أمثال ترامب دائما يسقطون ويمكننا التنبؤ بالطريقة
تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT
يعلمنا التاريخ أن الطغاة لا ينتهون على خير. فقد كان خروج ريتشارد الثالث وكوريولانوس خروجا دمويا، وانتهى سلوبودان ميلوسيفيتش إلى السجن. والاستبداد Tyranny لفظ مشتق من كلمة يونانية هي «تورانوس» (أي: الحاكم المطلق)، وعادة ما يتغذى الاستبداد على الغطرسة وحتما يؤدي إلى السقوط. فالطغاة دائما مصيرهم الإطاحة.
وقد رجع الاستبداد، بأشكاله المتعددة، إلى الصدارة، وكلنا نعلم من يلام على ذلك. وللإنصاف أقول إن من الخطأ الفادح أن نشير إلى أوجه الشبه بين هؤلاء الأشخاص الكريهين السابق ذكرهم ودونالد ترامب. ذلك أنه، من أوجه معينة، أسوأ منهم، فبمقياس الاستعداد والقدرة على إيذاء أفقر فقراء العالم وأشدهم ضعفا وإحداث فوضى اقتصادية عالمية والتهديد بالإبادة النووية يمثل ترامب خطرا فريدا يزداد خطورة يوما بعد يوم.
في أي عصبة استبدادية افتراضية، يتصدر ترامب القائمة، ويليه عن قرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولو شكَّل هذان النرجسيان شراكة (وهي فكرة مخيفة ولكنها ليست مستبعدة بأي حال)، فمن الممكن أن نسميها Monsters R US أي «الوحوش هم نحن» [ولا يخفى اللعب على حرف R اختصارا لروسيا ولفعل are الناقص وحرفي US أي أمريكا و«نحن»]. وفي شتى أرجاء العالم المضطرب، يصطف الطامحون إلى «الطغيان» راغبين في الانضمام إلى ناديهما.
لكن شأن كل طاغية، قديم أم جديد، لا بد أن يسقط ترامب. فكيف يتحقق هذا السقوط في سلام وسلاسة؟ فيما ينهي دونالد ترامب أيامه المائة الأولى في السلطة، تكتسب هذه الأسئلة طبيعة ملحة. فهل يمكن إيقاف الرئيس الأمريكي الرابع والسبعين ومنع جرافاته من سحق الديمقراطية والقوانين والقيم والأحلام في الولايات المتحدة؟ وكيف يمكن إنقاذ البقية الباقية من النظام العالمي القائم على القواعد؟ ومن الذي سيطيح به عن عرشه، أو ماذا؟
في العادة لا تفضي أخطاء السياسات والسلوك الشخصي المشين إلى انهيار رئيس. ودستور الولايات المتحدة يفتقر إلى المرونة، فهو يكفل الحماية لانعدام الكفاءة، ويحدد للجشع فترة رئاسية. وترامب باق في السلطة حتى عام 2029 ما لم يتم عزله ـ فهل يحالفه الحظ مرة ثالثة؟ ـ بتهمة ارتكاب «جرائم جسيمة»، أو يعتبر غير ملائم بموجب القسم الرابع من التعديل الخامس والعشرين في الدستور الأمريكي [الذي يسمح بتدخل نائب الرئيس والوزراء لإقالة الرئيس في حالة عجزه ورفضه للتنحي]. وفي ظل وجود جيه دي فانس، الرجل الذي لا يقول إلا «نعم»، ويؤدي دور حارس المكتب البيضاوي، وفي ظل امتلاء الكونجرس بأنصار حركة ماجا (استعادة عظمة أمريكا)، يبدو سيناريو هذا الإجراء مستبعدا.
من المؤكد أن الدعم الشعبي يتراجع، فالمظاهرات التي عمت البلد في الأسبوع الماضي، والمخاوف المتعلقة بالتضخم والمدخرات، والغضب بسبب تخفيض التمويلات الفيدرالية، وتأليب حرب ثقافية، وعمليات الإقالة الجماعية، كل ذلك يعكس نذيرا عميقا بوجود تهديدات جسيمة لنمط حياة كامل. وتبين استطلاعات الرأي أن ترامب يخسر حاليا المعتدلين الذين أنهت أصواتهم ولاية بايدن. غير أنه برغم التماثل الملكي مع طاغية آخر هو الملك جورج الثالث، فإن الطريق لا يزال بعيدا للغاية عن قيام ثورة أمريكية ثانية.
