لجريدة عمان:
2025-06-02@08:17:44 GMT

لماذا الحديث عن أمن الهوية الثقافية؟

تاريخ النشر: 31st, May 2025 GMT

في نشاطه الجاد والمستمر، خصص النادي الثقافي إحدى جلساته في الأيام الماضية لمناقشة موضوع: «الأمن الثقافي ودوره في الحفاظ على الهوية الوطنية»، واستضافت عددًا من المتحدثين والنشطين ثقافيًا وأكاديميًا في الدراسات الثقافية والحضارية، وصناعة المحتوى الثقافي. قيمة هذه الجلسة في طرحها للأسئلة أكثر من تأطيرها للإجابات القاطعة؛ ولا يستغرب متابع إن خرج منها دون إحاطة دقيقة بتعريف المفاهيم الرئيسة التي تناولتها بما في ذلك مفهومها الأساس «الأمن الثقافي»، ورغم تحفظنا على دقة المفهوم باعتبار أن المكون الثقافي مكون واسع، وفيه من المضمون المادي والمعنوي متباينات شتى، وإحاطته بمفهوم الأمن قد يتناقض مع بعض مكوناته الأساسية، ونرى أن مصطلح «أمن الهوية الثقافية» هو المصطلح الأقرب للدقة – في تقديرنا – باعتبار سعي المجتمع ومكونات النظام السياسي والثقافي للحفاظ على المكونات الفريدة والمميزة التي تسم ثقافة ما ومحاولة استدامتها عبر الأجيال، والحفاظ عليها من تأثير عوامل الخارج في أن تفككها أو تغير مضامينها الرئيسة أو تبدل معانيها الاجتماعية.

وقد شدني في الجلسة مداخلتين مهمتين طرحتا من قبل الحضور؛ الأولى أكدت على أهمية تحديد عوامل الخطر التي تواجه هويتنا الثقافية حقًا، والنقاش حولها بطريقة محددة وتشخيصها بشكل منهجي. أما الثانية فكانت تتعلق بضرورة تحديد المفاهيم – وهو ما أخذ حيزًا واسعًا من التداخلات – ولكن السائل كان ينبه حول ضرورة استنبات مفاهيم من الداخل ذات خصوصية اجتماعية وتتسق مع طبيعة السياق الثقافي للمجتمع في عُمان، يمكن أن ننطلق منها ونحدد حولها هواجسنا واستفهاماتنا الرئيسة.

ماذا نريد للهوية الثقافية في عُمان؟ - حسب تقديرنا – فإن السياسات التعليمية والثقافية والإعلامية – باعتبارها أكثر السياسات تأثيرًا وصنعًا لمسارات الهوية الثقافية – ينبغي أن تكون أكثر تناغمًا انطلاقًا من الهواجس الرئيسة حول الهوية الثقافية، وفي كل الأحوال فإن المجتمع المراد هو المجتمع الذي ينظر إلى الحداثة بمفهومها وتطبيقاتها الواسعة بطريقة ناقدة، ويتفاوض بشكل مستمر حول تأثيرها، ويشكل فيه التعليم والانتماء وسيلتان لحماية أفراده وخاصة في الأعمار المبكرة من التقليد والانسياق الأعمى، وتمكن فيه المؤسسات التعليمية الأفراد من امتلاك الحدس النقدي تجاه التيارات الثقافية الصاعدة والمتواترة، دون انقطاع عن حركة الثقافة العالمية. وهو في الآن ذاته مجتمع لا ينظر إلى الاستثمار في الثقافة بوصفها عبء اقتصادي أو مكون جمالي من مكونات الدولة، بل هي امتداد للمعنى المراد ترسيخه، وللقيم المراد تأصيلها، وللموروثات المراد نقلها عبر الأجيال، فتكون في هذه الحالة مؤسساته الثقافية متفاعلة مع حركة المجتمع، جاذبة لكل فئاته وأطيافه، وموجهة أطروحاتها ومنتجاتها بما يتسق مع حفظ النسق الثقافي من ناحية، وإكساب الأفراد روح الثقافة من ناحية أخرى.

