آخر تحديث: 19 يونيو 2025 - 10:22 صأ.د. صبري مسلم حمادي* من خلال استقراء أبيات أبوذية كثيرة استقيت معظمها من أفواه المطربين، رأيت أن بعضها يشي بأن مصدر نظمها هو البيئة الريفية (الفلاحية)، نظرا لورود ألفاظ وصيغ لها طابع فلّاحي، وهنا يمكن القول بأن الريف العراقي، هو الذي احتضن بدايات هذا الفن الغنائي الشائع.

والأبيات التالية نماذج تدل على مصادر المضامين والصور الشعرية، التي يستمد منها شاعر الأبوذية أدواته، علما بأن الأبيات التالية قد ترد بصيغ أخرى مختلفة كثيرا أو قليلا. وهذه سمة من سمات الأدب الشعبي والتراث الشفاهي عامة، ومنه الغناء الشعبي الذي يخضع لوعي المتلقي الذي قد يغيّر فيه، وبما يتناسب مع الهم أو المضمون الذي يريد أن يعبر عنه. تأمّل البيت التالي: فقير وأملك من الله نخلتين (نخلتين ثنتين) نخلني العوز مو نخله نخلتين (من النخالة) أراضي الناس مزروعة نخل تين (نخل وتين) وأنا بس القهر مزروع بيه حيث تشي -النخلتان والنخالة والأراضي والثمار (النخل والتين) والزرع- بأجواء الريف، وينسج الشاعر الشعبي من هذا المعجم الشعري صوره الشعرية، التي تكرس أجواء الهم والفقر والحاجة، ويتكرر هذا المضمون كثيرا في الأبوذية العراقية.  ويشكو شاعر آخر من أن التال (صغار النخيل الذي ينمو حول النخلة) ومفرده تالة لا يريد أن ينمو في أرضه على الرغم من رعايته له وحرصه عليه، وما هذا التال إلا رمز لجهود الشاعر التي تذروها الرياح: أون ودري بونيني ماله تالي           (ليس له نهاية) أسقي وعيب يفرع ماله تالي؟ (ماله نخلي الصغير لا ينمو؟) تدري الما له أول ما له تالي (مثل شعبي معروف) يخون بصاحبه وذاته رديه والشاعر هنا ينتقل من الشكوى وسوء الحظ إلى الحكمة، حيث يستعين بمثل شعبي معروف يوحي بأن مصدر همه جاء من خيانة صديق. أو البيت الآخر الذي يرد فيه ذكر الأرض ونبات الخيزران: يهل تمشي خفيف القدم برضاي (على مهل) يريتك خيزران ونبت بارضاي    (في أرضي) حبيبي عشرتي وياك برضاي     (برغبتي) دخيلك لايخربونك عليه وهنا يخشى الشاعر الشعبي من الوشاة والحساد الذين قد ينفذون إلى قلب حبيبته فتتغير عليه، ولذلك فهو يتمنى لو أنها خيزرانة ـ هذه إشارة إلى قدها المعتدل ورشاقتها – تنبت في أرضه، وبما يؤكد بأنه فلاح يعتز بما ينبت في أرضه لأنه مصدر الحياة لجسمه وقلبه معا.  وفي البيت التالي ذكر لوسيلة الفلاح أو الريفي عامة في التنقل: ذلولي ما يجد السير يسعى (يسير) ثقل همي ولا لي صدر يسعه (يتسع) اليغص بالزاد أهو للماي يسعى (يطلب) وأنا بالماي أغص شلون بِيّهْ وكأن الحيوان الذي حمل شاعرنا يحس بثقل الهم الذي يحمله الشاعر ولذلك فإنه يبطئ في سيره، ثم ينتقل الشاعر بعد ذلك لصورة استعارية حين يجسّم الهم ثقلا لا طاقة له به، ويشفع صورته الاستعارية   بتشبيه تمثيلي مفيدا من الزاد والماء، الذي يسعف من يغص بما يأكل، ويتساءل تساؤل العارف بأن ما يحس به من شجن لا دواء له.  