٍّ من الأطراف المقاتلة كمجندين، أو العمل مع المليشيات المسلحة في مهام مساعدةٍ مقابل الطعام أو الوعود برواتب زهيدةٍ أو بإمكانية الحصول على غنائم من ممتلكات المواطنين أو المؤسسات المنهوبة. كما اضطُر بعضهم لممارسة أنشطةٍ هامشيةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، كالتسول أو البيع العشوائي في ظروفٍ بالغة الخطورة، لا سيما ستات الشاي، أو العمل بأجورٍ مجحفةٍ. وقد اضطُر بعضهم للانخراط في أعمال السرقة والنهب، ليس بدافع الجريمة، بل بدافع البقاء على قيد الحياة. ولم ينج كثيرٌ ممن اضطُروا لممارسة كثيرٍ من هذه الأنشطة من تهم التعاون مع هذا الطرف أو ذاك من المقاتلين، وما تبع ذلك من حالات انتقامٍ قاسيةٍ بتغير الأوضاع العسكرية على الأرض.
ومع غياب الحماية الرسمية، وغياب النقابات الفاعلة، ومع تفكك آليات الرقابة المجتمعية التقليدية، أصبحت حياة العمال اليومية معركةً شرسةً ضد الجوع والعنف والإذلال.
في واقعٍ كهذا، يفقد العامل السوداني في القطاع غير المنظم أكثر من مجرد لقمة العيش؛ إنه يفقد أمنه، وكرامته، وانتماءه لمجتمعٍ مدنيِّ منظمٍ، ويتحول إلى مجرد فردٍ في دوامة البقاء العشوائي، بلا حمايةٍ ولا أملٍ واضحٍ في استعادة استقراره.
قوانين عاجزةٌ عن حماية العمال
ومما أسهم في تعقيد أوضاع العمال أكثر أن القوانين السودانية، وعلى رأسها قانون العمل لسنة 1997، تفتقر إلى أي آلياتٍ تنظم أو تحمي العمل في ظل النزاعات المسلحة. ولم تضع تشريعات السودان تصوراتٍ لحماية العاملين في حالات الطوارئ أو الكوارث أو الحروب، رغم مصادقة البلاد على عددٍ من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، مثل اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 (حرية التنظيم النقابي) ورقم 98 (الحق في التنظيم والمفاوضة الجماعية).
ورغم أن العمال لعبوا على الدوام دوراً محورياً في الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة العسكرية الدكتاتورية في التاريخ السوداني الحديث، من ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964 إلى انتفاضة أبريل (نيسان) 1985، وصولاً لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. إلا أنه مع كل انتصارٍ شعبيٍّ، كانت الدولة السودانية تفشل في ترسيخ أسسٍ جديدةٍ تضمن للعمال والزراع وعموم المهنيين والفقراء والكادحين حقوقهم، وتتيح لهم الحلم بوطن يوفر حياةً حرةً كريمةً آمنةً مستقرةً، تحت رايات الحرية والسلام والعدالة والديمقراطية والتنمية.
ولم تكن الحكومة الانتقالية التي وصلت السلطة في آب/أغسطس 2019 على أكتاف الحراك الجماهيري الباسل للعمال والمهنيين السودانيين استثناءً في تخليها عن مطالب العمال المشروعة في تهيئة المناخ لقيام نقاباتٍ عماليةٍ ومهنيةٍ تضمن حماية حقوق العمال. فلم تتمكن الحكومة والقوى السياسية المدنية المشكلة لها طوال الفترة الانتقالية من التوافق على خطواتٍ منظمةٍ لتحولٍ نقابيٍّ مدروسٍ يتفادى الفراغ النقابي، ويسد الثغرات التي قد تسمح بعودة النقابات التابعة للنظام الشمولي البائد، ريثما يتم الاتفاق على قانونٍ نقابيٍّ جديدٍ يضمن استقلالية النقابات، ويعزز الحريات النقابية، ويسمح بإصلاح الهياكل النقابية، ويتوافق مع المعايير والاتفاقات الدولية.
وخلال الحرب الجارية، تخلت الدولة عن التزاماتها تجاه العمال تماماً، تاركةً ملايين الأشخاص بلا رواتب أو تعويضاتٍ أو أي شبكة أمانٍ اجتماعيٍّ.
