الدين والسياسة والدولة.. نحو علمانية سودانية
تاريخ النشر: 1st, July 2025 GMT
عبدالله رزق أبو سيمازه
فشلت الإنقاذ، خلال ثلاثة عقود، في ترجمة مشروع الحل الاسلامي، الذي ظلت تبشر به الجماعات السياسية المغطاة بالدين، منذ ظهور الإخوان المسلمين في المسرح السياسي، على أرض الواقع بما يؤكد مصداقيته، كاختيار يحقق مصالح الناس وتطلعاتهم . غير أن الشعار لم ينجح في الاختبار العملي، ولم ينجح الإسلاميون، بدورهم ، وفق سعة إدراكهم ووعيهم، إلا في تجسيد الاستبداد الديني والسياسي، المظلة الواسعة للفساد بكافة أشكاله، فيما أصبح التمييز الديني، الذي افرزه التطبيق، مهددا للوحدة الوطنية، محرضا للتشظي الطائفي والاحتراب، ولم يكن اقتلاع البشير، رأس النظام، من قبل لجنته الأمنية سوى إقرار من داخل النظام، بفشله، ضمن محاولة يائسة للحفاظ على ركائزه الأساسية .
عرف السودان المستقل، تجارب في السياسة والحكم، حافظ فيها الدين على مسافة من السياسة ومن الحكم والدولة، وهو ما يعني أن العلمانية، أو فصل الدين عن السياسة، وبالتالي، عن الدولة ليست طارئة على السياق السياسي السوداني أو غريبة عن الثقافة الوطنية . كما تدعي التنظيمات السياسية، ذات الأغطية الدينية، الأمر الذي يسمح بافتراض وجود ما يمكن وصفه بجينات علمانية سودانية ، تستند لرصيد من التجارب والخبرات العملية والتصور النظري، منذ الاستقلال على الاقل . ولا تتصادم هذه العلمانية الجنينية، مع حقائق الدين، وانما تلتقي مع جوهره، بما أوضحه د. محمد عمارة، بالاستناد للامام محمد عبده، بشان استقلال الدين عن السياسة، ونفي وجود دولة دينية في الاسلام . فعلى الرغم من أن الحزبين الكبيرين، حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، يستندان إلى قواعد طائفية، والى رعاية من زعيمي طائفتي الأنصار و الختمية، على التوالي، منذ انفضاض مؤتمر الخريجين، ومن ثم تكوين الحزبين، الا أنه تمت مراعاة الفاصلة الضرورية بين ما هو ديني، وما هو سياسي، في الممارسة وفي الهياكل التنظيمية والادارية . وقد استمر هذا الوضع طويلا، الى أن آلت رئاسة حزب الاتحاديين بالكامل الى السيد محمد عثمان المرغني، زعيم طائفة الختمية، منتصف ثمانينات القرن الماضي . وجمع الصادق المهدي، في التسعينات، رئاسة طائفة الأنصار إلى رئاسته لحزب الأمة، حين ابتدع آلية انتخاب الامام، وهو منصب ديني ، من قاعدة الطائفة، بينما أخضع المرغني التنظيم السياسي لتقاليد الطائفة الدينية، ومن ثم شهدت العلاقة بين الدين والسياسة تطورا جديدا، مشحونا بالتوتر .