وما نريده أيضًا للهوية الثقافية في عُمان هو احتفاؤنا بالتنوع الذي أوجدته عوامل التاريخ والجغرافيا، وهذا الاحتفاء ينطلق من تعزيز المحتوى المبتكر حولها على منصات الإعلام التقليدية والحديثة وفي وسائط التعلم والفضاء العام، واعتبار ذلك التنوع واحترامه قيمة مركزية في بقاء وديمومة المجتمع. وأن تكون القيم والممارسات الأصيلة للهوية الثقافية حاضرة ومجسدة في تجديدنا الحضري، احتفالاتنا ومهرجاناتنا، وأن نخصص الأيام والمناسبات الرسمية للاحتفاء بعناصر ثقافية معينة، وأن نوجد التشريعات والنظم الضامنة لاندماج العناصر الثقافية في حياة الأفراد بشكل مستمر، ففي علم الاجتماع تؤكد نظرية التفاعل الرمزية أن الهوية الثقافية ترتبط بشكل رئيسي بكيفية أداء الأفراد لها والتعامل معها في الحياة اليومية. «ويعتمد ضمان الهوية الثقافية على إدراك الرموز الثقافية (مثل: اللباس، واللغة، والطقوس) وإثبات صحة أداء الهوية في التفاعلات الاجتماعية». وهو ما يؤكد ضرورة نقلها بشكل سليم عبر الأجيال، وتعليمها وتعميق مفاهيمها لديهم بشكل جيد.

إذن ما هي الهواجس الرئيسة التي تواجه أمن هويتنا الثقافية؟ وهنا لابد من التأكيد منهجيًا على ضرورة التفريق بين الهواجس المتخيلة/ المتصورة وبين الهواجس الحقيقية، فالطبيعي أن كل مجتمع لديه متخيلات من المهددات التي تواجه ثقافته دون أصل لها في الواقع، وهذه المتخيلات تنشأ نتيجة التفسير غير الدقيق للتحول الاجتماعي أو نشوء بعض المشكلات الاجتماعية. لكن ما يعنينا هنا هي الهواجس الحقيقية التي تقترن بوجود دلائل تأثيرها على الهوية الثقافية، وهي خمسة حسب تقديرنا: أولها ضمور التواصل بين الأجيال واختلاف اللغة الاجتماعية بين جيلين (المفاهيم/ المعتقدات/ التصورات/ رؤية الحياة..)، وثانيها كفاءة النظام التعليمي في تعزيز ملكة النقد تجاه أدوات الحداثة، وثالثها ضعف التفاعل بين منتج المؤسسات الثقافية وبين حركة المجتمع، ورابعها سهولة التعرض للمحتوى الثقافي المعولم مع ضعف وجود المحتوى الثقافي المحلي (المبتكر / المتنوع)، فهل وصلنا فعليًا لمنصات إعلامية جاذبة في محتواها ترتكز على الثقافة العُمانية في إنتاج المحتوى وقادرة على خلق ميزة تفضيلية لدى المتلقي؟، وهل طورنا صناعة الألعاب الإلكترونية بناء على المعطى الثقافي المحلي مثلًا؟، وهل لدينا صفحات على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة قادرة على تغذية الملتقي ثقافيًا ومعرفيًا بشكل مبتكر؟ هذه أمثلة على الطريقة التي يمكن أن يتفاعل فيها المحتوى مع تحولات ذائقة المجتمع وفي نفس الوقت يؤدي دوره في الحفاظ على الثقافة. أما خامس الهواجس فهو في رؤية الهوية الثقافية كـ(مهدد) وليس كـ(فرصة)، وذلك يرتبط بقدرتنا على توسيع نطاق الصناعات الثقافية الإبداعية واعتبارها استثمارًا اقتصاديًا من ناحية، وحافظة ثقافية من ناحية أخرى، ويمكن المؤسسات والدولة والأفراد على حد سواء من تداول العناصر الثقافية رمزيًا وضمنيًا وظاهريًا عبر أدوات الإنتاج وتقنياته الحديثة.

إشارة أخيرة أود أن أقف عليها، وقد أخذت حيزًا واسعًا في نقاشات الجلسة التي أشرت لها، وهي القول بأهمية وجود مراكز وطنية للدراسات الثقافية والحضارية، ورغم عدم اختلافنا على أهمية ذلك في رصد الحركة الثقافية، وإجراء الدراسات والبحوث الدقيقة على تحولات الثقافة وعلى موقفنا الحضاري، إلا أنه لا ينبغي أن يكون الحل السهل والمباشر لكل تحدياتنا ومشكلاتنا هو التوصية بإيجاد مراكز للبحوث والدراسات، قبل أن نسائل الجامعات والكليات القائمة بتنوعها واختلافها عن دورها المركزي في تفعيل هذا الشق المهم، وفي إنجاز برامج بحثية واستراتيجية تعنى بالقضية المطروحة، وفي تتبعها بشكل مستمر، فالمُكن البشرية والمادية واللوجستية تكاد تكون متوفرة، واستدامة المؤسسة في ذاتها تتيح لها أداء هذا الدور، وهو ما سيؤسس لاحقًا في تقديرنا لاستقلالية هذه المراكز بخبراتها ونتاجاتها وكفاءاتها.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الهویة الثقافیة من ناحیة ا بشکل

