zuhair.osman@aol.com


فصل تاريخ مصر الفرعونية عن حضارات النوبة والسودان القديم: فتحٌ معرفي ضد التهميش وإعادة توازن للرواية التاريخية
مقدمة
العلاقة بين التاريخ المصري القديم وتاريخ النوبة والسودان القديم ليست علاقة تبعية أو امتداد بسيط، بل هي علاقة معقدة ومتعددة الأوجه. لعقود طويلة، ظلّت الرواية التاريخية الرسمية – سواء في مصر أو في الكتابات الغربية – تُقَدِّم حضارات وادي النيل من زاوية مركزية مصرية خالصة
تضع النوبة في خانة التابع أو “الهامش الحضاري”.

لكن الدراسات الحديثة، لا سيما في السودان، قلبت هذا السرد رأسًا على عقب، وبدأت تُعيد للنوبة مكانتها المستقلة كمركز حضاري أصيل، له تاريخه الخاص، وإن تشارك مع مصر في الجغرافيا والتأثيرات.
أولًا: سردية التهميش في الرواية المصرية والغربية
1. مصرنة النوبة في النصوص القديمة
في النقوش الهيروغليفية، ظهرت النوبة (جنوب مصر حتى شمال السودان) كأرض غنية بالذهب والعاج، وأُطلق عليها "تا-ستي" أو "كوش"، غالبًا في سياق الحملات العسكرية أو كرمز لـ"الهمجية" المغايرة لتمدّن المصريين. وتواصل هذا النهج في السرديات الأكاديمية الغربية التي دعمتها
عقلية استعمارية مبكرة، رأت في مصر بوابة "الحضارة" وفي بقية إفريقيا رمزًا للتأخر.
2. التحيز الأكاديمي في القرنين 19 و20
الدراسات الغربية والمصرية المبكرة – وحتى بعض المناهج التعليمية اليوم – اعتبرت أن مملكة كوش في السودان (800 ق.م – 350 م) ما هي إلا محاولة "تقليد" للحضارة المصرية. تجاهلوا أن مروي وكرمة ونبتة كلها حضارات قائمة بذاتها، لها لغاتها وعمارتها ونظم حكمها وفنونها.
حتى الأسرة 25، التي حكمت مصر نفسها (بعنخي وطهارقة وغيرهم)، لم يُنظر إليها إلا من خلال "مصرانيتها" لا "نوبتها".
ثانيًا: الفتح المعرفي الجديد في الدراسات السودانية
1. الاستقلال الثقافي والسياسي للنوبة
الاكتشافات الأثرية في كرمة ومروي وجبل البركل كشفت عن ممالك قوية، ذات سيادة سياسية، وشبكات تجارية ضخمة. مدن محصنة، معابد، كتابات، وأهرامات نوبية صغيرة الحجم لكنها تفوق نظيرتها المصرية عددًا وتنظيمًا. كما أظهرت عبادة الإله آمون في نبتة قبل تأثيرها المصري
وهو ما يعكس تبادلاً ثقافيًا لا تبعية أحادية الاتجاه.
2. تحوّل السردية إلى مركزية نوبية
بدأت جامعات ومراكز بحث سودانية وأجنبية – بدعم من هيئات دولية – في تفكيك السرديات القديمة، وتأكيد أن النوبة كانت صاحبة مشروع حضاري خاص. مشاريع مثل البعثات البولندية في النوبة، أو الاكتشافات في الكُرُوة عام 2003، أبرزت الثراء الفني والسياسي للحضارة النوبية
قبل توحيد مصر نفسها.
ثالثًا: من "هامش" إلى "مركز".. إعادة تعريف التاريخ
ما جرى في العقود الأخيرة هو أكثر من مجرد "تصحيح تاريخي"، بل هو فتحٌ معرفي ذو بعد سياسي وثقافي. لم يعد ممكنًا الحديث عن تاريخ وادي النيل دون الاعتراف بـ:


أن النوبة السودانية ليست تابعة للحضارة المصرية، بل كانت في أحيان كثيرة سيدة الموقف (الأسرة 25 مثالًا).


أن العلاقة بين الشمال (مصر) والجنوب (النوبة/السودان) كانت علاقة أخذ وعطاء، لا علاقة غزو وثبات.


أن الرواية المصرية الرسمية بحاجة لمراجعة لا تنفي فضلها، بل تُدرج النوبة كطرفٍ متكافئ في صنع الحضارة.


رابعًا: أبعاد سياسية في المعركة التاريخية
الرواية التاريخية ليست محايدة. فهي تُستخدم اليوم في:


قضايا الهوية الوطنية: السودان يُعيد تأسيس تاريخه على مركزية نوبية – إفريقية، بديلة عن النموذج القومي العربي أو الإسلاموي.


نزاعات الحدود: كما في منطقة حلايب وشلاتين، حيث يُستدعى "الحق التاريخي" كأساس للادعاءات، دون تفكيك الخلفيات التاريخية المعقدة.