صراع القداسة والسياسة.. في التجربة السودانيةويمكن التقرير بأن نشوء أحزاب جديدة، تستخدم الدين، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وتصدر رجال الدين، في إيران، الثورة التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي، وتعميمها شعارات ماعرف بالصحوة الإسلامية، ثم تبني نظام نميري، في آخر خطوات انتقاله من أقصى اليسار الى اليمين المتطرف، عام ١٩٨٣، للشريعة الاسلامية، لفك عزلته بتوسيع قاعدته الجماهيرية، بجانب ارهاب خصومه السياسيين، بسلاح التكفير، كان ذلك وراء تهافت القوى السياسية، على الدين، ولحرمان القوى المنافسة، احزابا أو حكومات، من احتكاره وتوظيفه لمصلحتها . غير أن الوعي بأهمية فصل الدين عن السياسة، لم يكن غائبا عن الساحة السياسية . فقد قاومت قيادات وجماهير حزب الحركة الوطنية، الوطني الاتحادي، طويلا، تدخل المراغنة، الذين تسببوا في انقسام الحزب بعيد الاستقلال، في السياسة، ورفعوا شعار : ” لا قداسة في السياسة. ” ووجد الموقف من زج الدين في السياسة أو توظيفه في خدمة السياسة،من قبل، مكانا له في برامج الأحزاب اليسارية . غير أن توجهات نميري الدينية، دفعت إلى أن يتوحد معارضو مايو، وأبرزهم الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الراحل جون غرانغ، حوله، طارحين شعار العلمانية، وفصل الدين عن الدولة . واحتلت المطالبة بإلغاء قوانين سبتمبر ١٩٨٣، التي فرضها جعفر نميري، باسم الشريعة، بدعم من جماعة الإخوان المسلمين، مكانا متقدما في شعارات القوى المعارضة لنظام مايو، بما في ذلك حزب الأمة، بقيادة الصادق المهدي . لكن الحزب، الذي صعد للحكم، نتيجة الانتخابات التي أجريت بعد سقوط نميري، مانع ، بتأييد من حليفه الاتحادي، وضغط من الاخوان، في إلغاء تلك القوانين، دون بديل اسلامي . وكان ذلك موقف الحكم الانتقالي، برئاسة المشير عبدالرحمن سوار الذهب . هكذا أصبحت قوانين سبتمبر ، التي عادت إلى صدارة المشهد السياسي، و احتل إلغاؤها مقدمة شعارات المعارضة، عقدة في السياسة السودانية منذ ذلك الحين، و حاجزا أمام أي اتجاه نحو التوافق والإجماع الوطني . واكتفت الحكومات والأنظمة المتعاقبة، بما فيها نظام الإنقاذ، بتجميد تطبيقها، خاصة، قانون الحدود، لتفادي المواجهة مع المجتمع الدولي في ميدان حقوق الانسان . وتعليقا على الحرج الذي يجد النظام الاسلاموي نفسه فيه، كتبت مقترحا عليه ، إعلان خلو السودان من الجرائم الحدية، خاصة : السرقة الحدية ، زنا المحصن، الحرابة، الردة، كتفسير أو تبرير للامتناع عن إنفاذ هذه العقوبات، مأزق التمسك بها دون تطبيقها . وقد اقترح المستشار حسن العشماوي، صاحب “الإسلام السياسي ” و ” أصول الشريعة “، وقف إنفاذ العقوبات الحدية، تأسيا، بموقف الخليفة الراشد، عمر بن الخطاب، من حد الردة، في عام الرمادة . وعادت إشكالية الشريعة والعلمانية، بعد انتفاضة ديسمبر، لتشكل عقبة أمام توافق الحكومة الانتقالية، بقيادة د.عبدالله حمدوك مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بقيادة عبدالعزيز الحلو .