ومثله البيت التالي الذي يكرر ذكر الدابة، التي كان الشاعر يتنقل بواسطتها: ذلولي ما يجد السير ينحاش (هناك ما يعيقه) على اللي من خدوده الورد ينحاش (يقطف) لون كل التريده الروح ينحاش (يحصل عليه) أبد ما ظلت العلة خفيّه ومن الواضح أن مفردة ينحاش، التي تتكرر ثلاث مرات توحي بجني الورد ومثله جني التمر وكل أنواع الفاكهة أيضا، وهو يستذكر من خلال هذه الألفاظ مواسم الحصاد والجني، ولكنه يخطف المعنى إلى خد الحبيب المورّد وإلى الأمنيات التي ترتبط بما تشتهيه الروح ويتمناه القلب. ويستعين شاعر شعبي آخر بظل النخيل الوارف أيام القيظ كي يرسم صورة شعرية جميلة في قوله: مثل ظل النخل فوكاك (فوقك) ظلّيت ( من الظل) وعن دربك أبد ما يوم ضلّيت (من الضلال والتيه) أنا بدونك رسم عالكاع (على الأرض) ظليت (بقيت) ترد الروح من تسأل عليّه ونستنتج من هذا البيت أن الشاعر منتبه لدلالة الظاء والضاد اللتين تعطيان للمفردتين (ظليت / ضليت) معنيين متضادين. وثمة صورة تعبر عن نحافة الشاعر، بسبب غياب حبيبته وكأنه مجرد رسم فوق الأرض وبدون روح، ولكنه يعود حيا حين تسأل عنه حبيبته. وقد اكتفيت بالأبيات السابقة لكي لا أثقل على قارئ هذا المقال. وما ذكرته أعلاه لا يعني أن القرى والأرياف فقط هي التي تتداول أبيات الأبوذية ذات الطابع الريفي شكلا ومضمونا، إذ نجد المدينة تحتضن مثل هذه النماذج أيضا وعبر عشرات الأسماء، ممن جربوا نظمها أو أداء أطوارها الكثيرة، لا سيما من قرى وسط العراق وجنوبه، ومن الأسماء في هذا الشأن الحاج زاير الدويج والشيخ عبد الأمير الفتلاوي والشاعر حميد ملا سلمان وغيرهم. وقد أسهم مطربو الريف مثل سلمان المنكوب وعبادي العماري وحسن داود وخضير أبو ناصرية ومسعود العمارتلي وحضيري أبو عزيز وداخل حسن وعبد الجبار الدراجي وسعدي الحلي وسواهم بنقل أغاني الأبوذية من الريف إلى غناء المدن، فدخلت ضمن المقامات العراقية، كما عبّر الكاتب عبد الأمير جعفر، الذي كان من أوائل من كتبوا عن الأدب الشعبي في كتابه “الأغنية الفولكلورية في العراق” وكرّره في مقال له نشره في مجلة فنون العراقية تحت عنوان: الفن الغنائي في الخليج العربي، منشورات مجلة فنون، وزارة الثقافة بغداد ١٩٨٠ ص٢٧ *أستاذ اللغة العربية في قسم اللغات الأجنبية بكلية واشتناو- ميشيغان

المصدر: شبكة اخبار العراق

إقرأ أيضاً:

المبدعون والذكاء الاصطناعي تحديات وعيوب.. ندوة باتحاد الكتاب

عقدت لجنة الأدب الرقمي والذكاء الاصطناعي برئاسة د. جميل عبد المجيد، ندوتها الشهرية باتحاد كتاب مصر، تحت عنوان "المبدعون والذكاء الاصطناعي".
تحدث في الندوة التي أقيمت تحت رعاية الدكتور علاء عبد الهادي رئيس النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر والأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، كل من الشاعر والإعلامي د. جمال الشاعر، بحضور الشاعر والإعلامي السيد حسن نائب رئيس النقابة العامة، وأعضاء اللجنة أ. السيد الهادي نائب رئيس اللجنة، ود. عصام محمود، ود. رشا الشهابي، إضافة إلى مشاركة كوكبة من الأدباء والشعراء والإعلاميين، قدمها د. جميل عبدالمجيد. 
بداية تحدث د. جميل عبد المجيد، عن مشوار الإعلامي جمال الشاعر، المهني والإبداعي، واللذين حققا شهرة واسعة، ففي المجال الإعلامي كانت برامجه: صباح الخير يا مصر، والجائزة الكبرى، وغيرهما من البرامج الجماهيرية الناجحة، ثم انتقل د. جميل للحديث عن تأسيس الشاعر  لقناة النيل الثقافية ورئاسته لها، وعن مساهماته الفاعلة من خلال منصبه كنائب لرئيس التليفزيون المصري الأسبق، كما تحدث عن انتقال الشاعر من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الحديث، مثنيا على براعته في الجمع بين تقديم المحتوى القيمي  الهادف مع التواصل الجماهيري الجيد، وهو أمر  ليس سهلا ويحتاج لإعلامي يمتلك مواصفات خاصة. 
استهل د. جمال الشاعر كلمته متحدثا عن أهمية العلم والعمل والبناء والعمران، وكيف أن المؤمن مأمور باكتساب العلم والعمل، وذكر أننا كعرب نعد في لحظة وجودية، تتطلب منا الاستعداد الكامل لما يدبر لنا، منتقلا للحديث عن غزة، وصمود المقاومة.
ثم تناول الشاعر الحديث عن الحروب الحديثة، والمقصود بها الحروب الرقمية التكنولوجية التي تستوجب منا المعرفة الكاملة بكيف تدار تلك الحروب عبر المنصات الإلكترونية، عارجا على الحديث عن كتاب "المتلاعبون بالعقول" ، وعن تخصص إسرائيل في الأمن السيبراني، واستحواذ اليهود على منصات العالم، مؤكدا  أننا كعرب أمام مصير خطير وعلينا إما أن نتجدد ونعي ما يدور حولنا في العالم، وإما الفناء.
كما تحدث عن موارد مصر وثرواتها الطبيعية، متسائلا هل نحسن استغلال مواردنا بصورة سليمة؟! 
ثم تحدث عن خطورة استغراقنا في استهلاك التكنولوجيا للدرجة التي حولتنا إلى مستعمرات رقمية، وذكر أننا لا نتابع بشكل جيد حركة الانفجار المعرفي الآن، وأكد ضرورة إعادة صياغة العقل العربي، ومعرفة Ai وغيره من الوسائل المعرفية، وأهمية عمل بنية تكنولوجية صناعية معرفية، والدراية الكاملة بالاقتصاد الأبيض أو اقتصاد المعرفة.
وعن الفارق بين الصناعات الثقافية والصناعات التقليدية أوضح الشاعر أن الصناعات الثقافية قائمة على الفكر والإبداع والابتكار، وتساءل هل فكرنا في حدود Ai، مؤكدا أننا أمام واقع جديد، وأن موضوع الرقمنة لم يعد اختيارا، وأن التقدم مذهل ولابد من مواكبته، مؤكدا أننا يمكن أن نستفيد من هذا التطور الرقمي لو أحسنا استخدامه، وأقمنا العديد من الورش والتطبيقات العملية.