ينظر الكثيرون إلى القضاء بحثا عن النجاة. ويستمر القضاة في تحدي إملاءات ترامب في قضية ترحيل المهاجرين وقضايا أخرى. ولقد كانت لجنة محلفين من نيويورك هي التي أدانت ترامب في أربع وثلاثين جناية العام الماضي، لكنها للأسف فشلت في سجنه. وتظل شركاته تتعرض لاتهامات متكررة بالاحتيال. والآن يقال إن «مبدأ الأسئلة الأساسية» المعروف في المحكمة العليا قد يرغمه على أن يجثو على ركبتيه. ولكن هذا يستوجب من الحكومة أن تظهر «تفويضا واضحا من الكونجرس» حينما تتخذ قرارات ذات «أهمية سياسية واقتصادية» كبيرة، بحسب ما أوضح أستاذ القانون الأمريكي آهارون تانج. فالوضع أقرب إلى ضبط النفس.
وفي بلد ووترجيت، هل يستطيع الإعلام أن ينال من الطاغية؟ ذلك أمل عظيم وبعيد. فالمؤسسات الإعلاميات الكبرى، التي تنال منها وسائل التواصل الاجتماعي وفيضانات الأكاذيب الرسمية، تتعرض لسخرية أعلى المستويات باعتبارها مروجة ليبرالية لـ«الأخبار الكاذبة». وتواجه هذه المؤسسات تحديات قانونية بل وحظرا مباشرا، كما في قضية خليج ترامب الانتقامية المرفوعة من ترامب على أسوشييتد بريس. وأبسط مفاهيم الصحافة الموضوعية تحترق بإيثار البيت الأبيض للمنابر الإعلامية اليمينية المناصرة لترامب. فلا مفر من أن تكون الصحافة الحرة الآن هي الحذرة لا المرهوبة.
ولهذا الصراع جوانبه المعنوية والأخلاقية أيضا، وفي ضوء أن الحديث عن الولايات المتحدة، فإن الدعاء سلاح قوي في أيدي الراغبين في قتل الأشرار. ولو أننا نظرنا إلى الخطايا السبع المهلكة ـ الغرور أو الكبر، والجشع أو الطعم، والشهوة، والحسد، والشره، والغضب، والكسل، لرأينا ترامب مدانا فيها جميعا وآثما إثما مبينا. وفي سفر إشعياء (13-11) يوجه الرب تحذيرا منصفا: «وأضع حدًّا لصلف المتغطرسين وأذل كبرياء العتاة». فعسى أن يستجيب الرب. والمعجزات تحدث.
من بين جميع الأدوات في صندوق عدة الإطاحة بالطغاة، ما من شيء يحتمل أن يكون حاسما بقدر الأدوات التي يقدمها غباء ترامب نفسه. فأغلب الناس يفهمون أنه لا قيمة لصفقة سلام تافهة تكافئ بوتين وتخون أوكرانيا. وهل يؤمن ترامب حقا بأن دعمه للقتل الجماعي في غزة، وتهديده بمهاجمة إيران وقصفه الأهوج لليمن، سوف ينهي صراع الشرق الأوسط ويخول له الحصول على جائزة نوبل في السلام؟
واحتكاما إلى أي مقياس، فإن حرب الرسوم الجمركية العالمية الفوضوية التي يخوضها ترامب تلحق الضرر بالمستهلكين الأمريكيين، وتضر الشركات، وتقلص نفوذ الولايات المتحدة. وهي دفعة للصين وهجمة على حلفاء راسخين وشركاء تجاريين قدامى من أمثال بريطانيا. وتدرك شركات التكنولوجيا الكبرى المؤيدة لترامب هذا الأمر، كما يدركه العديد من الجمهوريين. لكنهم لا يتجاسرون على قول الحقيقة في وجه السلطة.
وهناك جشعه أيضا، جشعه الصارخ الصفيق لكنز المال الذي تسبب له بالفعل في اتهامات بالتداول الداخلي، وحكم الأقلية الفاسدة، وتضارب المصالح الذي لا يحصى ولا يعد، وكل ما لم تراقبه هيئات الرقابة الحكومية السبع عشرة التي أقالها ترامب بجرة قلم. كما يسعى أقاربه وشركاته مرة أخرى إلى صفقات خارجية مربحة. ولا يمكن لفساد بهذا الحجم أن يمر دونما محاسبة إلى أجل غير مسمى. فالجشع وحده قد يكون سببا في هلاك ترامب.