ويسألونك عن العلمانيةيبدو مصطلح العلمانية ، المثقل بالخبرات التاريخية، مثيرا للجدل، حال تجريده من واقعه، الذي انبثق منه، وتجاهل محمولاته التاريخية، بحيث يبدو صالحا لكل زمان ومكان، ويبدو – بالتالي – بحاجة إلى إعادة تعريف، في ضوء ما يحتمله من تباينات، على مستوى التطبيق والتنظير، والتجارب العيانية ، ليوافق ما يتطلبه الوضع المحدد من استجابات، تتناسب مع شروطه التاريخية . اذ يشكل المصطلح، بما يحتقبه من إرث تاريخي، يتصل بالصراعات الدينية التي شهدتها أوروبا، مادة للاختلاف . فالعلمانية، تحتمل مفاهيم متباينة، بدلالة السياق التاريخي، الذي تكونت فيه، والخبرات والتجارب التي تختزلها . يشار في هذا الاطار، الى العلمانية التركية، التي فرضها كمال اتاتورك بعد إلغاء الخلافة الإسلامية، والفرنسية، المعروفة باللائكية، والسوفييتية، المرتبطة بموقف الماركسية – اللينينية من الدين، على سبيل المثال . لذلك تثير العلمانية من الخلاف، في الساحة السياسية ، اكثر مما تثيره العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة، والدين والدولة، مما يحتم تحقيق توافق حولها، ابتداء . ومن واقع التجربة السودانية، يمكن التقرير بأن الفترة السابقة للإنقاذ، (باستثناء حقبة نميري الاسلاموية )، قد شهدت نمطا من الممارسة العلمانية، يتعين التوقف عنده وتحليله، لاستخلاص معالم تلك العلمانية، وخصائصها، والتأسيس عليها . إذ ان طرح العلمانية، في إطار برنامج سياسي، يستدعي التساؤل : اي علمانية، واي مضمون تحتمله، والى أي مدي تحقق الاستجابة، التي يقتضيها الوضع المحدد . فمما استقر من التجربة السودانية، في سؤال الدين والدولة، تبدى في ان الدولة، غير الدينية، ابتداء ، تعترف بالاديان وتعددها، لكنها تقف على مسافة واحدة من كل منها . وتقر بالإسلام، كدين للأغلبية، ومصدر من مصادر التشريع، لكن ليس المصدر الوحيد . وتقوم برعاية بعض الشؤون الدينية، وتقر بالاحتكام للدين في الاحوال الشخصية…الخ .
يمكن التقرير بان الخلاف، لا يتعلق بالموقف من الدين وموقعه من الحياة السياسية، بقدر ما يتعلق بالمصطلح، نفسه . وتكمن المسألة، اذن، في تحديد مضمون العلمانية المطلوبة، في ضوء ما قد ينطوي عليه من تباينات، واشكالات . قد تتطلب ابتداع صيغة ما، والاصطلاح عليها بما يعكس خصوصية التجربة، او تعيين ما هو مطلوب في شأن العلاقة بين الدين والدولة، والدين والسياسة، بعيدا عن الشعارات أو القوالب الفكرية الجاهزة، وبالاستناد إلى متطلبات الواقع الملموس . فالنظرية رمادية، بينما شجرة الحياة في اخضرار .
الوسومعبدالله رزق أبو سيمازهالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الدین والسیاسة الدین والدولة فی السیاسة بین الدین الدین عن
إقرأ أيضاً:
أحمد موسى: حادث الإقليمي لن يمر دون حساب والدولة لا تتهاون في حق الضحايا
أكد الإعلامي أحمد موسى أن حادث الطريق الإقليمي، الذي أسفر عن وفاة 19 فتاة من محافظة المنوفية، لن يمر مرور الكرام، مشددًا على أن القانون سيأخذ مجراه، وأن الدولة لن تتهاون في محاسبة أي مسؤول يثبت تقصيره.
وقال موسى، خلال تقديمه برنامج "على مسئوليتي" عبر قناة صدى البلد، إن الفريق كامل الوزير، وزير النقل، يعمل منذ عام 2019 على تطوير شامل لمنظومة النقل والمواصلات، وهو ما لم يحدث في تاريخ مصر من قبل، مشيرًا إلى أن كل مسؤول ناجح له خصوم يسعون لإسقاطه.
وشدد موسى على أن النيابة العامة هي الجهة الوحيدة المختصة بالتحقيق، رافضًا ما وصفه بـ"الهبد والتأليف" من بعض الأطراف على مواقع التواصل، قائلاً: "في ناس عندها تصفية حسابات وشغل لجان، لكن الرأي العام واعي ومش هيصدق كل حاجة".
وأضاف: "نحن لا ندافع عن خطأ، بل نطالب بالعدالة وتطبيق القانون على الجميع، وحق الضحايا سيعود لأسرهم عبر المسار القانوني السليم".
واختتم موسى حديثه بالتأكيد على أن كل مؤسسات الدولة، من أول القيادة السياسية وحتى أصغر مسؤول، تحركت فور وقوع الحادث، ولن يُترك حق أي من الضحايا دون رد.