إقرأ أيضاً:

"التباشير".. بين الهوية والوسم

 

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

يَصعُب التفريق بين الهُوية كأصالةٍ دائمةٍ تُكتسب بالوراثة والتَّنشِئة وبين تجسيد الهُوية في الاختزال الرمزي بإطلاقِ وسمٍ تسويقي وقد يشوب الأمر شيء من ارتياب الفهم، لنقع لا إراديًا في الخلط بين الأمرين؛ نظرًا لسَطوة الفكرة الترويجية وسيطرتها على الذهن، فإذا كان القصدُ من إطلاق شِعارٍ ذي طابعٍ بصري يُراد له حياة طويلة، فإنَّ البِناء على الهُوية ذات الأصالة أو العَراقةِ يتطلب جهدًا بالغًا لتجسيد عمق الفكرة، لأن الحكم في الجانب المُقابل هو إرضاء الشريحةِ العظمى من المجتمع الذي يحمل في مضمون وشائِجه تلك الهُوية وهذا ليس بالأمر السهل كما قد يُعتقد.

عدم التوافق سيستثير موجة عدم ارتياح لتتبعها موجاتٍ من النقد اللاذع والاستياء أحيانًا، وفي هذا الخصوص تحديدًا يجب التجرُّد من مقولة "رضى الناس غاية لا تُدرك" وتهميشها قليلًا لأن المُبتغى هو إرساء رمزية دلالية تُعبِر عن هويتهم، أما إذا كان القصد من إطلاق الشِعار البصري هو عمليةٍ ترويجية موسمية أو مؤقتة كالوسم أو "التعويذة" كمصطلحٍ غربي مُعرَّب كما تُسميها المهرجانات -مع اني لا استحسن هذه الكلمة- فلا بأس في الأمر ومن غير الضرورة أن يُعبِّر ذلك الوسم عن عمق الهُوية ولا أصالتها وحتى إن فعل فلن يُشكِّل بؤرة خلاف تستدعي التفسير وتقريب وجهات النظر كونه ذا بُعدٍ مرحلي ومؤقت يزول بانتهاء الحدث.

قد لا يدخُل مفهوم التباشير كأساسٍ ضِمن مقومات الهوية العامة أو السائدة، كونها مُتغيرةٍ من مكان إلى آخر في نطاقٍ جغرافي محدود وما تتأثر به المجتمعات من تفاعلات مُرتبطةٍ بضرورة الحدث وزمانه، وربما تَنتفي أهميتها أو فاعليتها في مرحلةٍ ما وذلك بانتفاءِ أسبابها، فتستحيل مادةً تاريخية ضمن ما يُحكى من مروياتٍ قديمة، وبذلك تنتهي أصالة توارثها ولن تعتَّد بها الأجيال الجديدة لعدم توافر مُقوماتها ومُغذياتها، فمثلًا عندما كان يستبشر الضيف أو الغارم أو طالب الحمى أو البحارة والمسافرون برمزية التباشير على بعض البيوت قديمًا فإننا نجد هذا الأمر بمقاييس اليوم لم يعد قائمًا نتيجة تأصيل القوانين المدنية، وبناءً عليه فقد انتهى العُرف السائد وبالتالي انتفت الضرورة، ومع انتفائها وحتمية التغيير الثقافي تلاشت الفكرة ومضمونها إلا ما بقي في شكل توظيف الديكور التجميلي دون فهمٍ أو تقعيدٍ لتوظيف الخاصية الدلالية له.

وتكمُن أهمية التركيز في إطلاق العام على الخاص وليس العكس في اعتبار ما هو سائدٌ لدى أكبر شريحةٍ بشريةٍ في المُجتمع على أوسع نِطاقٍ جُغرافي ممكن، وبهذا الاعتبار فإنَّ إمكانية القبول ستكون أكثر ترجيحًا مع حظوظ ضعيفة للرفض، ذلك بأنَّ المُجتمعات غالبًا ما تركن للتنميط جراء صلابة هويتها وتستحسن السائد في وعيها الجمعي المشترك، وتنبذ المُتطرف باعتباره دخيلًا وحتى إن كان التجديد الاستثنائي أو الغريب، وقد تنظر له بأنه خارج عن المألوف عندما يحاول إسباغ الخاص على العام.