كل هذا يشير إلى نتيجة واحدة: بوصفه طاغية، ناهيكم بوصفه رئيسا، لا أمل في ترامب في واقع الأمر، ومع تزايد إخفاقاته وإحباطاته وأوهامه، ستزداد خطورة اضطرابه وزعزعته. وليس لترامب من عدو أكبر من ترامب نفسه. ويجب على من يسعون إلى إنقاذ الولايات المتحدة وأنفسهم - في الداخل والخارج - استخدام جميع الوسائل الديمقراطية لاحتوائه وردعه ونزع أنيابه وعزله، لكن في الوقت الراهن، فإن الأمل الأفضل والأكثر إشراقا هو أن ترامب الغارق في الغطرسة هو الذي سيدمر نفسه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
الولايات المتحدة والكيان الصهيوني: تحالف المصالح وحدود الجغرافيا
#المتحدة و #الكيان_الصهيوني: #تحالف_المصالح و #حدود_الجغرافيا
بقلم : المهندس محمود “محمد خير” عبيد
لم تكن العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يومًا قائمة على الالتزام المطلق أو الانحياز العقائدي، كما تُصوَّر أحيانًا في الخطاب الشعبي أو الإعلامي، بل كانت وما تزال علاقة تُديرها واشنطن بمنطق المصالح وحسابات القوة في الشرق الأوسط والعالم. فالدعم الأميركي الثابت لإسرائيل لا يعني بالضرورة موافقة على كافة مشاريعها التوسعية، بل غالبًا ما يُضبط هذا الدعم ضمن معادلات استراتيجية دقيقة، لا تسمح بقيام “دولة إسرائيل الكبرى” ولا بفرض وقائع جغرافية جديدة تهدّد توازنات الإقليم أو تُقحم الولايات المتحدة في مواجهات لا تخدم أجندتها الكونية.
هذا الموقف ليس جديدًا، بل متجذّر في تاريخ الإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية. فمنذ حرب 1967، ورغم الانتصارات التي حققتها إسرائيل حينها، حرصت واشنطن على عدم منح شرعية دائمة لأي توسع جغرافي على حساب الدول العربية، ورفضت الاعتراف بضم الضفة الغربية أو الجولان السوري، إلا بعد سنوات طويلة وتحت ضغوط داخلية وظروف سياسية معيّنة. فالولايات المتحدة، في نهاية المطاف، لا تريد قيام قوة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، حتى وإن كانت حليفة لها. إذ أن وجود كيان يمتد جغرافيًا ويستقطب رؤوس الأموال اليهودية من الداخل الأميركي، من شأنه أن يُضعف الاقتصاد الأميركي نفسه، ويُحوّل بعض مفاتيح القرار من واشنطن إلى تل أبيب، وهو ما لا يمكن أن تقبله الإمبراطوريات.
مقالات ذات صلة النفاق الإنساني وازدواجية المعايير والقانون في غزة 2025/06/28جاءت الحرب الأخيرة بين الكيان الصهيوني وإيران في منتصف عام 2025 لتؤكد هذا التوجه الأميركي بوضوح لا لبس فيه. فبينما شنّت إسرائيل ضربات مباشرة على منشآت إيرانية، محاولة استدراج الولايات المتحدة إلى مواجهة شاملة، امتنعت واشنطن عن الانجرار الكامل، واكتفت بتدخلات محدودة تهدف إلى منع انهيار التوازن الإقليمي دون الذهاب نحو حرب مفتوحة. لقد رفضت الولايات المتحدة – سواء عبر البيت الأبيض أو البنتاغون – أن تتحول إلى أداة عسكرية تخوض حربًا بالوكالة عن تل أبيب، رغم التصعيد الإعلامي والدبلوماسي الذي مارسته حكومة الاحتلال.
المثير في تلك المرحلة كان تصريح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي لم يتردد في مطالبة رؤوس الأموال اليهودية في الولايات المتحدة بدفع تريليون دولار لخزينة الدولة، إذا ما أرادوا أن تقف أميركا بكل ثقلها خلف إسرائيل في مواجهتها مع إيران. وقد استنكر ترامب علنًا قيام هذه القوى المالية بتحويل أموالها مباشرة إلى إسرائيل، متجاوزين الدولة الأميركية، في مشهد يعكس بوضوح أن العلاقة مع تل أبيب حتى في ظل أكثر الإدارات الأميركية تأييدًا لإسرائيل لا يمكن أن تُدار بمنطق العاطفة أو الالتزام المجاني. إنها علاقة مصالح بحتة، تخضع لميزان دقيق بين الربح والخسارة.