الصراع الثقافي بين السودان ومصر: إذ تُستخدم رمزية "الفرعون الأسود" و"أصل الحضارة من الجنوب" لإعادة توازن القوى الرمزية.


تصحيح لا إقصاء
ليس المقصود من هذا الفتح المعرفي إقصاء مصر من سردية وادي النيل، ولا إنكار التداخل الثقافي العميق. بل هو دعوة لتوازن الروايات، وللاعتراف بأن السودان – ممثلًا في النوبة وكوش وعلوة والمقرة – لم يكن هامشًا في حضارة مصر، بل مركزًا مستقلًا تفاعل مع الشمال
بوعي حضاري متقدم. إن استعادة النوبة لمكانتها التاريخية، ليست مجرد مسألة علمية، بل خطوة باتجاه تحرير الذاكرة الإفريقية من الاستعمار المعرفي، وبناء سردية وطنية سودانية واثقة من جذورها.


ختاماً، لا بد من توجيه الشكر والتقدير لكل الباحثين والمفكرين الذين أسهموا في إعادة النظر في العلاقة بين التاريخ المصري القديم وتاريخ النوبة والسودان، وفصل المسارات الحضارية في أهم مصادر التاريخ العالمي، بعيداً عن الهيمنة المركزية أو القراءة الاستعمارية.
لقد تمكنت الدراسات الحديثة، المدعومة بالاكتشافات الأثرية والنقد المعرفي، من تفكيك التصورات القديمة التي صوّرت النوبة كـ"هامش" للحضارة، لتعيد لها مكانتها كمركز حضاري أصيل، تفاعل مع مصر ونافسها وامتد تأثيره عميقاً في القارة الأفريقية.


هذا التحول لا يُنكر الصلات التاريخية المتبادلة، لكنه يصحح الخلل البنيوي في السرديات، ويمنح النوبة والسودان القديم حقهما في التاريخ بوصفهما فاعلين، لا توابع. إنه جهد يتجاوز مجرّد التوثيق الأكاديمي، ليعيد أيضاً تشكيل وعيٍ جديد بالهوية والذاكرة
ويؤسس لفهمٍ أكثر عدلاً وإنصافاً للتاريخ الإنساني في وادي النيل.


[/B]


الهوامش والمراجع الأكاديمية الهامة
Adams, William Y.
Nubia: Corridor to Africa. Princeton University Press, 1977.


دراسة رائدة تعتبر النوبة كجسر حضاري مستقل نحو قلب أفريقيا وليس مجرد منطقة هامشية.


Trigger, Bruce G.
The History of Nubia. In Civilizations of the Nile Valley, edited by Kent Weeks. American University in Cairo Press, 1996.


يقدم رؤية متوازنة لحضارات وادي النيل، ويؤكد على استقلالية النوبة وممالكها.


Török, László.
The Kingdom of Kush: Handbook of the Napatan-Meroitic Civilization. Brill, 1997.


من أهم المراجع عن مملكة كوش، وتحليل شامل لثقافتها ومؤسساتها الدينية والسياسية.


Welsby, Derek A.
The Kingdom of Kush: The Napatan and Meroitic Empires. Markus Wiener Publishers, 1996.


يسرد تطور كوش من نبتة إلى مروي مع تسليط الضوء على التميز المعماري والديني.


Shinnie, Peter.
Ancient Nubia. Methuen & Co Ltd, 1978.


من أوائل الدراسات التي دعت لإعادة الاعتبار إلى النوبة بوصفها حضارة قائمة بذاتها.


Al-Shayeb, Abdel Rahim (عبد الرحيم الشايب)
تاريخ السودان القديم: من عصور ما قبل التاريخ حتى نهاية مملكة مروي. دار الفكر، الخرطوم، 2003.


مرجع عربي مهم يسرد تاريخ السودان القديم بلغة نقدية تُراجع الرواية المصرية.


Morkot, Robert G.
The Black Pharaohs: Egypt's Nubian Rulers. Rubicon Press, 2000.


يناقش الأسرة الخامسة والعشرين ويثبت أن الفراعنة السود لم يكونوا غزاة بل ورثة شرعيين لحضارة النيل.


Ahmed, Salah M.
The Archaeology of the Sudan: From the Earliest Times to the Present. Routledge, 2014.


يربط بين البعد الأثري والهوية الثقافية السودانية ويضع النوبة ضمن السياق الأفريقي الأوسع.


Fahim, Hussein.
Egyptian Nubians: Resettlement and Years of Coping. University of Utah Press, 1981.


دراسة أنثروبولوجية تُبرز أثر السرديات التاريخية على الهوية النوبية المعاصرة.


Heidorn, Lisa A.
“Historical implications of the pottery from El-Kurru.” Journal of the American Research Center in Egypt, vol. 28, 1991, pp. 139–148.