لا شك أن مُحافظة ظفار هي أرض اللُبان ولن يختلف على ذلك اثنان، وتداخلت مع ارتباط هُويتها بهذه التسميةِ القديمة جدًا وبكُل فخر تعالُقاتٍ كثيرة، منها ما هو مادي شاهد ومنها المعنوي الحسي وحق الفخر بذلك كما تفخر سائر المجتمعات بعراقة رمزياتها. فمثلًا عندما جاء شِعار السلطنة على العلم العُماني فإنه اتخذ من السيفين والخنجر رمزية ذات طابع عام ومتواصل مستمر كأدوات دفاعٍ وقتال وزينة، وهي سائدة في أرجاء عُمان، ولا تزال سارية المفعول وستبقى كذلك، وقياسًا على المِثال فإن رمزية شجرةِ اللبان في مُحافظة ظفار لا تزال صلبةً منذ الأزل وستستمر إلى مالا نهاية، ولا يمكن لي القول إن هناك متغيراتٍ قد تطرأ لتحييد الهوية الدلالية لها ولا حتى مع عشرات الأجيال القادمة، وقد غرس حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- شجرة اللبان عند زيارته لمزرعة أرزات السلطانية عام 2020؛ تأكيدًا منه على الرمزية والمضمون وتأصيلًا للدلالة والمفهوم.

وإذا حملنا أرض التباشير على محمل الهوية البصرية باعتباره وسمًا مرحليًا أو دوريًا، فقد نَستملِح ذلك من الناحية الترويجية، ولكن ما سيُستهجن في هذا العنوان وما بُني عليه من دلالاتٍ خاصة ذات محدودية زمنية وجغرافية، هو اعتباره هُوية دائمة تعبِّر عن الجميع وعن كل شيء، وهذه مُقاربة لا تتسق مع الثقافة العامة للجميع ولن يقبلها الوعي الجمعي المُشترك ولن تبرح مكانها إلا في نطاقٍ محدود ولفترة زمنية قصيرة تنتهي بقرار أو بانتهاء الحدث، بعد أن أشغل الرأي العام وأَسلَكَه في تجاذُباتٍ لا طائل لها وجدالاتٍ لا فائدة منها.

إن إشراك المُجتمع في صِناعة القرار سيجعل منه متفاعلًا ايجابيًا؛ بل ومُمتَّنًا باعتباره عنصرًا مُهمًا حين أدلى برأيهِ في شأنٍ يخصه ويرتبط به، وحتى لو كان على صعيد إطلاق هوية بصرية جديدة، ولم يعد استِشفاف وجهات النظر  بتلك الصعوبة اليوم مع ثورة المعلومات وتطور منافع التقنية من خلال استطلاع رأي مُبسطٍ يأخذ تقييم الاغلبية في الاعتبار ويعتمد على المُفاضلة بين عدة خيارات ونماذج مطروحةٍ، ثم تَحسم اللجنة المُكلفة بالقرار أمرها لتبقى في إطار التواصل المجتمعي من جانب ومن جانبٍ آخر تقيم الحجة على الجميع، وبما لا يدع مجالًا لانتقاد كل رافضٍ أو غير مُقتنع لاحقًا؛ حيث أُفرغ محل النزاع ومنذ البداية من محتواه.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • افتتاح المركز الثقافي في إدلب إيذاناً ببدء مشروع ثقافي وطني على مستوى المحافظات
  • "التباشير".. بين الهوية والوسم
  • الإرشاد الثقافي.. خطة حوثية لتطييف التعليم في اليمن
  • هيئة قصور الثقافة تقدم أجندة حافلة بالفعاليات الثقافية والفنية والأدبية هذا الأسبوع
  • المجلات الثقافية.. بين الحبر والخوارزمية
  • «الثقافي العربي» يحتفي بتجربة أحمد شبرين
  • صدور العدد 104 من «الشارقة الثقافية»
  • «ذاكرة المدينة» مشروع ثقافي رقمي لترسيخ الهوية المصرية وحفظ التراث
  • 155 عاما على دار الكتب المصرية و60 عاما من تراجع الدور الثقافي