ما حدث في قاعدة “العديد” في قطر، حين ردّت إيران بقصف محسوب لم يُسفر عن قتلى أميركيين، لم يكن سوى مؤشر إضافي على أن خطوط الاتصال بين واشنطن وطهران لم تنقطع، وأن التنسيق غير المباشر ظل قائمًا، حتى في ذروة التصعيد العسكري. لقد بات واضحًا أن واشنطن لن تسمح بتحوّل الحرب الإسرائيلية–الإيرانية إلى مواجهة أميركية–إيرانية، لأن ذلك لا يصب في أولويات الاستراتيجية الأميركية، بل قد يُربك حساباتها مع الصين وروسيا وأوروبا، ويُجهض مشاريعها في الطاقة والتكنولوجيا والأمن السيبراني.
في هذا السياق السياسي، يُعاد باستمرار طرح “حل الدولتين” كمخرج سلمي للقضية الفلسطينية، وكأن العالم يكتشفه كل مرة من جديد. غير أن الحقيقة، كما يعرفها من قرأ الوثائق والمعاهدات الأميركية والإسرائيلية منذ السبعينات، أن هذا الحل ما هو إلا شعار استهلاكي موجّه للاستهلاك الإعلامي والدبلوماسي، لا أكثر. فالقرار المبدئي بعدم قيام دولة فلسطينية حقيقية قد اتُّخذ منذ عام 1973، وما تلاه من محطات تفاوضية – من مدريد إلى أوسلو وصولًا إلى كامب ديفيد – لم يكن سوى محاولات لتخدير الشعوب العربية والرأي العام الدولي بشعارات زائفة، مع الإبقاء على واقع الاحتلال والسيطرة كما هو. يُرفع شعار الدولة الفلسطينية ليبقى حلًّا مؤجلًا باستمرار، يُستخدم كغطاء لتمرير السياسات على الأرض، لا كإرادة حقيقية قائمة على الاعتراف والعدالة.
من هنا، يُفهم الموقف الأميركي الرافض حتى الآن لضم غزة أو الضفة الغربية بشكل رسمي ودائم إلى السيادة الإسرائيلية. إذ أن أي خطوة من هذا النوع تُقابل برفض ضمني – أو أحيانًا علني – من دوائر القرار في واشنطن، لأنها تعني انهيار حلّ الدولتين، واندلاع موجة جديدة من العنف والفوضى قد تمتد لسنوات. كما أن مثل هذه الخطوة تعرقل مساعي التطبيع الإقليمي، وتُحرج حلفاء واشنطن العرب الذين تسعى الولايات المتحدة للإبقاء عليهم في معسكرها الإقليمي.
الرسالة الأميركية في هذه المرحلة واضحة: يمكن لإسرائيل أن تحظى بدعم سياسي وعسكري واقتصادي، لكن ضمن حدود لا تتجاوز فلسطين التاريخية. لا مكان في الاستراتيجية الأميركية المعاصرة لدولة إسرائيل الكبرى. لا مساحات جديدة على الخارطة، ولا جغرافيا تُعاد رسمها على حساب شعوب ودول الجوار. فالمصالح الأميركية، وهي الحاكم الأول في توجيه السياسات، تقتضي الحفاظ على حالة من الاستقرار القلق، والتوازن المدروس، حيث يبقى الجميع تحت سقف النفوذ الأميركي، دون أن يتمدد أحد خارج حدود اللعبة.
إن الكيان الصهيوني، بكل ما يملكه من دعم داخلي في واشنطن، لن يتمكن من فرض مشروعه التوسعي ما لم تتغير الإرادة الأميركية. وهذا التغير غير مرجّح في المدى القريب، لأن العالم اليوم يتجه نحو التعددية القطبية، وأميركا تسعى جاهدة لحماية مواقعها، لا لتوسيع جغرافيا حلفائها.
وهكذا، فإن حلم “إسرائيل الكبرى” سيظل حبيس الخيال السياسي، ما لم تتغير موازين القوة العالمية، وما لم تُضف واشنطن هذا المشروع إلى سلّم أولوياتها الاستراتيجية… وهو احتمال لا يزال بعيدًا عن الواقع حتى اللحظة.