محاولات تدجين النقابات: عودةٌ إلى المربع الأول
ومع بداية استعادة حكومة الأمر الواقع السيطرة على مناطق واسعةٍ من البلاد كانت قد احتلتها مليشيا الدعم السريع في المراحل الأولى من الحرب، سارعت السلطات إلى إصدار قراراتٍ بإعادة تسجيل وتنظيم النقابات عبر مكتب مسجل تنظيمات العمل بوزارة العدل. ورغم تبرير هذه الخطوات بأنها تهدف إلى حماية ممتلكات النقابات وإعادة تنظيم الساحة العمالية، إلا أن واقع الحال يشير إلى نوايا الحكومة لإضعاف النقابات المستقلة، خصوصاً تلك التي لعبت دوراً كبيراً في الثورة ومقاومة الانقلاب والحرب، ولتمكين النقابات الموالية للنظام القديم أو الحكومة الحالية، عبر هندسة المشهد النقابي لضمان السيطرة على أدوات التنظيم العمالي، وتقويض حرية التنظيم التي انتزعها العمال بنضالاتهم، في مخالفةٍ صارخةٍ للاتفاقيات الدولية التي تحظر تدخل الحكومات في الشؤون النقابية.
وتداعيات هذه القرارات الحكومية الأخيرة على العمال والنقابات في ظل الحرب الجارية كارثيةٌ بكل المقاييس، فهي تفكك البنى الاجتماعية والروابط التنظيمية للنقابات والاتحادات المهنية التي كانت تتيح للعمال الدفاع عن حقوقهم، وتضعف التفاوض الجماعي، وتفقد الآلاف لمصادر دخلهم دون تعويضاتٍ، مع غياب أي أفقٍ لتحسين أوضاع العمل أو الأجور في المستقبل القريب.
وبينما تواجه النقابات تحدياتٍ هائلةً في محاولة إعادة بناء صفوفها وسط الحرب والدمار والنزوح، فإن مستقبل الحركة النقابية بات معلقاً على قدرتها على الصمود والتنظيم الذاتي ومقاومة التدجين.
واليوم أكثر من أي وقتٍ آخر، فإن إعادة بناء حركةٍ نقابيةٍ حرةٍ ومستقلةٍ تمثل مهمةً استراتيجيةً ليس فقط لحماية حقوق العمال، بل لضمان بقاء جذوة النضال من أجل الحرية والسلام والعدالة مشتعلةً. كما أن النضال من أجل حرية التنظيم النقابي هو جزءٌ لا يتجزأ من النضال الوطني الأوسع لإنقاذ السودان من حالة التفكك والانهيار. فمعركة العمال اليوم، كما كانت دائماً، هي معركةٌ من أجل الوطن كله.
رابط المقال في موقع صفر: https://alsifr.org/sudan-labor
husamom@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: غیر المنظم القطاع غیر سوق العمل فی القطاع من أجل
إقرأ أيضاً:
المشروع التقدمي الحداثي السوداني: DEAD MAN WALKING
المشروع التقدمي الحداثي السوداني: DEAD MAN WALKING
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
طابق ضلال الجماعة الحداثية في السودان عن الوطن سوى عن حكومته مثلاً يرويه السودانيون عن نصيحة البصيرة أم حمد، فقيل إن بهيمة أدخلت عنقها في حطام زير. فاستدعى صاحبها البصيرة أم حمد لتنصح بمخرج للبهيمة، فقضت البصيرة بذبحها لتخلص من براثن الزير. وهكذا تقضي هذه الجماعة على الوطن ليخلص من حطام زير حكومته.
في سلسلة مميزة للمحاضرات قدم جون ميشام، مؤرخ الرئاسات الأميركية البارز والحائز على جائزة “بوليتزر” في التأليف المجود، في سبتمبر 2024 محاضرة بعنوان “الصراع الخطر: حب الوطن المدني في موسم الوطنية العرقية”. فقال إن حب الوطن، وهو التعريب الذي قال به رفاعة رافع الطهطاوي للمصطلح الفرنسي، نقيض للوطنية العرقية. أما حب الوطن فهو لدولة ملتزمة مبادئ الحرية الإنسانية وكرامة الفرد والحكومة التمثيلية والمساواة أمام القانون. أما الوطنية العرقية فهي النازع لتمكين جماعتك بخاصة ممن ربطتك بهم مواطن النشأة واللغة والدين وأعراف اجتماعية للهرمية الاجتماعية. وعنى بها شيعة ترمب. وبدا من تفريقه بين العنصرين أنه في سكة من فرقوا بين “الجبل” وهو عندهم الوطن و”الكهف” هو قسمة الواحد منه يرى شجرته من دون الغابة.