توثيق أثري هام يكشف خصوصية الثقافة النوبية.

 

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: السودان القدیم وادی النیل

إقرأ أيضاً:

مصر تحذر من تصعيد إقليمي جديد بسبب أزمة سد النهضة

رام الله - دنيا الوطن
كشف وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي عن أن الموقف من أزمة سد النهضة الإثيوبي قد يقود إلى توتر جديد في المنطقة، وذلك في ظل تصاعد الخلاف بين مصر وإثيوبيا وعدم التوصل إلى اتفاق.

وأكد وزير الخارجية المصري خلال مشاركته في اليوم الثاني من منتدى قادة السياسات الذي تعقده غرفة التجارة الأمريكية في القاهرة، أن مصر تعمل على استمرار الاستقرار، مشيرا إلى العديد من نقاط التوتر في المنطقة من بينها ما يحدث في السودان والأوضاع في قطاع غزة.

وأوقفت مصر المحادثات مع إثيوبيا بشأن سد النهضة قبل أكثر من عام تقريبا، بسبب تعنت أديس أبابا في المفاوضات، ومحاولاتها كسب الوقت لاستكمال أعمال السد.

ويُعدّ سد النهضة الإثيوبي أحد أكثر القضايا إثارة للجدل في منطقة القرن الإفريقي، حيث يمثل مصدر توتر مستمر بين مصر وإثيوبيا والسودان منذ بدء إثيوبيا بناء السد على النيل الأزرق عام 2011.

ويهدف السد الإثيوبي الذي يُعتبر أكبر مشروع للطاقة الكهرومائية في إفريقيا، إلى توليد أكثر من 5,000 ميغاواط من الكهرباء، مما سيضاعف إنتاج إثيوبيا من الطاقة ويوفر الكهرباء لنحو 60% من سكانها الذين يعانون من نقص الطاقة، ومع ذلك يثير السد مخاوف مصر والسودان، اللتين تعتمدان بشكل كبير على مياه النيل، حيث يوفر النيل الأزرق حوالي 85% من إجمالي تدفق النيل.

وتعتبر مصر التي تعتمد على النيل بنسبة تزيد عن 98% لتلبية احتياجاتها المائية السد تهديدا وجوديا لأمنها المائي، وتخشى القاهرة أن يؤدي ملء السد وتشغيله دون اتفاق ملزم إلى تقليص حصتها من المياه، مما قد يؤثر على الزراعة وإمدادات المياه الصالحة للشرب والاقتصاد بشكل عام.

وفي سبتمبر 2023، أعلنت إثيوبيا اكتمال المرحلة الرابعة والأخيرة من ملء خزان السد، مما أثار احتجاجات مصرية حادة، واصفة الخطوة بـ"غير القانونية"، كما أعربت مصر عن قلقها من أن إثيوبيا قد تستخدم السد لأغراض سياسية، مثل التحكم في تدفق المياه كأداة ضغط.

وترى إثيوبيا أن السد مشروع تنموي حيوي للقضاء على الفقر وتوفير الكهرباء لسكانها البالغ عددهم أكثر من 123 مليون نسمة، حيث يفتقر نصفهم تقريبًا إلى الكهرباء، وأكدت الحكومة الإثيوبية أن السد لن يتسبب في ضرر كبير للدول المشاطئة للنهر، وأنها ملتزمة بمبادئ الاستخدام العادل لمياه النيل وفقًا لإعلان المبادئ لعام 2015، ومع ذلك رفضت إثيوبيا التوقيع على اتفاقيات ملزمة قانونًا تحدد كيفية إدارة السد خلال فترات الجفاف.

وتوقفت المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان في أواخر 2023 بسبب ما وصفته مصر بـ"تعنت إثيوبيا" ورفضها قبول حلول وسط تضمن مصالح الدول الثلاث.

مقالات مشابهة

  • محطات فى تاريخ الإسلاميين في السودان: علاقاتهم الخارجية ودورهم في النزاعات وتدمير الدولة
  • سد النهضة يُشعل فتيل التوتر.. مصر تحذر من تصعيد إقليمي جديد
  • مصر تحذر من تصعيد إقليمي جديد بسبب أزمة سد النهضة
  • مركز الملك سلمان للإغاثة يوزع 900 سلة غذائية في محليتي ود الماحي والرصيرص بولاية النيل الأزرق في السودان
  • "إغاثي الملك سلمان" يوزع سلالا غذائية بولاية النيل الأزرق في السودان
  • وزير الثقافة يُدشن تطبيق ذاكرة المدينة لتوثيق تاريخ المدن المصرية
  • وزير الثقافة يدشن تطبيق «ذاكرة المدينة» لتوثيق تاريخ المدن المصرية
  • هناك فرق – التاريخ يعيد نفسه بقناع كيميائي..!
  • تحرير الخرطوم ..أهم حدث في تاريخ السودان الحديث