واختتم د.جمال الشاعر حديثه مؤكدا أن الروح الإنسانية ستظل تضفي بحيويتها على العملية الإبداعية مهما حدث من تطور رقمي وتكنولوجي. 
فيما أكد الشاعر والإعلامي السيد حسن في كلمته أن جمال الشاعر حالة بالغة الخصوصية في الإعلام المصري؛ فهو كمذيع وشاعر لابد وأن يصادق المشاهد والقارئ، وكان لديه قدرة على الإدهاش ببساطة وسلاسة، وأن حالته المتفردة تلك تذكره بيحيى حقي في أنشودة البساطة، ثم عقب على قصيدة قرأها الشاعر أمام جمهور الندوة بأنه يحدثنا عمن نعرف وما نعرف بطريقة جديدة مدهشة، وأنه يهتم بشكل واضح بالمواكبة والمعاصرة، وأشاد بثقافة الشاعر وحضوره اللافت مما جعل منه نجما إعلاميا.
ثم استطرد السيد حسن متحدثا عن موقفنا من الذكاء الاصطناعي، والوسائل التكنولوجية الحديثة، وتذكر كلمات د. أحمد مستجير في أحد حواراته معه بأن ما ينقصنا هو الإرادة وليس القدرة، وأنه ليس لدينا إيمان صادق بقيمة البحث العلمي، وأنه على الدولة أن تؤمن بأهمية البحث العلمي، وأنه ليس ترفا؛ لأنه وسيلتنا الحقيقية للتقدم، وتحدث عن فكرة القيمة المضافة، وأهمية التمسك بالجذور ، وطالب حسن بأهمية عودة القصيدة المغناة، وإنتاج الدراما الجيدة، وتقديم برامج للأطفال بلغة سلسة بسيطة.
واختتم حديثه بقوله: دعونا نؤمن بالقدرة حتى نستطيع المواجهة. 
وبفتح باب المداخلات، تحدث الإعلامي د. أحمد يوسف مؤكدا أنه أول مذيع في الوطن العربي تحدث عن المذيع الافتراضي، متنبئا بظهور المذيع الافتراضي، وتحدث عن تجربته في تأسيس إعلام المستقبل والإعلام العلمي، مؤكدا أننا لا نعيش في عصر الذكاء الاصطناعي بل نحن في نظام عالمي جديد، يتطلب منا وعيا كبيرا بخطورة ما يدور حولنا، كما حذر من خطر تعمق مصر في العولمة، وذكر أن لروسيا والصين مشاريعهما وأهدافهما الخاص ، متناولا القطبية الإعلامية الجديدة في العالم، مؤكدا أن الذكاء الاصطناعي مرتبط بعلوم أخرى، وأنه لابد من الاستثمار في العلم.
ثم توالت المداخلات والاستفسارات حول توطين الصناعة وعلاقة الذكاء الاصطناعي بالفن التشكيلي، وأهمية العودة للتراث ليكون المرجعية.
وفي ختام اللقاء قدم د. جميل عبد المجيد شهادة تقدير باسم النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر تكريما للدكتور جمال الشاعر.

مقالات مشابهة

  • البيت الأبيض: وثيقة اتفاق غزة تسعى إلى رؤية شاملة للسلام بالمنطقة
  • هتاف العاطفة في قصيدة “يا رب عونك ” للشاعر محمد الشيعاني
  • المبدعون والذكاء الاصطناعي تحديات وعيوب.. ندوة باتحاد الكتاب
  • الأمن يكشف تفاصيل حريق السوق الشعبي بالنصر
  • تعلن الهيئة العامة لمشاريع مياه الريف عن رغبتها في إنزال مناقصة عامة
  • انطلقت أصوات الحق مع الثورة
  • الغرف السياحية: 90% نسبة الإشغال في شرم الشيخ قبل القمة
  • سجادة الصلاة.. «لطيفة» تكشف سر نضارتها دون عمليات تجميل
  • الحشد الشعبي يعلن اعتقال قيادي بعثي بارز يرتبط بـ أمين سر قيادة الحزب
  • موقع أميركي: الانتخابات العراقية المقبلة استفتاء السيادة بـمواجهة الحشد الشعبي