بين حب الوطن والوطنية
بدا على ضوء تفريق ميشام بين حب الوطن والوطنية أن الوطنية في فهمه ربما وصفت جماعاتنا الحداثية في السودان التي تمثلت تاريخياً في قوى الحرية والتغيير “قحت” وتحالف “التغيير الجذري” (الحزب الشيوعي وجماعاته). فبدا من ممارستهم السياسية خلال العقود الأخيرة أنهم فقدوا الولاء للوطن كجسد من الناس والتقاليد والمشارب ليمحضوا هذا الولاء لجماعاتهم بخاصة دون غيرهم. وسنحتاج إلى النظر إلى بنية هذه الجماعة الفكرية وممارستها السياسة متى أردنا معرفة ما ساقهم إلى سكة الوطنية من دون حب الوطن.
ففي بنية تأسيس هذه القوى أنها نتاج بيئة الحداثة الاستعمارية التي جاءتنا بالاستعارة لا بالأصالة، وهي الحداثة التي أنشأتهم على أن حاضرهم ليومهم كان ماضي أوروبا الذي تجاوزته إلى رحاب الحداثة بعد عصور النهضة والأنوار. فعليه لا بد من أن يطرأ للواحد من هذه الجماعة أن يسأل عن نفع ماضي أمته الذي سبق للغرب العيش في مثله ووجده معيباً ناقصاً. وعليه لا بد من أن لمثله أن يرى أن لا جدوى من الاشتغال بذلك الماضي “فكيف تحدث هذا الذي هو تعريفاً نقيضاً للحداثة؟” كما قال الأكاديمي الجزائري عبدالمجيد هنوم. فقبل الحداثيون هذا النفي الطوعي، أو التغريب الذي يرى المرء به تقاليده المحلية أو الوطنية صنو الجمود، فاستدبروها حتى امتنعت عليهم إعادة تجسير الروابط الحيوية مع ثقافة أهلهم. ولما تعذر عليهم ذلك التجسير لم تعُد هذه الثقافة لهم سوى مادة “للشناف” في قول السودانيين وهي من الشَّنَف وهو البُغض والتنكر كما سنرى. وفي ازدراء هذه الجماعة بماضي قومها تعلقوا بهدب استراتيجية عقيمة تستهين بثقافة من خرجوا لأخذهم للمدارج.
تهمة البدائية
فمن رأي هذه الصفوة أن العامة في سائر السودان مادة خام تنتظر تحديثها على يدهم قبل أن تكون طرفاً في الوطن. فـ””شناف” الصفوة للعامة هو في أصل امتياز تكليفهم بتمدين العامة وتحديثهم. فمن “شناف” الصفوة للعامة قول محمد أحمد المحجوب، رئيس الوزراء الشاعر، إن السودان من “الأمم المتأخرة” يحمل إرثاً خالفاً معيقاً من دون مراقي “البلاد المتمدنة”. فثقافة إرثنا، في قوله، ثقافة رجعية لسذّج عُقدت لصفوتهم المختارة المتحضرة المثقفة الأخذ بنهوضهم من “حضيض” هم في براثنه. ورأي الوزير الكاتب منصور خالد في الأمر من قماشة نظرات المحجوب نفسها. فقال إنه يشمئز مما يراه من السودان من البعد وهو في أوروبا “كتلة من الطين الآسن ترقد في قلب أفريقيا”، ويؤرقه نزاع الساسة فيه “يتعادون في مراد النفوس في بلاد نبتها عشر وطلح وأكثر صيدها ضبع وديب. ضعف الطالب والمطلوب”.
فأصل مشروعية نخبويتهم وامتيازها هي في تكليفهم بتمدين العامة وتحديثهم، وهي مهمة حضارية، لا يأتي من “يخضعون” لها بمعارف لأنهم خلو منها، أو أن نصيبهم منها بخيس في بلد كالسودان يصفه منصور بأن “نصفه متخلف بقرن وبضع قرن وراء حضارة العصر، ونصفه الآخر بدائي راكد لم يصل بعد إلى مرحلة التخلف”، بل زاد بقوله إن العامة أعْدَت حتى المثقفين فلم يستنقذهم تعليمهم السطحي حين أبقى “على كل عناصر الجلافة البدوية في أحشائهم”.
وتلك حدود جماعة سكرى بذاتها ترى في قيادتها للتحديث “منة لا خدمة”. فألغت بجرة قلم ثقافة من انتدبت نفسها لأخذهم في رحاب تجديد حياتهم بالحداثة. وإفراغ رعيتك من مأثورها لتبدلها حالاً غير حالها، وظيفة في التبشير الديني لا القيادة السياسة والفكرية من أجل التغيير. فلا غرو إن انكمش نفوذ هذه الجماعة الحداثية حتى صارت مما يعرف بجنرالات بلا جيش، أو ممن نفرهم لا يملأ حافلة ركاب. فخرجت بلا حمّص من ثورات ثلاث كانت في قيادتها لأنها سرعان ما ترتد إلى حجمها كجماعة لذاتها. وليس أدل على ذلك من الفصام الذي وقع بينها ولجان المقاومة التي كانت حدثاً سياساً جماهيرياً مبهراً في الثورة الأخيرة.
ولو صحت قراءتنا للتكليف التاريخي للصفوة بحمل أهلها الخالفين إلى مدارج الحداثة حملاً، أو غرغرتهم الحداثة في قول أحدهم، لفسرت لنا لماذا كان الانقلاب أداتها لبلوغ الحكم، أو نهوضها في حركة مسلحة لفرض نفسها على الحكم. فعلى أن الصفوة الحداثية هي من استعادت الديمقراطية الليبرالية مرات في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وديسمبر 2018 من فك نظم عسكرية، إلا أنها مما تختطفه منها قوى الإرث الديني والقبلي التي لها الغلبة بين الناس. فما جرت الانتخابات بصوت لكل مواطن حتى تبين لهذه الصفوة ضعف جرمهم لغيابهم المتكرر عن برلمان الديمقراطية المستعادة، أو حضورهم الاسمي فيها. ولما كانوا يملكون أدوات الدولة وفي الجيش بخاصة، رعرعوا نظرية مفادها بأنه لا تصلح مثل بلادنا إلا بحكم تحت القوات المسلحة التي زكوها لحداثتها المطلقة وانتشارها في أصقاع البلد. واستنفدت الانقلابات مشاريعهم جميعاً. فيكفي أن الرئيس نميري الذي قام بانقلابه في مايو عام 1969، كان في أول عهده يسارياً يزبد، ثم تحول قومياً عربياً اشتراكياً، ثم تحول ليكون على رأس دولة للتكنوقراط، ثم خليفة للمسلمين في مغرب عهده حتى زالت دولته عام 1985.
معارضة “الإنقاذ”
وأسفرت وطنية هذه الجماعات من دون حبها الوطن كأوضح ما يكون خلال معارضتها لـ”نظام الإنقاذ”. وأعظم تجليات ذلك الجنوح كان في حملتها ليقاطع المجتمع الدولي ذلك النظام. وطالت تلك العقوبات واستطالت حتى صارت من أهم حقائق الحكم والمعارضة في السودان، فالحكومة تتذرع بها لتغطية محنتها الاقتصادية، بينما سعت المعارضة إلى استثمارها لإضعاف الحكومة حتى القضاء عليها. ولم يطل الوقت حتى اختطفت اللوبيات الإنسانية الغربية خصومة “الإنقاذ” من معارضيها الوطنيين وهرولت بها.
فكان للوبي الإنساني الفيتو حتى على الحكومة الأميركية متى تعلق الأمر بدولة الإنقاذ. إذ كانت أميركا تواصلت مع الإنقاذ عام 2016 على مسارات خمسة التزم السودان تحسين أدائه فيها لترفع أميركا المقاطعة عنه. ولكن كان للوبي المسيحي رأي آخر. فأثار في وجه حكومته مسألة ما سماه اضطهاد دولة الإنقاذ للمسيحيين في السودان ليحول دون رفع المقاطعة عنها. ولم يكُن موضوع اضطهاد المسيحيين ذلك، على عظمته عند الحكومة الأميركية، ضمن تلك المسارات الخمسة على كل حال.
وانقلب سحر المقاطعة على المعارضين السحرة الذين مكنوا لها، أو تمكنت بسببهم، حين فازوا بالحكم بعد ثورة 2018. فوقفت تلك العقوبات، التي جاءت بخاصة بعد تصنيف السودان “دولة راعية للإرهاب” عام 1993، عقبة في وجه الحكومة الانتقالية بعد الثورة، فاستغرقها زمن طويل لرفعها عنها لتأمن من وضع اقتصادي ركيك ومرتبك ومحرج كانت للعقوبات الدولية الموروثة دخلاً كبيراً فيه، ناهيك عن “الغرامات” التي اضطرت حكومة الثورة إلى دفعها لضحايا “المدمرة كول” التي اتهموا حكومة الإنقاذ بتدميرها. وأصيبت سمعة الثورة وقوى التغيير في مقتل لاضطرار السودان إلى مسايرة التطبيع مع إسرائيل ليكسب ود أميركا. وهذا ثمن باهظ جداً لو تعلمون في سوق السياسة السودانية.
المقاربة الأميركية
ربما لم تكُن المقاطعة الأميركية بتلك الحدة لو لم تعُد قضية السودان مع أميركا قضية خالصة للوبيات الإنسانية بعد أن بادرت بها المعارضة لنظام الإنقاذ ثم شجعت عليها لا تريم. وكان الدكتور محمود محمداني، الأكاديمي في جامعة كولمبيا، أخضع المعارف التي من وراء الحملة القوية اللحوحة، “أنقذوا دارفور”، التي صدع بها اللوبي الإنساني والديني في كتاب ذائع. وجاءت الأكاديمية النرويجية ماريا ج جمبرت بآخرة لتقول باشتطاط أميركا في مقاطعة السودان. فكان بوسعها، في قولها، معالجة أمر السودان كدولة “هشة” لا “مارقة” متمردة على القانون الدولي. ومتى كانت اتفقت لأميركا صفة السودان كدولة هشة لوجدت سبيلاً “بالجزرة والعصا” لمساعدته من فوق بنى دولته المتهافتة لإدارة أفضل للفوضى ضاربة الأطناب فيه.
ولما تحول الوطن من فرط المعارضة وتطاولها إلى حكومة في فكر الصفوة الحداثية قلّ عندها اعتباره كجسم فيزيائي وثقافي وتاريخي. فلن تجدها مرهوبة حيال مقدسات معدودة للوطن ما دام أنها كانت بيد حكومة خرجوا لإسقاطها. فبعد قطع العلاقة بين إريتريا والسودان في ديسمبر 1994 قبل “التجمع الوطني الديمقراطي” المعارض لنظام الإنقاذ، دعوة حزب الجبهة الديمقراطية للعدالة الحاكمة في إريتريا إلى عقد مؤتمره في أسمرا، بل ليتخذها مركزاً لقيادته، ناهيك عن احتلاله سفارة السودان وجعلها مقراً له. ومن جهة أخرى، وقفت طوائف من المعارضين مع دولة جنوب السودان وحربها مع السودان في نزاعهما حول بلدة هجليج عام 2012.
نصيحة البصيرة أم حمد
وطابق ضلال الجماعة الحداثية عن الوطن سوى عن حكومته مثلاً يرويه السودانيون عن نصيحة البصيرة أم حمد. فقيل إن بهيمة أدخلت عنقها في حطام زير. فاستدعى صاحبها البصيرة أم حمد لتنصح بمخرج للبهيمة، فقضت البصيرة بذبحها لتخلص من براثن الزير. وهكذا تقضي هذه الجماعة على الوطن ليخلص من حطام زير حكومته.
ما أخفقت هذه الجماعة في إدارة ثوراتها حتى تذرعت بعبارة بمثابة الاعتذار “فشل الصفوة وإدمان الفشل” التي أذاعها منصور خالد في كتاب شهير. وبدا مما يتهدد الحداثة من تلاشٍ في حربنا القائمة أن ثمة عقاباً مدخراً للفشل وإدمانه.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب